المدرحية ـ فلسفة أنطون سعادة الاجتماعية ـ الفصل الثاني (سعادة في مواجهةالفكر الغربي)

الفصل الثاني

سعادة في مواجهة الفكر الغربي

وقد لا تتضح، صورة ما تقدم وأهميته، على مستوى النظريات الأخرى، إلاَّ بتناولها، من الوجهة الاجتماعية- الاقتصادية،

إميل دوركهايم، كارل ماركس، ماكس فيبر، أنطون سعادة

كما سبق وأشرنا إلى أن أهمية “نشوء الأمم” لا يمكن أن تتضح كإسهام في علم الاجتماع، إلا عبر مقارنته بغيره من مؤلفات علماء الاجتماع الذين كانت لهم إسهاماتهم في هذا العلم، وجدير بالملاحظة، أن هذا المؤلف قد حورب بشكل خفي ومن وراء الكواليس حتى لا تتم دراسته على مستوى علم الاجتماع، ولقد وقفت الصهيونية العالمية وراء ذلك لأنه يناقض كليًّا ما قامت عليه، نضيف، أن المتعاقدين مع سعادة، ولضحالة ثقافتهم العامة وفي علم الاجتماع، على وجه الخصوص، قد جانبوا البحث به، أو هم كما سبق وأسلفنا لم يستنبطوا من مقولاته ما يمكّنهم من استشراف مستقبل أمتهم بل وحزبهم كمؤسسة ينطبق عليها ما جاء به هذا المؤلف العظيم، ولانشغالهم بمشاكل الحزب الداخلية، والتي طغت على كل اهتمام آخر من جهة، ولما يتطلبه البحث المقارن من جهد من جهة ثانية، مع ضرورة لفت النظر لمحاولة أو محاولتين في هذا المجال، لم تنالا ما تستحقانه من عناية ودراسة واهتمام..

بداية، لا بدَّ لنا من تحديد مفهوم النظرية عمومًا والنظرية الاجتماعية والسياسية على وجه الخصوص، أيضًا. تجنّبًا للوقوع في مأزق مفهوم ودلالات المصطلحات.

مفهوم النظرية:

في العلوم الإنسانية وتحديدًا في علم الاجتماع والسياسة، هناك الكثير من التعريفات التي تتناول مفهوم النظرية تبعًا لمنطق ومنهج ومعيار النظرية بذاتها، لكنها، على اختلافها، تبقى تتفق في المنحى العام لتعريف النظرية من حيث أنها قانون عام مُسْتقى من المتكرر في موضوع النظرية، ذلك أن التكرارية تعني الموضوعية التي لا يمكن تجنّبها مهما حاولنا ذلك، وأنه من خلال هذه التكرارية يمكننا تفسير مختلف الظواهر التي يتناولها موضوع النظرية تحديدًا- وعليه فإن على النظرية أن تكون ذات خصائص ومواصفات تسمح باستنباط مستجدات صيرورة موضوعها والتنبؤ بها قبل حدوثها، وهي لذلك عليها أن تكون متماسكة من حيث البناء ومتسقة من حيث المنهج وغير متناقضة من حيث النتائج.

ويثير تعريف النظرية الكثير من الإشكاليات المتشابكة والمعقدة من حيث مفهوم النظرية وتصنيفها وأنماطها ووظائفها وقدرتها على توجيه البحث في موضوعها، وأخيرًا قدرتها على الكشف عن الثغرات في معارفنا.. وإن كنا نكتفي بالتعريف دون مشتقاته فما ذلك إلا بدافع بقائنا في فلك محور بحثنا.

من الجهة الأخرى، لن نتناول أعمال من سبقوا سعادة في هذا العلم إلا من الوجهة الاجتماعية- السياسية، على الرغم من ضرورة تناول تلك الأعمال لبيان أهمية ما قدمه سعادة في مجال علم الاجتماع.

في محاولتنا مقارنة ما قدمه سعادة من إسهام في مجال علم الاجتماع، لا بد من التنويه إلى أنه كان من المفيد أن نبدأ بابن خلدون كمؤسس لعلم الاجتماع الأقرب للمقارن من غيره، لكن وجهة البحث تحول دون ذلك.

إميل دوركهايم (1858- 1917)

بداية، أيضًا، لا بدّ لنا من التنويه بأن ما دفعنا لتناول نظرية دوركهايم الوظيفية، هو أنها تزامنت مع مؤلف سعادة الذي وضعه في عام 1936، وأنها النظرية التي شغلت بمقولاتها علماء كُثُر وبُذلت جهود كبيرة من أجل توطيدها كمقولات جوهرية في علم الاجتماع، لكنها ولعلّة في ذاتها، لم تكن في مستوى التحدي الذي واجهته في النصف الثاني من القرن العشرين وتحديدًا في العالم الغربي وأميركا، حيث التطورات العلمية التي دفعت لأخرى اقتصادية حالت دون اعتبارها النظرية الأوفر حظًّا من النظريات الأخرى لما أحدثته (تلك التطورات) من تغيرات في البنى الاجتماعية، أثبتت بما لا يقبل الجدل فيه أن النظرية الوظيفية عاجزة عن تفسير أسباب وكيفية ونتائج حدوث مثل هذه التطورات، هذه التطورات التي أكدت ما سبق ونوّه عنه سعادة في أن “التّطوّر الاجتماعيّ هو دائمًا على نسبة التّطوّر الاقتصاديّ”.

ولا بأس أيضًا من التنويه بأن الأهمية التي اكتسبتها النظرية الوظيفية كانت نتيجة انتصار الفلسفة المادية لماركس في روسيا، والتي وضعت الاختيار الديمقراطي الغربي على المحك مقابل ديكتاتورية الطبقة العاملة -ممثلة بدكتاتورية الدولة- والرأسمالية مقابل الاشتراكية، على الرغم من وجود نظريات أخرى في علم الاجتماع كـ -نظرية التوافق ونظرية الصراع ونظرية الفعل- والتي بقيت في الظل على الرغم من إسهاماتها في بيان بعض الحقائق للتطور المجتمعي منطلقًا ووسيلة وغاية.

النظرية الوظيفية:

يتناول دوركهايم ورفاقه /مالينوفسكي وارد، كليف بروان، إيفانو بريشار، ميرفورتس، ماكس غلوكمان، وتالكوت بارسونز.. /، المجتمع من حيث هو كذلك دون التطرق لفكرة التطور التي قادت إليه ليكون كذلك، أي تناوله من حيث أنه وجود موضوعي بالنسبة للأفراد الذين يشكلون بنيته الأساسية، ولا يتطرق دوركهايم للاقتصادي في البنى الاجتماعية باعتباره مُتَضَمَنًا بها..

يركّز دوركهايم على دور الوظيفة الاجتماعية في بيان صيرورة أن المجتمع من حيث هو كيان قائم بذاته يجد فيه الفرد نفسه مجبرًا غير مختار للدور الذي يمكنه القيام به، فصحيح أننا نعتقد أننا نختار ما نعتقده ونؤمن به، لكننا في الحقيقة نحن نتكيف ونتلاءم مع ما نشأنا عليه، فالمجتمع كوجود موضوعي سابق على الأفراد لا بد لهم من الانصياع لمعطياته، فكما أن الطبيعة سابقة لوجود الحياة، فنحن ملزمون بالتوافق معها، كذلك المجتمع بأسبقيته على وجود الفرد يحتم عليه تقبل ما هو قائم خارجه، ويشدد دوركهايم على أن القوانين الاجتماعية لا تختلف عن تلك التي في الطبيعة، ومن هنا فالعلم أقدر على اكتشافها عبر العلوم أو الطريقة الوضعية، ذلك أن الوضعية هي الطريقة الكفيلة باكتشاف الحقائق الاجتماعية، باعتبارها قابلة للتجريب، أي إننا بمجرد امتلاكنا الدليل للعلاقات السببية -والتي يمكن تحديدها عن طريق الحواس- نكون قد امتلكنا الدليل المادي للفعل، من هنا يرى دوركهايم أن الخلل الاجتماعي سببه “نقص أو ضعف” في المعايير التنظيمية للمجتمع، وعليه فإن حرية الفرد تتكون في ظل التخلص من الانقياد الأعمى لقوى الجهل المادية، وفي المقابل فإن (الذكاء) هو الرد أو الرفض الفعلي لهذه القوى وتاليًا الحفاظ على النظام والتناغم والاتفاق في الشؤون الاجتماعية.

بالنسبة لدوركهايم، فإن البنى الاجتماعية تتكون من مجموعة من المعايير والقيم، والتي بدورها تحدد سلوك الفرد الاجتماعي، ذلك أنها سابقة لوجودهم، وأنهم من خلال التنشئة التي تشكل محتوى الفكر لديهم يتقبلون ويتكيفون مع القوانين الاجتماعية التي لا تختلف عن قوانين الطبيعة، وعليه فالنظام الاجتماعي يضحي نابعًا من الالتزام والذي هو شرط حرية الفرد، هكذا يكون النظام الاجتماعي والتناغم والاتفاق مشكلًا لشؤون المجتمع..

ولا يمكن فهم ما تقدم عند دوركهايم إلا من خلال التشابه الفعلي بين المجتمع والكائن الحي، فالمجتمع هو كائن حي له خلاياه (مؤسساته) التي تعمل بشكل متسق مع غيرها من الخلايا وبتناغم كلي، وهي إذ تقوم بما هي مسؤولة عنه والذي يمثل بطبيعة الحال ما ترغب به وتتطلع إليه تحقق ذاتها بالعمل المتناغم والمتكامل مع سواها من الخلايا، شريطة قيام الخلايا الأخرى بما هو منوط بها، وهكذا تمثل الخلية الفرد وبتعاضدها مع سواها تشكل أجهزة الجسم، فالكبد مثلًا هو مجموعة من الخلايا المتناغمة والمتسقة بعضها مع البعض، وهو لذلك أقرب ما يكون للمؤسسة الاجتماعية، وبهذا التعاضد والتكافل، تتشكل مختلف المؤسسات الاجتماعية، والتي، أيضًا، بتعاضدها وتكافلها يستطيع الجسم الحي- المجتمع، القيام بوأد نفسه، وفي الحالة المعاكسة لحالة التناغم هذه يعتل الجسم ويختل ولا يعد قادرًا على القيام بما هو مسؤول عنه، حياته، معرضًا نفسه للتفكك والانحلال والموت، من هنا يرى دوركهايم أن الحركات السياسية الاجتماعية هي حاجة اجتماعية لتشخيص الحالة الاجتماعية التي يكون عليها المجتمع والتي تكون عليها مهمة التنبؤ والتنبيه للخلل قبل حدوثه، فهي كالعوارض التي تنتاب الجسم الحي مدللة على حدوث خللٍ ما يجب التنبه إليه بإعادة تأصيل القيم الاجتماعية بشكل سليم للوصول لمجتمع صحي سليم مترابط يسود الود بين أفراده ويتم تحديد دور كل منهم بداخله.

لا يعتقد دوركهايم أن الدين حركة سياسية، لكنه يتخذ من وظيفته الهدف منه، وهذه الوظيفة وفق تعبيره هي “توحيد الأفراد داخل النظام الاجتماعي وتاليًا فهو وسيلة للتضامن الاجتماعي وتماسكه”، إذ إن الدين يبقى في ماهيته ليس مجرد طقوس وعبادات تختلف إلى هذا الحد أو ذاك، بقدر ما هو عامل محوري لتوحيد المجتمع واستمراره، لذا فالدين يتواجد حيث تحتاج كل الأنظمة الاجتماعية للترابط والتوحد، ولأنه كذلك فإنه في الحال المعاكسة، أي في الحال التي لا يكون فيها جامعًا لكل القائلين به رغم اختلافاتهم فإن “الفرق ستتنافس وتتقاتل تجاه المصادر المحدودة المتاحة في المجتمع الذي يعيشون به ومن ثم سيقومون بسحق كل منهم الآخر”، وعليه فإن المهم بالنسبة للوظيفيين، ليس الدين كمعتقد من حيث الماهية بل بالتأثيرات الاجتماعية المصاحبة لهذه المعتقدات.

إن افتقار النظرية الوظيفية عند دوركهايم لدور الاقتصاد في العملية الاجتماعية دفع بـ”مالينوفسكي”، -وهو عالم أنثروبولوجي- لسد هذه الثغرة وبيان أثر الاقتصاد في السياسة والاجتماع، وذلك بدراسته الميدانية لمجموعة من القبائل البدائية تنتشر على مجموعة من الجزر الصغيرة على ساحل غينيا الجديدة، وكل ما استخلصه على مدى أربعة أعوام كان مجرد تطبيق لنظرية سعادة في أن البيئة الطبيعية بما تقدمه من إمكانات لسد الحاجات البشرية تبقى هي التي ترسم للمجتمع اتجاهاته في السياسة والاجتماع، والخطأ الذي وقع به مالينوفسكي هو في تعميمه ما استقاه من هذه الدراسة الميدانية على المجتمعات الأخرى وفق مفهوم دوركهايم لمعنى الوظيفية، وقد شاركه في هذا الاتجاه مجموعة من العلماء الأنثروبولوجيين الآخرين دون التنبه لما يعنيه هذا التعميم من أن دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية من حيث مواصفاتها وخصائصها تبقى في نطاق البيئة الطبيعة التي أوجدتها، ولا يمكن تعميم هذه الخصائص والمواصفات على بيئات أخرى تختلف عن هذه البيئة أو تلك إلى هذا الحد أو ذاك من حيث محدودية الموارد الطبيعية التي تطبع الصيغ التي من خلالها تنتظم جملة العلاقات السياسية والمجتمعية، فالعلاقات الداخلية، أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية أم ثقافية..، تبقى في نوعيتها وخصائصها ومواصفاتها، خاصة بالبيئة التي أنتجتها، هذا التعميم الذي وقعت به النظرية الوظيفية ناتج عن افتقارها لفكرة التطور وأدى بها لفقدان النسق التطوري أو المتكرر في العملية الاجتماعية، والذي هو القانون العام لمجرى تطور المجتمع في أية مرحلة من مراحله فردًا كان أم مجتمعًا، والذي يتحكم بصيرورة المجتمع، وهذا يعني فقدانها القدرة على التنبؤ بالمشاكل التي يمكن لها أن تنشأ في هذا المجرى…

(2)- المادية التاريخية

/كارل ماركس وفريدريك انغلز/ 1820- 1895

لم يكن كارل ماركس معاصرًا لسعادة بقدر ما كان فكره مقارعًا للفكر القومي الاجتماعي عبر الحزب الشيوعي الذي تأسس في عشرينيات القرن المنصرم، مدعومًا وبقوة من الاتحاد السوفييتي الحديث النشأة، وعلى ما نعتقد، فإن مؤلف نشوء الأمم كان بمثابة الرد على المادية التاريخية بشقيها الفلسفي والاجتماعي،

يكمن الخلاف الفلسفي بين ماركس وسعادة في ثنائية كارل ماركس (أبيض- أسود، سالب- موجب، بروليتارية- برجوازية..) وثلاثية سعادة، (جذب- نبذ- انعدام جاذبية، إلكترون- بروتون- نيترون) على سبيل المثال، وعليه، فإن تتبعنا لهذا الاختلاف يحفزنا للتعريف بكل من المادية الديالكتيكية وإسقاطاتها على المجتمع الإنساني في ماديتها التاريخية، مؤكدين في توجهنا هذا على أن الكثير من المتابعين لم يقرؤوا أو يدرسوا كلتا النظريتين أو حتى يطّلعوا على واحدة منهما بالشكل الذي يجعلهم قادرين على استخلاص النتائج المرجوة منهما، شأنهم في ذلك شأن الماركسيين في مجملهم، ما كانوا على اطلاع بما هم مؤمنون به على نسق القوميين الاجتماعيين الذين اكتفوا بما سمعوه تواترًا عن عقيدتهم أو تصفحوا بعضًا مما كَتَبَهُ سعادة دون التعمق والتأمل الفلسفي بما جاء به، فجاءت قناعاتهم بناء على خلفيات ثقافية تنوعت فيها مصادرها واتجاهاتها وتباينت فيها أيضًا أطروحاتهم الفكرية حول ما استخلصوه من هذا الفكر، وأيضًا على غرار الماركسيين..

المادية الديالكتيكية:

هي باختصار شديد: إن منطق الحياة (الإنسان والمجتمع) هو منطق الطبيعة التي أوجدتها، أي منطقٌ جدليّ (ديالكتيكي) لأنه يحمل في ذاته السلب والإيجاب، بكل ما يعنيه من تضاد، صراع، تناقض. لذا جاءت المقولات المادية لدى ماركس، ردًا على مقولات هيغل وفوير باخود وهرنغ، التي انتهجت نهج الدين في تفسير مجمل الطروحات الفلسفية والاجتماعية، متبنية الطرح البرجوازي الذي أبقى على التصنيف الطبقي للمجتمع من أن “الله” قد خلق العالم بما فيه الإنسان، مبررًا هذا الخلق بشتى المبررات التي تجعل منه كيانًا غير مدرك بالنسبة للإنسان الذي تبقى وظيفته مرضاة خالقه…، يقول ماركس في هذا الصدد: “إن أسلوبي الديالكتيكي لا يختلف عن الديالكتيك الهيغلي وحسب، بل هو نقيضه المباشر. فهيغل يحوّل عملية التفكير، التي يطلق عليها اسم الفكرة حتى إلى ذات مستقلة، إنها خالق العالم الحقيقي، ويجعل العالم الحقيقي مجرد شكل خارجي ظواهريّ للفكرة. أما بالنسبة لي، فعلى العكس من ذلك، ليس المثال سوى العالم المادي الذي يعكسه الدماغ الإنساني ويترجمه إلى أشكال من الفكر”، يضيف أنغلز “إن النظرية المادية العالمية هي ببساطة إدراك الطبيعة كما هي، دون أي تحفظ”، بمعنى آخر، وعلى النقيض الميتافيزيقي، فإن الماركسية تؤكد على النهج العلمي الذي يرى العالم وجودًا مستقلًا كل الاستقلال عن فكرة الخلق المباشر، ذلك أن ما نفكر به يأتي انعكاسًا لوجود موضوعي (مادي) يوجد خارج فكرنا وليس العكس، الطبيعة بالتحديد، وعليه، فإنه لا يمكننا فهم الطبيعة طبيعة الأشياء والكائنات الحية، إلاّ بمعرفة وفهم سياقها العام الذي يتمحور حول كونها كلًا واحدًا لا يمكن تجزئته أو عزل شظاياه أو تجلياته بعضها عن بعض، حتى على المستوى النظري، فهي كلٌ مترابط بعضه مع بعض عضويًّا، حيث إن كلًا منها يعتمد على الآخر في ظاهراته وتجلياته، لذا كانت المادية الديالكتيكية في نهجها وأسلوبها وتفهمها وتفسيرها وفكرتها إسقاطًا فلسفيًّا لما هي عليه الظواهر الطبيعية بكل مواصفاتها وخصائصها وتجلياتها على الحياة بما فيها الكيان الاجتماعي، وطالما أن “المادي” هو الوجود الحقيقي والفعلي، فإن أبرز خصائصه التناقض، لأنه يحمل في ذاته كل ما هو سلبي وإيجابي في آن واحد، طبيعة كان أم مجتمعًا، وعليه فإن المادية الديالكتيكية مترابطة هي أيضًا ترابطٌ كليّ بعضها مع بعض ترابط الطبيعة العضوي باعتبارها انعكاسًا لها، حيث لا يمكن فهم هذه الفلسفة بعزل مقولاتها بعضها عن بعض، بل لا بد من أخذها كلًا متكاملًا، بدءًا من كون الديالكتيك هو النقيض المباشر للميتافيزيقا، مرورًا بالطبيعة والإنسان، فردًا كان أم مجتمعًا في سياقه العام، أي، في حركته الدائمة، في تغير وتطور مستمر، ويكتسب مختلف خصائصه من الوجود المادي (الموضوعي) الذي لا يمكن فهم حركته التطورية إلًا من حيث أنها لا تحدث بصورة عرضية، بل نتيجة تراكمات كمية غير محسوسة وتدريجية، تطورٌ يبدأ كميًّا لينتج تطورًا كيفيًّا (كتحول الأوكسجين إلى أوزون بمجرد إضافة إلكترون واحد) هكذا تؤدي الزيادة والنقصان الكمي البحت إلى طفرة كيفية، بمعنى أن الزيادة والنقصان الكمي ما هو إلا تجلٍّ للتناقض الذاتي في المادة التي تحمل بين جنبيها السلبي والإيجابي معًا، أو كما يقول لينين “إن الديالكتيك بمعناه الاعتيادي هو دراسة التناقضات في جوهر الأشياء.. إن التطور هو صراع الأضداد”، هكذا يبدو الديالكتيك كقانون لتطور المادة المتحركة أبدًا إلى الأمام والأعلى، وعليه فإن المادية الديالكتيكية تعتبر أن المادة، الطبيعة، الوجود، هي حقائق موضوعية موجودة خارج وعينا ومستقلة عنه، والذي يبقى انعكاسًا لها بكل ما في الكلمة من معنى، وتاليًا فإن الفصل بين الفكر والمادة المفكرة يبدو عملية شبه مستحيلة، ذلك أن المادة هي الذات لجميع التغيرات، إن المادة، الطبيعة، الوجود- الجسم الطبيعي- هي الأساس بينما تأتي الروح، الوعي، الإحساس، الكيان النفسي، هي الثانوية، والفكرة الرئيسية التي تؤكدها المادية هي أنه، وبناءً على ما تقدم، فإن معرفة الوجود معرفةً موثوقة ممكنة طالما أنها خاضعة للتجربة والتطبيق، على ألا يعني ما تقدم أن لا أهمية ولا معنى للروح، الوعي، الإحساس، الكيان النفسي، بل على العكس تمامًا، فماركس يرى أن “اختزال الأفكار إلى مجرد أنها انعكاس للأوضاع المادية هو ببساطة خطأ منطقي، فالتفكير والوجود المادي متميزان يقينًا، وفي الوقت نفسه متداخلان في وحدة كل مع الآخر، إذ إنه مما لا جدال فيه أنه لا يمكننا أن نخلق تصورًا مثاليًّا ما لم نكن قد تصورنا أيضًا مجالًا ماديًّا، فقطبا التضاد يخلق كل منهما الآخر ويحدده” هكذا “تصبح النظرية قوة مادية عندما تستحوذ على الجماهير”، أو كما يقول ستالين “.. وهكذا فإن الآراء والنظريات والمؤسسات السياسية، لدى نشوئها على أساس المهام الملحة لتطور حياة المجتمع المادية، على أساس تطور الكيان الاجتماعي، تقوم هي ذاتها برد فعلها على حياة المجتمع المادية وتخلق الظروف الضرورية لتنفيذ المهام الملحة لحياة المجتمع المادية تنفيذًا كاملًا وتجعل المزيد من تقدمها أمرًا ممكنًا”.

