الظاهرة الأصولية

.

تمهيد:

على الرغم من النتائج الكارثية التي انتهت إليها مختلف الحركات الأصولية في العالم وتالياً في العالم الإسلامي، فإنها ما تزال ماضية في مسعى ما اختطته لإحياء دولتها الدينية، فكأن الذي توضع حتى الآن لم يسترعٍ انتباهها أو اهتمامها بشكل تعيد به على الأقل تقييم تجربتها التي امتدت ما يزيد على النصف قرن تقريباً، مما يدعو للتساؤل حول الأسباب الداعية لهذا، أهو التجاهل أوالجهل، وفي كلا الحالتين يبقى السؤال ما الاستهداف من هذا التجاهل أو ما أدى ويؤدي إليه هذا الجهل؟.

 

         الثغرات والأخطاء:

 

إن استمرارية الحركات هذه في ذات المنطلق والنهج والاستهداف الذي ابتدأت فيه أعمالها، إن دل على شيء فإنما يدل على مدى اغترابها عن الواقع وانسلاخها عنه بشكل يدفعها للوقوع في جب كلما هربت من دب، وهي بذلك إنما تستمر في جهلها عوامل قيامها كظاهرة من جملة ظاهرات حفل بها القرن العشرون وتمحورت حولها مختلف سياساته، وهي أيضاً في مضيَّها في تجاهل عوامل ولادتها إنما تفتقر بالدرجة الأولى لتبين الظروف الموضوعية التي تتحرك في زخمها وتفرض عليها العمل بموجب قوانينها منطلقاً وأسلوباً وغاية، وإنها في استمراريتها صمّ آذانها عن كل ما قيل ويقال بصددها فكراً وممارسة، واتهامها إليه بالمدسوس إنما تؤكد على أنها ما تزال في صميم معضلتها التي إن تغافلتها جاهدة، فهي ـ المعضلة ـ لن تتجاهلها وستـنزل بها الكارثة تلو الأخرى، نظراً لما يغيبه عنها هذا التغافل من معضلات قيامها واستمرارها وتحديداً في من تخدم استهدافات أعمالها، وفي ما تنزله بها هذه الإستهدافات عبر ما اختارته أسلوباً لتحققها والذي ينم عن مدى جهلها بالواقع واحتمالاته وممكناته وتوقعاته.

في اغتراب هذه الحركات عن الواقع، وفي تغييبها له، إنما تنفك ذاتياً عن رحم تشكلها وتفتقر تالياً لأساليب وأدوات الحيلولة دون تكرارية النتائج الكارثية التي تنزل بها، ومن ثم تلك التي تحول دون إغراقها في قراءتها الذاتية للتاريخ، التي ما تزال تدفعها للتخبط في أطروحاتها وتعدداتها، وتحول أيضاً دون مضيها في “استخارتها التاريخية” التي ما تزال وراء كل أحلامها التي ترغب في رؤيتها وتعلل النفس بها، متجاهلة أن التاريخ /لا يسجل الآمال بل الأفعال/ وأنها في استمراريتها هذه إنما تحمل في ذاتها موِّرثات مقتلها.

في الحيلولة دون الذي تقدم، يمكن لهذه الحركات الكشف عن الخلل الذي تعاني منه وتعيد النظر بمنطلقاتها وأساليبها واستهدافاتها في محاولة ذاتية لتصحيح المسار وفي محاولة جادة لتلمس المأزق الذي ما تزال في إختناقاته. والذي ما يزال إضافة للذي تقدم يحول دون إمكانية تحييد ما يمكنها تحييده في معركتها وفي من هو الخصم وفي من هو العدو، إذ أنها ما تزال تستعدي الجميع ضدها، وبشكل يدفعها لأن تبقى مستفردة من كل القوى حتى ذاتها، إذ أنها في مأزقها التاريخي هذا لم تتلمس حتى الآن عوامل وأساب تعدد حركاتها، إذ يزيد عدد الحركات الأصولية في العالم العربي على /150/ حركة وفي العالم الإسلامي على /315/ حركة أصولية.

 

-القراءة الذاتية للتاريخ:

 

ما تزال مختلف الحركات الأصولية على تعددها وتنوعها لا تجيد قراءة التاريخ، إذ أن القراءة الأصولية للتاريخ ما تزال قراءة سردية انتقائية للحظة الانبهار التاريخي في الحدث الذي تعمى في سطوعه ـ هذه الحركات ـ عن عوامله ظروفاً وأوضاعاً وأحوالاً كما تعمى عن إمكانية استحضاره تاريخياً في تحديده، أو استخلاص مقولات توضعه على أرض الواقع، ماضياً وكيفية ذلك حاضراً وإمكانية ديمومته مستقبلاً.

ما تزال هذه الحركات ماضية من خلال قراءتها الأصولية للتاريخ في سلخ مراحله بعضها من بعضها، وفي تغييب عوامل هذه عن أسباب تلك وأساليب وأدوات ثالثة عن استهدافات رابعة، ما تزال ماضية في خلطها بين الماضي والحاضر والمستقبل بحيث يبدو التاريخ الأصولي لوحة فسيفسائية لم تكمل وما تزال فيها الفواصل والحدود واضحة بشكل لا تشوه الصورة التي تريد إيضاحها وحسب، وإنما تغيب فيها تقاطعات الأحداث بشكل تتداخل فيه الرؤى حتى يبدو كل أمر وكل شأن مشوش الصورة مدلهم الأفق يفتقر على الدوام لموطئ القدم الصحيح والراسخ، مما يوحي وبشكل لا يدعو للشك أن هذه القراءة للتاريخ إنما تأتي في سياق عدم معرفة التاريخ أو اللامنطقية في التاريخ كواقع علمي يبدو فيه أن هذه الحركات لم تزل في مبدئيات فهم العلم، إذ أنها ما تزال في إطار فهم كونه مجرد كم معلوماتي يتراكم بعضه فوق بعض، بشكل لا يستفاد منه، ولا تستخلص منه مقولة، وهو تاريخ على نمط ألف ليلة وليلة مهمته الأولى والأخيرة تأجيل ما هو متوقع اليوم إلى الغد على الرغم من هدر الزمن والطاقة. ومما يؤكد بصورة قطعية أن هذه الحركات لم تتبين حتى الآن أن العلم ليس أكثر من منهج تفكير، يؤدي على الدوام للكشف عن كل تناقض وعن كل تضاد في محاولة الإفادة منه، دون إستعدائه أو إلغائه وفي محاولة إيجاد التكامل في الهدف وفي الحياة، والتي هي على أي نحو أخذت به دليل وحدة، مهما تعددت وتنوعت وتناقضت وتباينت واختلفت وتداخلت… باقية على ما هي عليه في وحدتها وتلاحمها وانسجامها وتناغمها وتكاملها … .

 

-أحادية الاتجاه:

 

في القراءة الأصولية السريعة الانتقائية للتاريخ، لا نتلمس إلا لحظة الانبهار، والتي تبقى في إطار الأسطورة السياسية بحيث تغيب الممكنات عن أفق الرؤية الفكرية، وهو ما تعانيه الحركات الأصولية عموماً. فهي والحال أحادية الاتجاه، لا ترى سوى مضمون «استخارتها» التاريخية.

