الحركات #الأصولية بين التكرارية والخصوصية

تمهيد
تقدم لنا الأحداث العاصفة في أفغانستان مقالاً صارخاً عن مصير الذي ينتظر مختلف الحركات الأصولية في العالم، كما ويقدم اكتشاف حركة دينية متطرفة في إيران تسعى لاغتيال خاتمي ورفسنجاني، مثالاً أكثر حدة عن المصير المتوقع لمثل هذه الحركات.
فإذا كان الوضع السياسي في أفغانستان مازال مضطرباً فإنه في إيران يقدم مالاً أخر لنظام قد استقر بعدما أثبت قدرته على خوض حرب طويلة الأمد من جهة ومجابهة حادة مع أكبر قطب دولي. بين إيران وأفغانستان نقع على أحداث تراوح بينهما إن في السودان أو في الجزائر كل ذلك في ظل تجربة سبقت كل هذا في باكستان «على جناح»حيث سقطت مقولة باكستان الشرقية (بنغلادش) وباكستان الغربية حالياً بانفصال الأولى وتكوين نظام سياسي مستقل، مازال يعاني مشكلات وأد الذات، بينما يعاني الثاني عدم استقرار سياسي وتهديد مباشر للنظام الاجتماعي بما تثيره العصبيات المذهبية من تناحر واقتتال يرتدي مختلف النزعات الأصولية المذهبية منها والعرقية وحتى الأثنية الأخرى.
في زحمة الحدث السياسي تضيع جملة من التفاصيل،كما في الإيجاز،تقبع كثير منها في الزوايا التي، إن أُضيئت، كشفت لنا ما لم نتوقعه إطلاقاً.
باستهداف بحث يقترب أكثر ما يمكن من الموضوعية، وبحيث لا تغيب التفاصيل في الملامح العامة للحدث، ولا هذه في تلك، لا بد من دراسة تتلمس المتكرر في التاريخ، ففي مثل هكذا تكرارية، تتوضح مقولات التاريخ في نتائجها الحاضرة، في ظل الأوضاع الراهنة السياسية والاقتصادية والثقافية وعموماً الاجتماعية، لذا كان لا بد لهكذا استهداف من أن يطرح موضوعه في كليته بهدف تبين خصوصية تفصيلاته في قاسم مشترك يمكن له أن يكون مقولة عامة، إن لم تكن حتمية فهي في الحد الأدنى مؤشراً راهناً لمآل ما يحدث على ارض الواقع.
ـ القرن العشرون وظاهرة الدولة الحديثة:
كان لانهيار الإمبراطوريات التاريخية والاستعمارية مع بداية هذا القرن وتحت ضغط القوى السياسية التي تشكلت ببطيء ومنأى عن مؤثرات تلك الإمبراطوريات نظراً لما أصاب هذه الأخيرة من تآكل، أن تشكلت دولاً، عكست صراحة، توازن قوى القديم والحديث، فهي في الجوهر دولاً لم تتشكل تاريخياً، ولم يكتمل نظامها السياسي تلقائياً وإنما كانت محصلة للقوى إياها، التي رسمت حدودها، بما يتناسب ومصالحها الآنية من جهة وأطماعها المستقبلية من جهة أخرى.
في ظل الأوضاع السياسية الدولية التي انتهت لبروز ظاهرة الدول الحديثة، كان لا بد لهذه الدول أن تحمل مورّثات رحمها، فجأت على شاكلة ما قاد إليها، كياناً سياسياً، يفتقر في أغلب الأحيان لمقومات الحياة، وليس هذا وحسب، وإنما جامعاً في إطاره خليطاً متنافراً من أقوام وشعوب ونتائج تاريخ من الصراعات شكلت كل منها أسطورة سياسية قائمة بذاتها، متناقضة إلى هذا الحد أو ذاك مع الأخرى. بحيث أمكن استغلالها استغلالاً كاملاً في ظل ما كان يرسم لهذا الكيان في مطامح ومطامع قوى سياسية دولية امتلكت مقومات حياة هذه الدول الحديثة أكثر بكثير مما كانت تملكه هي ذاتها، مستخدمة في استهدافاتها ما كانت تعاني منه الدولة الحديثة وتحديداً من حيث كونها نظاماً سياسياً لم يكتمل نضوجه في نسيج اجتماعي متراصٍ ومترابط ومتين في تلاحم أقوامه وشعوبه، عرقياً ومذهبياً وثقافياً. إذ لم يكن بإمكان هذه الدول أن تصل لمثل هكذا نسيج إن لجهة مقومات قيامها وظروفه وأوضاعه أوفي المدى الزمني القصير الذي أتيح لها، خاصة وهي تعاني ما كانت تعانيه لجهة التركيب الاجتماعي التي وجدت نفسها في خضَّم صِراعاته لما تتطلبه هذه من قوى وإمكانيات لحسمها من جهة والمحافظة على كيان الدولة من جهة أخرى كل ذلك في لجة صراع دولي لا يتورع من توظيف كل ما من شأنه المساهمة في تجسيد مخططاته، والتي كانت أبداً في صورة وحقيقة ما قامت عليه هذه الدول.
هكذا لعبت عوامل قيام الدول الحديثة في تهديمها، من خلال مظاهر عدة كانت أوضحها الظاهرة الأصولية، التي طغت على ما واجهته هذه الدول من ضيق اقتصادي كان يحول على الدوام، دون إمكانية صهر ما ضمته من أقوام وشعوب، كانت هي الأخرى الأداة الأكثر تهديماً لدولها والأكثر تأثيراً بالنتائج السلبية التي افتعلتها، وكانت بذلك أداة بيد من اغتالها.
ظاهرة الأصولية:
ليست الظاهرة الأصولية، ظاهرة حديثة حداثة الدول التي تحركت في إطارها، وإلاَّ لما كانت من الخطورة التي هي عليها، إنها ظاهرة تعود عميقاً في التاريخ، حيث يمكن القول أن بعضها قد يكون في عمر التاريخ ذاته!!.