ما تقدم يأتي تجسيدًا لمقولات الماركسية الأساسية وهي:

(1)- عمليات التراكم الكمية تؤدي إلى تغيرات كيفية،

(2)- التناقض بين مكونات الأشياء يعد الأساس في حركتها،

(3)- وما من شيء في الطبيعة والحياة الاجتماعية إلا ويحمل في مكوناته قدرًا من التناقض ينتج صراعًا مستمرًا بينها،

(4)- وأن الصراع بين المكونات يؤدي باستمرار إلى ما يعرف بنفي النفي، فكل مرحلة من مراحل التطور تنفي بالضرورة المراحل السابقة،

(5)- ولا يمكن أن تتعايش المراحل مع بعضها إلا لفترات مؤقتة توصف بالتناقض، ولا يمكن أن يكون بينها أي وفاق أو استقرار.

وأخيرًا، فإن المادية التاريخية هي نتاج تطبيق المنطق الجدلي على التطور التاريخي للمجتمع.

في المصطلحات الديالكتيكية والمدرحية

مدخل:

تعرضت الماركسية (المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية) عبر مسيرتها الطويلة 1840 تاريخ (صدور البيان الشيوعي) و1983 (بداية انهيار الاتحاد السوفييتي) لكثير من التطورات عبر الاجتهادات الكثيرة التي مارستها الأحزاب الشيوعية (اللينينية، التروتسكية، الماوية..) من خلال تجربتها في محاولتها وضع حلول للمشكلات الكثيرة التي واجهتها في التطبيق العملي لنظريتها الفلسفية والتاريخية وحتى التنظيمية، ما دفع بالكثيرين للتقليل من أهميتها في التطورات التي دفعت هي نفسها إليها، والتي يمكن اختصارها بكيفية اعتماد الرأسمالية لمقولات الماركسية دون تسميتها /النقابات، حقوق العمال والفلاحين والنساء والأطفال وحتى البيئة والرخاء الاجتماعي، الشيخوخة الخ../ في محاولتها صد الاندفاع الشعبي نحو الماركسية الشيوعية، بينما تبنت الماركسية السوفييتية (اللينينية) دكتاتورية الدولة، التي اتهمت فيها الدولة الرأسمالية من حيث أنها (الدولة) أداة قمع أولًا وأخيرًا، داعية إلى تلاشيها في مجتمعها المشاعي الأخير وتحولها في أحسن حالاتها إلى ما يشبه (مصلحة البريد)، بينما مارست في التطبيق السوفييتي للماركسية- اللينينية أبشع أنواع القمع، خاصة في العهد الستاليني وما بعده، وفي محاولتها نشر تعاليمها حول العالم، استهلكت مختلف طاقات الاتحاد السوفييتي مما أوقعها في أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية كثيرة، مما كان له أثره في الانهيار الأخير للاتحاد السوفييتي، بينما بقيت في الصين (الماوية) دكتاتورية تنأى بنفسها عن كل القضايا خارج حدودها وتسخر مجمل الجهد الصيني لمنافسة اقتصادات عالمية، فخرجت للعالم كقوة اقتصادية منافسة لأكبر اقتصاد في العالم “الولايات المتحدة الأميركية”، كما تمكنت كوبا من مقاومة الحصار المفروض عليها غربيًّا لمدى زمني يزيد على نصف قرن..

نحن هنا نتناول ما انتهت إليه في الاتحاد السوفييتي من الوجهة النظرية أي (الماركسية اللينينية)..

في محاولتنا وضع هذه الدراسة في مستوى الثقافة العامة وبشكل يطرح المفاهيم الفلسفية في أبسط صورها وإشكالياتها؛ سعيًا وراء تثبيت جملة من هذه المفاهيم، مركزين على بعض النماذج دون أخرى مما يضفي على البحث صفة التكرارية حينًا والاستطراد والإسهاب حينًا آخر..

يأتي القسم الأول من هذه الدراسة متناولًا المقدمات في الفلسفتين (المصطلحات الفلسفية والتاريخية الاجتماعية) بغية بيان نقاط الالتقاء والاختلاف، على أن نتناول في القسمين الأخيرين (الثاني والثالث) المحاور التي تستند إليها كلا الفلسفتين المادية الديالكتيكية والمدرحية من جهة، والمادية التاريخية والقومية الاجتماعية من جهة أخرى..

تمهيد:

مواصفات البحث النقدي:

إذا كان للبحث النقدي من مواصفات يتمتع ويتميز بها عن سواه من الأبحاث، فإن هذه المواصفات لتبدو أكثر إلحاحًا عند تناول فلسفتين متعارضتين إلى هذا الحد أو ذاك، خاصة إذا كان الباحث بذاته منتميًا وملتزمًا بإحداهما دون الأخرى، كما هي الحال هنا، فما هي المواصفات التي عليه الالتزام بها ليأتي البحث في منتهى الدقة والشفافية، على الرغم من تشابك هذا وذاك لدقة ورهافة وتعقُدِ البحث فلسفيًّا واجتماعيًّا؟

الموضوعية:

بمعنى التجرد في الحكم والتنزه والترفع عن كل ما من شأنه أن يودي بصحة وسلامة التأويل والاجتهاد اللذين نعتمدهما ها هنا باعتبارهما السبيل الوحيد للخلوص بنتائج مرضية، لكن الموضوعية متناقضة والالتزام، بشكل عام فما مدى تعارضها مع وضع كالذي نحن فيه؟

سؤالٌ لا بدَّ من طرحه لنتبين من خلاله مدى التزام الباحث أولًا بالفلسفة التي يلتزم بيان مفاهيمها وتاليًا مستوى الموضوعية التي يدعي ضرورة اعتمادها منهجًا لهذا البحث المقارن!

إذا كانت المدرحية قد اعتمدت مبدأ “إنه في المبادئ التي تمتّ إلى الإنسان الحر بصلة لا يمكن الاستناد إلى أي قولٍ استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية أو لها علاقة بالإنسان- المجتمع” فمدى التزام الباحث بهذا المبدأ لا بد وأن ينعكس على ما يطرحه من مقارنات بين الفلسفتين موضوع البحث..

المعرفة:

إذ لا معنى للموضوعية في ظل ضيق الأفق أو المعرفة الجزئية أو المجتزأة أو الحرفية القاتلة التي لا ترى أفقًا للمفردة أو المصطلح في الإطار العام، والتي تأتي عليها أيٌ من الفلسفتين في الوجه الخاص.. خاصة وأن القومية الاجتماعية تنص في إحدى مقولاتها المعرفية على “أن الوضوح -معرفة الأمور والأشياء معرفة صحيحة- قاعدة لا بدَّ من اتباعها في أية قضية من قضايا الفكر الإنساني” وعلى ذلك تؤكد القومية الاجتماعية في مقولتها المعرفية الثانية على “إنه بعد الاطلاع يمكن تكوين رأي وحينئذٍ لا يبقى مجال لحدوث بلبلة.. وهذا لا يتم إلا بالدرس المنظم والوعي الصحيح لأن الأمور تحتاج إلى تفسير وتوضيح بالنسبة للمسائل الكبرى التي تواجهها..”.

وحدة القضية:

وحتى يبلغ البحث النقدي مرتجاه، هدفًا، لا بدَّ له من قضية يعالجها تكون محور موضوعيته، وهذا ما سنحاول تبيانه في سياق القسم الأول من هذه الدراسة (المصطلحات)، ويشكل بالتالي مرتكزًا أساسيًّا لنا، فعبر وحدة القضية ننتقل للقضايا الفرعية التي تتناولها القضية الأساس، لنصل في نهاية المطاف لماهية تناول إحدى الفلسفتين قضايا لم تتطرق لها الفلسفة الأخرى..

مواصفات خاصة:

إذا كان ما تقدم من مواصفات ملازمة لأي بحث نقدي أيًّا كان موضوعه، فلا بدَّ لهذا البحث بالذات، من مواصفات خاصة تحول بينه وبين الخروج العقدي عن العقيدة التي التزم بها الباحث، عبر الاجتهاد أو التأويل غير المستند لمرتكزات أساسية في الفكر القومي الاجتماعي، عملًا بالقاعدة المعرفية الأولى التي سبق ونوّهنا لها والتي تفترض أنه “علينا أن نفهم فلسفة الحركة لندرك كيف تعالج الأمور..”.

من جهة أخرى، أنه “إذا كان شرط اعترافنا بحق أو خير أو جمال في العالم هو أن نرى نحن ذلك الحق وذلك الخير وذلك الجمال أو أن نشترك في رؤيته..” بما يعني أنه إذا كانت لنا نظرة إلى الحياة والكون والفن نابعة عن عقيدتنا، فلسنا بهذه الحال مضطرين للاستشهاد بغير هذه النظرة كمقياس للحقائق التي نأخذ بها، فلسنا بأي حال من الأحوال مضطرين للذهاب إلى الفلاسفة الغربيين أو الشرقيين للتأكيد على صحة وجهة نظرنا فيما نراه حقًّا وخيرًا وجمالًا، خاصة وأنهم غير متفقين على ما يمكن من خلاله اعتمادهم كمراجع لنظرتنا الخاصة، وبما لا يعني “أنه لا يمكن لنفسيتنا أن تتفاعل مع النفسيات الأخرى.. بل يفسح المجال لهذا التفاعل..” على قاعدة “أن الاستقلال الفكري والشعوري والنفسي لا يعني مطلقًا الانعزال عن العالم أو الانعزال التفاعل مع العالم”.

وعليه يمكننا التقدم لدراسة مقارنة بين الفلسفتين المادية التاريخية والقومية الاجتماعية باعتبارهما التطبيق العملي لموقفين فلسفيين عُرفا بالفلسفة المادية الديالكتيكية والمدرحية..

من حيث المبدأ، لا يمكن المقارنة بين مسألتين، كائنًا ما كانتا، إلا إذا تناولتا موضوعًا واحدًا، فوحدة الموضوع شرط لازم وكافٍ لقيام المقارنة، وإلا فنحن نعبث في موضوعٍ لا علاقة له بالآخر المعني بالمقارنة.

بداية، لا بدَّ لنا من التنويه بأن ما يدفعنا لمقارنة الفلسفتين الديالكتيكية والمدرحية، كونهما فلسفتين لهما موضوع واحد هو الكون والحياة الإنسانية، فهما إسقاطان لمقولات كونية على حياة الإنسان وصيرورته، بينما اقتصرت باقي الفلسفات على واحدٍ من هذين الموضوعين، مادي، رأى أن الكون وفي مجمله الإنسان، ليس بمخلوق وأنه علة ذاته، وأن الإنسان، وتحديدًا وعيه، ليس مستمدًا إلا من ذاته، وأن موضوع وعيهِ هو الكون والحياة، وأن له من القدرات ما يمكنه من النفاذ لجوهر الوجود، ومعرفة كنههِ ومساره في صيرورته، بينما اقتصرت الفلسفات الروحية (المثالية) على مبدأ أنه يستحيل كون الشيء علة ذاته وأن وعيه ليس بأكثر من ظلالٍ للذات الكبرى والأسمى (الله) وأن المعرفة لا تتعدى الظاهر من الأشياء لأن الجوهر غير مدرك، بل ويستحيل إدراكه، وبين هذه وتلك ظهرت فلسفات حاولت التوفيق بين الموقفين آنفي الذكر، واستعارت في محاولتها هذه مقولات ومفاهيم تارة من هنا وتارة أخرى من هناك، فراوحت في ذات الإشكالية المعرفية التي لم تنتهِ إلى ما كانت عازمة على توضيحه، ميزة المادية الديالكتيكية والمدرحية، أن لهما مقولات ومفاهيم خاصة بكلٍ منهما، رغم وحدة الموضوع، تفترقان هنا وتتحدان في رؤيتهما هناك، فكلا الفلسفتين تقولان إن الهدف الفلسفي يبقى في كونه اختصارًا لجملة القوانين الفاعلة في الكون والحياة، بمعنى أنه يمكن معرفة بداية وصيرورة كليهما وفق قانون واحد أو قانونين أو ثلاثة على الأكثر، وعلى القدر الذي تُختصر فيه مختلف قوانين حركة الصيرورة الكونية والإنسانية، تكون الفلسفة قد بلغت مرتجاها. على سبيل المثال، تختصر الديالكتيكية حركة الوجود والإنسان بقانون التناقض، فالتناقض جوهر الأشياء، بينما ترى المدرحية أن التفاعل (خارج إطار المفهوم الكيميائي للمفردة) هو جوهر الأشياء، ذلك أن الوجود والحياة في علاقات تبادلية مع مكوناتهما وأن التناقض ما هو إلا شكل من أشكال التفاعل، وأن الهدف الفلسفي يبقى مقتصرًا على محاولة تسخير الوجود لخدمة الحياة بمعرفة مسار صيرورتها والحيلولة دون حركة الحياة واتجاهاتها مع مسار هذه الصيرورة أو التناقض معها، وعليه فإن ما تسعى الفلسفة إليه هو تلك القوانين التفسيرية لمختلف الظواهر بهدف تغييرها أو تسخيرها لخدمة الإنسان..

التساؤل الذي يطرحه ما تقدم هو: كيف يمكن لهذه القوانين أن تكون تفسيرية وتغيرية بآن؟ وماهية الحقائق التي تأتي بها ومدى صحتها ومقياس ذلك؟ أي كيف تكون الحقائق حقائقَ بالفعل؟

تقدم المدرحية أولى شروطها لما سبق، بالقول: “الناموس (القانون أو المقولة) اصطلاح بشري لمجرى من مجاري الحياة أو الطبيعة يُقصد به تعيّن حدوث فعل أو خاصة من أفعال وخواص الحياة أو الطبيعة، لا أن الطبيعة وضعت لكائناتها هذه القوانين وأمرتها بالسير عليها، وفي كل النواميس التي نكتشفها، يجب أن لا ننسى أننا نستخرج النواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب والمجرى الطبيعي الذي نعرفه بها، فكوننا اكتشفنا ناموسًا أو ناموسين من نواميس الحياة العامة يجب أن لا يحملنا على نسيان الواقع ونواميسه الأخرى، فالنواميس لا تمحو خصائص الأنواع..” (نشوء الأمم ص 129).

يتضح من هذا التعريف المدرحي للناموس (القانون أو المقولة) أنه:

1- صياغة بشرية، أي إنه يحتمل الخطأ والصواب.

2- موضوعه الحياة والطبيعة.

3- شرط صحته، عدم تضاربه والمجرى الذي نعرفه به.

4- ليس هو الناموس المطلق أو الأخير في سلسلة نواميس الحياة أو الطبيعة.

5- لا يتعارض وغيره من النواميس العامة أو الخاصة “فالعام لا يمحو الخاص”.

القوانين في المادية الديالكتيكية:

يتجلى الموقف ذاته في المادية الديالكتيكية فهي ترى “أن مقولات الديالكتيك (التناقض، الجدل) وقوانينه لم تخترع اختراعًا، بل استخلصت من الطبيعة والحياة الاجتماعية، أي إنها تعكس القوانين الموضوعية القائمة بشكل مستقل عن وعي الإنسان.. إن أي قانون إنما يشمل ويعبر عن جوهر كمية كبرى من الظواهر، إلا أن كلًّا من هذه الظواهر يتمتع بخصائص خاصة.. إن العام لا يوجد خارج المحدود الخاص الفردي..” (المادية الديالكتيكية تأليف مجموعة من الأساتذة السوفييت).

هكذا ليس ثمة خلاف بين الفلسفتين، حول كون النواميس أو القوانين أو المقولات مستخرجة من الحياة والطبيعة، ومن ثم فهي شأن إنساني كذلك في الشأن العام في الترابط بين مكوناتهما (الحياة والطبيعة) وأنها لم تخترع، والعام فيها لا يتعارض والخاص وأن شرط صحة النواميس أو القوانين عدم تضاربه مع غيره عبر الممارسة التي تقول بها كلا الفلسفتين -ميدانًا أو ساحة- لصحة ما تأتيان به.

لو لم تكن الحقيقة مضمونًا، جوهرًا، الناموس، القانون، المقولة، لم يكن للأخيرة قيمة، فالمقولة (الناموس القانون) هي مظهر، شكل الحقيقة، التي تعمل على تفسير الوجود (ماديًّا كان أم روحيًّا) وتاليًا، فإننا أمام ضرورة تعريف الحقيقة، مضمونها، تبدياتها، ظهوراتها، مقياسها، كي تكون ما هي عليه، أي كيف للشيء أن يكون حقيقيًّا، أي مترابطًا متماسكًا، كيف يمكننا بلوغ مرتبة حقيقة الشيء، جوهره، مضمونه، محتواه، وتاليًا أيضًا ما علاقة الحقيقة بقطبيها (الوجود والمعرفة)، كيف نعرف؟ وماذا نعرف؟ ولماذا نعرف؟ تساؤلاتٌ لا بدَّ من الإجابة عليها حتى يمكننا القول عن هذا الشيء إنه حقيقي! فليس كل ما نودّه أو نعرفه هو بالضرورة حقيقي!!

الحقيقة في المدرحية:

ترى المدرحية أن الحقيقة قيمة نفسية إنسانية، ذلك “أن الإنسان وحده هو الذي بميز بين الحقيقة والباطل (الوهم) بالمعرفة..”(1) وهكذا فالحقيقة من حيث هي قيمة، هي علاقة الإنسان بمحيطه المادي والروحي، هي علاقة بين شرطي قيامها إذ “لا بدَّ لقيام الحقيقة من شرطين: الأول الوجود بذاته، أي أن يكون الشيء موجودًا والثاني أن تتمَّ المعرفة لهذا الوجود”(2) مما يعني:

أن الحقيقة من حيث هي قيمة، هي علاقة تنتفي بانتفاء أحد قطبيها (الوجود والمعرفة)، فليس الوجود غير المستند للمعرفة، أي غير المعروف، قيمة، ذلك أن المعرفة هي التي تعطي الوجود لا تكون له بدونها، يضاف لما تقدم “إنه لا يمكننا تصور وجودٍ دون معرفة أو أن نقول لأي وجود مفترض قيم الحقيقة” على أن لا يعني هذا أن الوجود غير المعروف ليس موجودًا، إنما ليست له قيمة الحقيقة لأن لا علاقة للإنسان به عبر المعرفة، الوعي، المسألة هنا بالغة الدقة: فالمدرحية لا ترى أن الوجود من حيث هو فاعلية لها خصائصها، أو كما يقول أنشتاين “الوجود جملة من العلاقات” لا يمارس هذه الفاعلية بمختلف خصائصها إلا في اللحظة التي عرفه بها الإنسان، المدرحية لا تقول إن الجاذبية لم توجد قبل رؤية نيوتن لتفاحته تسقط، بل ترى أن اكتشاف الجاذبية سمح بتفسير الكثير من الظاهرات المبهمة بالنسبة للإنسان، والتي كان يراها أو يتأثر بها، كما سمح بالخروج إلى فلك الأرض واكتشاف خبايا الكون، وتسخير كل مكتشفاته التي قامت على مبدأ الجاذبية لصالح الإنسان أو بالأحرى لمعرفة الإنسان..