هي كالقائد العربي /عقبة بن نافع/ في قولته المشهورة وهو على شاطئ الأطلسي المقابل للقارة المجهولة /والله لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر بر لمضيت مجاهداً في سبيل الله/ ولقد ثبت مع الزمن أنه كان /وراء البحر بر/ ومع ذلك لم يفطن هذه القائد العربي وهو المتغني في قولته هذه أنَّ على يساره قارة قد تغنيه عن ركوب أمواج البحر، وقدماه تطأ أرضها، وأن كل ما عليه التوجه جنوباً ليفتتح قارةً بكراً تفيض فضةً وذهباً وماساً على بلاد المسلمين.

أحادية الاتجاه هذه حالت دون القارة الأفريقية من أن تكون قارة إسلامية، أحادية الاتجاه هذه حالت بين اليابانيين والقارة الأمريكية، وما كان الذي يفصلهم عنها سوى بحر لم يكن على اتساع المحيط الأطلسي، وأحادية الاتجاه هذه دفعت اليابانيين باتجاه الغرب (باتجاه آسيا)، ودفعت بهم لكوارث ونكبات كم كانوا بغنى عنها لو لم يعتقدوا أنهم مركز الشرق وأن الشمس لا تشرق بدونهم، لقد قبع اليابانيون في شرقهم كما قبع الأوروبيون واجمين خائفين مما وراء أعمدة ملكارت، وكما وجم العرب في الأندلس أمام بحر الظلمات. أحادية الاتجاه كتراكم كمي للمعلومات، دفعت بأوروبا لعصور ظلمتها، متربصة بكوبرنيكس وغاليلو ومطالبة بحرق الكتب التي ادعت كروية الأرض ودورانها حول الشمس وأنها ليست مركز الكون.

ما إنطلق منه اليابانيون باتجاه الغرب، وما وجم أمامه العرب والأوروبيون لم يكن حائلاً أمام متجهات كولومبس وأمريكوا، كان العلم تقاطعاً معلوماتياً للأول، وكان العلم منهج تفكير: كروية الأرض تعني أن الانطلاق من نقطة تعني العودة لها. وكانت القارة الجديدة.

أحادية الاتجاه هذه التي تحيق بالحركات الأصولية كنتيجة منطقية لقراءة التاريخ قراءة سردية إنتقائية، تدفع بهذه الحركات للعمى عن إمكانيات الواقع وممكناته واحتمالاته وتوقعاته، وهي باستمرارية فهمها للعلم كتراكم كمي للمعلومات، تحاول جاهدة تكييف الواقع مع النظرية وهذا من أفدح الخطاء التي ما تزال تكررها وتعمى من خلالها عن أساليب استخلاص الحقائق ومقولات التاريخ وتغترب عن ذاتها كما تغترب عن الواقع، كما تعمى عن قراءة تجاربها الذاتية قراءة موضوعية وتبين أخطائها وكيفية تجاوزها داخلياً وخارجياً، ذاتياً وموضوعياً والحؤول دون استمرارية تخبطها في المفاهيم والوسائل والأدوات والأهداف والغايات والخلط فيما بينها، وإدراكها كيفية ظهورها كظاهرة طبيعية ومن ثم كظاهرة استعصت على التطور. وأنها ، وذا واقع الحال، ليست أكثر من ظاهرة من جملة ظاهرات وأنها ليست استمراراً لما سبقها من حركات في التاريخ، وأنها في المحصلة لما هي أصولية وما المعوَّل عليها من خلال ذلك ولماذا التصق بها هذا المصطلح ومن أطلقه عليها ولماذا وكيف ومتى وأين.. تبقى التساؤلات التي لابد من الإجابة عليها حيال كل عمل من أعمالها. ولماذا هي ماضية على غير هدى في كل ذلك والذي يبينه، على أية حال، العنصر الدعائي في أعمالها وما تفتعله من أحداث ودون أي استهداف آخر.

 

-الأصولية مفهوماً ومصطلحاً:

 

ما لم تفقهه الحركات الأصولية في قراءتها السردية الانتقائية لحظة الانبهار التاريخي أو الأسطورة السياسية، أن العلم كمنهج تفكير يميز في قراءته للتاريخ بين منحيي الاجتماع والسياسة. في الأول تعقلن الميثولوجيا والميتافيزيقيا، بينما تتداخل الثلاثة معاً في الثاني. مما يعني في السياق أن الحركات الأصولية هي في علم السياسة كظاهرة سياسية لا تمت إلى علم الاجتماع إلا من حيث كونها ظاهرة من جملة ظاهرات. فهي والحال لا تعقلن ميثيولوجياتها و ميتافيزيقاتها بقدر ما تسيسيهما معاً. مما يعني أن الأصولية دينية أو عرقية أو ثقافية لا تغرق إلا في التاريخ وعلى طريقتها الخاصة في السرد السياسي له أو في الاختبار السياسي الانتقائي بحيث لا تبدو فيه إلا الأسطورة السياسية كلحظة انبهار تاريخي يؤول من خلالها كل حدث تاريخي وكل فعل آني وكل تطلع مستقبلي.

في علم الاجتماع يبدو الدين أمميَّاً، يتجاوز المجتمعات والأعراق والثقافات، ومن حيث هو كذلك لا يمكنه أن يكون حكراً على شعب أو قوم أو عرق أو ثقافة وهو لذلك متكيف مع كل هذه الحدود ووفق ما تقتضيه ظروفها وأحوالها وأوضاعها. وهذا ما يفسر ظهوراته الطائفية والمذهبية وحتى الطقسية في أغلب الأحيان وأن الاختلافات في ما بين هذه، تبقى على قدر اختلاف وتباين تلك الظروف والأوضاع والأحوال.

في علم الاجتماع يبدو الدين متطوراً، متكيفاً، متغيراً، متبدلاً، في كل ما يساهم في توطيد دعائمه المناقبية والمسلكية. في استعصاء الدين على ما تقدم، يكون في المتجه السياسي، حيث السلطة، حيث الدولة، وحيث يشكل في هكذا وضعية حالة سلطوية لا حالة دينية، أو بمعنى آخر، يضحي الدين مقولة سياسية لها أساليبها وأدواتها و منطلقاتها واستهدافاتها وغاياتها السياسية والتي تتعارض معه تعارضاً جذرياً في كل ما يمت لقيمه وفضائله ومناقبه بصلة، وهذا ما يفسر إلى حد بعيد ما تجتهده الحركات الأصولية في متجهاتها السياسية وأساليبها، في محاولة مطابقة الدين لها تبريراً وتسويغاً.

وكما هي الحال في الدين، كذلك في العرق، حيث لا يقر علم الاجتماع حقيقة العرق الواحد الأحد الصافي والنقي والمتميز والمتفوق، ففي علم الاجتماع، تبقى الحقيقة التي لا جدال فيها هي حقيقة التلاقح العرقي والمزيج السلالي المتجانس حيناً والمتنافر في حين آخر ويبقى العرق في علم السياسة مجرد أسطورة سياسية لها من البعد الاجتماعي النظري والاعتقادي ما يخولها الظهور كقوة سياسية ليس إلا، إذ تختلط هنا أبعاد علم السياسة الثلاثة بحيث يسعف كل منها الآخر في دعم تواجده على أرض الواقع، تراثاً ولغةً وحدثاً وفنوناً وحكايات شعبية تفرق في أسطورتها السياسية.