الأصولية كظاهرة هي في أعم تعريف لها، حدثٌ في التاريخ، حفظه هذا الأخير في ذاكرة الشعوب المتألمة منه انكساراً والمنتشيَّة منه انتصاراً. هكذا مثلاً هي الصهيونية، حدث في التاريخ قاده نبوخذ نصرَّ إلى بابل منتصراً بينما كان في ذاكرة «اليهود» أشبه بمسيرة الآلام الطويلة التي جعلتهم شتاتاً في العالم بعد نزاعهم مع روما. وإذا ما شئنا الاقتراب اكثر من العصر الحديث، فإن مسيرة آلام «الأرمن(1)» في المذابح التي تعرضوا لها على يد «الأتراك» بمؤازرة «الألمان» تبدو هي الأكثر بروزاً في السياسة الأرمنية حتى في علاقتهم «بالأكراد» وهؤلاء بعلاقتهم بالنظام العراقي حالياً وهي العلاقة ـ النتيجة للأحداث التي حفل بها تاريخ الرافدين. وحتى لا نغرق في الذاتية المناطقية، فإن الحدث التاريخ الذي حمله كريستوف كولومبوس إلى أمريكا يشكل الأبرز في تاريخ «الهنود الحمر» وإلى جانبهم وما بعدهم الزنوج في رحلتهم البحرية من أفريقيا إلى القارة البكر.
الأصولية، كحدث تاريخي، تتسع لتشمل العرق والدين ـ وفي هذا الأخير الطائفة والمذهب، الشيع والأحزاب ـ وأيضاً الثقافة، حتى لتبدو في مجمل خصائصها ومواصفاتها، إنها أقرب ما تكون لعقدة تفوق، يسعى القائلون بها لتأكيدها، من خلال إعادة مبرارتها، عواملاً وسياقاً، أو كينونة وصيرورة. إذ أنها من حيث الكينونة باتت تشكل الأسطورة السياسية التي يُخلصُ منها إلى فكرة سياسية، تتوضع فلسفة سياسة تطرح الصيرورة المتوخاة في نظرية سياسية لا تلبث أن تتحول بدورها لمذهب سياسي مؤطراً في حركة أصولية فكأننا والحال أمام كيان سياسي توفرت أسسه النظرية وما تبقى منه سوى التطبيق. وما الأصولية إلاَّ ما تقدم وفق علم السياسة ساعية لحيازة القدرة السياسية في حركة أو تنظيم الطرق والوسائل.. هكذا هي الأصولية حدث تاريخي في سياق سياسي يلغي الأخر بإكتناهه «الحقيقة المطلقة» المستخلصة من تاريخه المكتوب بخط يده.
وهكذا، لا يخلو عالم الدول الحديثة، أياً كانت درجة تقدمها، من نزوع أصولي، تجسد أو لم يتجسد بعد في حركة أصولية، من أبرز سماتها، إنها لم تختص أو حتى تتصف بقراءةٍ موضوعية للتاريخ لا من حيث هو متكَّون بل من حيث هو حدث يتكَوَّن الآن، فهي أبداً غارقةً في التاريخ القصي، المًُغَيَّبِ للحاضر والقابع في احتمالات المستقبل!! والتي غالباً ما تكون بيد القوى المسَخَّرة لها لتنفيذ مآربها المتربصة يمثل هذه الحركات أولاً ويدولها ثانياً.
إن تكن الأصولية في علم السياسية على النحو المتقدم، فهي ليست على النحو ذاته في علم الاجتماع، الذي ينفي نفياً قاطعاً الصفاء والنقاء العرقي من جهة ومفهوم الأمة ذات الأصل الواحد أو الدين الواحد، من جهة أخرى بينما يُبقى العلم الأخر على التداخل الوثيق بين الميثولوجيا والميتافيزيقا والعقل، وهكذا تبدو الأصولية حركة سياسية ليس إلاَّ وهي بذلك أبعد ما تكون عمَّا تمكنها منه نظريتها السياسية، اجتماعياً.
في ضوء المتقدم، تجنح الحركات الأصولية العرقية والأثنية لتأطير كيانها تأطيراً دينياً بحيث بات بديهياً أن تتداعى الحركات الأصولية الدينية وتُغفل تلك الأثنية كلما تمَّ التطرق للأصولية ـ طالما أن العلم والدين لا يلتقيان مهما قيل غير ذلك، طالما بقي العلم موضوعاً قابلاً للتجريب والإدراك بالحواس والعقل كما الدين موضوعاً غير قابل لأي من المدرك بالتجريب والحواس على أمّل تعديل.
بجنوح الحركات الأصولية كافة إلى الدين، باتت بمنأى عن علم الاجتماع بما يكفل لها ممارسة حركتها السياسية، بعيداً عن كل ماله بالعقل صلة، وإن وجد فهو مدعَّم بالميثولوجيا والميتافيزيقا وهذا ما يفسر جنوح القائمين عليها والضالعين في تأطيرها والعاملين في سياقها عن كل ماله علاقة بالواقع وقضاياه وهذا ما يدفع بهم في غالب الأحيان للتطرف باستخدام العنف وصمِّ آذانهم عن كل قضايا العلم والتطور مهم عبر ما يتمتعون به من أحكام مطلقة، حتى أننا نجد في كثير من الحالات من يفهم العلم على أنه جملة من معلومات لا علاقة لها بمنهج تفسير الحياة والتطور البشري، إذ يفتقد العلم بذلك وبهم خاصته الجوهرية، بل ومحتواه من حيث هو منهج تفكير تفتقر إليه الحركات الأصولية، من حيث هي كذلك. وهذا بالذات هو بيت الداء فيها والكفيل وحده بإنزال الخسائر بها واحدةً تلو الأخرى.