ثم إن المدرحية لا ترى في المعرفة غير المستندة لوجود ما، أن لها، أيضًا، قيمة الحقيقة، بل تبقى مجرد تخيل، تصور، تهيؤ، مجرد افتراض ينتظر ما يؤكد مضمونه، أو كما تقول “كل مطلق (وجود) غير واضح (معروف) هو نسبي (مفترض) مهما قيل إنه مطلق غير نسبي، كل مطلق مبهم هو لا شيء، المطلق الذي هو شيء، هو المطلق الواضح فإذا وجدنا أمامنا مطلقًا غير واضح، أو افترضنا أي مطلق افتراضًا وابتدأنا نحوم حول هذا المطلق ومعرفته فإننا نكون قد عينّا مبهمًا للخروج من جدل لم نصل به للحقيقة..” المطلق والنسبي هما في المدرحية مفهومان للتمييز بين المعرفة والافتراض، فالمطلق غير الواضح، ومن منطلق “أن الوضوح هو معرفة الأشياء والأمور معرفة صحيحة” هو كل معرفة تحاول أن تؤكد ذاتها دون أن يكون لها أي تأثير في الوجود، في الكون، في الحياة، لذا كان المطلق المبهم هو نسبي، أي مجرد افتراض ينتظر الوقائع لتؤكده.

الحقيقة في المادية الديالكتيكية:

ترى المادية الديالكتيكية أن “جوهر الحقيقة قائم في موضوعيتها وبانعدام الموضوعية تنعدم الحقيقة” لذا كانت “الحقيقة موضوعية بالضرورة”، وكانت “الحقيقة الموضوعية شكل من أشكال المعرفة الإنسانية، إذ لا معنى للحديث عن الحقيقة دون الإنسان ووعيه، لكنها موضوعية من حيث المضمون” وعليه، تقول المادية الديالكتيكية: “إذا ما عكست المعرفة ما هو موجود في العالم عكسًا أمينًا (صحيحًا) فإن هذه المعرفة تعتبر حقيقة موضوعية”، وهذا ما دفع لينين للقول: “أن تكون ماديًّا يعني أن تعترف بالحقيقة الموضوعية التي تعرفنا عليها حواسنا..”.

فإذا كانت المادة هي مقولة فلسفية للدلالة على الواقع الموضوعي الذي تعرفنا عليه حواسنا ويوجد بشكل مستقل عنها، فإن ما تعنيه المادية الديالكتيكية بـ”الموضوعي” هو، كل ما لا يرتبط وجوده بوجود أو معرفة أو وعي أو رغبة الإنسان، وتاليًا هو كل ما تعرفنا عليه حواسنا.

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل “الوجود” في المدرحية هو ما تعبر عنه المادية الديالكتيكية بـ”الموضوعي”؟ على اعتبار أن الفلسفتين معًا تؤكدان المعرفة لقيام الحقيقة؟

لا بدَّ لنا من التذكير بأن الفلسفة المدرحية من حيث هي فلسفة اجتماعية تدرس الإنسان نشوءًا وارتقاءً، عوامل وأسبابًا ونتائج، أو كما يقول سعادة: “فموضوع فلسفة الزعيم، هو الإنسان والقيم الإنسانية، لا منشأ الكون”، بمعنى آخر، إن الفلسفة المدرحية، ترى الوجود، في وحدته، غير القابل لتشظيات الوعي في محاولة الأخير فهمه، كما وترى أن الوعي في وحدته أيضًا، ولا يقبل تشظياته أيضًا، بمعنى أن تناقض مختلف الفلسفات بعضها ببعض ونزوعها للكلية في تفسير الظاهرات الكونية والاجتماعية يعكس تشظيات الوعي في فهم الوجود، “لا يمكن أن يتناقض إنسان سعادة في نفسه في صدد هل الريح ساخنة أم باردة متى كانت ساخنة أو باردة..”.

بمعنى آخر، إن الوجود الفيزيائي ليس غير الكيميائي لكن بصورة أخرى وكما هذا ليس سوى العضوي بتجلياته في الوعي الإنساني، فالرياضة على سبيل المثال، من حيث هي صياغة الوجود بعلاقات رياضية هي في آن واحد هندسة مستوية وفراغية ومثلثية ووصفية وتفاضلية وتكاملية.. وما حاجة مختلف العلوم رغم تفرعاتها إلى الرياضة، إلا دليل على هذه الوحدة، هكذا يمكن تطبيق العلاقات الرياضية في مجال الفيزياء والكيمياء وأيضًا العلاقات الإنسانية، فلولا تلك الوحدة لما أمكننا ذلك، وإن تعدد النظريات ليس بأكثر من تشظيات للوعي، لفهم الوجود، هذا لجهة الوجود أما لجهة الوعي، فليست الفلسفة سوى المنطق وهذا ليس سوى المنهج، والدين ليس سوى هذه الفلسفة منطقًا ومنهجًا، كذلك العلم ليس سوى تلك الفلسفة وكذلك مختلف أنواع الفنون، موسيقى ورسمًا وأدبًا.. وإن مختلف تنوعات ذلك ليست سوى وحدة تتمظهر للوعي في أشكال شتى، وإلا فما معنى أن الوجود محتوى الوعي؟!، ليس المضمون سوى شكله وليس المحتوى سوى مظهره، كما وليس الجوهر سوى تبدياته، هذه هي المدرحية والتي من خلالها نفهم كيف أن الحقيقة وجودًا ومعرفة، إذ ليست الحقيقة سوى وجود تمظهر معرفة أو مضمونًا في شكل معرفي، الحقيقة ليست وجودًا بلا معرفة ولا معرفة بلا وجود، هي وجود معرفي..

سبق لنا أن تساءلنا: “هل (الوجود) الذي تقول به المدرحية هو (الموضوعي) الذي تقول به المادية الديالكتيكية؟”.

هذا السؤال وما يتفرع عنه من تساؤلات عدة يبقى محورها يدور حول كون (الوجود أو الموضوعي) مستقلًا عن (الوعي) ويوجد خارجه ولا يتعلق بمعرفته أو رغبته، وتلعب (الحواس) دور الوسيط بينهما، لكن وقبل الإجابة على هذا السؤال، علينا أن نعرف المعنى من مصطلح (الاستقلال عن الوعي) وتاليًا، ما المقصود (بالوعي)؟ وكيف تلعب (الحواس) دور الوسيط؟

إذا ما فُهم بـ(الاستقلال عن الوعي “الموضوعي”) ديالكتيكيًّا، كون الشيء موجودًا حتى تتم له المعرفة، بغض النظر عن كون المقصود بالوعي الله أم الفرد أم الطبقةً أم المجتمع، فإن ذلك لا يتعارض مع مفهوم الوجود في المدرحية، باعتبار أنها تؤكد على ضرورة “كون الشيء موجودًا بذاته” لتتم له المعرفة (وعيه)، أما إذا فُهمَ من (الاستقلال عن الوعي) أن الموضوعي، من حيث هو محتوى الوعي، فإن القوانين التي تسري على الأول تسري على الثاني، فثمة تعارض بين الفلسفتين!

فالمادية الديالكتيكية، ترى أن المجتمع من حيث هو (شكل خاص لحركة المادة)، فقوانين هذه الحركة (حركة المادة) والتي جوهرها التضاد أو التناقض أو الجدل، لا بدَّ من أن تنطبق على حركة المجتمع (الوعي)، ليس هذا وحسب، بل ويجب تطبيقها بإزالة عوائق هذا التطبيق! تقول “إن المجتمع، من حيث هو شكل من أشكال حركة المادة، فإن القوانين الشاملة لحركة المادة تفعل فيه (في المجتمع) على الرغم من أنها تتجلى هنا (في المجتمع) في شكل خاص، ولهذا نجد أن القوانين (الاجتماعية) المكتشفة فيه (في المجتمع) من قبل المادية الديالكتيكية بخلاف قوانين الفيزياء والكيمياء وغيرها لا يمكن تعميمها على معرفة الحياة الاجتماعية، بل ينبغي فعل هذا التعميم أيضًا”.

في المدرحية، لا يمكن تعميم أو شمول حركة المادة بمختلف صورها وأشكالها على الحياة الاجتماعية أو تلك التي لها علاقة بالإنسان- المجتمع، حيث ترى أنه “في المبادئ التي تمتّ إلى الإنسان الحر بصلة لا يمكن الاستناد إلى أي قول استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية أو لها علاقة بالإنسان- المجتمع” و”لا أن الطبيعة وضعت لكائناتها هذه النواميس وأمرتها بالسير عليها..” بما يتعارض كليًّا مع المقولة الديالكتيكية (بل ينبغي فعل هذا التعميم أيضًا) والسؤال: هل يمكننا تعميم القوانين المادية على الحياة الاجتماعية أم لا؟ بمعنى آخر، هل تسري هذه القوانين كما في المادة على الحياة الاجتماعية؟

فعلى سبيل المثال لا الحصر، هل كون دوران الأرض في فلك الشمس، باعتباره قانونًا موضوعيًّا، يقارب بوجه من الوجوه دوران (فعل عمل) الفرد في فلك المجتمع؟ وتاليًا ما يسري على الأرض من قوانين باعتبارها جزءًا من المجموعة الشمسية، يسري على الفرد باعتباره جزءًا من المجتمع؟ مما يدفعنا للسؤال عما إذا كانت حتمية دوران الأرض حول الشمس هي حتمية دوران (فعل عمل) الفرد في فلك المجتمع أو حتمية دوران المجتمع في فلك الإنسانية؟

مما لا شك فيه أن العلاقة بين الفرد والمجتمع هي علاقة عضوية لا انفصام في أي من عواملها وأسبابها وحتى بعض نتائجها، بما يفيد وكأنها علاقة حتمية من حيث أن الكائن البشري هو كائن اجتماعي بالضرورة، على اعتبار أن اجتماعية الإنسان سابقة لإنسانيته، بل وكون “الاجتماعية صفة (خاصة) موروثة في الإنسانية” على ما تذهب إليه المدرحية، هذه الخاصة، لا تفيد بأن الفرد يتماهى مع القوانين الاجتماعية كما تتماهى الأرض في جملة خصائصها الفيزيائية مع محورها الذي تدور في فلكه كما بقية الكواكب في المجموعة الشمسية وغيرها من المجموعات الشمسية الأخرى، كما تتماهى مجمل هذه المجموعات والنجوم في دورانها في فلك مجرتها وهذه أيضًا في فلك عناقيدها، أو كما يقول أنشتاين إن “الكون مجرد علاقات فيزيائية”، ففي الاجتماع الإنساني خاصة تميزه عن اجتماعية الحيوان وعن أي نوع من تلك العلاقات الفيزيائية التي تحكم الكون بصرامة متناهية، الخاصة التي تقول بها المدرحية هي “استعداد الفرد لبروز شخصيته”، هذه الخاصة مفقودة في بقية التجمعات الحيوانية والفيزيائية، وبها تتمايز العلاقات الإنسانية عن تلك العلاقات التي تحكم التجمعات الأخرى، وعلى الرغم من وجود بعض الخصائص التي قد تتشابه بها مختلف التجمعات كخاصة الفعل ورد الفعل في عالم الإنسان وعالم الفيزياء، “تكيف الأرض الإنسان وهو يرد الفعل ويكيفها لكنها هي التي تحدد مدى هذا التكيف وشكله ونوعيته” على ما تذهب المدرحية أيضًا، ومع ذلك تبقى الشخصية الفردية هي ميزة للفرد لا تتمتع بها أي من جزئيات المجموعات الأخرى، فعلاقة الجذب والنبذ بين الأرض والشمس هي ذاتها العلاقة بين الأرض والقمر، تختلف فقط من حيث القوة التي تعود فيزيائيًّا للكتلة المعنية، لكن علاقة الفرد بالمجتمع من حيث هي علاقة جذب ونبذ، لا تخضع لذات قوانين الكتلة، ذلك أن “العوامل الفاصلة في التاريخ هي العوامل النفسية والفردية” على ما تذهب إليه المدرحية أيضًا، إن لكاريزما الفرد، في هذه الحالة من القوة ما يستطيع الفرد من خلالها قيادة كتل بشرية أكبر بكثير من كتلته المادية، ومع ذلك فهي على كبرها وقوتها تتمحور حول أصغرها، بل وتدور في فلكه، كماركس الذي ألهم لينين قائد ثورة أكتوبر وماو قائد ثورة الصين وهوشمنه في فيتنام وكاسترو في كوبا..

إن خاصية بروز شخصية الفرد، وتاليًا كاريزما الفرد لا يمكن ردها إلى أي من قوانين المادة التي لا تتمتع بتلك الخصائص التي يتمتع بها الفرد الإنساني كالاختيار والإرادة، فصحيح كل الصحة أن الفرد ملزم، بل ومجبر في أحيان كثيرة للعمل والفعل وفق ظروف وأحوال وأوضاع مجتمعه، لكنه، بميزة الاختيار يخرج على هذا الإلزام والإجبار، فكما تقول المدرحية “لا يختار الفرد مجتمعه إلا بقدر ما يختار أمه وأباه، لكنه فد يفضل أمه على أبيه”، بمعنى أن الفرد قد يختار العيش أو الحياة في مجتمع آخر بديلًا عن مجتمعه الذي ولد فيه، بمعنى آخر أيضًا يستطيع الفرد الخروج عن محوره الذي ولد فيه، وبما يعني أيضًا وأيضًا انتفاء ذلك في عالم المادة، فالحتمية أيًّا كانت وبأي شكل وجدت به، لا يمكن تطبيقها بأي من أشكالها على المجتمع، حيث الفرد يمتلك من خاصية بروز شخصيته، الاختيار ومن ثم الإرادة، التي تقرر المصلحة من هذا الفعل أو ذاك كما تذهب المدرحية. “وإذا كانت المصلحة والإرادة هما قطبا المجتمع فواحدهما سلبيّ وهو المصلحة والآخر إيجابي وهو الإرادة، فالمصلحة هي الّتي تقرّر العلاقات جميعها والإرادة هي الّتي تحقّقها. وبديهيّ أنّه لا إرادة حيث لا مصلحة، فالمصلحة هي طلب حصول ارتياح النفس. وتحقيق ارتياح النّفس هو غرض الإرادة..”.

تقرُّ المدرحية في مقولتها الرئيس “أن المادة تعيّن الشكل”، لكن ليس بمعنى الحتمية، بل بمعنى أن الإنسان قادر على التكيف، مع مستلزمات وقوانين المادة، هذه الخاصية مفقودة في مختلف التجمعات الأخرى، الحيوانية والمادية، فإذا كان التضاد في المادية الديالكتيكية يشكل جوهر الأشياء، فهو كما في المادة كذلك في الحياة الاجتماعية، لكنه هنا لا يعني قطعًا أن الإنسان يعيش حالة التناقض والتضاد هذه إلا بمسعى خاصية أخرى هي خاصية التكيف الانسجام مع محيطه، بما يمكن قوله أيضًا على علاقة التوازن الكوني بين أجرامه، لكنها في المثال الأخير هي علاقة لا تطور فيها كما في عالم الإنسانية، إن خاصية التكيف، التغير، التطور، هي خاصية إنسانية محضة، مفقودة أيضًا في العالم المادي، إن التضاد الذي نجده في عالم المادة، وإن وُجدَ في عالم الإنسان، على شكل “صراع طبقي” أو “صراع القديم والجديد” أو “صراع الطبقة الكادحة والبرجوازية والرأسمالية والإمبريالية”، لكنه هنا على غير النحو الذي نجده في العالم المادي، فالتضاد الذي نجده في الفرد الإنساني هو تضاد فاعل ينحى منحى التغير، التكيف، التطور الذاتي في عالم الإنسان فيدفعه هذا التضاد لمناحٍ أخرى تستهدف التوافق بينه وبين ذاته من جهة، ومحيطه من جهة أخرى، وبأشكال مختلفة بين فرد وآخر، وبين مجتمع وآخر، وما دليلنا على ذلك سوى ما تقرُّه المادية الديالكتيكية ذاتها في تعريفها “للتشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية” من كونها “المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره”، وتاليًا تباين المجتمعات بين بعضها البعض في كون أحدها يعيش حالة الإقطاع بينما يعيش آخر مرحلة البرجوازية وثالث في مرحلة الإمبريالية، وفي الوقت ذاته، هذا التباين من حيث هو تعبير عن “التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية” هو ما ينفي عن المجتمعات الإنسانية خاصية الحتمية التي نجدها في العالم المادي، وخير مثال على صحة ما تذهب إليه المدرحية هو في قول المادية الديالكتيكية “إن القوانين (الاجتماعية) المكتشفة فيه (في المجتمع) من قبل المادية الديالكتيكية -بخلاف قوانين الفيزياء والكيمياء وغيرها- لا يمكن تعميمها على معرفة الحياة الاجتماعية، بل ينبغي فعل هذا التعميم أيضًا” بما يعني أنه إذا لم تكن القوانين الاجتماعية التي تكشف عنها المادية الديالكتيكية غير قادرة على الفعل التلقائي (الحتمي) فإنه ينبغي على الإنسان، فردًا كان أم طبقة أم مجتمعًا، القيام بذلك، مما يفيد أن الحتمية التي تحكم العالم المادي، بقوانين صارمة، لا تحكم المجتمع الإنساني بذات القوانين من حيث أن الأولى ثابتة غير متحولة أو متكيِّفة أو متغيرة كما في العالم الإنساني.

الوعي (المعرفة) في كلتا الفلسفتين:

في المادية الديالكتيكية:

تبقى المقولة الرئيس في المادية الديالكتيكية تتمحور حول تساؤلها “ما هو الأسبق: الطبيعة، (الوجود، المادة) أم الروح (العقل، الوعي، الفكرة)؟ ما الذي كان أولًا، المادة قبل الوعي، أم بالعكس، الوعي قبل المادة” ومن البديهي أن ندرك، أن المقصود بهذا التساؤل هو “الله” وتاليًا يمكننا صياغة تساؤلها على النحو التالي: هل الفكرة، الله، كائنًا ما كان تعريفه، سابقًا للوجود؟ أي هل الوجود مخلوق؟ ومنه يمكننا اشتقاق التساؤلات المتفرعة من كون الوعي سابقًا للمادة أم العكس؟

التساؤل المتقدم كان في بدايات ظهور المادية الديالكتيكية (1840)، حيث كان الصراع على أشده بين المثالية (هيغل، كانت، وسواهما) والمادية، (ماركس، أنغلز، فويرباخ، روزا لوكسمبورغ..) والذي حُسم في نهاية المطاف لصالح المادية الديالكتيكية، فالعلوم قد أثبتت أن المكان والزمان في وحدتهما قد ولدا معًا، فلا أسبقية للزمان على المكان ولا العكس أيضًا، فنظرية الانفجار الكبير أو (إشعاع هوغينغ) التي قال بها “ستيفن هوغينغ” قد أثبتت ما تقدم!! أو كما يقول أنشتاين “القمر موجود حتى لو لم أنظر إليه..”

كان الطرح المادي الديالكتيكي، بتساؤله عن: “ماهية العلاقة بين الفكر والوجود أو الروح بالطبيعة.. هل الوجود، المادة تحدد الوعي، الفكر، أم بالعكس” ردًّا على مجمل الفلسفات المثالية التي ترى “الله” خالقًا لما نحن فيه ومسيّرًا لأقدارنا، ورفضًا للتواكلية التي تفرضها تلك الفلسفات “توكل على الله”، ومن هنا جاءت مقولة لينين الشهيرة “الدين أفيون الشعوب”، إذ كان لينين واثقًا بأن لدى الإنسان القدرة على تغيير مجرى حياته، بالإرادة والاختيار، ليس “الوعي سوى خاصة من خواص المادة الرفيعة التطور، بمثابة نتاج لفاعلية الدماغ (المخ والمخيخ والبصلة السيسيائية) نتاج المخ، وظيفة المخ، وبالتالي فإن المخ هو عضو التفكير، عضو الوعي.. إن الوعي هو الحالة الداخلية للمادة.. ولا يمكن إطلاقًا الفصل بين الوعي والمادة المفكرة ولا ينبغي النظر إلى الفكرة، إلى الوعي، على أنه مادة، أو شيء مادي.. إن الوعي الفكرة لا تتمتع بخصائص فيزيائية كالتي تتمتع بها الأجسام المادية..”، على ألا يعني ما تقدم “أن الوعي يعود إلى عالم ما من عوالم ما وراء الطبيعة”، مؤكدة ما ذهب إليه “بافلوف” من أن “توافق الديناميكية مع البنية هو أحد أهم المبادئ الأساسية في نظرية النشاط العصبي العلوي”.