في علم الاجتماع لا يبدو الشأن الثقافي لوناً دون آخر هي لونٌ أبيض في موشور الجماعات البشرية، فالثقافة هي ثقافة إنسانية، لكلٍ منها من الميزات ما للآخر يبقى الاختلاف في زاوية الرؤية والمستوى، وهذا ما يجعل الثقافة في علم السياسة على النحو الذي نراه في الحركات الأصولية على إختلافها، حيث يكيف الواقع مع النظرية، بمحاولة إلغاء الآخر باعتباره سبباً وعائقاً وبالتالي جنوح كافة الأصوليات للعنف في المطلق من المفاهيم.

الآخر باعتباره سبباً في ما حل من نكسات وإنكسارات وهزائم وضياع وفقدان هوية

والآخر، باعتباره عائقاً لمكتسبات ما تقدم وامتيازات ما بني على الضياع والتشتت …

الآخر باعتباره المُهَدِدِ بالتلاشي والضياع مجدداً.

هكذا تبدو الأصولية في التاريخ، اجتماعاً وسياسةً، نوعاً من أنواع العقد النفسية التي تتذبذب بين السادية والماسوشية في أساليبها باستعداء الآخر ومحاولة إلغائه وعدم القدرة على التمييز في ذلك بين من يمكن تجنب خصومته وعداوته وبين الخصم وبين هذا والعدو.

الأصولية في واقعها، ردٌ على القهر باستعلاء المقهور على القاهر بعقدة التفوق التي تبرر من خلالها فكرة إلغاء الآخر القانص المجد الغابر. وهي لذلك تبقى في مجمل حالاتها شكلاً من أشكال الانغلاق الذاتي المحكم /الغيتو/ الذي يأبى على الدوام التفاعل مع الآخر، ويبقى في دائرة الانفعال.

في ضوء الذي تقدم يمكن بداية فهم بعض مواصفات الأصولية، فمن خلال انعزالها عن الحاضر واستغراقها في الماضي نتلمس صفتها الأساسية، العودة للأصل، أو الارتداد للوراء في محاولة إعادة صياغته ذاتياً عبر الاجتهاد في التفسير والتأويل وحتى التحريف للحدث نصاً وروحاً. بما يضمن رغبة ذاتية في التفوق على الآخر، وهي في الغالب رغبة متصوَّرة، متخيلة، متوهمة. تتمثل في أكثر الأحيان تعنتاً وتبجحاً وعمنجهية، وفي خلاصتها، تعصباً يعمى عن كل الحقائق ، بما لا يدع مجالاً للشك في أن الأصولية مرض يدخل في إطار الأمراض العصابية في مسلكياته العنفية والضدية بكل ما تعنيه هذه أيضاً من بغضٍ وكره وحقد وغيرة …

وهذا ما تعنيه القراءة الأصولية للتاريخ السردي والانتقائي واللحظي في انبهاره بأسطورته السياسية حيث يتوضح هذا التغييب في أوضح صورة بالعمل الدعائي الإعلاني الإعلامي في أيٍ من ممارساتها.

هكذا الحركات الأصولية في البعد السياسي الذي ينزوي أمام البعد الاجتماعي في بيان الأخير أن الظاهرة الأصولية من حيث هي ظاهرة طبيعية، لم تستعصي على التطور إلا بتسييسها، فهي فيعلم الإجتماع حدث تاريخي في سياقه السياسي، وبهذا لا نلمح أي اختلافات بين الحركات الأصولية على اختلافها، إذ هي تستعدي بعضها البعض كما تستعدي سواها من الحركات والهيئات والمؤسسات … إذ لا تعترف أي منها بالأخرى وتبقى أبداً في موقع الشك والريبة من كل ما يجري.

الأصولية من حيث هي حدث تاريخي في سياقه السياسي، تتسع لتشمل مختلف الحركات الأخرى ولتخرج تالياً عن التصاقها بالمسلمين “كما سيأتي لاحقاً” ولتشمل في آن واحد الحركة الصهيونية والنازية والفاشية والصربية وسواها من الحركات التي تبدو كأحداث تاريخية ليس لها جذر أصولي، فإذا كانت الأصولية بما هي عليه كحدث تاريخي في سياق سياسي فهي محاولة ارتداد للوراء بسحب الماضي على الحاضر، وهنا نقع على أحداث من نوع العداء المستحكم بين الأتراك واليونانيين مثلاً فالآخرين يردون على سقوط القسطنطينية بيد محمد الفاتح كما يحاولون إعادة مجد إمبراطورية دامت ألف عام. هذا العداء الذي وجد في جزيرة قبرص قاعدته حيث القبارصة الأتراك نعت للمسلمين ، والقبارصة اليونان نعت للمسيحيين منهم، الخلاف في ظاهره عرقي ديني وفي محتواه تاريخي لا علاقة له بالدين إلا بقدر علاقة هذا بالسياسة.

أفلا يعني نزوع إيطاليا لاحتلال ليبيا مجدداً نزوعاً أصولياً لإعادة مجد روما على أنقاض قرطاجة.

ومن ثم ألا يعني نزوع الولايات المتحدة لمرابطة أسطولها السادس في البحر الأبيض نزوعاً أصولياً للرد على فشل السفن الست الأميركية في اختراق الجدار الأوروبي المحتكر البحر الأبيض لصالحه؟ وماذا تختلف الحركة الأصولية الصهيونية في مسعى إقامة دولتها / من الفرات إلى النيل / وهي تتمثل مسرة السبي إلى بابل ومن ثم الشتات(!؟) في مختلف أقصاع العالم، عن محاولة الأصولية الإسلامية إقامة دولتها من الغرب إلى الشرق على حدود الصين في أمة إسلامية(!!؟) عن السابقة، ألا يعني /العداء للسامية/ ذات البعد في/ العداء للإسلام/ أوَ لا يمكن فهم نزوع النازية لاحتلال فرنسا، شكلاً من أشكال الرد على/مدافع نابليون/ في سينفونية بتهوفن الشهيرة، أليس في إصرار البعض على اعتبار القرن الحادي والعشرين صراع إثنيات وأديان وعرقيات، بعضاً من نزوع أصولي. ويبقى السؤال الذي لا محيد عنه: لماذا اقتصرت والتصقت الأصولية بالمسلمين؟ فكأنهم ودون سواهم كذلك!!!.