الأصولية السياسية:
في واحدة من أبرز ما تعانيه الأصوليات كافة، أنها في مطلقها أحادية الاتجاه. وفي هذا بالذات مقتلها. إذ أنها تعيد للأذهان مباشرة كيف أحادية الاتجاه لليابانيين قديماً، بإغفالهم ما وراء شاطئهم الشرقي من مساحات وثروات تكفَّل أولاً بحروب مدمرة لهم مع أولئك القاطنين وراء شاطئهم الغربي وكفل للغرب منذ قرون الاستيلاء على قارة تكاد تصل قطبي الأرض ببعضهما ، والتي لهم يكن يفصل اليابانيين عنها ذاك المحيط الذي قبع أمامه الأوربيون قروناً متوجسين مما كان يقبع وراء أعمدة ملكارت، أحادية الاتجاه التي ضللت اليابانيين ومن بعدهم الأوربيين قروناً، كانت عند كولومبوس منهجاً علمياً رأى من خلاله بداهة أن كروية الأرض تفترض أن تكون نقطة البدء هي نقطة الانتهاء فكانت القارة الجديدة التي لم يفطن لها فاتح المغرب العربي عندما وقف أمام ساحلها الشرقي مقسماً: «والله لو كنت أعلم أنَّ وراء هذا البحر يد لمضيت مجاهداً في سبيل الله.» في أحادية الاتجاه التي رافقت فتوحات عقبة بن نافع، لم يفطن القائد العربي المندفع مجاهداً وهو قبالة القارة الأمريكية أن على يساره قارة تفيض ذهباً وفضة وماساً على بلاد المسلمين.
أحادية الاتجاه هذه، والتي حالت دون اليابانيين وأمريكا ودون العرب القارة الأفريقية. ستحول دون الحركات الأصولية وإمكانات الواقع وتجعلهم أبداً أداة مسخرة بيد تمتلك مصيرهم متربصة بهم شراً.
في نزوع الحركات الأصولية للتستر بالدين، تكشف أنها ليست أكثر من أداة بيد المتربصين بنا خاصة وأن:
أولاً: مفهوم الأمة
إن مفهوم الأمة التي تطالب به الأصوليات، هو مفهوم إن لم يكن استعمارياً هو مفهوم يسهل عمل الأخير، من جهة يقوِّض دعائم الدولة الحديثة العهد بنا وتالياً حداثتنا بها، ذلك أننا في الأساس مزيج بشري، كسائر دول العالم ومجتمعاته وثقافتنا أيضاً جزء من ثقافة هذا العالم، وإن كانت في اللون تتمايز عنه كما يتمايز هو عنها بألوانه أيضاً، فإن لم تكن هنالك من أمة واحدة في العالم تحتكر على العالم دينه، عن أمة دينية واحدة، تتجاوز كل ما يحفل به عالم اليوم من أمم لكل منها ميزاتها الخاصة فضلاً عن كونها وهماً من الأوهام فهي شيوعية الاتجاه، تلك التي حاولت جاهدةً جعل العالم أمة واحدة فلم تصب في جعل أقوامٍ وشعوبٍ على تماسٍ ببعضها البعض في دولة واحدة، فكانت أقصر تجربة في التاريخ لدمج شعوب بشعوب وأقوامٍ بأقوام، إن أمميَّة الدولة الدينية اقرب ما تكون إلى أمميَّة الطبقة.. إن لم تكن هي نفسها وبشكل أخر، وبفكر أكثر سلفية وغيبية.
إن أمة دينيَّةً تضم شعوباً وأقواماً تتنافر بعضها مع بعض في كيان سياسي واحد، هي سوفيتيَّة جديدة لم تتعظ من التجربة السوفيتية المنهارة ذاتياً، وقديماً قيل «التجربة مدرسة غالية الثمن لا يتعلم بها سوى الحمقى».
ثانياً: مفهوم الأكثرية:
لم تقف الأصوليات العرقية والثقافية عند توريط الأصولية الدينية في تجارب سياسية ثبت بالتجربة والبرهان القاطع وتحديداً في أممية أمة الدين الواحد، بل تعدت ذلك لمفهوم غربي للدولة ذات العرق والدين الواحد بحيث يضحى ما عداه أعاجم، وذلك عبر مفهوم الأكثرية والأقلية، وهما مفهومان ديمقراطيان على الرغم من أن مثل هذه الأصوليات لا تقرُّ بأي مبدأ ديمقراطي في دولتها من حيث أن الديمقراطية هي اعتراف بالآخر ورفض مطلق لإلغائه، فعلى الرغم من أن مفهومي الأكثرية والأقلية، مفهومان يعكسان مبدأ التناقض الذاتي في الحركات الأصولية، بقبولها هذا الشأن برفضه، فهو من جهة أخرى يعكس كيف تسعى هذه الحركات لتقويض دعائم دولتها وإقامة دولٍ لا تتمكن حتى من وأد نفسها مما يجعلها أكثر طواعية للذين يتربصون، ذلك أن الدولة الدينية لم تكن حتى هذا التاريخ بقادرة على الاحتفاظ بكيانها، هذا في حال نجاح الحركات الأصولية في بلوغ استهدافات المصالح الغربية عنها بتبوئها للسلطة، ولعل التجربة الأفغانية خير مثال يضرب في هذا المجال. إذ بعد أن انقضَّ «كارمال» على السلطة بانقلابه الشهير، رفعت الولايات المتحدة شعار المجاهدين من أجل الحرية، والذي مارسته بجدارة الفصائل الأصولية الأفغانية، حتى إذا ما انقضى عهد «كارمال» وحلفائه السوفيت، غدت الأفغنستان ساحة لاقتتال الطاجيك والاوزباك تحت شعارات السنة والشيعة.. ورحى المعارك لم تزل تدور.
لقد حالت الأكثرية الأصولية دون حكم الأقلية الشيوعية، لكنها أيضاً حالت دون الأكثرية المسلمة والحكم أيضاً، وإلا فما معنى أن تستولي طالبان على العاصمة الأفغانية بعد اقتتال ضارٍ مع حكمتيار ليلجأ هذا الأخير لطهران بينما يبقى مسعود مجاهداً من أجل الحرية، والسؤال، حرية من؟!!.
إن يكن هذا الأخير ما كان نتيجة الحرب الباردة والتي ما تزال أفغانستان تحصد حصادها المر، فإن تجربة «علي جناح» في باكستان خير دليل على نهاية الدولة ذات الأكثرية الدينية، والتي لم تُحلْ دون انفصال الشرق الباكستاني عن غربه كما لم تحل دون نهاية «بوتو» التعسة وضياء الحق المتناثرة ومن بعدهما بوتو الابنة والفساد الذائع الصيت أثر مقتل الشقيق بوتو وأخيراً وليس أخراً نواز شريف القابع خلف القضبان.