الوعي في الفلسفة المدرحية:

أسبقية الوجود- الطبيعة على الوعي، تؤكده المدرحية بقولها: “لم يعد الإدراك البشري.. يقنع بالتّعليلات الخياليّة البحت المعزوّة إلى افتراض وجود شخصيّة وراء نظام الكون تُحْدِثُ النّظام وتَحْدُثُ بلا نظام، إليها ينسب كلّ ما يقف أمامه عقل الطّفل وعقل البالغ المجرّد من العلم حائرًا.. فالإنسان جزء من الحياة نشأ بالتطور حتى بلغ شكله الحالي.. إن التطور الإنساني، نشوءًا وارتقاءً كان وفاقًا لمقتضيات تطورات الطبيعة أو البيئة، أي إنه تطور محتم بالاختيار الطبيعي، لا مفضل بالاختيار العقلي..”، أما الوعي، الفكرة، العقل، فكما في المادية الديالكتيكية ترى المدرحية أنه “.. نتيجة تطورات الدماغ الفيزيائية”، لكن المدرحية تذهب لأبعد من كون الوعي نتيجة لتطورات الدماغ، فتربط بين (المادة المفكرة) والفكرة، العقل “إن هناك علاقة وثيقة بين الشكل والروح، بين فراسة الإنسان التشريحية الخارجية ونفسيته ومقدرته العقلية.. إن هناك علاقة بين الفيزياء ونفسية الإنسان وأشكاله الفيزيائية، بين السيكولوجيا والفيزيولوجيا..”، وتمضي المدرحية مؤكدة أنه “.. لا يمكننا فهم بعض الأفعال والأحداث الشخصية دون أن نعلم فيزيولوجيًّا الشخص، إن هناك علاقة بين المقدرة العقلية وبين أشكال الإنسان الفيزيائية”، لكن المدرحية لا تقصر موضوع الوعي على الإنسان الفرد، بل تمضي معمّمةً مفهوم الوعي على المجتمع بقولها: “لا يمكننا أن نفهم فهمًا صحيحًا نفسيات الأفراد والجماعات البشرية إلا بفهم فيزيولوجيتها..”، على ألا يعني ما تقدم أن الوعي، العقل، الفكرة، مجرد شيء مادي، بإعلانها: “ليست قيمة الحق ولا قيمة الحقيقة والخير والجمال مادية فهي لا تقاس بالسنتيمترات أو بالأمتار المكعبة ولا بالأواقي والأرطال..”، هكذا، نجد أنفسنا ثانية في وحدة مفهوم الوعي بين الفلسفتين، لكن الافتراق قائم بينهما عندما تأخذ كلا الفلسفتين مفهوم الوعي من جانب، المادية الديالكتيكية في مفهوم الإنسان الفرد، والمدرحية مفهوم الإنسان- المجتمع، على الرغم من قول المادية الديالكتيكية: “إن المجتمع، من حيث هو شكل من أشكال حركة المادة، فإن القوانين الشاملة لحركة المادة تفعل فيه (في المجتمع) على الرغم من أنها تتجلى هنا (في المجتمع) في شكل خاص” دونما توضيح مفهوم هذا الشكل الخاص للوعي في المجتمع، تاركة للمدرحية تحديد هذا (المفهوم الخاص)، في القول: “فموضوع فلسفة الزعيم، هو الإنسان والقيم الإنسانية، لا منشأ الكون”، بما يعني أن الوعي في المدرحية يأخذ بعدًا آخر غير البعد الفردي، حيث الحس (الحواس) هي صلة الوعي بالوجود من حيث أن هذا الأخير موضوع محدد للأول، أو كما تذهب المدرحية بقولها: “لا يمكن أن يتناقض إنسان سعادة في نفسه في صدد هل الريح ساخنة أم باردة متى كانت ساخنة أو باردة، كما يختلف إنسان السفسطائيين بعضهم مع بعض متى كان الواحد حارًا والآخر باردًا فتكون المعرفة على أساس الحس، فيختلف الحس بين الحار والبارد وتختلف المعرفة..”، المعرفة في المدرحية ليست معرفة فردية تتم عن طريق الحواس وحسب، يقول سعادة: “.. يتَّضح أنّ ما عناه أفروطقورس بالإنسان هو الفرد الإنساني الذي تؤخذ حواسه أساسًا ومقياسًا للمعرفة. وهو واضح من سؤال سقراط: “ألا يقول (أفروطقورس) إنّ الأشياء هي لك كما تظهر لك، وهي لي كما تظهر لي، وإنني أنا وأنت أناس”؟ وجواب ثياتيطس: “بلى، إنه يقول هكذا”. فتكون المعرفة، بهذه الطريقة، مجزَّأة على الناس، مختلفة ومتناقضة باختلاف أحوالهم بعضهم عن بعض وتناقض إحساسهم حسب عوارض حواسهم. هذه الطريقة توصل إلى الفوضى التي تجعل من كل فرد مقياسًا وحكمًا لما هو موجود وما هو غير موجود، كالقول المنسوب، على لسان سقراط، إلى أفروطقورس: “إني، لنفسي، حَكَمٌ في ما هو موجود وما ليس موجودًا لي”.. (ويضيف سعادة قائلًا): “إنّ الإنسان، في عُرف السفسطائيين، هو الفرد كل فرد هو لنفسه مقياس الحقيقة شعورًا ومعرفة، فلا تكون هناك حقيقة واحدة، بل حقائق عددها عدد الأفراد وعدد الحالات التي يمر بها الأفراد”، إن وحدة الوجود التي تشكل مفهومًا محوريًّا، بل وجوهريًّا في الفلسفة المدرحية، لا بد وأن تتجلى في الوعي، في وحدة الوعي لا في تشظياته: “فلا تكون هناك حقيقة واحدة بل حقائق عددها عدد الأفراد وعدد الحالات التي يمر بها الأفراد”، وحدة الوجود ووحدة الوعي إذًا هي في كون المعرفة معرفة واحدة طالما أن الوجود موضوع الوعي، واحد، وكما سبق وأشرنا إلى أن الحقيقة هي وجود معرفي، والحقيقة بذاتها، من حيث هي “قيمة نفسية إنسانية”، والحقيقة هي جوهر المعرفة، والمعرفة هي معرفة الأشياء على حقيقتها، وتاليًا، القيم الإنسانية، هي الحقائق التي يؤمن بصحتها أو حقيقتها الإنسان، ولما كانت فلسفة القيم في المدرحية قيمًا اجتماعية، كانت الحقيقة بحد ذاتها اجتماعية، ومن هنا قول سعادة “فموضوع فلسفة الزعيم، هو الإنسان والقيم الإنسانية، لا منشأ الكون..”، وعليه يقول سعادة أيضًا: “إنّ الإنسان الحقيقي هو المجتمع لا الفرد، وإنّ الفرد هو مجرد إمكانية إنسانية.. شرط الحق، في الإنسانية، ليكون حقًا، أن لا يعلن نفسه ساعة ويختفي، وأن لا يختزنه العدد الفردي أو المجموعي في نطاقه الخاص فيفنى فيه أن لا يكون حقًا عدديًا، بل حقًا اجتماعيًا لا ينفرد فيه الفرد ولا يستقل به العدد، بل يمتد في المجتمع بلا حدود..”، الوعي المعرفة في المدرحية إذًا هي معرفة اجتماعية، ومن هنا يأخذ الإحساس دوره، كوسيلة تصل الوعي بالوجود، دوره كناقل، فقط دون أن يكون له دور آخر في المعرفة، وهو بحد ذاته مشكلة في صلة المعرفة الوعي بالوجود لأنه يتعثر كثيرًا في بلوغ جوهر الوجود أو حقيقته، وإلا فما حاجة الإنسان لتلك الأدوات التي يستخدمها لبلوغ أعماق الكون وتصويرها بدقة متناهية، لو كانت الحواس هي سبيله الوحيد للمعرفة؟! فتكون المعرفة قاصرة قصور الحواس عن إدراكه ماهية الذرة على سبيل المثال، من هنا يقول سعادة: “إذا غلط امرؤ في استنتاج أو تأويل أو في حس ما فيصلح غلطه باستنتاج امرئٍ آخر، أو تأويله أو حسه الصحيح..”، بمعنى آخر، إن الوعي هو وعي اجتماعي لا وعي فردي، وكما الإحساس يبقى في حالة الوسيط بين الوعي والوجود، كذلك الفرد هو مجرد وسيط بين المجتمع أيًّا كان تعريفه والمعرفة الوعي، وما أدل على ما نذهب إليه سوى تلك الأبحاث التي تخضع لها أية نظرية فتصوب خطأها وتتجه بها باتجاه جعلها حقيقة تؤدي غرضها في الوصول إلى حقائق أخرى.. أو كما يقول سعادة “كلما صعدنا قمة بدت لنا آفاق قمم أخرى..”، المعرفة إذًا في المدرحية ليست فردية؛ إنها اجتماعية بالضرورة، فالنطق والذي هو “أبو العقل” كما تأخذ به المدرحية من العالم “لتزيرسكيقر” لم يكن لينشأ لو لم يكن الإنسان في حالته الاجتماعية بحاجة لتبادل المعلومات، أيًّا كانت، مع الآخر، أيضًا أيا كان، يقول سعادة: “ومهما يكن من أمر تقديرنا نشوء النّطق فلا بدّ لنا من التّسليم بأنّ النّطق وحده كفل تحويل الاكتشافات والاختبارات التّطوريّة الأوّليّة إلى معارف اجتماعيّة وراثيّة (اجتماعيًّا)…

الوعي المعرفة، يكتسب خاصيته الاجتماعية من كونه تراكم خبرات، ومن حيث كينونته الاجتماعية، يبقى الفرد “مجرد إمكانية”، بمعنى أن الفرد الإنساني يبقى إمكانية تطوير، كشف، ابتكار، للخبرة المتراكمة لديه، فماركس، كما سعادة، “مجرد إمكانية” ابتكرت بناء على ما تراكم لديها من معرفة، نظريتها الفلسفية، فماركس جعل من الديالكتيك الهيغيلي موضوعته الأساسية، كما فعل “أنغلز” في ماديته التاريخية أعمال ومكتشفات “مورغان” قاعدة لأبحاثه الاجتماعية مُسقطًا المقولات الديالكتيكية عليها، كما سعادة جعل من تحديد “ميكور” للمتحد أساسًا لفكرة الأمة من حيث هي “متحد طبيعي”، أو هي “المتحد الأتم”..

نعود للسؤال الرئيس الذي تفرَّعت عنه مختلف التساؤلات السابقة: هل يلعب “الموضوعي” في المادية الديالكتيكية، دور “الوجود” في المدرحية؟ فيما إذا كان الوجود “موضوع الوعي” هو المجتمع؟ وكان المجتمع مقياسًا للوعي؟ وما هو دور الحس “الحواس” وإلى ماذا ينحل في حالٍ من هذا النوع؟

وعلى الرغم من أن البحث في إجابات لما تقدم يبقى من خصائص القسم الثاني من هذه الدراسة، /بين المادية التاريخية والقومية الاجتماعية/، فإننا هنا نتناول المجتمع من حيث النظرة الفلسفية وليس من الوجهة التاريخية، لذا نحن معنيون بالإجابة على ما تقدم، ببيان ما الذي تعنيه كلتا الفلسفتين بالمجتمع وتاليًا الوعي الاجتماعي والحس الاجتماعي، وهل يصحُّ قبل هذا وذاك اعتماد المجتمع مقياسًا للوعي؟

المجتمع والوعي الاجتماعي في المادية الديالكتيكية:

ترى المادية الديالكتيكية “أن كل جيل يصادف عندما يلج باب الحياة ظروفًا حياتية مادية جاهزة، فيدخل في علاقات مادية ضرورية تكون قاعدتها مسرحًا لأفعاله ومنطلقًا له..” على هذه القاعدة تُسقط المقولات الديالكتيكية على المجتمع فيبدو لها “أنه على الرغم من أن الناس هم من يصنعون التاريخ، فإن الذي يحدد تطور المجتمع ليست إرادة الناس ورغباتهم وإنما الظروف المادية للحياة الاجتماعية والقوانين المادية التي تعمل في قاعدة الحياة المادية نفسها..”، هذه القوانين “تنشأ وتعمل بصورة مستقلة عن معرفتنا لها، عن رغباتنا، في أن يعمل هذا القانون أو ذاك، بما يعني أن الناس لا يستطيعون تعديل هذه القوانين أو إحلالها أو إبطالها، حتى ولا يستطيعون صنع قوانين جديدة وإنما يستطيعون اكتشافها فقط..”.

أبرز القوانين التي تأخذ بها المادية التاريخية هو قانون تطابق “أو توافق علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج”، وتعرِّف قانون التطابق هذا بأنه “علاقة الناس بالطبيعة ومدى سيطرتهم عليها.. أو الناس وخبرتهم في الإنتاج ومهارتهم في العمل..” مضيفة إلى ما تقدم موضوع العمل ووسائله، بينما تعرِّف علاقات الإنتاج بأنها “علاقة الناس بعضهم ببعض أو العلاقات المادية القائمة بين الناس في عملية الإنتاج وتوزع الخبرات المادية ومكان الفئات والطبقات في المجتمع وعلاقات ملكية وسائل الإنتاج..”، وتاليًا فإن “علاقات الإنتاج التي قامت على أساس قوى الإنتاج تؤلف أساس الأفكار والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية وهي شكل تطور قوى الإنتاج ومحتوى البنيان الفوقي وتؤلف القاعدة الاقتصادية هذه الأفكار والمؤسسات والعلاقات ومستوى التطور لقوى الإنتاج هو ما يقف وجهًا لوجه أمام كل جيل، بحيث لا يكون لهذا الجيل مفر أو محيد عن الانخراط فيها والعمل من خلالها والتطلع للمستقبل عبرها ووضع الحلول لمشكلاتها، وهي بالتالي غير مرتبطة بوجوده أو رغبته وتوجد خارج وعيه، لذا كانت موضوعية بالنسبة له، وكانت من حيث هي الشكل المادي للمجتمع هي الواقع الاجتماعي الذي يواجهه كل جيل..”، وعليه “فإن نشاط الناس تحدده القوانين الموضوعية لواقعهم الاجتماعي..” وتخلص المادية التاريخية مما تقدم لتعريف الواقع الاجتماعي بأنه “علاقة الناس بالطبيعة وعلاقاتهم بعضهم ببعض”، لذا كانت هذه العلاقة المزدوجة علاقة موضوعية، ملزم بإقامتها الناس أجمعون ولا مهرب لهم منها، حتى ولا من نتائجها ولا يتجسد المجتمع إلا من خلالها..

يقول لينين “أن تكون ماديًّا هو أن تعترف بالحقيقة الموضوعية..”، لذا كان المجتمع “من حيث هو شكل هذا الواقع الموضوعي، هو وفق المادية الديالكتيكية شكل اجتماعي لحركة المادة، لحركة الواقع الموضوعي لعلاقات الناس بعضهم ببعض، شكل تطابق قوى وعلاقات الإنتاج..”

المجتمع من حيث هو شكل اجتماعي لحركة المادة هو من جهة أخرى وفق المادية الديالكتيكية- كواقع اجتماعي “جزء من الواقع بشكل عام متضمنًا للحياة المادية للمجتمع وهو يوجد خارج وعي المجتمع ويحدده..”، لذا “فإن وضع الحدود بين الواقع ككل والواقع الاجتماعي عملية ضرورية جدًّا لفهم المجتمع كشكل خاص من أشكال حركة المادة وللكشف عن منابع حركته الذاتية..”، هذه الحركة الذاتية للمجتمع تتضح من خلال “كون التأثير المتبادل بين المجتمع والطبيعة ذا طابع ديالكتيكي معقد، فالوسط الجغرافي يخلق إمكانيات معينة لتطور الإنتاج لكن استخدام هذه الإمكانيات يرتبط بالمجتمع ذاته وبمتطلباته، وبمستوى تطور الإنتاج وعلاقات الإنتاج، لهذا فإن الشروط الطبيعية يمكن أن تُستَغل من قبل الناس بأشكال متباينة ويمكن أن تؤثر على تطور المجتمع بأشكال مختلفة أيضًا تعود لمستوى التطور الاجتماعي..”

يمكننا تلخيص ما تقدم بأن المادية التاريخية ترى المجتمع أنه: “مجتمع تاريخي معين ومشخص، أي إنه المجتمع في مرحلة من مراحل تطوره..”، وتاليًا هو من حيث التعريف، وكشكل من أشكال حركة المادة: “التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية” المتجسدة في أسلوب إنتاج، كوحدة لكل علاقات وقوى الإنتاج.. وتنتهي المادية التاريخية للتحذير من الفهم المغلوط للمجتمع من حيث هو شكل من أشكال حركة المادة بالقول: “إن علاقة الإنسان بالطبيعة في عملية النشاط التاريخي، لا ينبغي النظر إليها كعلاقة إنسان معين وإنما كعلاقة المجتمع بالطبيعة، ومن هنا فإن “العلاقات الاجتماعية عامل جوهري بالتأثير المتبادل بين المجتمع والطبيعة..”.

يتضح جليًّا أن المقصود بالوعي في المادية التاريخية هو المجتمع، بمعنى أن الوعي اجتماعي وليس فرديًّا، وهو الفاعل الحقيقي في المجتمع، لكن هذا الوعي الاجتماعي يرتبط ديالكتيكيًّا، بقوى وعلاقات ووسائل الإنتاج، أي إنه وعي طبقي محدد بالطبقة التي ينتمي إليها الفرد، من هنا كان الوعي البرجوازي يختلف من حيث المضمون عن الوعي الإقطاعي، وهذا عن الوعي المشاعي، وعليه يكون الوعي الطبقي رهنًا بالحالة الاجتماعية التي يمر بها المجتمع، كشكل من أشكال حركة المادة، أو وفق “التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية” السائدة والتي هي “المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره”.

المجتمع والوعي الاجتماعي في الفلسفة المدرحية:

يشغل مفهوم المجتمع في الفلسفة المدرحية حيِّزًا كبيرًا ومهمًا، بل وجوهريًّا، فهو المحور النووي الذي تدور حوله مختلف طروحاتها الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، فهو الإنسان، و”الحقيقة الإنسانية الكبرى” ليس هذا وحسب، بل إنه “الإنسان- المجتمع”. هو “فلسفة الإنسان الجديدة. والشريعة الأساسية للإنسان”، وهو فوق كل ما تقدم “معرفة” المجتمع- الإنسان، هو الأمة، “جسمًا ومكانًا”، فهو “وحدة الشعب المتولدة من تاريخ طويل..”، لا يقتصر مفهوم المجتمع على جيل أو مرحلة، المجتمع في المدرحية هو استمرارية توالد الأجيال وتفاعلها مع مقومات بيئتها، هو واقع اجتماعي، هو “المتحد الأتم”، هو “دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية” إليه تعود مختلف القيم، وإليه تعود نسبيتها، هو “العقل الذي لا يجوز أن تعطله شريعة أخرى”، هو الخروج من “سفسطة الجزئيات إلى فلسفة الكليات”، هو الخروج أيضًا من “حدود فردية الإنسان المنحصرة في إمكاناته إلى مطلق اجتماعيته المنفتحة على الكون”، لذا فالفلسفة المدرحية “تنظر إلى الإنسان من زاوية الحقيقة الإنسانية الكبرى حقيقة المجتمع، لا من زاوية الفرد، الذي هو في حد ذاته وضمن ذلك الحد، مجرّد إمكانية إنسانية”.. المجتمع في المدرحية هو “مركب اجتماعي اقتصادي نفسي” هو “الأمة جسمًا ومكانًا”، وعليه كانت الأمة “واقعًا اجتماعيًّا بحتًا”..

تقيم المدرحية نظرتها إلى المجتمع على قاعدتين، موضوعية وذاتية، موضوعية الوجود الاجتماعي تقوم على المقولة الرئيس في المدرحية “المادة تعين الشكل” من حيث أن “المادة البيئة” هي البوتقة التي ينصهر ويتبلور ويصقل بها “الشكل الوجود الاجتماعي” على مختلف الأصعدة والمستويات، ذلك “أن التطور الاجتماعي، نشوءًا وارتقاءً، هو وفاقًا لتطور التفاعل بين الإنسان والبيئة بدافع الحاجة المادية..”، وعليه تقول المدرحية إن المجتمع، كنظام وعقلية، هو “حاصل تفاعل الإنسان والبيئة بطريقة معينة وموافق له ومنبعث منه..”، هذا من حيث النظام، أما العقلية الاجتماعية فهي “نتيجة تطورات التفاعل المادي لتأمين الحياة الاجتماعية..” من منطلق “أن الاقتصاد هو نقطة الابتداء في بحث حالات الاجتماع البشري..”، حيث “التطور الاجتماعي هو دائمًا على نسبة التطور الاقتصادي..”، على اعتبار أن “المصلحة الاقتصادية أساسية في كل مجتمع..” هي كذلك “لأنها تخدم كل مصلحة أخرى حيوية ونفسية..”. بناءً على ما تقدم تتمايز المجتمعات بعضها عن بعض “فإذا كانت مصالح الحياة، مصالح كل متحد..” فهذا لا يعني “أن مصالح أي متحد مصالح كل متحد، لأن مصالح المتحد ليست مصالح بيولوجية فقط، بل مصالح نفسية (عقلية) ومصالح حيوية (نوعية).. وجميع هذه المصالح لا تقوم إلا على المصلحة الاقتصادية..”، وبما أنه “لا يمكننا الفصل بين الحياة ومقوماتها..” أبرزت المدرحية الوجهة الذاتية من الوجود الاجتماعي من حيث أن “المجتمع مركب اجتماعي- اقتصادي- نفسي” بالقول: “إذا كانت الأرض هي الجانب الإيجابي (بمعنى أن الأرض تقدم مختلف إمكاناتها دفعة واحدة والى الأبد) أما الجانب السلبي الفاعل فهو نحن..” (بمعنى أن الإنسان هو الذي يختار مما تقدمه الأرض- البيئة، من مقومات بما يتناسب وتطلعاته وحاجياته، التي تلهمه إياها تلك الإمكانيات التي تقدمها البيئة)، وعليه، تقف موضوعية البيئة في حدود متطلبات الإنسان الحيوية والنفسية “فالتاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض.. (ذلك) أن العوامل الفاصلة في التاريخ هي العوامل النفسية والفردية..”، فالمجتمع من حيث هو “مركب اجتماعي اقتصادي نفسي” يبقى هو “الكل الذاتي” على ألا يعني ما تقدم “التجرد الوجودي والاتجاه نحو الغيب وترك محل الكيان الذاتي في الوجود..” كما ولا يعني أننا “ممن يصرفون نظرهم عن شؤون الوجود إلى ما وراء الوجود..” بما يعني “أننا الفنان الذي يستخدم ما تقدمه الطبيعة من إمكانات..” وأن “حقيقتنا هي حقيقة النمو الذاتي من داخلنا والتوسع على مدى ما تقدمه الطبيعة وما تستطيعه مقدرتنا..”.