لم تتنطح حتى الآن أية حركة أصولية للإجابة على السؤال المتقدم مما يعني أنها لم تتلقط حتى الآن لماذا ألصق بها، وكيف أنه في مصطلح أصولي المفتاح للمنطلق والوسيلة والغاية، وهو لذلك كان قد اختير بعناية ودقة فائقين، فإذا لم تكن الأصولية الإسلامية مختلفة عن تلك الصهيونية أو النازية الفاشية، فلماذا لم تسمى بواحد منها؟ هل يكفي المنطلق الإسلامي باختلافه عن المنطلق اليهودي ليكون لكل منهما مصطلحاً خاصاً؟ طالما أن أعمالهما واحدة وإستهدافاتهما كذلك ووسائلهما أشد ما يمكن من التشابه، وهل يبرر العداء لأمريكا “وإسرائيل” ما تقوم به الأصولية الإسلامية من أعمال وممارسات؟ وهل في هذا نفض وشم التهمة عنها بأنها أداة لهما معاً فيما تسببه من اضطراب وعدم استقرار في المجتمعات المتخذة منها ساحة عنف وإرهاب؟

لا نعتقد أن الإجابات، كائنة ما كانت، تفلح في رد التهم الموجهة، هذا أولاً، أما ثانياً فإن ما لم تفلح به هذه الحركات هو تغطية التهم في تجاهل أو جهل عوامل وأسباب ولادتها، وأن هذا المصطلح قد جاء بالرغم من التشابه ليغض الطرف عمّا تشكله الصهيونية من عبء أوروبي ما زال يرهق كاهله تحت مقولة العداء للسامية، كما لم يكن ممكناً وصم هذه الحركات بالنازية والفاشية، لما لهذا من تداعيات في المجتمع الأوروبي والأمريكي حيث تمثل دعاة النازية والفاشية الجدد له هناك لما تقوم به الحركات الإسلامية، والأكثر من ذلك ، لماذا توصم الحركات الأصولية الصربية بوصمة /التطهير العرقي/ مع أنها لا تختلف قيد أنملة في ممارساتها عمّا تقوم به الحركات الأصولية الإسلامية، لماذا هناك تطهير عرقي وهنا حركات أصولية؟ هذا ما تطالب بالإجابة عليه مختلف الحركات الأصولية الإسلامية، وما من معين لها سوى قراءة موضوعية للتاريخ، تاريخها بالذات، لتلتمس أن في هذا المصطلح كل ما يجب عليها القيام به، بل وما هو مطلوب منها استعمارياً، وما تسعى له خدمة كل أعدائها، وأنها أخيراً واقعة في الشرك الذي نصب لها منه (المصطلح) حيث القاعدة هي: أن أفضل أسلوب لإفراغ المحتوى هو مسعى تحققه، وهي بذلك إنما تنفذ هذه القاعدة نصاً وروحاً مفرغة ذاتها كما الدين الحنيف.

إن محاولة جادة، لتبيين عوامل وأسباب هذه الظاهرة الأصولية، كفيلة بالرد على كل ما تقدم من أسئلة وتالياً بيان الخيط الأبيض من الأسود بل ووضع الإصبع في الجرح.

-العوامل والأسباب في ظهورالحركات الأصولية:

 

 

في تبيين العوامل والأسباب التي أدت لظهور الأصوليات الإسلامية، نتلمس أيضاً كيف تستحيل الأسطورة السياسية إلى مذهب سياسي، ينغلق فيه الفكر ويستعصي على التطور، وكيف تقود الأسطورة، متى تهيأت لها الظروف، إلى فكرة سياسية تتأطر بفلسفة سياسية تجد صيرورتها في نظرية سياسية تمهد لقيام المذهب السياسي حيث يمثل رد الفعل على “القهر” التاريخي بعقدة التفوق عبر تعصب أعمى يلغي الآخر ويستعدي الآخرين، ومن دون أدنى فكرة أن ما يتاح له قد يتاح للآخر بالشكل غير المتوقع.

ما لم تفقهه الحركات الأصولية حتى الآن، هو أنها جاءت وليدة ظروف موضوعية حفل بها القرن العشرين، وكانت بالتالي إحدى ظاهراته التي مهدت لها الخلفية الذهنية للقرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في أبرز ظاهراته، الدولة الحديثة، وكيف شبت وترعرعت في أجواء الحرب الباردة التي ساهمت بفاعلية في صيرورتها التي آلت إليها نهاية هذه الحرب، بحيث باتت الحركات الأصولية على عكس ما يشاع ويعلن، ويعمل على تحريضه من أن القرن الحالي هو قرن النزاعات الأثنية تلفظ أنفاسها الأخيرة.

 

الحرب الباردة:

 

إن تكن قاعدة إفراغ المحتوى في مسعى التحقق هي القاعدة التي سارت عليها السياسة الدولية في مواجهة ما تمخض من نتائج الانهيارات الكبرى التي حفلت بها بدايات القرن العشرين، فإن مقولة المعوّل على الحركات الأصولية تحقيقه ومدى تحققه بالفعل ومصبات مجرى أفعالها هي القاعدة التي يمكن من خلالها إضافة لما تقدم تقييم فعل الحركات الأصولية في سياق السياسة الدولية التي اتبعت في هذا القرن والذي يعتبر بحق قرن التحولات التي لم تشهدها أي من القرون السابقة.

فلقد جاءت بدايات هذا القرن بجملة انهيارات وتبدلات ابتدأت بانهيار دولة “آل عثمان” والإمبراطورية القيصرية في روسيا وبروز دول على أنقاضها حتى إذا ما شارفت نهاية نصفه الأول، بدت نتائج حربيه لما طبع به نصفه الثاني من حرب ثالثة كانت أشرس بكثير مما سبقها من حروب، إذ كانت قد خبت إمبراطوريات استعمارية بعامل صراع عملاقي نصفه الأخير، وكانت الرائدة في ذلك الولايات المتحدة، التي راحت تحارب على جبهتين، الأولى تقليص نفوذ الدول الاستعمارية الأوروبية من خلال دعم وتشجيع الانقلابات العسكرية والثورات الشعبية في وجه الاستعمار الأوروبي على قاعدة مبدأ حق تقرير المصير، فكانت النتيجة أن انضوت أوروبا صاغرة تحت لواء الولايات المتحدة في مواجهة العملاق الذي شب في الشرق /الاتحاد السوفييتي/ والذي رفع شعارات ديكتاتورية الطبقة الكادحة، الأممية وإقصاء الدين باعتباره أفيون الشعوب.

فما كان من الغرب إلا أن رفع هو الآخر شعار الرأسمالية والقومية والدين في المواجهة الدائرة بينهما.

كانت الولايات المتحدة تهيأ لما نعايش اليوم، العولمة الأمريكية للعالم، فكانت السياسة تقتضي إسقاط السوفييت دون بروز أي قطب آخر (وعلى ما يبدو أن الصين هي اليوم العملاق الذي لم تحسب له الحساب)، يدفع الغرب لخوض حرب رابعة ولم يكن ليتم له ذلك إلاّ في الحيلولة دون توسع السوفييت بشرط إفراغ محتوى الشعارات المطروحة في المواجهة، والتي لم تكن في حقيقتها بقادرة على التحقق في أجواء الحرب الباردة، طالما أنها في الأساس تبقى إحدى الوسائل ليس إلاّ.

هكذا طرحت القومية فجاءت على شاكلة متطلبات الحرب،أثنية في تطلعاتها، فهي وحدات تمازج بين الاجتماع والسياسة وتقتصر في جوهرها للاقتصاد في هذه الممازجة، وحدات سياسية تبقى السلطة محورها في حمى السلطة، وحدات تقوم على العرق والدين واللغة وتسترجع أسطورتها السياسية الملفقة في وحدة الآلام والآمال والتاريخ المشترك فإذ بها تحقق الشرط الأول في مواجهة الأممية بالحيلولة دون اعتناقها والعمل في سياقها ويسقط الاثنان معاً، فهما في الأساس، على النحو الذي طرحتا به لا يحملان بل ولا يملكان إمكانية التحقق، على قاعدة إفراغ المحتوى في مسعى التحقق وعلى القاعدة الثانية في المعوّل عليهما، إذ أن المعوّل عليهما كان اصطراعهما وليس تحققهما. وما توضح على الأرض في نهاية القرن العشرين كفيل بتأكيد ذلك.