في ابرز مثال صارخ لمفهومي الأكثرية والأقلية، يأتي السودان وفي سدة السلطة حركة دينية ناضلت وجاهدت كثيراً لبلوغ السلطة، ومنذ اللحظة التي اعتلت بها سدة الحكم وأطاحت بأكثر رجالها، خاضت حربها ضد الأقلية في الجنوب، حتى إذا ما أفلستها هذه الحرب أقرت بدستورها بقبول الأخر في الحكم، بل وحتى بتولِ رأس الهرم السلطوي، لكن الأخر، الأقلية، لم يقبل حتى الآن بالمتاح له، لا لشيء، إلاَّ لأنه أصولي النـزعة، وذو اتجاهٍ واحد، لا يرى ما في أفق شاطئه الشرقي حتى ولا ما هو على يساره، والمسالة إن بلغت هذا الحد، برز الاقتتال الجزائري بين بربري وعربي!! تحت شعارات دينية مختلفة، تسبي في ظلها النساء ويقتطع الرجال الشلاء، والجزائر بلد الأكثرية المطلقة دينياً؟!! وخارج الإطار المنوه عنه، نجد الهوتو في اقتتالهم وتوتسي يحصد كل منهم من الأخر، وهم من أصولية دينية واحدة، مليوناً من القتلى ذبحاً وحرقاً وبمعدلٍ يزيد عن (250) ألف قتيل شهرياً، وبشكل لا ترعوى الأصولية السلافية، الصربية منها والبوسنية ومن بعدها الألبانية من الاقتتال باسم الدين، إذ طغت الأصولية الدينية على الأصولية العرقية، فغدا السلاف صرباً وبوسنيين وألبان، بل والأصح، مسيحيين ومسلمين، في اقتتال يحصد الألوف وتجزء يوغوسلافيا، كدولة حديثة إلى سبع من الدول تعيش على المعونات. أوَ ليس القبارصة الأتراك!!.
(المسلمين) كمثيلهم القبارصة اليونان!! (المسيحيين) قد انخرطوا في اقتتال لم تنجو الجزيرة إلاَّ بالانقسام.
أمثلة لا تخلو منها حتى أعرق الديمقراطيات في عالم اليوم، كأبرز مثال على الأصولية السياسية، بين البروتستانت والكاثوليك في بريطانيا العظمى؟!!.
فهل من أمثلة أكثر بشاعة وتناقضاً مما تقدم، هي ذي المصائر التي تكتبها الأصوليات، عرقية كانت أم دينية..
الأصولية السياسية والدولة الحديثة:
حتى الآن يبدو جلياً، أن الحركات الأصولية الأكثر تطرفاً والأكثر عنفاً، تستهدف الدولة بهدف حيازة السلطة للإلغاء الأخر، وحتى الآن، ورغم كثرة التجارب ومآسيها، فلا يزال مبدأ محمد عبدو وجمال الدين الأفغاني، العمود الفقري لهذه الحركات، وهو المبدأ القائل أن لا قيام للدين إلاَّ بقيام دولته، دولة الأكثرية، والأكثرية الدينية تحديداً مقابل الأخر، الأقلية، والأقلية الدينية تحديداً أيضاً وتنضوي تحت راية هذه وتلك أقليات كثيرة منها العرقي ومنها الثقافي والطبقي والاجتماعي والسياسي و.. بل وما يزال المبدأ إياه يجعل من الدين الواحد أدياناً ومن العرق أعراق وطبقات ومجتمعات.. وما تزال الدولة في المواجهة وما يزال أولو الأمر والرأي والعقد الحل في صمت مطبق.
من أبرز المسائل التي تثيرها إشكالية الحركات الأصولية مع الدولة الحديثة، أن الأخيرة كيان سياسي لنسيج اجتماعي ما يزال في طور «الحياكة» مما يتيح مجالاً رحباً لفعل الأولى وقد استجمعت قواها الدينية في بلوغها السلطة وإن على حساب هذا النسيج الاجتماعي نظراً لما يجرُّه نزوعها هذا من تمزيق لما هو في مراحل تكونه الأولى.. وبما يتطلب بالدرجة الأولى رأب الصدع بين الطرفين بالتأكيد على:
أولاً: ماهية السلطة:
ما لم تفقهه الحركات الأصولية حتى اللحظة أن للسلطة مقولاتها التي لا تأتي ولا تصاغ على نحوٍ من الرغبة والطموح، للسلطة أبداً مقولات الواقع الذي لا يبرح الممكن من المتوقع والمحتمل، وهي لذلك شكل من أشكال التوازن بين التطلع إلى الشيء والمتاح منه في ظروف وأوضاع موضوعية في مطلق الأحوال، والتي تبقى مختلف الحركات الأصولية خارجها طالما هي خارج السلطة، فإن ما دخلتها وجدت نفسها في شراك ما غفلت عنه في مسيرتها لبلوغ السلطة خاصة إذا ما اختطت في مسيرتها طريق المواجهة العنيفة والتي تقتضي في مطلق الأحوال نظاماً ديكتاتورياً فردياً في عملية تشكيل القرار السياسي، تحديداً والتي تختلف بطبيعتها عن تلك التي تثار في الحوار العقائدي الذي يبقى أبداً في دائرة المتكَّون النظري وفي سياقه التاريخي، حتى إذا ما تعدى ذلك للبحث في السياق السلطوي للحركة غدت المؤهلات الفكرية لجهة المعرفة العقائدية، أبعد ما تكون عن تلك المعتمدة في سياق كهذا، السلطة شيء والمعرفة وسعة الإطلاع العقائدي شيء أخر إذ لا تكون مؤهلات صاحب السلطة هي المؤهلات المعرفية للعقيدة، بل إنها تأتي في أغلي الأحيان من خارج من يتعاطون مثل هذه المعرفة.
في الصياغات السلطوية، تختلف المقومات في أغلبها عن تلك التي تأتي في الصياغات العقائدية، بل أن الأكثر من ذلك اختلافاً هو ذلك الذي يأتي في الصياغات السياسية التي تحكم القرار، كائن ما كان موضوعه، فالمسألة ها هنا شخص يتخطى الأصلح والأفضل إلى الأكثر قبولاً والأقل اعتراضاً وفي حالات أكثر ذاك الذي تتوازن عنده قوى الحركة الداخلية وتلك الخارجية والتي تأتي غالباً على نمط من أنماط التوازن السياسي والتي لا تشترط المعرفة الأعمق والأبعد غوراً في فكر الحركة.