هكذا لا تختلف كلٌ من المادية الديالكتيكية والمدرحية في ماهية الاجتماع البشري ومكوناته ومقوماته وخصائصه وميزاته، ويبقى الخلاف بينهما حول كونه جيلًا من أجياله أو فردًا من أفراده أو هو في مرحلة ما من مراحل تطوره أو هو طبقة تتجسد في “التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية” أم أنه استمرارية توالد أجياله وتفاعلها على مدى تاريخي طويل وبيئتها الطبيعية، وتاليًا يتجسد في “دورة اجتماعية- اقتصادية” تختلف في خصائصها وميزاتها عن دورة اجتماعية أخرى لها من الخصائص والميزات ما يُمايزها عن غيرها أيضًا، مما يبرر تشكل دورات اجتماعية- اقتصادية مختلفة على وجه الأرض، وتاليًا أيضًا أممًا مختلفة اختلاف بيئاتها ومستوى تعاطيها وممكنات تلك البيئات، وليبقى تساؤل كل من الفلسفتين قائمًا: هل يتطور الاجتماع البشري إلى “تشكيلة اقتصادية- اجتماعية” واحدة أم أنه يبقى على حاله كواقع “دورات اجتماعية- اقتصادية” تتقارب مصالحها إذا ما تجاوزت تجزئتها البيئية وأقامت “دوراتها الاجتماعية- الاقتصادية”؟

الحس (الحواس) بين الفردي والاجتماعي:

سبق لنا أن أشرنا إلى دور الحس (الحواس) في المعرفة (الوعي) من حيث أنه الوسيلة الوحيدة للإنسان لبلوغ حقيقة، جوهر، محتوى، مضمون، وعيه (معرفته)، أي وجوده، ونضيف هنا، إن الحواس بصورتها الراهنة، ما هي إلا استجابة عضوية لمؤثرات الطبيعة، فلولا وجود الصوت لما كان هناك سمع، كذلك لولا النور، لما كان هناك بصر، وكذا ما تبقى من حواس، فعلى سبيل المثال لو لم تكن الخاصة الاجتماعية ملازمة للإنسان منذ أن انتصبت قامته وأُطلقت يداه لتأمين مستلزمات حياته، والتي يعتبرها -أي اجتماعية الإنسان- سعادة خاصة ملازمة للإنسانية، بل وأكثر من ذلك خاصة (موروثة) فيها، بما يعني أنها أقدم من الإنسانية، وأن هذه الأخيرة إحدى نتائج اجتماعيَّته، لولا هذه الخاصة لما كان النطق، والذي يعتبره (كيكر) ويعتمده سعادة (أبا العقل)، هكذا هي الحواس بمجملها كواسطة أو وسيلة للمعرفة (الوعي)، وهي على المستوى الفيزيولوجي، فردية من حيث آلية عملها، وهي موضوعية من حيث المنشأ، واجتماعية من حيث الكيفية والنتائج، وعليه يمكننا فهم قول سعادة: “إذا غلط امرؤ في استنتاج أو تأويل أو في حس ما فيصلح غلطه باستنتاج امرئ آخر، أو تأويله أو حسه الصحيح..” الحس، (الحواس) قاصرة من حيث هي وسيلة عن إدراك الجوهر، المضمون، المحتوى، لأي وجود كان، معينها الرئيس هو العقل، (المخ والمخيخ والبصلة السيسيائية) في التحليل والتركيب والاستنتاج والتأويل والاجتهاد. الخ وهي بحاجة لأدوات (مجهر، تليسكوب..) لتصحيح وتصويب ما تنقله للعقل، الذي يعكف على مواد معرفته بأدواته، التحليل والتركيب و.. الخ، في محاولته الكشف عما تعنيه مواده (معلوماته)، نحن نعرف الوجود وفق الآلية التي يعمل بها العقل، فإذا ما تغيرت هذه الآلية، تغير فهمنا أو معرفتنا للوجود المحيط بنا والذي نحن جزء منه، لذا فنحن باعتمادنا على حواسنا كناقل لما في الوجود إلى العقل، ووفق منهجية العقل نعرف، نعي، وجودنا، تعمل منهجية العقل على تجزئة الوجود، أيًّا كان، موضوعيًّا أو اجتماعيًّا، فوفق هذه المنهجية، الآلية، هناك وجود فيزيائي، كيميائي، عضوي، اجتماعي، فردي. الخ، كما وأن هذه المعرفة قاصرة عن معرفة الوجود معرفة كلية، فهي على سبيل المثال، ترى المكان ذا أبعاد ثلاثة مضافًا إليها الزمن، لكنما واقع الحال، ليس كذلك، فالوجود، ذو أبعاد قد تصل إلى الستة عشرة بعدًا، بمعنى أنك في آن واحد تهبط وتعلو، تسير يمينًا بينما أنت سائر يسارًا، تمضي بخطٍ مستقيم بينما أنت في خط حلزوني تمضي دائريًّا بينما أنت في حالٍ كروي، كل ما تقدم يجري بآن واحد، كل ما تنقله حواسنا ويعمل في ضوئها عقلنا هو كلٌ متكامل لا تجزئة فيه، الكون كعلاقات فيزيائية، وفق “أنشتاين”، هو بآن واحد علاقات كيميائية، رياضية.. الخ، وكذا الوجود الاجتماعي، ليس فردًا ولا جيلًا ولا طبقة ولا طائفة ولا مذهبًا ولا عرقًا ولا أي من هذه أو تلك في تفرعاتها، هو “كلٌ ذاتي” وفق ما تذهب إليه المدرحية، تتداخل مختلف جزئياته، تداخلًا عضويًا (سلاليًا، عرقيًّا..) فيزيائيًّا (ثقافيًّا، سياسيًّا، طبقيًّا..).. بشكل يصعب الفصل بين أيٍ منها فصلًا جوهريًّا يُحيلها إلى وحدة كاملة متكاملة منعزلة عن سواها مكتفية بذاتها تغرد خارج سربها الاجتماعي، لتبقى في الحال جزءًا مما حولها تتأثر وتؤثر به، جزءًا من كلٍ ذاتي، لا يحتمل التجزئة وفق منهجية عقلٍ علمي، علماني، طائفي، طبقي، عنصري، جنسي (ذكوري أو أنثوي) ثقافي، سياسي..

بناءً على ما تقدم، يمكننا فهم ما ترمي إليه المادية الديالكتيكية في إسقاطاتها الاجتماعية من قولها: “إن نظرات الناس وميولهم لا يمكن أن تصبح موضوعًا للبحث المادي التاريخي إلا عندما تتجسد بهذه الوسيلة أو تلك..” من منطلق “أن الأفكار والميول والعواطف والآلام عندما تبقى ذاتية محضة، ولا تخرج إلى الواقع أو تتجسد في كلام شفهي أو مكتوب أو أفعال أو إنتاج فني أو غيره، آنئذٍ لا تبلغ الناس الآخرين وبالتالي لا يمكن أن يكون لها تأثير في المجتمع..”، إذًا، وحتى يصبح للأفكار تأثير في المجتمع، لا بدَّ لها من القول أو الفعل.. وهذه هي صيغ حسية.. “فالكلمة لا يمكن أن تكون كذلك لو لم تُنطَق، أي تتجسد ماديًّا، لتُنقل عبر الحس إلى العقل ليتخذ منها موقفًا..” هكذا، وفق المادية التاريخية، يبقى الحس صلة وصلٍ بين الوعي وموضوعه.

لا تفصل المدرحية بين الحس والشؤون النفسية الأخرى، فهي تعتبر “أن عمل الإحساس والفكر كلٌ نفسي لا يمكن أن يُزال العقل منه..” منطلق المدرحية فيما تذهب إليه، ليس نفيًا للحس كصلة وصل بين الوعي وموضوعه، بقدر ما هو تنبيه إلى أننا في دراستنا للحس لا يجب علينا أن نراه عملًا فيزيولوجيًّا بحتًا، إذ لا تُحدث الكلمة، ذات الأثر في فردين، كالأثر الذي يتركه التيار الكهربائي مثلًا، الكلمة هنا لها مدلول مصلحي، بمعنى أن الكلمة المنطوقة تطرح، بمجرد نُطْقِها، سؤالًا أين مصلحتي في هذا، والسؤال هنا قد يكون مُوعى أو غير مُوعى، لكنه سؤالٌ يجسد موقفًا، يختلف من شخص لآخر، وهذا ما نجد تفسيره في نسبية القيم بين الأفراد من جهة والمجتمعات تاليًا من جهة أخرى، فالحس في المدرحية ينحل إلى المصلحة التي هي “طلب حصول ارتياح النفس” وهي أيضًا غير المنفعة، المصلحة في المدرحية هي “كل ما يولد عملًا اجتماعيًّا..” ولكونها كذلك، كان الحس اجتماعيًّا، أو كلٌ نفسي لا يمكن أن يُزال العقل منه..”.

هكذا تختلف المادية الديالكتيكية عن المدرحية باعتبارها الحس أو (الحواس) مجرد فعل فيزيولوجي، بينما هو في واقع الحال انعكاس للمصلحة والتي هي كما سبق وذكر “كل ما يولد عملًا اجتماعيًّا”، بمعنى آخر كل ما يشارك بإنتاجه الكل الاجتماعي. وعليه قول المدرحية بأن الحس (الحواس) إنما هي تنحل في نهاية الأمر إلى حسٍ اجتماعي يتطلب من الفرد أن “يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه..”

المادية التاريخية:

هي بالتعريف “إسقاط لمبادئ المادية الديالكتيكية على الحياة الاجتماعية، أو هي تطبيق مبادئ المادية الديالكتيكية على الظواهر الاجتماعية وعلى دراسة المجتمع وتاريخه”، والتي يمكن تلخيصها بالمجتمعات الخمسة التي مرت وستمر البشرية جمعاء بها، وهي على التوالي: المشاعية البدائية- النظام القديم- الإقطاع- الرأسمالية- الاشتراكية الشيوعية، وتتميز كل مرحلة عن الأخرى بأسلوب الإنتاج، والذي اعتمد من قبل الماركسية كمعيار للتصنيف التاريخي للمجتمع، وهي ليست متواقتة في كل المجتمعات أي في ذات الوقت، إذ قد نلحظ أن مجتمعًا ما، ما يزال في مرحلة الإقطاع ومجتمعًا آخر، بذات الوقت، في مرحلة الرأسمالية، لكن السمة الرئيسة لمختلف المجتمعات هي واحدة، حيث يبقى أسلوب الإنتاج هو المقرر لكل مواصفات وخصائص هذا المجتمع أو ذاك، كما وأنه يقرر ماهية العلاقة بين البناء التحتي (من لا يملكون) ممثلًا بالطبقة الكادحة البروليتارية (الطبقة العمالية أو بائعي الجهد) وبين البناء الفوقي (من يملكون) متمثلًا بالمؤسسات التي تخدمه وتوطد سلطته عبر القانون، الدين، الثقافة، التعليم، الأسرة.. الخ.

بين طبقة كادحة لا تملك سوى الجهد الذاتي الخاص بها وطبقة مالكة كل شيء، يكون هكذا، يكون صراع الأضداد في كل زمان ومكان، وعلى ما ينتهي عليه هذا الصراع، يكون النسق الاجتماعي القائم، فالمجتمع، هو تجسيد للمادة في صراع أضدادها (السالب والموجب) وعليه يكون منحى تطورها، فالتطور حتمي، طالما وجدت قوى متضادة، لكنه ليس في ذات المنحى في كل المجتمعات، ومصطلح التطور، لا يحمل في طياته معنى التقدم، فقد يكون نحو التخلف والتراجع لكنه بطبيعة الحال يعني التغير، التبدل، التكيف، وهذا الأخير هو ما تمارسه الدولة عبر أدواتها لتكييف المجتمع وفق متطلبات وجودها وخدمة لمالكي وسائل الإنتاج على حساب الطبقة التي لا تملك.

بناء عليه، فإن المادية التاريخية “تجيب عن ماهية العلاقة بين الكيان الاجتماعي والوعي الاجتماعي، بين ظروف تطور حياة المجتمع وتطور الحياة الروحية”، كما يقول ستالين، الذي يتساءل ليجيب عن ماهية الظروف المادية لحياة المجتمع؟

“لا شك أن مفهوم “ظروف حياة المجتمع المادية” تتضمن قبل كل شيء الطبيعة المحيطة بالمجتمع، البيئة الجغرافية”، ويضيف متسائلًا: “فما هو الدور الذي تلعبه البيئة الجغرافية في تطور المجتمع؟ هل البيئة الجغرافية هي القوة الرئيسية التي تقرر ملامح المجتمع، طابع النظام الاجتماعي للإنسان، والانتقال من نظام إلى آخر؟”، وفي إجابته يرد على مقولة هيغل الشهيرة “إن لون البشرة مستمد من لون تربة البيئة..”، يقول: “لاشك أن البيئة الجغرافية هي أحد الظروف الدائمة اللامفر منها في تطور المجتمع، وتؤثر طبعًا على تطور المجتمع وتسرع أو تؤخر تطوره. إلا أن تأثيرها ليس تأثيرًا مقررًا طالما أن تغيرات وتطورات المجتمع تجري أسرع بما لا يقاس من تغيرات وتطورات البيئة الجغرافية.

لهذا فإن البيئة الجغرافية لا يمكن أن تكون السبب الرئيس، السبب المقرر، في التطور الاجتماعي، إذ إن ما يبقى غير متغير تقريبًا في مضمار عشرات الألوف من السنين لا يمكن أن يكون سبب التطور الرئيس فيما تطرأ عليه تغييرات أساسية خلال بضع مئات من السنين..”، وعليه فالسؤال يبقى دون إجابة مكررًا ذاته: عن ما هي القوة الرئيسية في جملة الظروف المادية للحياة الاجتماعية التي تقرر ملامح المجتمع وطابع النظام الاجتماعي وتطور المجتمع من نظام إلى آخر؟ تجيب الماركسية على سؤالها بالقول إنه طريقة إنتاج القيم المادية، أي أدوات الإنتاج، إضافة للقوى البشرية المؤهلة للقيام بالإنتاج (التجربة الاجتماعية والمهارة العملية) وهذا ما يشكل قوى الإنتاج، لذا فالإنتاج في مختلف مراحل التاريخ يبقى إنتاجًا جمعيًّا.

يقول ماركس: “في الإنتاج لا يعمل الناس على الطبيعة فقط، بل يعملون على بعضهم البعض وضمن هذه الارتباطات والعلاقات الاجتماعية فقط يحدث عملهم على الطبيعة، إنتاجهم. وكيفما يكون أسلوب إنتاج مجتمع ما، هكذا يكون، بصورة أساسية، المجتمع نفسه، آراؤه ونظرياته، وجهات نظره السياسية ومؤسساته السياسية. أو، لوضع ذلك بمزيد من البساطة، كيفما يكون أسلوب حياة الإنسان، هكذا يكون أسلوب تفكيره.”

يمكن فهم ما تقدم على أن الإنتاج أو بالأحرى أسلوب الإنتاج هو مفتاح دراسة قوانين تاريخ المجتمع، وتاليًا الحياة الاقتصادية للمجتمع، المتمثلة في قوانين تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ذلك أن التطور يبدأ من الأولى عبر الثانية، وعليه فالتضاد يبدأ عندما لا تنسجم علاقات الإنتاج مع طابع قوى الإنتاج، مع من يملك وسائل الإنتاج ويتحكم بها ومع من لا يملك، ذلك أن تطور أدوات الإنتاج يتبعه تغير وتطور المجتمع.

يقول ستالين في كتيبه “المادية الديالكتيكية”: هكذا هو اعتماد تطور علاقات الإنتاج على تطور قوى الإنتاج في المجتمع، وبالدرجة الرئيسية، على تطور أدوات الإنتاج، هذا الاعتماد الذي بفضله تؤدي تغييرات وتطورات قوى الإنتاج، عاجلًا أم آجلًا، إلى تغييرات وتطورات علاقات الإنتاج. هذا يعني أن نشوء قوى إنتاج جديدة تفترض نشوء علاقات إنتاج مطابقة لها، وهذا ما يحدث في قلب النظام المتداعي عبر قوى الإنتاج وعلاقاته المطابقة لها، يقول ماركس: “في الإنتاج الاجتماعي الذي ينجزه الناس يدخلون في علاقات محددة لا مفر منها ومستقلة عن إراداتهم، علاقات إنتاج تنسجم مع مرحلة محددة من تطور قوى إنتاجهم المادية”، بما يعني أنه في كل مرحلة من مراحل تطور قوى الإنتاج تدخل علاقات الإنتاج في نمط ينسجم وهذا التطور كما وتدخل في صراع مع علاقات إنتاج سابقة لها لتحلَّ محلها وبالنتيجة أو المحصلة تنهار البناءات الفوقية المتمثلة في الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفلسفية أو البناء الأيديولوجي (العقائدي) للمجتمع مما يدفع بالأخير لتشكيلة اقتصادية اجتماعية جديدة، تنسجم فيها قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ليأخذ، هنا، مفهوم التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية أهمية كبيرة في دراسة المجتمع والتغير الاجتماعي، وينظر إليها على أنها بمنزلة النظام الذي يحدد في كل مرحلة تاريخية معطاة خصائص المجتمع وأبعاده وطبيعة المشكلات التي يعانيها الناس في ذلك الحين، إضافة إلى أنه يحدد أيضًا أنماط السلوك الإنساني وأشكال الفعل التي يمارسها الأفراد في كل مرحلة تاريخية.

إن وجود الإنسان هو الذي يقرر وعيه وليس العكس، هكذا أيضًا تدخل قوى الإنتاج بصراع مع علاقات الإنتاج القائمة أو بصراع مع علاقات الملكية السائدة، حيث ينهار البناء الفوقي بما يمثله من مؤسسات ونظم ومعايير وأخلاق وقيم وثقافة.. لتحلَّ محلَّهُ قيم أخرى، هكذا نلحظ كيف أن الإنسان هو ابن زمانه ومجتمعه وطبقته، كما وأن لكل مرحلة من مراحل التطور هذه، إنسان آخر يختلف إلى هذا الحد أو ذاك عمّا سبقه..

أصل العائلة والملكية والدولة

فردريك أنغلز 1820- 1895

قد لا يختلف مؤلف “أصل العائلة والملكية والدولة”، عن “نشوء الأمم” فيما يسوقه من أدلة على تطور المجتمع، إذ إن كليهما يقران بنشوء الإنسان بالتطور، كقاعدة تبنى عليها مختلف مقولاتهما، بل إننا نذهب للاعتقاد بأن مؤلف “نشوء الأمم” جاء ردًّا مباشرًا على مؤلف “أصل العائلة والملكية والدولة”، ذلك أنه ينهج ذات النهج العلمي في تتبع آثار التطور المجتمعي في الاستقصاء والتحليل والتركيب، وتاليًا بناء النتائج التي يحاول كلاهما الوصول إليها.

في “أصل العائلة والملكية والدولة” يحاول “أنغلز” -معتمدًا على ما ساقه “مورغان(1)” في كتابه “المجتمع القديم” من معلومات حول تطور الحياة الاجتماعية لدى القبائل الهندية في أميركا الشمالية-، الوصول لجملة من النتائج التي تدعم التوجه المادي للتاريخ، من حيث أن كل ظاهرة اجتماعية تحمل في جوهرها تناقضاتها وتاليًا عوامل فنائها، هذا من جهة، أما الوجهة الثانية فتبقى خلاصتها في أن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة كان السبب المباشر في ظهور العائلة الزوجية، وتاليًا ظهور الملكية الفردية ومن ثمَّ الدولة..

يُقَسّم “أنغلز” -كما مورغان- التاريخ البشري إلى ثلاث مراحل هي الوحشية والبربرية والمدنية، وكل من المرحلتين الأوليين إلى مراحل ثلاث، دنيا ووسطى وعليا وكل من هذه المراحل لها نظامها الاجتماعي الذي يميزها عن المرحلة الأخرى..

المرحلة الوحشية الدنيا: وهي المرحلة التي تظهر “طفولة البشرية”، حيث عاش الإنسان مرحلة أشبه بالحيوانية هائمًا على وجهه متغذيًا بجذور النبات وبعض الثمار البرية، جامعًا وملتقطًا.