وكما القومية كانت الاشتراكية التي رفعت شعاراً في مختلف الثورات والانقلابات التي ابتدأت مع بداية النصف الثاني للقرن العشرين، إذ اقترنت الاشتراكية بالتعسف والقمع الستاليني الأسلوب مما أدى بطبيعة الحال لنمو فطور البيروقراطية في أجهزتها.

وساهم في المصير المشؤوم لها ذاك الحصار الاقتصادي المضروب حول السوفييت وحول مختلف الدول التي سارت في ركبه أو قاربته أو حاولت المزاوجة بين قطبي الصراع فلا أفلحت هنا ولا هناك وكان أن تم إجهاض الاشتراكية لعلةٍ في ذاتها محققة بذلك القاعدة الأولى من السياسة الدولية بينما تكفل الأسلوب القمعي والتعسفي كقاعدة ثانية في سقوطها.

وكما القومية والاشتراكية كان الدين حيث مقتله في مزاوجته هو الآخر بالسلطة والعنف. فالدين من حيث هو مناقباً وقيماً وأخلاقاً يبقى على تناقض صارخ مع السياسة، فلهذه الأخيرة كل ما ليس للدين والعكس صحيح فللسلطة مقولات ولسياستها مقولات أخرى لا تقيم وزناً لكل ما يأتي به الدين من قيمٍ وفضائلٍ ومناقب، وأن أية محاولة للمزاوجة بينهما مزاوجة عقيمة لا تنجب مجتمعاً دينياً بقدر ما تنجب أطفالاً سمتهم الأولى والأخيرة عقوقهم وشذوذهم.

فللسلطة بهرجها ومغرياتها وأساليبها التي إن تكلفت وحدها بالدين قتلته، فكم بالأحرى إذا ما اقترنت بالمعوّل عليها خدمته: الحيلولة دون ولوج السوفييت إلى أي من المجتمعات القائلة به طريقاً “لإثيوبيا” على الأرض غايتها الأولى والأخيرة الحياة الآخرة. بمقولة كهذه حالت السياسة الدولية دون تسلل السوفييت، بل دون نجاحهم في قولبة المجتمعات التي ما تزال درجة تخلفها تحول دون إدراك ووعي المستهدف من طرح سلطة الدين على الأرض، وفي المعوّل على طرح الدين في مواجهة الإلحاد هكذا يمكن إفراغ الدين قيماً وفضائل ومناقب في السلطة أو في مسعى السلطة بما إختتطه الحركات الأصولية من عنف وإرهاب وقتل مما حال دون تحققه على النحو الذي طرح به شعاراً بعد أن حقق ما كان معوّلاً عليه مواجهته.

لم تعِ الحركات الأصولية حتى الآن أن مقتل الدين في مزاوجته بالسلطة وأنه حتى في الحال التي تكون فيه السلطة سلطة دينية، فهي سلطة قبل أن تكون دينية، فإذا ما رجحت كفة الدين سقطت السلطة والعكس صحيح بالمطلق حيث ثبت بما لا يقبل الجدل أن أن الدين يبقى شعاراً سلطوياً لا أكثر ولا أقل بينما تبقى السلطة هي الجوهر والمضمون والمحتوى الديني … .

في أجواء الحرب الباردة إذن وما كانت تتطلبه، نمت وترعرعت مختلف الدعوات الأصولية وهي دعوات تداخلت فيها الطائفية والمذهبية والعرقية والأثنية، فإذا الدين هنا طائفة وهناك مذهب وبعد هناك عرقاً وفي المحصلة ثقافة يمكن لها أن تؤول وفق كل طموح سياسي، وهذه هي الحال التي انتهت إليها مختلف الحركات الأصولية، والتي يؤكد تعددها /أكثر من 315 حركة/ تعدد اجتهاداتها الدينية الطائفية والمذهبية والعرقية والثقافية وأن تبريرات توزعها على الدول والكيانات السياسية ليس بالتبرير المقبول فهي وحتى على مستوى الكيان السياسي الواحد تتعدد حتى في الطائفة الواحدة والمذهب الواحد وتلعب فيها مختلف طبقات الشعب وانتماءاته بما يتوافق ومصالحها بالبقاء على الوضعية المكسبية التي هي عليها. ويبقى السؤال هو كيف يمكن قيام الدين بما هو معوّل عليه عبر حركات أصولية تعمل وفق قاعدتي السياسة الدولية.

ما تقدم، يجد إجاباته في ما قامت عليه سياسة الحرب الباردة، ليس لجهة الاستهداف وإنما لجهة مقومات قيام هذه الحركات والمتمثلة أولاً في الخلفية العثمانية التي قامت على أرضيتها والدول الحديثة الناشئة في أعقاب تلك الانهيارات وأساليب ووسائل نهجها في التعاطي مع ما كان مطلوباً منها أن تلعبه من أدوار في الحرب الثالثة.

– الخلفية العثمانية:

لم تعِ الحركات الأصولية حتى الآن، أنها ما تزال في خطابها السياسي تعود لبدايات القرن العشرين، متغافلة كل التطورات التي طرأت على الخطاب السياسي بالذات وكل الأحداث التي واكبت القرن العشرين بل ومختلف التحولات التي غيَّرت من البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية وما إستنبعها من تغيرات في البنى الثقافية كحاصل لكل ما يقدم. بل وتغيب عن أذهانها أنها وإن استخدمت الخطاب السياسي إياه، فهي في شرك ذلك الخطاب، الذي لم يكن في جوهره دينياً بقدر ما كان سياسياً، إذ أن أولئك الرجال الذين تنطحوا لمقارعة السلطنة العثمانية في دعوتهم التحررية، ما كانوا في معرض حديثهم عن الدين بدينيين، بقدر ما كانوا يستخدمون الخطاب الذي اعتمدته السلطنة العثمانية في إخضاع الشعوب لسيطرتها ولتبرير منهجها السياسي في الدول التي حاولت التحرر من ربقتها، ولأن الشعوب التي شبت على مثل هكذا خطاب. وهي على الحال التي عليها من التخلف والجهل والفقر والانقطاع من أحداث العصر، لن تفقه على الإطلاق غير ما شبت عليه وما ألفته وما ساهم في إقناعها بالخضوع على مدى قرون خمسة لسيطرة قوة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً في مقولاتها الاستعمارية التي اعتمدتها من تجهيل للشعوب التي وقعت تحت سيطرتها، حيث سلبت كل ما في هذه المجتمعات من قوى التطور والتقدم، لذا فإن الخطاب السياسي الآنف الذكر، أعتمد الدين في بيان أن هذه الدول ليست دينية في ما تسلكه وفي ما تسعى إليه وبيان ما يفترق به الدين عن سياستها.

في الخطاب إياه كان الدين سياسياً ولم تكن السياسة دينية، وهذه هي الحقيقة التي غفلت عنها الدعوات الدينية منذ بداية القرن العشرين، وأسست عليها خطابها وما زالت.

في بكائيات الحركات الأصولية على دولة الدين، دولة آل عثمان، لا تميز بين الدعوة للدين فضائلاً وقيماً ومناقب تتجسد مسلكاً على أرض الواقع، وبين الدعوة لتسييس الدين في دولته.