ما هو قائم في معادلات الحركة، قائم وعلى نطاق أوسع في الدولة، حيث لا ضابط في معادلات السلطة سوى تلك القدرة السياسية التي تمكن البعض دون الأخر من تصدِّر القرار فيها.
السلطة السياسية، هي في أعم تعريفاتها تقاطع لقواها، لذا، كان الأسبق في الوصول لـ هكذا تقاطع، هو الذي يأتي في تراكم الهرم السلطوي وعلى مختلف المستويات.
تفتقر الحركات الأصولية، لتجربة كهذه في سياق بلوغها السلطة ولجملة من العوامل والأسباب والظروف والأوضاع التي تعزل هي نفسها عنها بعامل مسعى بلوغ السلطة عن طريق العنف، لذا فإن أكثر الحركات الأصولية إن بلغت السلطة، تاهت في متاهات معادلاتها، ولافتقارها للخبرة، وغناها في الأسلوب العنفي، تعتمد الأخير في حلولها لإستعمالات السلطة القابضة عليها معتقدة إنه في الانشقاق مثلاً والانقطاع عن ممارسة السلطة أو الامتناع عن الدخول في لعبة معادلاتها، أي على نحو ما كانت تمارس ما قبل استلام السلطة، كفيل بالقبض على زمام القرار السلطوي، خاصة إذ ما كانت على ثقة بإتباعها الذين لاشك أنهم، في حال كهذه، أبعد ما يكونون عن دعمها في ما تسعى إليه، فالسلطة بمغرياتها أقوى من أية تبعية كانت..
في التطرف الذي غالباً ما ينحى منحى العنف تفتقد الحركة الأصولية لمقومات بلوغ السلطة، فإن شآت الظروف والأوضاع السياسية بلوغها، كان في ذلك مقتلها وتحوُلُها من حركة إلى سلطة لا تتناقض مع ما كانت تنادي به وحسب، بل وتمارس ما كانت تنتقده من ممارسات السلطة المنقلبة عليها.
ثانياً: الحركات الأصولية على صعيدي الفكر والعمل:
أولاً: على الصعيد الفكري:
تعاني الحركات الأصولية على الصعيد النظري ـ الفكري قلقاً داخلياً غالباً ما يكون مصدره تفاوت الفهم والإدراك للعقيدة التي تتنكب مهمة توضعها على الأرض سننا وشرائع تحكم الواقع بما فيه من تداخل وتشابك بل وتضاد وتناقض. وتالياً تكييف النظرية معه عبر جملة الاجتهادات والتأويلات والتفسيرات للظواهر الاجتماعية والسياسية، والثقافية والاقتصادية، الداخلية منها والخارجية على حد سواء فإذا ما أضيف تفاوت مستويات الفهم والإدراك إلى محاولات مطابقة العقيدة للواقع، بدا واضحاً أنه في الحركات الأصولية، والدينية منها، العكس تماماً، أي محاولات هذه الحركات تكييف الواقع مع العقيدة، مما لايدع مجالاً للشك في أنها نمط من أنماط الحركات التي تقف خارج إطار الزمن إضافة لما يبرزه ذلك من تناقض ذاتي تكون الحركة بحد ذاتها ضحيته الأولى.
وإن تكن الأصولية الإسلامية، هي المعنية بالتقدم ذكره، فلا يجب أن يغيب عن الذهن أنها تكرر ما أصاب الأصوليات المسيحية في الغرب، والتي دفعت الثمن باهظاً في محاولاتها اليائسة لإقامة دولتها الدينية، والتي انتهت أيضاً بحكم الواقع إلى التخلي التدريجي عن أصوليتها ولتدخل فيما بعد لعبتها المفضلة: الديمقراطية.
ومع أن المقاربة بين هذه وتلك تحمل كثيراً من اللبس، فإن الإشارة إليها تبدو ضرورية في السياق، دون الخوض بها، نظراً للظروف التي تحيط بالحركة الأصولية الإسلامية والتي تبدو من خلالها أية مقاربة من هذا النوع إجحاف بحق الأخيرة.
وعليه فإنه لابد لنا والحال على ما هي عليه، الاقتصار في البحث على الحركات الأصولية الإسلامية لما لها من علاقة وثيقة بمستقبلنا أولاً وأخيراً.
إن من أبرز مظاهر القلق الذاتي الذي تعاني منه الحركات الأصولية الإسلامية عموماً هي تلك المتعلقة بما سبقت الإشارة إليه، إن لجهة منهجها في رؤية الواقع أو لجهة ما يمكن استنباطه منه، في دائرة ما تسلطه العقيدة الإسلامية من ضوء عليه، بحيث تبدو الظلال أفسح وأوسع من تلك المضاءة وتحديداً تلك المسلطة على المتداول من مفاهيم «الأمة الإسلامية» أو بالأحرى الأممية الإسلامية ومدى إمكانية قيام الدولة الإسلامية التي تضم مختلف الشعوب الإسلامية على ما فيها من تناقض وتضاد وتفاوت وعلى الرغم مما يحيط بها من ظروف وأوضاع لا تملك لا حولاً ولا قوة في درء مخاطرها. ونجد على الرغم من النتائج المدمرة لقوى العالم الإسلامي، وتحديداً تلك التي انتهت غليها مختلف الحركات الأصولية الإسلامية بدئاً من أفغانستان ومروراً بالدول الإسلامية الأخرى وصولاً إلى الجزائر، نجد أن هناك من الحركات الأصولية مَنْ لم يزل يشدد على مفهوم وتأكد «مختبرياً» استحالة توضّعه على الأرض دولة، على الرغم من كل التنظيرات التي تستدعي الدولة الإسلامية وعوامل[ قيامها بدئاً من فتوحات الخلفاء الراشدين مروراً بالأمويين فالعباسيين وانتهاءً بآل عثمان..