المرحلة الوحشية الوسطى: وتُظهر هذه المرحلة تقدمًا ملحوظًا للإنسان قليلًا عما كان عليه في المرحلة السابقة باهتدائه إلى اكتشاف النار واستخدامها في طهو الطعام وإضاءة الكهوف، وبها أيضًا تعرّف الإنسان على أنواع جديدة من الأطعمة كاللحوم والأسماك.

مرحلة التوحش العليا: وفيها اخترع الإنسان القوس والسهم مما ساعده على تغيير غذائه واقتصاده بشكل عام، حيث أصبح صائدًا للحيوانات معتمدًا على لحومها، وفي هذه المرحلة كان الانتقال إلى كون الإنسان منتجًا لغذائه، هكذا يمكن القول إن انتقال الإنسان لهذه المرحلة الإنتاجية يتقدم خطوة أخرى إلى شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي والديني.

المرحلة البربرية الدنيا: في هذه المرحلة تمت صناعة الفخار، وهي المقدمة الأولى للصناعات اللاحقة وتاليًا نشوء الجماعات الاجتماعية.

المرحلة البربرية الوسطى: وفيها تمكّن الإنسان من صهر المعادن وصناعة الأدوات المعدنية وبداية اختراعه للكتابة الصورية.

المرحلة البربرية العليا: وفيها توصل الإنسان إلى المرحلة المدنية التي تميزت باختراع الحروف الهجائية والكتابة، وهي المرحلة التي ما زالت ممتدة حتى الوقت الراهن.

ما تقدم، يوجزه أنغلز بالقول: يجب ملاحظة أنه في المرحلة البربرية كان مدى التطور واحدًا في مختلف الشعوب من حيث استخدام الأدوات غير الحجرية واستئناس الحيوان والزراعة، لكن وفيما بعد ذلك، يبدأ الاختلاف بين الشعوب وعلى ما يبدو أن القطعان الحيوانية في المناطق المناسبة كانت دافعًا لحياة الرعي.. وقد تكون الفائدة الغذائية العظيمة للحم واللبن سببًا في تفوق (الآريين والساميين) على غيرهم من الشعوب.. التطور اللاحق كان في استخدام الحديد واختراع المحراث و”اختراع الحروف الكتابية واستخدامها في تدوين الآداب، وفي هذه المرحلة التي امتدت في النصف الشرقي من العالم فقط حدث تطور في الإنتاج يفوق التطور الذي حدث في كل العصور السابقة مجتمعة”، فـ”هوميروس” يخبرنا في أناشيده عن صناعة العجلات وصناعة الزيت والنبيذ وبناء السفن وبدء الفن الهندسي وبناء المدن ذات الأسوار والأبراج.. مما يدعو للاعتقاد بأن ما تقدم كان الدافع لظهور المدنية..

ظهور العائلة والتي بها تبدأ المدنية -وفق أنغلز- نلحظ أنها تتكون من أب وأم وأولاد.. وتختلف فيها القرابة بين أبناء الأخوة والأخوات.. وقد تتشابه في مجتمعات وتختلف في مجتمعات أخرى.. وهي تعبّر عن البعد والقرب من الشخص والمساواة من عدمها في علاقات روابط الدم ونظام القرابة، وهذا بطبيعة الحال ليس مجرد تنوع، إنه يحمل في طياته كيفية تكوّن النظام الاجتماعي لتلك الشعوب.. يقول ماركس “وبينما تستمر العائلة في تطورها فإن نظام علاقات الدم يصبح جامدًا، وبينما يستمر نظام علاقات الدم موجودًا في شكله العادي، فإن تطور العائلة يطوره”، فكيف يمكننا تتبع تشكل النظام الاجتماعي بدءًا من الحالة الحيوانية للإنسان؟ يؤكد أنغلز في إجابته على هذا السؤال بالقول: “إن الرجوع إلى أشكال الزواج لدى الحيوانات للاستدلال بها على الإنسان يؤدي حتمًا إلى الخطأ”، وعلى الرغم من صحة ما يؤكده أنغلز فإن مورغان يذهب بصيغة أخرى للسؤال للقول: “لا بدَّ من افتراض حالة، وإن لم يقم الدليل عليها، اشْتُقَ منها شكل الأسرة في الحالة الوحشية الدنيا وهي حالة “الاختلاط الجنسي” بين أعضاء “القطيع البدائي”، حيث كان الجميع أخوة وأخوات؛ آباء وأمهات؛ أزواجًا وزوجات، ولم يكن للمحارم فيها من وجود مع إمكانية أن نطلق عليها مصطلح “العائلة العصبية”..”، ليتساءل أنغلز: “فماذا تعني المعاشرة الجنسية المختلطة إذًا؟” يجيب أنغلز “لا يمكننا فهم الظروف البدائية إذا نظرنا لها بمنظار البغاء.. لكننا نستطيع تتبع تشكل العائلة من خلال:

1- العائلة المبنية على رابطة الدم، حيث كل الأجيال هي أزواج وزوجات.

2- عائلة “الرفاق الأعزاء” وحيث مُنعت الأصول والفروع من ممارسة العلاقات الجنسية، ومن ثمَّ الأخوة والأخوات الطبيعيون من ممارستها.. نشأت تقسيمات عائلية جديدة، حيث الأخوات مع بنات الأعمام والأخوال والعمات والخالات يشكلن زوجات مشتركات لأزواج مشتركين، ليسوا أخوتهم الذكور، ولا يعتبرون أنفسهم أخوة بل رفاقًا أعزاء.. ويلاحظ أنه بهذا المنع قد قفزت المجتمعات الآخذة بها، بتطورها بخطوات أسرع من تلك التي بقيت فيها العائلة المبنية على رابطة الدم.. ولما لم يكن في هذه الحالة تبين الأب الفعلي للولد، فإن الحالة المقابلة وهي الأم كانت الحالة الحقيقية الوحيدة التي يعزى لها تشكل القبيلة.. حيث يزداد التعاضد والتضامن الداخلي ويأخذ منحى وطابعًا اجتماعيًّا ودينيًّا دفع لتشكل قبائل عدة تشكلت منها العشيرة.. هذا الشكل الجماعي من الزواج هو الشكل الذي انبثقت منه العائلة الزوجية وكان انتشاره في مختلف المجتمعات..

كانت المرأة تشغل منصبًا محترمًا في مختلف مراحل الوحشية والبربرية، وتمثل القوة العليا في القبيلة، لكن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة هو الشرخ الذي وضع حدًّا لاستمرارية العائلة المنتسبة للأم وأنهى حالة الوئام السائدة في القبيلة- العشيرة، فحيث اختصت المرأة بملكية ما هو بداخل المنزل والأولاد، اختص الرجل بما هو في خارجه، أي بتأمين مأكله، وعليه كان لا بد مع التطور الناشئ من الاستقرار والزراعة وتربية الحيوان والرعي من أن ينتقل النسب للأب للحفاظ على هذه الثروة، يقول أنغلز:

” ففي العالم القديم (مثل الآريين في الأرض الهندية ذات الأنهار الخمسة، وأرض القرقيز، ومثل الأوكسوالجاكارتس والجنس “السامي” عند نهري دجلة والفرات..)، حيث اتسع نطاق استئناس الحيوان وازداد عدد القطعان بطريقة جعلتها مصدرًا غير متوقع للثروة، مما سبّب نموًّا في العلاقات الاجتماعية.. إذ وبانتشار تربية القطعان الحيوانية واستخدام المعادن ثم ظهور الزراعة تغير الوضع السابق كلية، فباتت المرأة تُشترى، وحيث إن زيادة القطعان كان بمعدل أكثر من ازدياد أفراد العائلة تم استخدام أسرى الحروب للرعاية.. وحيث إن إنتاج الطعام كان من اختصاص الرجل وتاليًا وسائل إنتاجه، فقد تحطم المجتمع المؤسس على العائلة المكونة من فردين، حيث انتساب لقبيلة الأم وبات من الطبيعي أن ينتسب الأولاد إلى الأب بهدف توريثهم الثروة.. إن هذه الثورة على الانتساب للأم كانت من حيث النتائج من أشد التجارب تأثيرًا في تاريخ الإنسان.. إن إنهاء الانتساب للأم هو الهزيمة التاريخية العالمية للجنس المؤنث.. وما يفسر هذه الهزيمة المنكرة هو معنى العائلة عند الرومان التي كانت تعبيرًا عن “عبد الأسرة” ومن ثم “مجموعة العبيد” ولاحقًا باتت تعني “الميراث الذي ينتقل بوصية”، وأخيرًا كانت تعبيرًا عن تنظيم اجتماعي يفيد “رئيس وتحت سلطته زوجة وأبناء وعبيد”، لذا يقول ماركس: “إن العائلة الحديثة تحتوي على ذرية من العبيد ومن رقيق الأرض لأنها مرتبطة أساسًا بالعمل الزراعي.. لذا كانت العائلة تحتوي بداخلها كل الصراع الذي تطور بعد ذلك على نطاق واسع في المجتمع والدولة”.

2- العائلة الزوجية بالمعنى الحديث

لقد ظهر هذا الشكل من الزواج بين الطور الأوسط من البربرية والطور الأعلى.. (نلفت عناية المتابع إلى أن أسطورة آدم وليليت وحواء التوراتية تعبير عن هذه المرحلة المتقدمة من تاريخ التطور البشري وليست بدايته..)، وترافق هذا الشكل ببروز نظام اجتماعي آخر هو البغاء والخيانة الزوجية والزنا.. حيث تعتبر العلاقات غير المشروعة نظامًا اجتماعيًّا، شأنها في ذلك شأن أي نظام اجتماعي آخر.. “لقد انتصر الرجال على النساء ولكن تتويج المنتصر بالعار قام به المهزوم بشجاعة”، هو ذا الشكل الأول للعائلة المبني على أسس اقتصادية وليست طبيعية.. وهكذا يظل الزواج زواج مصلحة ويتحول في أغلب الأحيان إلى دعارة طائشة.. حيث لم يظهر الزواج باعتباره توافقًا بين الرجل والمرأة بل بصيغة خضوع جنس لآخر.. يقول ماركس: “إن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة، كان الشكل الأول للصراع الطبقي، فقد ظهر بظهور الرقّ والملكية الفردية”.. وهكذا يعتبر الانتصار النهائي للعائلة الزوجية إحدى علامات بدء المدنية..

يضيف أنغلز “إن الانتساب للأب وجمع الثروات الطائلة بقصد توريثها للأبناء، والاختلاف في الثروة خلق الخطوط الأولى للأرستقراطية الوراثية الملكية، والرقّ الذي كان أول أمره محددًا بأسرى الحرب ثم مهد الطريق لاستعباد الزملاء في القبيلة وفي السلالة نفسها وتحوّل الحروب القديمة بين القبائل إلى غارات منتظمة في البر والبحر، من الاستيلاء على الحيوانات والعبيد والنفائس كوسيلة عادية لكسب العيش، كل ذلك كان سببًا في تمجيد الثروة، وتمرد الناس على التنظيمات القبلية القديمة لكي يحلّلوا لأنفسهم سرقة الثروات بالإكراه، وأصبح المجتمع في حاجة قصوى إلى نظام يحمي الملكية الجديدة للأفراد ضد التقاليد الجماعية القبلية؛ ويجعل هذه الملكية مقدسة باعتبارها الهدف الأعلى للمجتمع الإنساني، ويديم التقسيم الطبقي للمجتمع، ويحمي حق الطبقة المالكة في استغلال الطبقة التي لا تملك، ومعنى ذلك أن المجتمع الجديد كان في حاجة إلى ظهور سلطة الدولة، وهكذا اخترعت الدولة”.

تقف الماركسية عمومًا، والمادية التاريخية تحديدًا، موقفًا عدائيًّا من العائلة الزوجية بالمعنى الحديث للمصطلح، إذ تعتبرها مؤسسة قائمة على توطيد الصراع الطبقي في المجتمع باعتبارها تقوم في الجوهر على الملكية الفردية بهدف التوريث، وهي تساهم بطريقة أو بأخرى على تقبل المجتمع لمختلف العادات والتقاليد الإقطاعية والبرجوازية والرأسمالية وفق تسلسلها التاريخي، فهي تقوم كما مرَّ آنفًا، على الرابطة الاقتصادية دون الرابطة الطبيعية يقول أنغلز بهذا الصدد “.. ما نستطيع استنتاجه حاليًّا عن تنظيم العلاقات الجنسية بعد تصفية علاقات الإنتاج الرأسمالي يعتبر استنتاجًا ذا طابع سلبي يحدد ما سيختفي من الزواج، ولكن ما سيزيد من الزواج؟ هذا هو ما سيستقر بعد نمو جيل جديد، جيل من الرجال لم تسنح لهم الفرصة (يقصد في المجتمع الاشتراكي) أبدًا لشراء استسلام المرأة، سواء بالمال أو بأي وسيلة أخرى من وسائل السيطرة الاجتماعية، وجيل من النساء لم يضطررن للاستسلام لأي رجل لأي سبب سوى الحب الحقيقي ولن تخاف المرأة من أن تمنح نفسها لمن تحب خشية النتائج الاجتماعية..” أما مورغان فيشير إلى “.. إن الثقافة الأوروبية الآن تاريخ كتابته “المجتمع القديم” فتمثل المرحلة السابعة (أي بعد المراحل الست السابقة في عصري الوحشية والبربرية) وهي مرحلة انتقالية، بطبيعة الحال، لا بدَّ لها أن تفضي بحكم قوانين التطور الحتمية، إلى بعث الحرية والمساواة والإخاء كما عرفتها العشائر القديمة..

نضيف في هذا السياق، إن ما تنبأ به مورغان وأنغلز، فيما يتعلق بتطور البناء العائلي، أنه خرج على شكله القديم، كزواج اقتصادي خاضع كلية للطقس الديني، إلى ما تم التعارف عليه بـ”الزواج المدني”، حيث المساواة بين المرأة والرجل بكامل حقوق الزوجية بما فيها الإرثية القائمة على الملكية أساسًا، بما فيها الأولاد كشكل من أشكال الإرث، بما يفيد أن التطور الذي رافق العائلة القائمة على الملكية وتاليًا الإرث، لم يكن كما تنبأ به ماركس وأنغلز في المادية الديالكتيكية وتاليًا التاريخية، يضاف إلى ما تقدم ما قاله سعادة من “إن الشيوعية والرأسمالية، صنوان” بما يفيد أن كليهما، وفق المنظور المادي يحملان في ذاتهما عوامل فنائهما إذا ما صح المنطق الديالكتيكي، وهذا ما أثبتته تناقضات الماركسية بشقيها الفلسفي والاجتماعي، بما تعرضت له قبل وفاة أنغلز وبعده بظهور عدة مدارس ماركسية حاولت تكييفها مع الوقائع المستجدة في الحياة الاجتماعية كان أبرزها “الماركسية الإنسانية” للإيطالي “أنطونيو كرامشي 1891- 1937” والمدرسة النقدية وأبرز دعاتها “هربرت ماركيوز وتيودور أدورنو 1903- 1969 وماكس هوركهايمر 1895- 1973” والماركسية الإنسانية والتي صبت جلّ اهتمامها على البناء الفوقي للمجتمع وإعطائه دورًا أكبر مما أعطاه ماركس، حيث لم يعد كافيًا أن تؤمن الطبقة العاملة بالتغيير بل لا بدَّ من إعطاء البناء الفوقي أهمية قصوى نظرًا لاستمرار انتعاش وبقاء النظام الرأسمالي بهدف التنافس الأيديولوجي متناقضة مع المدرسة النقدية التي فقدت كل الأمل بالوضع الثوري للطبقة العاملة، بينما بقيت الماركسية الإنسانية في تفاؤلها…

وفي اعتقادنا أن كلا النظامين مهددان بالتلاشي، ذلك أن سعادة أكد في أربعينيات القرن الماضي “أن الشيوعية والرأسمالية صنوان”.

بناء على مقولة سعادة في “أن الشيوعية والرأسمالية صنوان” يمكننا القول إن المنطق الجدلي، باعتباره منطقًا موضوعيًّا “ماديًّا” يحمل في ذاته تناقضاته، كما في الوجود الموضوعي (الجماد والنبات والحيوان والإنسان)، وتاليًا عوامل فنائه، فإذا ما خرج هذا المنطق عن محتواه، أي إنه لا يحمل في ذاته تناقضاته وتاليًا عوامل فنائه، كان بإمكاننا القول إن هناك ما قد يخرج على هذا المنطق المادي..”.

(1)- لويس هنري مورغان (1818- 1881)

محام وأنثروبولوجي أميركي ومن رواد المدرسة التطورية، اهتم في بداية حياته بدراسة هنود الأيروكيز وغيرهم من سكان الشمال الشرقي الأميركي الأصليين.

(2)- ماكسيميليان كارل إميل فيبر

أو /ماكس فيبر/

1864- 1920

هو عالم اجتماع ألماني، وواحد من علماء الاجتماع الذي شغل مناصب سياسية ومارس التدريس في مجال علومه، من هنا تكتسب أعماله الفكرية مصداقيتها، فهي ناتجة عن ممارسة علومه ميدانيًّا، بل ومستقاة من واقع الحياة العملية.. وإليه تعود تعريفات في علم الاجتماع والسياسة، منها على سبيل المثال لا الحصر: البيروقراطية، وفي كتابه “السياسة كمهنة” يعرّف الدولة بأنها /الكيان الذي يحتكر الاستعمال الشرعي للقوة الطبيعية/.

والفكرة المركزية في فكره كانت “التركيز على العلاقة المتبادلة بين التشكيلات القانونية والسياسية والثقافية في جانب، والنشاط الاقتصادي في الجانب الآخر”. توفي فيبر قبل أن يتم كتابه “الاقتصاد والمجتمع” الذي جُمع بعد وفاته…

ومن أبرز ما كتبه فيبر أو “ويبر” كتاب /الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية/ والذي يجيب به على سؤال مركزي يحمل الكثير من المعاني والتفسيرات وحتى الاجتهادات، وهو -من وجهة نظرنا- سؤالٌ منطقي فرضه واقع لا يمكن نكران نتائجه التاريخية على العالم أجمع:

“لماذا ظهرت الحداثة العلمية والتكنولوجية والبيروقراطية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية فقط؟”، بمعنى آخر: لماذا تطورت العقلانية في هذه المنطقة من العالم أكثر مما حصل في سواها؟

وفق فيبر يأتي الجواب على أنه “إذا كانت الحداثة تعني عقلنة العالم: أي دراسة العالم بشكل علمي، موضوعي، عقلاني لا بشكل غيبي، ميتافيزيقي، خرافي. فالفرق يكمن هنا، بين مجتمعات الحداثة والمجتمعات التقليدية، فهذه الأخيرة تسيطر عليها الرؤيا القديمة المليئة بالخرافات والمعجزات والأساطير. أما في مجتمعات الحداثة فقد تبخرت كل هذه الأساطير والخرافات وتم نزع السحر عن العالم وبدا العالم على حقيقته المادية والفيزيائية والبيولوجية.”.

الفعل الاجتماعي هو الموضوع الأساس لعلم الاجتماع عند ماكس فيبر ولقد عرفه بأنه “صورة للسلوك الإنساني الذي يشتمل على الاتجاه الداخلي أو الخارجي الذي يكون معَبّرًا عنه بواسطة الإقدام أو الإحجام عن الفعل، إنه يكون الفعل عندما يخصص الفرد معنى ذاتيًا معيّنًا لسلوكه، والفعل يصبح اجتماعيًّا عندما يرتبط -المعنى الذاتي المعطي لهذا الفعل بواسطة الفرد- بسلوك الأفراد الآخرين ويكون موجهًا نحو سلوكهم”.

ووفقًا لمنظور فيبر وتعريفه للفعل الاجتماعي، لابد من فهم السلوك الاجتماعي أو الظواهر الاجتماعية على مستويين، المستوى الأول هو أن نفهم الفعل الاجتماعي على مستوى المعنى للأفراد أنفسهم، أما المستوى الثاني فهو أن نفهم هذا الفعل الاجتماعي على المستوى الجمعي بين جماعات الأفراد. ولكي نفهم عمل الفرد وأفعاله أو سلوكه الاجتماعي على مستوى المعنى؛ لابد من النظر إلى دوافع الفرد ونواياه واهتماماته والمعاني الذاتية التي يعطيها لأفعاله والتي لم تكمن خلف سلوكه، أي إنه لابد من فهم معنى الفعل أو السلوك على المستوى الفردي ومن وجهة نظر الفرد نفسه صاحب هذا السلوك وبنفس الطريقة لابد من النظر إلى النوايا والدوافع والأسباب والاهتمامات التي تكمن وراء سلوك الجماعة التي يعتبر الفرد عضوًا فيها. أي إنه لابد من فهم الفعل الاجتماعي على المستوى الجمعي ومن وجهة نظر الفرد كعضو في جماعة.

فهم المعنى أو القصد، في كل ما تقدم هو بيت القصيد عند فيبر والذي يُعرفه بأنه “السلوك في ضوء الغرض والمرمى الذي يسعى إلى تحقيقه الفاعل”.