فحيث الدولة هناك سياسة وهناك سلطة، وكلتاهما في ما ينتهجانه، نقيضان مباشران للدين، وهي في هذا، تبقى في نسق قراءتها للتاريخ الانتقائي، السردي، تبقى في لحظة الانهيار، فلا تتبين ما جرّه على الدين وُلاته وأمراء مؤمنيه وخلفاؤه، تبقى في الشكل في ما يدعيه هؤلاء، دون الولوج لمتجهات أعمالهم وعواملها وأسبابها، وهي لا تقاطع المعلومات بل تتركها متفرقة مشتتة تختفي الواحدة منها في ظل الأخرى وبشكل تغيب عنها فيه الحقيقة، وهي أنها، في هذا المسلك بالذات تبدو سياسية أكثر منها حركات دينية ، وهي بذلك أيضاً تحاول جاهدة، على النسق العثماني والأموي والعباسي تبرير ما ترتكبه باسم الدين.

على خلفية الخطاب الديني السياسي، أنقسم أولئك الرجال الذين تصدوا لدولة آل عثمان وقامت على أكتافهم دولنا الحديثة، انقسموا إلى تيارين، تيار بقي في مجال الخطاب السياسي الديني وأخر في مجال الخطاب الديني السياسي، الأول حاول مزاوجة خطابه السياسي بما أسعفه الحظ بالإطلاع على منجزات أوروبا، فزاوج بين خطابه وتلك المنجزات، للتأكيد على أن ما يسعى إليه وما يستهدفه من خطابه، لم يكن تسييساً للدين، وعلى الرغم من أن مثل هذه المزاوجة كانت خاطئة، فإنها، وللظروف الموضوعية التي أحاطت بها، كانت الخطوة الأولى في الدعوة الخجولة لفصل الدين من الدولة، القسم الثاني من أولئك الرجال، ولعلة في فهم مجريات الحدث والعوامل الموضوعية التي قادت لهذا الخطاب السياسي، في شكليته، من حيث هو خطاب لإقامة دولة الدين، فراعهم في سذاجة تصورهم للدولة ومقتضيات قيامها، تلك المزاوجة بين الخطاب السياسي وما تقدمه المنجزات الأوربية. وهي المتهمة بتقويض دعائم وأركان دولة «آل عثمان». ولم يفقهوا في سذاجتهم هذه، أن تلك الدولة كانت أمام خيارين لا ثالث لهما، فأما مواكبة عصر الآلة بما يستجره من صحوة في الشعوب الخاضعة لها وإما التخلف عن هذه المواكبة وإبقاء الحال على ما هو عليه حفاظاً على السلطة واستمرارها في استنزاف تلك الشعوب، والاعتماد على الدعم الأوربي السياسي الملبي بالدرجة الأولى نزوات آل عثمان على حساب الدولة، فكان أن انهارت الدولة في ما اختارته وفي ما دفع لتلك البكائيات المتهمة الغرب بتقويض دولة الدين، وكأن في السياسة من الأخلاق غير مصالح الشعوب في البقاء والاستمرار.

لقد فتك الاتجاه الثاني بالحركات الأصولية التي انتهجته، كما أودى بمختلف المحاولات الداعية لإحياء الدين بعيداً عن السياسة، بإصرار ذاك الاتجاه، بما خلفه من حركات، على أن كل ما يأتي من الغرب «بغريب» وكل ما في بلاد «الكفر» بكافر وأن كل ما ينافي هذا «بدعة» تستهدف الدين ودولته، فكان بذلك أول الداعين بطريقة مباشرة للعمل وفق ما اختارته دولة آل عثمان وقوَّض إلى غير رجعة أركانها ـ أي التخلف عن مواكبة العصر ـ وهو بالذات ما يحول دون هذه الحركات وتحقيق ما ترجوه.

لم تفقه الحركات الأصولية حتى الآن، أن ما تأسست عليه وشكل نواة خطابها الديني السياسي يعود لقرن من الزمن وأن ما يستجره من المؤمنين به هم من المتخلفين قرناً عن العصر الحاضر، وأن ما تنتهجه من خلال هذا الخطاب لم يعد يجدي وأنه يودي بها، وأنه ما يجعل الواقع أمامها على غير حقيقته، وأنه وراء عجز قراءتها السردية ـ الانتقائية لا للتاريخ والحاضر وحسب وإنما لاستشراف المستقبل وقضاياه، وأنه كان وما يزال الثغرة الكبرى في بنائها النظري والعملي وأنه مكمن الداء بها والخلل الذي تعود إليه مختلف أخطائها وعثراتها وما تمنى به من خسائر ونكبات ويحول دون تحقيق أهدافها التي تبدو، في خطابها السياسي، مرتدة للوراء وأكثر تخلفاً منطلقاً وأسلوباً من تلك التي كانت لدولة «الدين» في «آل عثمان». وأنه وراء استعصائها على التطور وفي فهمها لهذا الأخير على أنه ارتداد عن الدين.

 

ـ الدولة الحديثة:

 

على الخلفية العثمانية، وفي أجواء الحرب الباردة قامت الدول الحديثة كبؤرة ترعرعت في تربتها وعلى نسغها مختلف الحركات الأصولية، والتي ـ الحركات ـ لم تفقه حتى الآن أن في استعدائها للدولة، إنما تستعدي أبرز عوامل قيامها بل وأهم مصادر دعمها واستمراريتها. ذلك أن الدولة الحديثة بما احتوته من شعوب وأقوام، تبقى في إطار المهمة التي اقتضت إقامتها، وهي المحافظة على توازنات ما قامت عليه، حتى إن اقتضت السياسة الدولية إثارة الفوضى والاضطراب في بقعة من بقاع العالم، أثارت في واحدة من هذه العرقيات أو الأديان أسطورتها السياسية، مقدمة لها كل الدعم لتحقيقها، فإذا ما أدت المهمة من إثارتها، عملت السياسة الدولية على إفراغ محتواها، ودفعت بالدولة للعمل على القضاء عليها.

وإن تكن الحركات الأصولية لم تفقه، لقراءتها السردية للتاريخ، هذه المقولة، فإنها لا شك بالغة إيَّاها فور تحقق المعوَّل عليها. والذي لا شك أيضاً، أنه بات متداولاً على نطاق واسع، لكن، وللقراءة السردية الانتقائية للتاريخ، بقي في إطار المتداول الذي يلمح إلى «أهمية» الحركات الأصولية.

إن ما أشيع وما يشاع حول المتوقع في القرن الحادي والعشرين ومن أن قرن صراع الإثينات العرقية والدينية، يضحى دون أدنى شك، المعوَّل صراحة على هذه الحركات ، خاصة وأن ممارستها الفعلية وما قد يمارس باسمها، في المعوَّل عليه، يبقى منطلقاً من الوضعية التي قادت إلى إقامة الدولة الحديثة والتي عملت على جعلها على الدوام بؤرة متفجرة في وجه أي من المخططات التي ترى فيه السياسة الدولية، تهديداً لها ولصيرورتها، التي تعمل للوصول إليها، خاصة وأنها جنت من خلاله وفي تجربة الحرب الباردة ما لم تكن تتوقعه وفي المدى الزمني الذي تطلبه.