وبما انتهينا غليه بهؤلاء الأخيرين وما قد تنتهي إليه إذا ما استمرت الحركات الأصولية في مسعاها لإقامة «دولة الأمة الإسلامية» وأن لا قيام للدين إلاَّ بقيام دولته وتغافلت، بقصد او بغير قصد، عن أن الدين شيء والدولة شيء أخر، وأن عصمة الدولة وأمتها إنما تكمن في الفهم «الصحيح» للدين وتطبيقاً سليماً لشريعته، ذلك أنها تفترض في هذا المجال أبداً قائداً كاريزماتياً، هو أمير المؤمنين وخليفة رسول الله. وإنها بافتراضها هذا تكون أبعد ما تكون عن الواقع بل وخارج الزمن، عندما تغيِّب ما انتهت إليه الدولة بهؤلاء وما انتهى إليه هؤلاء بالدولة، قديماً وحديثاً، والتجربة على ما قيل في هذا المضمار، خير دليل.
إن مفهوماً كالمتقدم، قد أتاح ويتيح على الدوام جملة لا حصر لها من السلبيات والمآسي، إن على صعيد الدين الحنيف أو على صعيد الشعوب الإسلامية، فإن كانت الأخيرة واضحة للعيان، فإن الأولى ما تزال بعيدة عن الأذهان، إذ أننا ما نزال أمام ظهورات متكررة لخلفاء ما زالوا يقدمون لنا الفتاوى الواحدة إثر الأخرى، وبشكل بات فيه العالم الإسلامي ساحة تتسع لكل فاتٍ ومجتهد ومؤول ومفسر، وكلٌ يجتزأُ من الشعوب الإسلامية ما تمكنه منه قدرته على الاجتزاء منهم، بالاجتزاء من دينهم، وبما لا يقبل جدلاً، أنه في مثل هكذا حركات يضيع الإسلام بالمسلمين.
في وضعية كهذه، يبدو واضحاً في العالم الإسلامي، أن كلاً من الدين والدولة مستهدفان، وأن أداة الاستهداف هذا هي الحركات الأصولية الدينية والتي لم تتورع حتى الآن عن ترويج كثير من المفاهيم الخاطئة والمشوَّهة للإسلام والمقوضة للدولة في المواجهة المحتدة بينهما وهي مواجهة مستمرة إن لم تتنكب دُور الإفتاء وضع حدٍ لتقولات هذه الحركات بالدين الإسلامي.
فلقد اقتصر دَوْرُ دُورِ الإفتاء حتى اليوم، على الاعتراض على قانون يخالف الشريعة الإسلامية بل وعلى مصادرة كتاب قد يمس بعضاً من ذلك، أو كلاً في أسوء الأحوال أو المطالبة بمحاكمة كاتب أو ملاحقة صحفي أو فنان، لكنها لم تقف يوماً واحداً بوجه أولئك الذين يدبجون الفتوى بعد الأخرى، ويحللون ما شاءوا ويحرمون ما أرادوا تحريمه، بل ويهدرون دم هذا ويغتالون ذاك ويكفرون أخر، ويخرجون من المسلمين ما شاءوا منهم مهتمين هذه الدور ممالأة السلطة على حساب الدين.
وبسكوت هذه الدور عمَّا يتعرض له الإسلام من خلال نزوعات الدولة في فرض هيمنتها إلى ما هنالك من تهم وافتراءات يجعل من الإفتاء أبعد ما يكون عن المسلمين إذ كما الدولة لمثل هذه الحركات هي كذلك دور الإفتاء، التي اكتفت بما تمارسه الدولة في مواجهة الأصولية بينما ارتضت هذه الدور لنفسها أن تكون الدريئة التي تتوجه لها الاتهامات والشك والتشكيك في أي من أدوارها.
في الموقف المشار إليه، لعبت دُور الإفتاء دوراً يكاد يكون مزدوجاً إن لم يكن في حقيقته انفصام في الشخصية الاعتبارية التي تمثل المسلمين، ذلك أنها ـ دُور الإفتاء ـ في تعددها على المذاهب الإسلامية من جهة وعلى الدول المتواجدة فيها من جهة أخرى، عكست توزع وتعدد الإفتاء تارة وفق النهج السياسي الذي للدولة وطوراً وفق ما ترتضيه الحركات الأصولية، التي تشجعت هي بدورها على الإفتاء في الإسلام على هواها، وكان موقف دُور الإفتاء الصامت حيال ما يجري أنه إن أصاب فحسنتين وإن أخطأ فحسنة، دون أن تتكفل بالحد الأدنى، بالإشارة لميزان أو لمقياس الإصابة والخطأ خاصة في تلك المسائل التي لا تحتمل الاجتهاد، إن في الحدود التي حدَّها الله أو في المحرمات التي حرمها عزَّ وجل أو في الفرائض التي هي على عباده..
لعل من التساؤلات التي كان على دُور الإفتاء الإجابة عليها، معنى الاجتهاد والجهاد إذ لا يعقل أن تقبل هذه الدُور اجتهاداً يقضي باعتماد العنف تعبيراً عن الجهاد واجتهاد آخر ينحى بالجهاد للطرق السلمية، خاصة وأن الجميع دُوراً وحركات يبقى الإسلام لديها المرجع الأول والأخير، وفي دول يتهددها والإسلام خطر واحد، إذ قد يختلف الاجتهاد بالجهاد بين ظرف وأخر، بين دولة وأخرى، بين واقع وأخر، لكنه أبداً لا يختلف في ظرف وواقع ودولة واحدة، يُجتهدُ فيها تارة بفكاك زوجة عن زوجها طالما أن هذا الأخير لم ينخرط في الحركة الأصولية التي انخرطت فيها الزوجة وطوراً تكفير مسلم طالما أنه لم يؤد فرائضه خلف إمام الحركة أو تحليل سبي نساء المسلمين وبناتهم وأخواتهم وأمهاتهم بيد المسلمين، بل وتوزيعهن على أفراد الحركة توزيع غنائم الحرب. وغلى ما هنالك من قضايا حفل بها تاريخ الحركات الأصولية في ظل صمت دور الإفتاء، التي ارتضت هي لنفسها أن تتعدد تعدد الدول الإسلامية من دون أن يكون ليدها مرجع ديني واحد تجتمع عنده كلمة المسلمين في الإفتاء والاجتهاد والتأويل والتفسير، فكانت بالتالي التعبير عن التعددية في الإسلام من دون أن تكون لديها أيضاً القدرة على صياغة «الوحدة الإسلامية» في «الأمة الإسلامية» صياغة نظرية على الأقل تحول دوت التقاط هذه المفاهيم والعبث بها من قبل حركات تدعي الإسلام مرجعاً للدولة الإسلامية التي تستهدف إقامتها «لقيام الدين» الذي ترفعه شعاراً لبلوغ السلطة، في دولٍ لم تكن، هي بدورها، قادرة على توظيف هذه الدُور في المهمة الأساسية المنوطة بها بالأصل، ونقصد مهمة الحيلولة دون تحريف الإسلام بهدف تشويهه قيماً ومناقب وفضائل وأخلاق، إذ لم تتمكن هذه الدول، وهي اللاهثة وراء الاستقرار السياسي البعيد عنها، لظروف نشأتها، من التقاط أنفاسها، لالتقاط هذه المهمة الدور وتوظيفها في صراعها مع الحركات الأصولية، بل على العكس من ذلك، راحت هي الأخرى تخضع لكثير من الشروط التي تفرضها طبيعة المعركة التي تخوض، من خلال استرضائها لهذه الدُور، بالعمل وفق اجتهادات هذه الأخيرة، في محاربة الفكر الذي راح يدرك خطورة الحادث على ساحته، مفتشاً منقباً كاشفاً عن ماهية الحديث الذي تتولى صياغته تلك الحركات بمؤازرة صمت دور الإفتاء واسترضاء الدولة لها. فكان الفكر من أولى ضحايا هذه المعركة التي ما زلنا نشهد ضحاياها.