 يرى ماكس فيبر “إن العالم كما هو ناجم عن الفعل الاجتماعي الذي يقوم به الأفراد لمجرد أنهم قرروا القيام بذلك بهدف تحقيق الأهداف التي يرغبون في تحقيقها نتيجة اختيار أهدافهم مع مراعاة الظروف المحيطة بهم وليتصرفوا بالطريقة التي يختارون أن يتصرفوا بها”، هذا باختصار مفرط محور النظرية الفيبرية في تأكيدها على أن نشوء الرأسمالية لم يكن نتاجًا لتطور قوى ووسائل الإنتاج بقدر ما كان مترافقًا مع تطور الأفكار والمعتقدات.. هكذا يتشكل البناء الاجتماعي نتيجة الفعل الاجتماعي وأساليب المعيشة التي تُعتبر نتاج الاختيار للدوافع التي تدفع لهذا دون ذاك، إن وجود الفعل الاجتماعي يخلق الظروف الاجتماعية المعيقة للقوى البنائية وخاصة الفعل الذي ليس له معنى عقلي في الأصل، فيتم اختيارها في ضوء إدراك الفاعل أو الفعل لهذه المعوقات، من هنا يبدو أن السؤال الأهم في موضوع علم الاجتماع هو: لماذا يقوم الأفراد بالاختيارات التي يقومون بها؟ أي إن على النظريات الاجتماعية أن تُعنى بالمعاني التي وراء الأفعال لا بالنظام الاجتماعي، وهذا ما يميز علم الاجتماع عن العلم الطبيعي مثلًا، فعلماء الأخير لا يمتلكون القدرة على أن يكونوا مكان موضوعهم ليشرحوا سلوكه ويعلّلوه، كذلك فإن على علماء الاجتماع ألا يجعلوا من أنفسهم مكان أي فرد ليشرحوا ويعلّلوا اختياره هذا دون ذاك، لذا فإن على علم الاجتماع أن يستخدم المدى الواسع والشامل لكل المفاهيم التصورية، وأبرزها، وفق فيبر:

(1)- أنماط الفعل

– الفعل التقليدي: بما يعني “أنا أقوم بذلك لأنني دائمًا أقوم به”. وهو سلوك تمليه العادات والتقاليد والمعتقدات السائدة ومن ثم يعبّر عن استجابات آلية اعتاد عليها الفاعل، ولا شك أن ضربًا من السلوك هذا شأنه سوف يظل دائمًا على هامش الفعل الذي توجهه المعاني.

– الفعل العاطفي: بما يعني أيضًا “أنا لا أستطيع التوقف عن القيام بذلك، كل ما أقوم به من أجلك”: وهو سلوك صادر عن حالات شعورية خاصة يعيشها الفاعل، والأمثلة على هذا النمط من السلوك عديدة حينما لايختار المرء الوسائل على أساس صلتها بالغايات أو القيم وإنما باعتبارها تنبع من تيار العاطفة.

الفعل الموجّه قيميًا: “لا شيء آخر مهم، غير ما أهتم به”, وفي هذا النموذج يكون الفرد واعيًا بالقيم المطلقة التي تحكم الفعل، وهي قيم يمكن أن تكون أخلاقية أو جمالية أو دينية ويوصف الفعل بأنه موجه نحو قيمة مطلقة في الحالات التي يكون فيها مدفوعًا لتحقيق مطالب غير مشروطة، ومعنى ذلك أن الاعتقاد في القيمة المطلقة واعيًا ومتجهًا نحوها من أجل ذاتها، خاليًا من أي مطامح خاصة، ولهذا فهو يختار الوسائل التي تدعم إيمانه بالقيمة.

– الفعل العقلاني أو الهدف: -(أفعل هذا لأني محتاج له.)

وهو الفعل الذي له غايات محددة ووسائل واضحة، إذ إن الفاعل يضع في اعتباره الغاية والوسيلة التي يقوم بتقويمها تقويمًا عقليًا، فالمهندس الذي يصمّم مشروعًا معماريًّا والمضارب الذي يحسب ما يعود عليه بسبب مضارباته والقائد الذي يختار أفضل الخطط التي تحقق له النصر كلها أمثلة للفعل الاجتماعي الفعلي.

أنماط عدم المساواة:

هي بالنتيجة وفق قدرات الفرد الذاتية التي تمنحه المهارات (أو اقتناص الفرص) في سوق العمل داخل المجتمع.

(2)- أنماط السلطة: يعتبر فيبر أن السلطة من أكثر العوامل أهمية للفعل الاجتماعي، ذلك أنها تحقيق للشرعية من خلال القوة، لذا كانت أنماط السلطة تدور في مجملها حول المطالبة بالطاعة:

– السلطة التقليدية: أطعني، لأن مختلف الشعوب تفعل ذلك.

– السلطة الكارزمية: أطعني لأنني أستطيع تغير حياتك.

– السلطة العقلانية أو القانونية: أطعني لأنني الرئيس الأعلى بشكل قانوني (شرعي) والمعين عليك.

(3)- النماذج المثالية والتنظيم الاجتماعي:

من وجهة نظر فيبر، لا يستطيع الإنسان أن يلاحظ كل جوانب الحقيقة، فقط ما يستطيعه هو الإحساس بملامح الواقع، أما الحقيقة فهي عبارة عن مجموعة الأحداث الحتمية التي تقع من حولنا، وعليه تبقى مهمة النظريات الاجتماعية هي أن توضح أسلوب اختيار الفرد لهذا دون ذاك وانتقائه لما يفكر به ويستحق اهتمامه، ذلك أن اختياره لما يفكر به يوضح ويشرح تلك الأحداث والأشياء، فالحقيقة الموضوعية غير متاحة في النظريات الاجتماعية، ذلك أن كل المعرفة الخالصة بالحقيقة “أو الواقع الثقافي” هي دائمًا معرفة من وجهات نظر خاصة، طالما أن ما يفكر فيه الفرد يوجد معتمدًا على ما يفكر به في جوهر شيء آخر، من هنا تختلف النظريات الاجتماعية بعضها مع البعض الآخر، وعلى الرغم من أن فيبر يسلط ضوء فلسفته على فلسفته بالذات، بإقراره بأنه لا يعرف الحقيقة حول الواقع أو الحقيقة المطلقة، إلا أنه يعترف بأنه يملك رؤيته الخاصة حولها، وعلى العكس من المادية الديالكتيكية، يؤكد فيبر أن الأفكار والمعتقدات تنشأ أولًا ثم تسمح بعد ذلك بنشأة النظام الاجتماعي. لذا كان الملمح المحدد للنظام الاجتماعي، وتحديدًا النظام الرأسمالي الذي يبقى في حقيقته: كيفية النظر للأشياء..

(4)- الدين والرأسمالية العقلانية:

على ما يبدو فإن السؤال الرئيس الذي كان يدور في خلد فيبر هو: ما تأثير الدين والمعتقدات الدينية على الفعل الاجتماعي؟ وفي إجابته على تساؤله هذا يضع القاعدة الذهبية لما يعتقده: “إن الفعل العقلاني المؤسسي هو فوق كل اعتبار”. فالمشكلة الرئيسية في التاريخ العالمي للحضارة تبقى في كيفية أو طريقة العيش والتصرف، فالرأسمالية الحديثة هي نتيجة العملية العقلانية المتجذرة في التأثير التاريخي للعلاقات الذهنية.. وعليه يتساءل: ما هو السبب في أن المجتمعات غير الغربية لا هي علمية ولا هي فنية ولا هي سياسية وكذلك ليست متطورة اقتصاديًّا؟ مؤكدًا في إجابته على دور القادة الدينيين في تشجيع الأشكال والأنماط والاتجاهات داخل المجتمعات المتخلفة، للإبقاء على تخلفها، بينما في المجتمعات الغربية يبقى التوجه الثقافي العقلاني هو التوجه الذي ينتج حضارة الغرب وتأكيدًا على اتجاهه هذا، يعمد فيبر للمقارنة بين البروتستانتية الكالفانية والكاثوليكية، حيث تشجع الأولى أتباعها على أن يركزوا على الأعمال الدنيوية باعتبارها النشاط ذا الأفضلية العظمى، وفي الوقت نفسه فإنهم كانوا مجهدين ومستنزفين ليعيشوا حياة زاهدة متقشفة مقتصدة، هذه الازدواجية كانت الفرصة الذهبية لتضع الرأسمالية جذورها وتتطور، ولم تكن الرأسمالية الحديثة لتتجذر إلا حيث البروتستانت الكالفانيين، لأن هؤلاء اعتمدوا تعاليم الكالفانية التي تؤكد على أن النجاح في الأمور الدنيوية والتي ترتبط بالعمل ارتباطًا وثيقًا، يُعدُّ دليلًا قاطعًا على أن الشخص الناجح قد أصبح من الذين اختارهم الله وأرشدهم إلى طريق الخلاص، وأيًّا كان العمل، الذي يقوم به الشخص فإنه يُحتم عليه أن يلتزم نظامًا محدّدًا وأن يؤديه بطريقة منتظمة، ذلك أن الكالفانية -وفق فيبر- قد أبرزت قيمة المبادرة الفردية والتقشف والعقلانية في السلوك، أي إنها أبرزت الأفعال الرشيدة في الإنتاج والعمل والتأثير الواقعي في العالم وإدانة تكديس الأموال والبذخ المسرف، وهذه الأفعال تتصف بالعقلانية والتنظيم في مختلف مجالات الحياة من المشروع الاقتصادي إلى العلم.

يمثل ماكس فيبر النزعة الفردية في الحياة الاجتماعية ويبررها باعتبارها مصدرًا من مصادر التغيّر الاجتماعي بما تكتنهه من أفكار ومعتقدات، من هنا يؤكد على أن التحليل الاجتماعي يجب أن يراعي علاقات التباين والقوة والسلطة والصراع والتي يعتبرها أكثر أهمية من العوامل الاقتصادية، كما ويشدد على الأهمية المحورية للأنساق الفكرية كوسيلة للاستمرار والتغيير في الحياة الاجتماعية وتحديدًا ما يتعلق بالعلاقات البنائية ودور الأفكار..

يبدو واضحًا أن الفيبرية لا تهتم بالكيفية التي انتهى إليها المجتمع الحديث إلى ما هو عليه، بقدر ما تهتم بكونه واقعًا حتميًّا علينا تقبله بما نملكه من قدرات فكرية تمتلك المعرفة الخلاقة والتي بها نستطيع بناء حياتنا كما نريد..

عند فيبر كما هو يتصور، يبقى الفرد مقياسًا للحقيقة التي يدركها تلقائيًّا فيما يريد فعله والقيام به، فالفرد يستطيع أن يقارن بناء المجتمعات من خلال فهم تلك الأفعال المرتبطة بالفاعلين الذين يعيشون داخلها الآن، إلا أنه ليس من الممكن تعميم ذلك على كل المجتمعات أو حتى البناءات الاجتماعية..

أخيرًا، تلعب الفيبرية اليوم دورًا مهمًّا في المجتمعات الغربية باعتبارها نظرية تبرر للمجتمع الغربي صرحه الرأسمالي، دون النظر لما يخلّفه من دمار على مختلف المجتمعات في العالم.

(3)- أنطون سعادة 1902- 1949

نشوء الأمم 1936

(دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية)

يجمع سعادة في مؤلفه “نشوء الأمم”، كلٌ على حدة، دوركهام وماركس وفيبر، إضافة لمجموعة كبيرة من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، لذلك فإن البحث في هذا المؤلف العظيم سيكون على نحوٍ مقارن، خلافًا لما سبق في استعراضنا لمؤلفات دوركهايم وماركس وفيبر، وحتى يتسنى لنا البقاء في فلك محور دراستنا هذه /اجتهاد في مصطلح الاقتصاد القومي الاجتماعي/ ومقولتي سعادة “الدورة الاجتماعية- الاقتصادية” و”الإنسان- المجتمع”.

تمهيد:

التطور بما يعنيه من التغيّر أو التبدل أو التكيف أو الانتقال.. وجميعها مرادفات تنحى منحى أن لا شيء يبقى على حاله، بما يعني أن سمة الحياة بأي معنى أُخذت به، تبقى في حركتها تتطور نحو المجهول الذي يدفعنا مرغمين للبحث فيما قد يكون عليه في محاولة لطمأنة أنفسنا لما نحن مقبلون عليه، فإذا كانت هي ذي الحقيقة التي لا جدال فيها، فالسؤال يبقى: لما هو الوجود على هذه الحال غير المستقرة أو القلقة أو المضطربة أو التي لا تهدأ في تبدلاتها وتغيراتها، وهل هي كذلك لأنها في حركتها الدائمة المستمرة نحو المجهول تضعنا أمام تساؤلات لابدَّ من طرحها في محاولة لضبط إيقاع هذه الحركة بما يُطمئننا ويضعنا على طريق الاستقرار لما نحن آيلون إليه؟

لربما كان ما تقدم هو الهاجس الذي شغل فكر مختلف الفلاسفة (بمن فيهم الأنبياء) على مختلف العصور المعروفة، والذين حاولوا بجهد -مشكورٍ لهم- أن يطمئنونا لصيرورة تضعنا أمام حقائق لا بدَّ لنا من تقبلها مهما تكن مواقفنا منها، وفي محاولات الفلاسفة على مختلف ما أثاروه من موضوعات، أبقوا، السؤال، دون إجابة شافية تثلج صدر الإنسان، التائق دومًا إلى الطمأنينة لما قد ينتهي إليه، ذلك أنهم لم يتفقوا على إجابات تتسق إلى حدٍّ ما بعضها مع بعض، بل إننا لنجد أن ما نعانيه في مشكلة الوجود ينعكس في مختلف الإجابات المتناقضة إلى هذا الحدِّ أو ذاك، بما يدفعنا للاعتقاد بأن السياق الحركي للوجود إنما يتجه لما هو مقرر في حقيقته التي تبدو مستعصية على الفهم حتى الآن، ليس لأنها طلسمٌ لا يمكن فكُّ رموزه، بل لأننا لم نفقه بعد كيف نحاوره، أو لأننا نحاول سبر أغواره بأدوات لم تزل بدائية رغم ما نعتقد من أننا بلغنا درجة من الوعي والفهم تمكننا من ذلك.

والحال، فإذا كان ما “يمكن أن يكون” غير متاحٍ لنا بأدواته، فإن “ما هو كائن” يملك أدواته، التي رغم التباس ما فيها من إشكالات، تبقى هي المتاحة لنا في “ما كان”، وعليه، فإننا مطالبون بالتدقيق فيما “ما كان” لفهم الحركة التطورية التي انتهت لما “هو كائن”، فلعلنا نتمكن من صياغة بعضٍ من قوانين التطور التي يمكن لها أن تشكل القاعدة التي لا غنى لنا عنها لضبط إيقاع حركة التاريخ في صيرورته، أي إن علينا استقراء الماضي لمعرفة كيف آل بنا الأمر إلى ما نحن عليه الآن، في محاولة لرسم بعض ملامح الآتي بما قد يساهم في استقرارنا لما نحن آيلون إليه، ما عدا ذلك تبقى إجابة سعادة عليه “من يدري؟” في ذمة الآتي المستقبل، دون أية حتمية تنبّؤية، على نسق الماركسية والأديان.

فعلى الرغم مما أصاب الماركسية من تراجع سياسي إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، فإنها لما تزل قائمة بصيغتها “الماوية” في الصين، وبعض البلدان الأخرى، وفي مقدمتها كوبا، بل ومنافسة قوية للغرب الأوروبي والأميركي بقوة لم يعهدها الأخير من قبل، وإن ما قيل ويقال عنها من أنها انتهت بانتهاء السوفييت ليس سوى ذرٍّ للرماد في العيون، فما يخشاه الغرب ليس سواها ممثلة بالاقتصاد الصيني وبالمقاومة التي أبدتها كوبا لأكثر من نصف قرن لمحاولات الغرب بشقّيه إسقاطها.. من هنا فنحن في مقاربتنا للماركسية والقومية الاجتماعية نبقى في “ما هو كائن” في ضوء “ما كان” وليس في “ما قد يكون”.

سبق وأشرنا إلى أن الخلاف الفلسفي بين ماركس وسعادة يكمن في ثنائية ماركس وثلاثية سعادة، ونضيف هنا، بما يتعلق بحركة التاريخ البشري، بين الثابت والمتحول والتابع، حيث يكمن الخلاف بأجلى مظاهره.

وعلى الرغم من هذا الخلاف الجوهري، فلا شك أن هناك كثيرًا من النقاط التي يلتقيان فيها:

1- حيث تؤكد كلتا النظريتين على وحدة الوجود بشقيه المادي والإنساني، إذ إن مصطلح /المدرحية/ “1” الذي يستخدمه سعادة في التعبير عن فلسفته، يدلُّ دلالة واضحة على أن الوجود بشقيه المادي والنفسي هو في وحدة لا تنفصم عراها رغم مختلف تجلياته التي تبدو في ظاهرها مغايرة بعضها لبعض.

كذلك الماركسية، عندما تقرّ بأن الوجود “كيان كليّ مرتبط ارتباطًا لا ينفصم تكون فيه الأشياء والظواهر مرتبطة ارتباطًا عضويًّا وتعتمد إحداها على الأخرى وتقرر إحداها الأخرى”.

2- أيضًا، من حيث أسبقية الوجود على المعرفة يقول سعادة: “إنّ المادّة تعيّن الشّكل”، ويضيف “لا يمكننا أن نتصور وجودًا بلا معرفة. فلا يمكننا أن نقول إن لأي وجود مفترض، غير مدرك بالمعرفة، قيمة الحقيقة، لأن الحقيقة قيمة إنسانية نفسية والإنسان هو وحده الذي يميز بين الحقيقة والباطل (الوهم) بالمعرفة..”، وفي ذات الاتجاه تؤكد الماركسية على أنه “ليس وعي الإنسان ما يقرر وجوده، بل، على العكس، وجوده المادي هو الذي يقرر وعيه”.

3- تذهب النظريتان على أن فكرة الخلق المستقل والمباشر لا تقدم الدليل اللازم والكافي على كيفية ظهور الإنسان، بل وإن ما تقدمه من بيّنات في هذا الصدد قد أثبت العلم بطلانه بطلانًا مطلقًا، يقول سعادة: “أمّا أنّ الإنسان نشأ بالتّطوّر فما لا جدال فيه وأمّا كيفيّة حدوث التّطوّر، أكان بتجمّع تغيّرات بطيئة تحت تأثير البيئة المتطوّرة أم بالتّغير الفجائيّ استعدادًا للدّخول في بيئة جديدة فممّا لم يتّفق عليه العلماء لحاجتهم إلى استكمال اختباراتهم. وقد كانت النّظريّة الأولى القائلة بالتّغير البطيء وفاقًا للانتخاب هي السّائدة. ولكنّ نفرًا من العلماء الحديثين يعتقدون بسبق التّطوّر لموافقة البيئة وبحدوثه دفعة واحدة”، أما الماركسية فتنهي الجدال في هذا الموضوع بالقول: “الإنسان، كله نتاج عملية تطور كانت في تقدم ملايين السنين”.

4- إذا كان الإنسان قد نشأ بالتطور، فمراحل هذا التطور تبدو واحدة في كلتا النظريتين، فسعادة يقول بالمرحلة المتوحشة أو البدوية ومن ثم بالمرحلة السابقة للعمران، وأخيرًا المرحلة العمرانية، في الماركسية نجد المرحلة الوحشية ومن ثم المرحلة البربرية وأخيرًا المدنية.

5- تكاد العيّنات التي تقدمها كلتا النظريتين في مختلف مراحل التطور أن تكون واحدة، حيث الإنسان لاقط ثمار وجذور نباتات ومن ثم صياد مكتشف للنار مستأنسًا بها بعض الحيوانات، مستقر في الأرض حيث مقومات الحياة أوفر، مخترع للمحراث وزارع، حيث وفرة الإنتاج أدت لاختراع العجلات، ناطق مخترع للكتابة متقدم في الصناعة ومن ثم للتجارة…

6- تتفق النظريتان على أهمية العامل الاقتصادي في الحياة الاجتماعية بمختلف مراحلها، يقول سعادة: “لا بدّ لنا.. من تقرير حقيقة ضروريّة لفهم تركيب المجتمع والأحوال الاجتماعيّة على إطلاقها وفي أكثر أشكالها تعقيدًا، هي حقيقة الضّرورة الاقتصاديّة للاجتماع البشريّ. فالرّابطة الاقتصاديّة هي الرّابطة الاجتماعيّة الأولى في حياة الإنسان أو الأساس الماديّ الّذي يقيم الإنسان عليه عمرانه..”، ويضيف: “فالاقتصاد هو نقطة الابتداء في بحث حالات الاجتماع، حتّى إنّنا نرى الحالة الاقتصاديّة تؤثّر على الحالة البيولوجيّة أحيانًا. والتّطوّر الاجتماعيّ هو دائمًا على نسبة التّطوّر الاقتصاديّ..”، يتابع مؤكدًا: “إنّ رابطة الإنسان الاجتماعيّة الأولى هي الرّابطة الاقتصاديّة”. أكثر من ذلك يصرّ على أن “الرّابطة الاقتصاديّة أساسٌ للرّابطة الاجتماعيّة البشريّة..”، إنّه إذا كانت الرّابطة الاقتصاديّة أساس الرّابطة الاجتماعيّة البشريّة، فالعمل ونظامه التعاونيّ مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع..”.