لقد جاءت الدولة الحديثة الناشئة خليطاً متنافراً يصعب في أجواء الحرب العمل على اندماجه في وحدة اجتماعية، فالمدى الزمني الذي أعطى الدولة الحديثة التي قامت على أنقاض دولة «آل عثمان» لم تكن على غير ما كانت عليه الدولة، فالرجالات الذين قامت على أكتافهم حملوا معهم ما ورثوه من تلك الدولة، فجاءت الدولة الحديثة على شاكلتهم في دساتيرها وقوانينها وأنظمتها بل ولم تختلف عن تلك حتى في خطابها السياسي وفي نهج تلك، في قيادة المجتمع. فإذا بالتمايزات بين العرقيات تفعل فعلها كما في الاستثناءات الدينية وكما في الطبقات والفئات.. فإذ بالدولة الحديثة، تحمل عوامل مقتلها في مقومات قيامها.

لذا فإن الدولة الحديثة، ليست على النحو الذي تراها فيه تلك الأصوليات،إنها في الشكل مدينة لأنه لا يمكن لها أن تكون غير ذلك في عالم اليوم، حيث القضايا المطروحة، تتجاوز تلك التي يمكن تصورها في القراءة السردية الانتقائية للتاريخ، لكنها، الدولة، في جوهرها دينية، ذلك أنها حمَّلت في دساتيرها دينها وفي قوانينها وأنظمتها مؤسسات دينية عملت بشتى الطرق على أن تكون صوت الأصوليات على اختلافها، الدينية منها والعرقية، حيث انضوت هذه الأخيرة تحت لواء الدين، مسخرة إياه، لنيل مطالبها العرقية عن طريقه.

في الدولة الحديثة وجدت وزارات الأوقاف، ما تقطعه من أرصدة واستثمارات، باسم الدين. وكانت على عكس ما تدعيه الحركات الأصولية، اكبر مساهم في إحياء صوت الدين في السياسة، فابتنت المساجد والجوامع والمعاهد الدينية والمؤسسات الاجتماعية والثقافية فساهمت بذلك بإحياء الدعوة لإقامة المؤسسات الدينية، مستشفيات وجامعات وحتى المصارف والمصانع واحتكرت في أحيان كثيرة بعض الحرف باسم الدين، بل ولم تكتفِ بذلك بل ضمت إلى أوقافها بعض ما تجبيه الأماكن الأثرية الدينية، فإذا بجانب مهم من قطاع السياحة يعود لها..

إن مقارنة بسيطة وسريعة بين وزارات الأوقاف بما قدَّمت، وما قدمته الحركات الأصولية، يقدم الدليل الساطع على أن الفارق كبير بين مساهمة الدولة ـ وزارة الأوقاف في تأمين بعضاً من متطلبات قيام الدين وفق الإمكانيات المطروحة، وبين الحركات الأصولية التي عملت على نشر الفوضى والرعب والإرهاب والعنف حتى بين صفوف المسلمين. وأثارت مختلف الأثينات الأخرى ضد الإسلام بعد أن صوَّرته من خلال أعمالها ديناً قاتلاً جاهلاً.. وإلى ما هنالك مما الصق بالإسلام والذي لا يكاد يخلو يوم إلاَّ ونسمع بمواصفات لا عهد لنا بها تلصق بالإسلام والمسلمين كمثل تلك الحركات المشبوهة التي تعلن مسئوليتها عن عمل إرهابي، لتعود وتختفي ولا يعد يسمع لها صوتاً..

يكفي أن نشير في هذا المجال أن عدد المساجد في مصر بلغ في عهد الملك فاروق ما يقارب 7.000 مسجد وجامع ليرتفع في عهد جمال عبد الناصر حتى 16.000 مسجد وما كادت الثمانينات تلوح في الأفق حتى بلغ تعدادها ما يقارب 45.000 مسجد منها على سبيل المثال لا الحصر أكثر من 16.000 مسجد في القاهرة. وفي فترة لا تتجاوز العام قدمت دولة بترولية ما يقارب المليار دولار مساعدات لعدة دول إسلامية، كما سبق لها أن قدمت ما يزيد عن 45 مليون دولار للأزهر لتأسيس معاهد ومدارس وما شاكل ذلك إضافة لدعم مجموعات إسلامية تحولت من العمل ضد شيوعي أفغانستان للعمل في مصر..

وإن نكتفي بالقليل القليل من مساهمات الدولة في التشجيع غير المباشر للحركات الأصولية، فإن هذا القليل يشير إلى ما تسعى إليه هذه الحركات من الدين: السلطة وليس إلاَّ السلطة باسم الدين، مما يؤكد على جملة مناحي أبرزها وأهمها، أن هذه الحركات لم تُقدمِّ حتى الآن ما يشير، ولو في الحدود الدنيا، لأية مساهمات عملية في سبيل ما تدعي نشره، وأنها على المستوى النظري ـ الفكري لم تَقدم للإسلام إلاَّ اجتهادات، ثبت بالدليل القاطع أنها لا تمت للدين الحنيف بصلة، وأنها وفي تعدادها المذهل (315 حركة) تؤكد أنها قد حوَّلت الإسلام باجتهاداتها لساحة خلاف بل وأكثر من ذلك لتمويه الإسلام وتشويهه وتحريفه، ذلك أنها تختلف على الأقل فيما بينها على اجتهاد واحد تحول بتعدادها إلى (315) اجتهاد، فلنتصور مدى الإرباك الحاصل في فهم المسلم لدينه وهو يطالع في اجتهاد واحد هذا العدد من الاجتهادات..

هنا وعلى هذا الخط، تدخل الدولة بصيغة أخرى لتمهيد لهذه الاجتهادات بما يصطرع في جوانبها من طوائف ومذاهب وأحزاب وشيع فئات ترضى عن هذا دون ذاك وتفهم ذاك دون هذا، لتعمل في المحصلة وفق ما تراه على قدر معرفتها بالدين اجتهاداً وتفسيراً بالقياس أو الاستصلاح أو.. إلى أخر ما هنالك من إمكانيات ما تقدمه منطقة «العفو» في الإسلام.

هكذا تظهر للوجود المرجعيات الدينية التي أخذت على عاتقها حماية الدين من التحريف في معرض التفسير أو التأويل في معرض الاجتهاد، وهي في هذه المهمة إنما تقف في حقيقة الأمر مع كل المجتهدين في الدين وضد كل من تسول له نفسه التساؤل حتى بما يتعلق بتقاطعات التاريخ الإسلامي أو حول بعض المسلكيات التي اتصفت بها بعض الشخصيات السياسية ـ الدينية، فهي لا تلبث أن تقيم الدنيا وتقعدها، إذا ما أجريت أية دراسة نقدية مقارنة في هذا المجال، بينما نراها في صمت مطبق عن أي اجتهاد أوصولي في الدين، على نحوٍ من تحليل سبي نساء المسلمين في الجزائر، أو ضرورة طلاق زوجة من لم يقبل الانخراط في حركة إسلامية انخرطت بها الزوجة بل واعتبار مساكنتها لزوجها زنى أو اعتبار كافة المسلمين كفرة لمجرد أنهم لم يؤدوا فرائضهم خلف إمام من هذه الحركة، أو تلك التي تدعي حيازة الشرعية في اعتبار نفسها الحركة الوحيدة التي تملك من صحة وسلامة وصوابية الاجتهاد والتفسير الديني دون سواها من الحركات أو المرجعيات الدينية، فتجتهد وتفسر كيفما اتفق ومصالحها الحركية ـ السياسية، ومن دون أن تقف في وجهها أية مرجعية دينية مبينة بالدليل القاطع، خطأ أو صحة، هذا أو ذاك من هذه التأويلات التي غالباً ما تأتي في الشكل دون المضمون اجتهادية أو تفسيرية.