بين الفكر المتحرر من ربقة الماضي والمتصدي لقضايا الراهن من الأحداث والمستشرف لمستقبلها، وبين أصولية لم تفقه ميزة الحاضر كمحصلة للماضي والمستقبل معاً، كانت قضايا متعددة تطرح نفسها على ساحة حوار، هو في حقيقته اقرب ما يكون لحوار الطرشان، إذ كانت مختلف الحركات الأصولية تصم آذانها، لجهلها في الحاضر وإغراقها في الماضي وعدم قدرتها على رؤية المستقبل، عن كل ما تثيره هي من قضايا لم تكن في مستوى تداولها، ذلك أنها القضايا المطروحة عليها قبل غيرها، وهي القضايا التي طرحها العنف الأصولي في مسعاه الطفولي لبلوغ السلطة.
لقد تخيل هذا العنف أن أسلوب بناء الدولة من السهولة بمكان السهولة التي يُقنع بها تابعيه وأن الدولة مجرد خربشات على الورق أو هي مجرد استرجاع للماضي، بقضاياه التي عفى عليها الزمن وخطَّها التاريخ انهياراً وأن الظروف والوقائع التي مكنت من قيام دولة في الماضي هي هي التي تقيم دولاً في الحاضر وأنه يكفي الدولة ما كان يكفيها في الماضي، ذلك أن «مفكري» هكذا أصوليات ما كانوا في مستوى قراءة التاريخ على حقيقته، إذ كانت مصادرهم ما خطته الأقلام عن نفسها، مدونة هي تاريخها، معتقدة أن التاريخ يَغفل ما كانت هي قد غيبته قصداً وعمداً في بنائها دولتها وفي النتائج التي ترتبت على ذلك.
لقد غفل «مفكري» هكذا أصوليات أن التاريخ اليوم ليس مجرد مُدونات شخصية إنه في حقيقته تقاطع الأحداث التاريخية بعضها ببعض، لذا فإن القضايا التي أثارها العنف الأصولي كانت أبعد غوراً في التاريخ وعمقاً في الحاضر وأكثر سعة واستشرافاً للمستقبل، فإذا بهذه الحركات تجد نفسها أمام قضايا ما كانت على علم بها ولا دراية لقد فوجئت بها وكان هول المفاجأة أن ارتجلت الحلول، ولمنهجها الأصولي، تمسكت بالمرتجل منها، وما عادت بقادرة على التخلي عنه فما كان من نتيجة ذلك إلاَّ أن انفضَّ عنها كل من تميز بالوعي والإدراك والتمييز والتبصر في الأمور..
لقد عجز «الفكر» الأصولي عن حل إشكاليات كثيرة حول كيفية بناء الدولة المتمكنة من نفسها في عالم ديدنه الصراع من أجل البقاء، أو حول التعددية السياسية التي كانت هي نفسها ضحية غيابها الأولي، والتي لم تستطع أن تستفيد هي نفسها من تجربتها الذاتية، إذ نحت في أغلبها لرفض مثل هكذا تعددية، بل كان المرتجل من الحلول التي قدمتها الدليل الأخر على عبثها الطفولي بمصيرها ومصير أهدافها والمنضويين في حركتها ذلك أنها افتقرت لميزة التميز بين الأصالة والمعاصرة إذ بقيت في حدود فهم الأصالة كنوع أو كشكل من أشكال الطقسية الترديدية التكرارية، ومن دون أن تدرك أن اجترار الماضي لا يؤسس للحاضر بناءًَ للمستقبل، هكذا هي «أصالة» الأصولية تكراراً مشبعاً بالذاتية وكذا كان فهمها للمعاصرة وافداً غريباً تحدد الموقف منه سلفياً، كان الفكر الأصولي في محاولته تكييف الواقع مع النظرية أبعد ما يكون عن قضايا تطرحها دولته ومن دون أن تكون لهكذا دولة اليد الطولي في واقع العالم اليوم في تقرير مصير الأقليات العرقية والدينية التي تخضع بحكم الأمر المفعول لدولته أو لقضايا أخرى كقضايا حقوق الإنسان وعلى رأسها حقوق المرأة.
وعلى الرغم من سياق أحادية الاتجاه الذي تعاني منه الحركات الأصولية كافة فإن تبايناً ملحوظاً فيما بينها يفسر كيف أن الإسلام كمرجع سياسي لم يُفهم بما يقود لوحدة الاتجاه في هكذا حركات، بل إن التباين في فهم الإسلام قاد دون أدنى شك إلى تباينٍ حركي أودى بها لصراع فيما بينها ما زال يتهددها داخلياً، والذي، على الرغم من نتائجه المدمرة، لم تتعظ منه، إذ ما تزال مسيرتها تنتقل من تشرزم إلى أخر بظهورات متعددة الأسماء..
ثانياً: على الصعيد العملي:
من أبرز النتائج التي انتهت إليها الحركات الأصولية أنها ما فتئت تنقسم على نفسها باستمرار مما يؤكد أنها ليست في مستوى ما تدعيه إن على صعيد الوحدة في «الأمة الإسلامية» أو «الحركة الإسلامية» أو حتى على صعيد مستوى الانصهار الفردي في «الروح الحركية الإسلامية». إذ ما تزال الأحداث تؤكد أن الوحدة في هذه الحركات ابعد منالاً من السلطة التي تبتغيها، وأن النـزوعات الفردية والشخصية والمصلحية، والأنانية هي التي تسيِّر توجهاتها، كما وأن الخلط بين التيار الأصولي الإسلامي والسياسي تحديداً منه، وبين المسلمين المتمسكين يقيم الإسلام ومناقبه وأخلاقه وفضائله وحدوده ومحرماته وفرائضه، يدفع كثيراً للتغرير بهذه الحركات إذ تعتقد أن ما تجتهده يعبِّر بشكل أو بأخر عن هذه الشريحة الواسعة جداً من المسلمين والمسالة لم تكن في يوم من الأيام على هذا النحو، ذلك أن هذه الشريحة الواسعة كانت على الدوام تفتقر لمن يعبر عن آرائها في ما هو مطروح على الساحة الإسلامية من قبل هذه الحركات وتحديداً في ظل صمت دُور الإفتاء، لا لسبب إلاَّ لأنها ـ الشريحة الواسعة ـ غير المهتمة أصلاً بما يُطرح سياسياً على الأقل، وعدم الاهتمام هذا يقود بالضرورة لعدم الإطلاع على ما يجري يزيد على ذلك أن فهم الإسلام لدى هذه الشريحة يتعدى، وعلى أبعد الحدود، الشأن الشخصي والفردي والانتهازي الذي واكب عمل هذه الحركات، ولقد كانت هذه الشريحة تصدم على الدوام أولاً من الانقسامات والانشقاقات التي تطوِّح بهذه الحركات وثانياً بما تستجره هذه على الإسلام من تشويه ومن اقتتال بين المسلمين، كل ذلك يُعبِّر عنه في نسبة المنضويين في هذه الحركات من جهة والمنضويين في الأحزاب السياسية الأخرى. بينما يتراوح العدد الأكبر من المسلمين بين متديَّنٍ ومتمسك بالإسلام دون أن تكون لديه طموحات دنيوية سياسية، وبين مسلم بالولادة يبقى الإسلام لديه حالة اجتماعية خصوصية، بل وشخصية تكونت بعامل التربية والمفاهيم الدينية المستقاة أصلاً من الأسرة والعائلة والوسط الاجتماعي الذي يطبع على العموم الشخصية الإنسانية في مطلق الأحوال، ويبقى الخلط، بين الإسلام والمسلمين في نزوعاته المختلفة شان تتلقطه الدوائر الغربية لتزيد في الشرخ بين الاثنين إضافة للشرخ الذي تحدثه النـزوعات الاستعمارية بالهجوم على الإسلام بتحميله وزر ما يقوم به هؤلاء الأصوليون، فينحى بعضٌ من هذه الشريحة للتصدي للمزعوم في الإسلام والتأكيد على أن الإسلام ديناً والمسلمين تدنياً في غير الحال الموصوفة. هذه الأخيرة، تصب في خندق الحركات الأصولية، من حيث لا تدري، حيث تتلقطها هذه للتأكيد على سعة انتشارها في الساحة الإسلامية، والواقع غير ذلك، إذ أن غالبية المسلمين شبه المطلقة تتميز بعلاقات أكثر ودية وأكثر ثقة بالدين من خلال العلاقات الوثيقة التي تربطها بمثيلاتها من الشرائح الأخرى الدينية والعرقية والسياسية وعلى وجه العموم في المجتمع والدولة.
ولسوف يلحظ كل متبصِّرٍ في الذي يجري على الساحة، وفي دول ذات «الأكثرية» المسلمة أن المنضويين طوعاً في الدولة، وفي دائرة واحدة من دوائرها، يفوق بكثير من أولئك المنضويين في الحركات الأصولية المجتمعة، وإن يكن من خلال القوانين، يشكلون الأداة المواجهة لهذه الحركات، فهم في مطلق الأحوال، إن لم يكونوا، موافقين على ما تقوم به الدولة إزاء هذه الحركات، فإنهم مقتنعون بضرورة وضع حدٍ لها بهذه الطريق أو ذاك الأسلوب وإلاَّ فما الذي يدفعهم للعمل في الدولة بحيث لا يشكل تحصيل العيش بالنسبة لهم سوى رافداً لمواقفهم في مطلق الأحوال أيضاً.
تتناول، بهذا الصدد، مختلف الدراسات بإبهام مقصود ما تقدم بمصطلحات لا تمت لواقع الحال بصلة وتحديداً في حديثها عن «التيار الإسلامي» وكأنه التيار الذي تعبر عنه الحركات الأصولية التي تفتقر في مطلق الأحوال أيضاً وأيضاً لمؤسسات اجتماعية كالجمعيات الخيرية والأندية الرياضية والمدارس والجامعات والمؤسسات الاقتصادية الأخرى من معامل ومصارف ومؤسسات تجارية لها الطابع الإسلامي بل والتوجه الإسلامي في كل ما تقوله وتفعله دون أن يعني ذلك انخراطها النظري، على أقل تعديل، في ما تستهدفه الحركات الأصولية عموماً.
الخلط المتقدم، كان وما يزال، لمواصفاته، خلطاً مدسوساً على الإسلام والمسلمين بهدف النيل من كليهما وإظهار أن المجموع الإسلامي هو مجموع عنفي غير حضاري جاهل ومتأخر في ما تقوم به من أعمال حتى وفي كثير من الأحيان وبأسلوب المدح يطاح بالإسلام والمسلمين وقد لا تنجو وسائل الإعلام التي لا همَّ لها إلاَّ الإعلام بما يحدث وبما يقال من هذه السمات أيضاً لجملة عوامل ولجملة أكثر من الأهداف السياسية المحلية والمنطقية والدولية والأكثر من كل ذلك مساهمة الدول بعضها إزاء بعض في إزكاء روح هذا الخلط.