المسألة البالغة الأهمية في مثل هكذا مرجعيات، مع أنها تتفق جميعاً في مصادرة كتاب أو أُغنية أو فكرة، وتصمت صمت القبور عن كل ما يجتهد بما أنزله الله، هذه المرجعيات لها من التعددية ما يذهل أيضاً، فهي تكرس بشكل أو بأخر فرقة المسلمين كما الحركات الأصولية، وتختلف في ما بينها لا على صعيد الطائفية وحسب وإنما حتى على صعيد المذهب الواحد وليس هذا وحسب بل، وكما الحركات تختلف من كيان إلى أخر كذلك المرجعيات الدينية، والفرق أن هذه تعمل كمؤسسات دينية معترف بها من قبل الدولة، مع أنها في الواقع، تكرِّس العمل الأصولي على الأقل نظرياً أو تدفع له وتمهد له.

وهي لا تختلف عن الوزارات الوقفية في شيء، بل وتساهم مساهمة فعَّالة في تأمين مختلف الإمكانيات والوسائل لما يشكل البؤرة الحقيقية لنمو الأصولية.

هكذا يصبُّ عمل وزارات الأوقاف والمرجعيات الدينية في مجرى التيار المؤمن، والذي ما يزال يساء فهمه ونعته، قصداً «بالتيار الديني» بل وحتى «بالتيار الأصولي»، وهذه من افدح الأخطاء التي تنمو في أجواءها التيارات الأصولية الفعلية.

حتى الآن، لم يكن هناك من صوت، نظري أو عملي على اعتبار أن التيار المؤمن، ليس تياراً دينيِّاً، ذلك أن الأخير، يقدم في تداعياته كمصطلح، ما يحرفه حقيقة من محتواه وجوهره وحقيقته.

التيار المؤمن، هو تيار لا سياسي، لا يستهدف الدولة، السلطة، ولا يستهدف سوى أن يكون في مسلكياته في إطار الحدود والمحرمات والفرائض..، ولا يبتغي من دنياه إلاَّ أخرته، والتي هي رضى الله عز وجل.

التيار الديني، تيار سياسي، فهو بالدرجة الأولى ذو اجتهاد ديني يختلف إلى هذا الحد أو ذاك، من تيار إلى أخر. وهو يثير بهذا إشكاليات كثيرة منها خصوصيته إن لم نقل عداوته للأخر، كائن من كان هذا الأخر، طالما أنه لا يأخذ بالاجتهاد أو التفسير الذي يقول به هو، بل ويدعو متى اشتد به التعنت والعنجهية والتعصب لما يذهب إليه في اجتهاده، يدعو إلى نبذ الأخر، بل ويبيح العنف مع الأخر، ويخرج عن /لا إكراه في الدين/. هو ذا التيار الديني ـ السياسي الذي يمهد صراحة وعلانية للحركات الأصولية وبشكل بؤرتها الأولى، وهو تيار، من صنع الدولة، وزارات ومرجعيات ومؤسسات.. الخ.

ومع أن التيار الديني ليس بالتيار الأصولي على الرغم من أنه يمهد له، فإن الخلط المقصود بين تيار مؤمن وديني وأصولي ما يزال متبعاً، على الرغم، من أن التيار المؤمن يفوق بعدده كل التيارات الأخرى، بل ولا ينضوي بأية حال تحت جناح أي مصطلح أخر غير الإيمان، هذا التيار هو التيار المتَوزعِ مختلف أركان المجتمع، أحزاباً وهيئات ومؤسسات.. وهو التيار الذي أبداً يساء فهمه، قصداً، دون أدنى شك، مما يوحي بأنه المستهدف الوحيد من كل ما يقال ويشاع بصدد الإسلام.

وفي العود للبدء، تبقى الدولة الحديثة، بخلفيتها وسننها وشرائعها ودساتيرها وقوانينها وأنظمتها دولة دينية، تراعي، ولو في الحدود الدنيا ما تجب مراعاته من قضايا مدنية، لا يمكنها بأية حال جعلها دينية، وتبقى على اية حال، مراعاة دينية لقضايا مدنية..

إن ما قدمته الدولة خدمة للدين، يفوق بكثير ما قدمته الحركات الأصولية مجتمعة، إن دولة واحدة، هي في حال عجز تام عن تأمين أدنى حدٍ من فرص العمل، هذه الدولة لا شك في أنها قدمت ما لم تحلم به الحركات الأصولية، من خدمات دينية لكنها، الحركات، ولقراءتها السردية الانتقائية للتاريخ، للحدث، للواقع، للمستقبل، تبقى في استهدافها السلطة أعجز من أن تقر بما أنجزته دولنا الحديثة ـ الدينية في سبيل الدين.

هذه الحركات التي ما فتئت تستعدي الدولة عليها دون أن تدرك، أنها ولو بلغت السلطة فلن تكون بأحسن حال من الدولة الحديثة، بل ونؤكد، من خلال التجارب /أفغانستان، باكستان، السودان../ أنها ستكون أعجز من دولنا الراهنة، لا في خدمة الدين، وإنما في حل مختلف الإشكاليات التي تعترض سبيلها.

لقد ساهمت الدولة الحديثة في إزكاء روح الأصولية، ليس على الصعيد الديني وحسب، بل وعلى الصعيد السياسي حيث راحت تتعامل مع هذه الحركات تعاملاً يدفع بالأخيرة لأن تنال من الأولى وقد شعرت بقوتها وبرغبة الدولة في توظيف قوتها في المعترك السياسي، فكان الحال التي ألت إليه كلتاهما من صراع.

وعندما نقول أن هذه الحركات هي التي استعدت الدولة وليس العكس مما تزعمه الحركات الأصولية، و«لغاية في نفس يعقوب»، عندما نقول ذلك، فلأن الدولة، وعلى القاعدة ـ المهمة المناطة بها، في عوامل قيامها، راحت تسترضي تلك الحركات بأشكال شتى كالاستوزار وتبوء مسؤوليات ومهمات عدة، بل وكانت تذهب إلى ابعد من ذلك، عندما كانت مصلحتها تقتضي تأليبها على فئات أخرى اجتماعية أو سياسية داخلية وخارجية معاً، مما كان يضفي على علاقتهما بعداً استراتيجياً على النحو الذي ذهب إليه السادات في لقاءاته مع قادتها وبواسطة دولية بهدف تأليب عناصرها على عناصر فئات أخرى، فكان أن سخَّر لخدمتها مختلف أجهزة الدولة ومدَّها بما يلزمها من المال ولا نستبعد أن يكون قد مدها بالسلاح، خاصة وقد استبدَّ به الجنوح الأصولي ليعلن مراراً وتكراراً أنه في نشأته أصولياً وأنه من قرية أكبر قطب أصولي في العالم العربي، مما كان يدفع به لقبول عروض مالية مغرية لتجيش عناصرها للدفاع عن الإسلام المغدور في أفغانستان، فكان أن ارتدت عليه هذه العناصر وقد استبدَّت بها أيضاً الغيرة من بعضها البعض، فأودت بحياته بما صنعت يداه.