ونجد في الماركسية الاتجاه ذاته يقول ماركس: “- وكيفما يكون أسلوب إنتاج مجتمع ما، هكذا يكون، بصورة أساسية، المجتمع نفسه، آراؤه ونظرياته، وجهات نظره السياسية ومؤسساته السياسية- أو، لوضع ذلك بمزيد من البساطة، كيفما يكون أسلوب حياة الإنسان، هكذا يكون أسلوب تفكيره.

هذا يعني أن تاريخ تطور المجتمع هو قبل كل شيء تاريخ تطور الإنتاج، تاريخ أساليب الإنتاج التي خلف أحدها الآخر.

إن مفتاح دراسة قوانين تاريخ المجتمع يجب ألا نبحث عنه في أدمغة الناس، في نظرات آراء المجتمع، بل في أسلوب الإنتاج الذي مارسه المجتمع في أية فترة تاريخية، علينا أن نبحث عنه في الحياة الاقتصادية للمجتمع.

ولهذا فإن المهمة الرئيسة لعلم التاريخ هي دراسة وكشف قوانين الإنتاج.

(1)- تطور قوى الإنتاج.

(2)- وعلاقات الإنتاج.

(3)- قوانين تطور المجتمع الاقتصادي.

– فقوى إنتاج المجتمع تتغير وتتطور أولًا، ثم، استنادًا إلى هذه التغيرات، وبالانسجام معها، تتغير علاقات الناس الإنتاجية، علاقاتهم الاقتصادية.

“من لايعمل لا يأكل”.

العلاقات الاجتماعية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقوى الإنتاج. بالحصول على قوى إنتاج جديدة يغير الناس أسلوب إنتاجهم؛ ويتغير أسلوب إنتاجهم، بتغيير طريقة الحصول على رزقهم، يغيرون جميع علاقاتهم الاجتماعية. فالرحى تعطيك مجتمعًا مع السيد الإقطاعي، والطاحونة البخارية تعطيك مجتمعًا مع الرأسمالي الصناعي”.

إن الإنتاج الاقتصادي في كل عصر تاريخي نشأ عنه بالضرورة تركيبة اجتماعية.

ولا تقف نقاط التوافق بين النظريتين عند هذا الحد، إذ إن هناك من التفصيلات التي تكاد تكون واحدة فيهما، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول أنغلز في أصل العائلة والملكية والدولة: “وبقدر ما يكون العمل غير متطور وبقدر ما يكون نطاقه محدودًا، أي بقدر ما تكون ثروة المجتمع محدودة، بقدر ما يظهر النظام الاجتماعي المحكوم بالروابط الجنسية..”، ويوافقه سعادة بقوله: “كانت القرابة الدّمويّة الوسيلة الأوليّة لتطبيق المبدأ الاقتصاديّ للاجتماع.. أمّا حيث لا تتوفّر هذه المقوّمات فالحالة الابتدائيّة تسود ويظلّ الاجتماع قائمًا على أساس الرّابطة الدّمويّة الّتي تقتصر على أنواع من الحياة محدودة ولا أمل لها بالارتقاء في مثل هذا النّظام”.

“1”- “المدرحية”- مصطلح ابتكره الشاعر رشيد سليم الخوري واستحسنه سعادة في التعبير عن مضمون ومحتوى وجوهر فلسفته الاجتماعية.

.. لكن، وعلى الرغم من التوافق الكبير بين المادية الديالكتيكية التاريخية والقومية الاجتماعية، يبقى جوهر الخلاف فيما سبق وأشرنا إليه أكثر من مرة، ألا وهو ثنائية المادية الديالكتيكية التاريخية وثلاثية القومية الاجتماعية، والتي تشكل ثلاثية سعادة ميدان الماركسية الفعلي، حيث نجد المبادئ الثلاثة التي تقيم عليها الماركسية بناءها الفكري، ونقصد: (1) من الكم إلى الكيف، (2) التناقض جوهر حركة المادة، (3) نفي النفي، أيضًا مبادئ الصراع الطبقي وهي: (1) قوى الإنتاج، (2) أدوات الإنتاج، (3) علاقات الإنتاج (أسلوب الإنتاج). وعند أنغلز: (1) العائلة، (2) الملكية، (3) الدولة.

وبناءً على ما تقدم، يبقى الخلاف قائمًا في كيفية فهم هذا السياق التطوري للمجتمع البشري.

ولا بدَّ لنا، وقبل الولوج لمعترك هذا الاختلاف من التنويه لبعض ما لفت إليه سعادة في دراسته للتطور البشري، وما هي نقاط ارتكاز عدم التوافق في النتائج التي توصلت إليها كلتا النظريتين..

يتوافق كل من أنغلز وسعادة على أنه لا يمكن تعميم ما في عالم الحيوان على ما في عالم الإنسان يقول أنغلز: “إن الرجوع إلى أشكال الزواج لدى الحيوانات للاستدلال بها على الإنسان يؤدي حتمًا إلى الخطأ”، ويؤكد ذلك سعادة بقوله: “وإذا كان الإنسان يقع، من الوجهة الإحصائيّة، في جدول الحيوانات المتجمهرة، فلا يعني ذلك بوجه من الوجوه أنّ بينه وبين الحيوانات والحشرات المذكورة قرابة اجتماعية تمكّن من استخراج أقيسة عامّة تطبّق على كلا الحيوان والإنسان..”، هنا لا يقف سعادة عند هذا الحد بل يتابع تحليله لما يمكن استخراجه من المرحلة الحيوانية التي كان بها الإنسان قبل أن يصبح كذلك، متفقًا مع مورغان في ضرورة أنه “لا بدَّ من افتراض حالة، وإن لم يقم الدليل عليها، اشْتُقَّ منها شكل الأسرة في الحالة الوحشية الدنيا وهي حالة “الاختلاط الجنسي” بين أعضاء “القطيع البدائي..”، هذه الحالة التي يفترضها مورغان، يتوغل بها سعادة لأنها تحمل خصائص ميّزت الإنسان عن الحيوان ومكنته من الانتقال لحالة متقدمة عليه، يقول: “فإنّ خصائص الإنسان الفيزيائيّة، كانتصابه على قدميه الّذي أطلق ليديه حريّة الاستعمال، تؤهّله للانفراد أو الازدواج في حفظ نوعه بما تجعل له من الامتياز والأرجحيّة على خصومه. فليس الاجتماع البشريّ، إذًا، من الضّرورات البيولوجيّة لحفظ النّوع وفاقًا لطبيعة الحال، كما هو شأن الحشرات المتجمهرة”، هكذا يرى سعادة أن انتصاب الإنسان على قدميه مكّنه من استخدام يديه في تحصيل قوته مداورة بصناعة أدواته (وسائل إنتاج)، وهي الخاصة التي فصلته عن مرحلته الحيوانية بالتأكيد، وهذه ميزة كان الأجدر بأنغلز ومورغان التنبه لها، لما لها من تأثير على مستقبل إنجازات الإنسان في مرحلته الوحشية الدنيا وفق أنغلز، والتي نوّه لها دون بيان أسبابها.

مسألة أخرى يجدر لفت النظر إليها، وهي أن أنغلز يغرق في بحث عيّنات من أشكال العائلة لدى مختلف الشعوب، مستندًا لمصطلح لم يسعَ للدلالة عليه، وهو مصطلح السلالة، إذ إن كتاب “أصل العائلة والملكية والدولة” يتمحور كلية حول تطور شكل العائلة لدى سلالات “الإروكيوسية والإغريقية” ويربط بين السلالة والدولة في روما وكذلك بين السلالة عند السلتس والألمان، دون بيان مدلول مصطلح “السلالة”، فماركس يقول “إن الإغريق كانوا يعتبرون سلالاتهم أثرًا من علم الخرافات (بدليل نسبتها إلى أحد الآلهة الذي يعتبرونه أصلًا لها) فإن السلالات كانت أقدم من علم الخرافات بآلهته وأنصاف آلهته التي خلقوها هم بأنفسهم”، مما يعني أن ماركس أخذ مصطلح السلالة على محمل ما هو متفق عليه من نسبتها إلى أبٍ أو أمٍ واحدة، وعلى ما يبدو، من كتابات أنغلز في “أصل العائلة والملكية والدولة” أنه لم يميز بين السلالة كمصطلح لمدلول الأصل الواحد -أبًا كان أم أمًّا- ومدلولها العلمي من جهة؛ والموقف منها من جهة أخرى، بل يكتفي بما قد تدلُّ عليه مصطلحات العيّنات التي يأخذها من مختلف القبائل، فعند الهنود الأميركيين، يقول أنغلز: “كانت الأخوّة بمثابة السلالة الأم، وتنقسم إلى عدة فروع بمثابة بنات لها وتوحدهم في نفس الوقت نتيجة الأصل المشترك”، باحثًا عن المبدأ الاقتصادي الذي يعتبر فيه العائلة الركن الأساس في ظهور الملكية الفردية ومن ثم الدولة، ويصب جام سخطه على هذه الثلاثية /العائلة والملكية والدولة/، بينما نجد سعادة يقف بداية لتعريف السلالة ومن ثم يستعرض نظرياتها لدى الإنكليز والألمان والفرنسيين والبلجيك ومختلف العقائد السلالية الأخرى، ويخلص من استعراضه لتعريف هذا المصطلح كما هو سائد لدى القائلين به والمدلول العلمي لهذا المصطلح، فكما هو سائد يدلُّ المصطلح على “الانتساب لأب واحد متفرع من أبناء نوح، أو كما روى المسعودي مستندًا إلى ما جاءت به الشريعة ورواه الخلف عن السّلف والباقي عن الماضي، وهو أنّ السّبب في اختلاف ألوان البشر يعود إلى أنّ ملك الموت الّذي أرسله اللّه أخيرًا ليأتيه بطين من الأرض يخلق منه آدم أتاه بتربة سوداء وحمراء وبيضاء فلذلك اختلفت ألوان ذرّيّته. وعلى هذا لا يكون البشر إلاّ ذرّيّة تربطها الأنساب..”، لكن الواقع غير ذلك، يقول سعادة، لأنه “إذا تركنا وجهة التّخمين والتّقديرات التّخيّليّة في الفوارق الظاهرة في جماعات النّوع البشريّ وبحثنا عن مدلول كلمة [السّلالة] العلميّ، وجدنا أنّ هذه اللّفظة هي من مصطلحات العلم الطّبيعيّ. والغرض منها تقسيم النّوع الواحد إلى فروع (أجناس) تتوارث صفاتها ومزاياها الخاصّة، أمّا النّوع فيقصد منه تحديد الكائنات الحيّة الّتي ينتج تزاوجها نتاجًا ناجحًا وتكون له ذات المقدرة بلا حدود. فالأجناس تقبل الاختلاط والتّزاوج والإنتاج ويمتنع ذلك في الأنواع إلاّ شذوذًا نادرًا”. ما يخلص منه سعادة وأغفله مورغان وكذلك أنغلز هو “المزيج السلالي” الذي يقول به سعادة وعليه يبقى أن لا سلالات يمكن ردّها إلى أب واحد أو أم واحدة كما لا يمكن أن توجد سلالات نقية خالصة فالارتحالات التي انتهت بالجماعات إلى بيئات تمكنها من الاستمرار في حياتها والحروب وكذلك الزواج، كلها ساهمت في تكوين مزيج سلالي قد يبدو منحطًّا في جماعات وراقيًا في جماعات أخرى، مقتبسًا من ابن خلدون مقولته الشهيرة “النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر” هذا هو كل ما في الأمر، إن ما نحن عليه اليوم هو مزيج سلالي متجانس في بعض الشعوب منحط في أخرى، كما يؤكد سعادة.

هكذا نصل إلى أهم ما في موضوع الخلاف بين النظريتين، أي علاقة الإنسان بالأرض التي يحيا عليها، وهي العلاقة التي تتغاضى أو تتجاهل الماركسية الخوض بها وتركز على نتائجها، أي على أهمية قوى الإنتاج وأدواته وأسلوبه، أي على التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية والتي تقيم عليها مراحل التطور الاجتماعي (المجتمع القديم المشاعية الإقطاعية البرجوازية الرأسمالية).

والجدير بالتنويه في مجال هذه الدراسة أن نشير إلى أن الخلاف الفلسفي بين ماركس وسعادة يظهر هنا بأجلى مظاهره، فالعلاقة الحاكمة لما سيأتي تبقى العلاقة بين “الثابت والمتحول والتابع” ثلاثية لا ينفك سعادة في التأكيد عليها في العلاقة بين الإنسان وبيئته “المحيط الجسم النفس”.

فعلى الرغم من إقراره بأن “كل شيء يعتمد على الظروف والزمان والمكان -ثلاثية لم يتنبه لها ستالين- في كتابه “المادية الديالكتيكية”، يتساءل في شرحه لمقومات المادية التاريخية قائلًا: “فما هي “ظروف حياة المجتمع المادية” وما هي معالمها المميزة؟ ليجيب:

“لا شك أن مفهوم “ظروف حياة المجتمع المادية” تتضمن قبل كل شيء الطبيعة المحيطة بالمجتمع، البيئة الجغرافية، وهي أحد الظروف التي لا مفر منها والدائمة في حياة المجتمع المادية، والتي تؤثر طبعًا على تطور المجتمع. فما هو الدور الذي تلعبه البيئة الجغرافية في تطور المجتمع؟ هل البيئة الجغرافية هي القوة الرئيسية التي تقرر ملامح المجتمع، طابع النظام الاجتماعي للإنسان، والانتقال من نظام إلى آخر؟

إن المادية التاريخية تجيب على هذا السؤال بالسلب.

فمما لاشك فيه أن البيئة الجغرافية هي أحد الظروف الدائمة التي لا مفر منها في تطور المجتمع، وتؤثر طبعًا على تطور المجتمع وتسرع أو تؤخر تطوره. إلا أن تأثيرها ليس تأثيرًا مقررًا طالما أن تغيرات وتطورات المجتمع تجري أسرع بما لا يقاس من تغيرات وتطورات البيئة الجغرافية”.

“إن البيئة الجغرافية لا يمكن أن تكون السبب الرئيس، السبب المقرر، في التطور الاجتماعي، إذ إن ما يبقى غير متغير تقريبًا في مضمار عشرات الألوف من السنين لا يمكن أن يكون سبب التطور الرئيس فيما تطرأ عليه تغييرات أساسية خلال بضع مئات من السنين”.

وإن كان أنغلز يتفق وستالين في مدى تأثير البيئة الطبيعية، لكنه ينحو في كتابه “أصل العائلة والملكية والدولة” منحىً آخر، فيعترف بشكل غير مباشر بنقيض ما ألمح إليه ستالين، فيقول “.. وكان هذا الاختلاف الطبيعي في الظروف أن سار سكان كل قارة في طريق مختلف واختلفت الحدود المميزة للمراحل المختلفة في كل قارة.. وقد كان تكوين القطعان الحيوانية في الأماكن المناسبة لذلك سببًا في حياة الرعي عند الجنس السامي في السهول المليئة بالحشائش عند نهر الفرات.. وقد تكون الفائدة العظيمة للحم واللبن وخاصة في تنمية الأطفال سببًا في تفوق الآريين والساميين (الآسيورية عند سعادة) على غيرهما من الأجناس.. كما وأن اختراع الحروف الكتابية واستخدامها في النصف الشرقي فقط من العالم واستخدامها في تدوين الآداب.. أحدث تطورًا في الإنتاج يفوق التطور الذي حدث في كل العصور السابقة مجتمعة.. في العالم القديم، حيث اتسع نطاق استئناس الحيوانات وازداد عدد القطعان بطريقة جعلتها مصدرًا غير متوقع للثروة.

إن الشعوب المتقدمة المسيطرة، مثل الآريين في الأرض الهندية ذات الأنهار الخمسة وأرض القرقيز.. والجنس السامي عند نهر دجلة والفرات، أصبح في استطاعتها أن تملك قطعانًا تتطلب رقابة وعناية حتى يزداد عددها وتستخرج منها الألبان واللحوم الوفيرة.. بطريقة جعلتها مصدرًا غير متوقع للثروة، مما سبب نموًّا في العلاقات الاجتماعية.. وبانتشار القطعان الحيوانية واستخدام المعادن والزراعة تغير الوضع كليّةً.. إذ أصبحت هناك حاجة لمزيد من الأفراد للعناية بأمر القطعان وأصبح ممكنًا أن يؤدي أسرى الحروب هذا الغرض، بل أصبح في الإمكان تربية أسرى الحرب كالقطيع نفسه (العبيد أو الرق في المفهوم الماركسي).. فقد كانت هذه الثروات المملوكة للعائلة سببًا في تحطّم المجتمع القائم على عائلات مكونة من فردين وقبائل منتسبة للأم.. لذلك فعندما ازدادت الثروة الحيوانية، المملوكة للرجل أعطته مكانة أكثر أهمية من المرأة.. وأصبح الانتساب للأب هو السائد، مما سهل هذا التغيير، إن هذه الثورة على الانتساب للأم تعتبر من إحدى التجارب الشديدة التأثير في تاريخ البشرية..”، فالبيئة الطبيعية تؤثر تأثيرًا كبيرًا، وفق أنغلز ليس على تقدم وتأخّر المجتمعات وحسب، بل في الانتقال من أسلوب إنتاج لآخر، متفقًا مع سعادة كل الاتفاق كما سيأتي..

إن المبدأ الفلسفي الذي ينطلق منه سعادة هو: “إن المادة تعين الشكل”، وعليه يبني موقفه من البيئة الطبيعية، هذا الموقف ينطلق أيضًا من العلاقة بين الثابت والمتحول والتابع، معتبرًا أن الثابت الذي يلعب دورًا قياديًّا هو البيئة، أما المتحول فهو المجتمع الذي لا بدَّ له من التكيف باستمرار مع خصائص بيئته، أما التابع فهو الفرد الذي يبقى في الدائرة التي وجد فيها والتي تضطره في مجرى حياته للتكيف مع هذين القطبين اللذين يحددان له منحى هذا المجرى، ولا ينسى سعادة أن هذه العلاقة تبقى في حركتها من حيث تبادل عناصرها مركز القيادة فيها على الرغم من تبوّئ البيئة مركزًا متقدمًا فيها يقول: “فالأرض تكيّف الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل ويكيّفها.. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة. وفي الوقت الّذي يسعى هو لتكييف الأرض لتوافق حاجاته الحيويّة يجد نفسه مضطرًّا لتكييف حاجاته حسب خصائص الأرض النّازل فيها”. ولما “لا توجد مادّة واحدة تمدّ الطّبيعة بها إمدادًا مستمرًّا..” كان على الإنسان أن يتكيف وخصائص الأرض، البيئة، ذلك أن “هذه الخصائص هي الّتي تعيّن وجهة تقدّم الإنسان في سدّ حاجاته مداورة- أي مدنيّته..”، ذلك أنها كانت السبب في توزع البشر جماعات “فلو أنّ الأرض كانت سهلًا منبسطًا في درجة واحدة من الحرارة والرّطوبة، خاليًا من الحدود الجغرافيّة من صحارى وجبال وأنهار وبحار، لكان من البديهيّ أنّ يؤدّي انتشار النّوع البشريّ فيها إلى إنشاء جماعة واحدة كبيرة ولكنّ الحدود الجغرافيّة الطّبيعيّة جعلت انتشار الإنسان في الأرض موافقًا للبيئات الجغرافيّة..”، التي يختلف بعضها عن البعض الآخر وفق طبيعة الحال، هذا الاختلاف هو الذي ميّز الجماعات يقول: “تميّز البيئة الجماعة بما تكسبها من لون وشكل وبما تمدّها به من الموادّ الخام لسدّ حاجاتها الحيويّة من غذاء وكساء وبناء وأدوات. فمدنيّة الجماعة المستقلّة مستمدّة من بيئتها لأنّ الاستنباط والتّكييف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص البيئة الطّبيعيّة، موافقين لها..”، فالمادة كما أسلفنا هي التي تحدد الشكل، هكذا تتمايز الجماعات أو المجتمعات بعدما تكون “الجماعة” -بعامل الزمن- قد اكتسبت خصائص بيئتها وتمازجت أصولها وفروعها وتماهت في بيئتها، فأضحت مجتمعًا له خصائصه.

إن السؤال الذي نحاول الإجابة عليه هو: ما تأثير البيئة الجغرافية على تطور المجتمع؟

تلتف المادية التاريخية على تأثير البيئة بالسؤال عن المتغير (المتحول) في العلاقة المشار إليها ماركسيًّا (الظروف، الزمان، المكان) والدور الرئيس أو المقرر في تطور المجتمع وطابع النظام الاجتماعي وأيضًا في الانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى، دون أن تتنبه للفارق بين الثابت (المكان- البيئة) والمتحول أو المتغير (الظروف- الزمان- “المجتمع”) وتخلط بينهما في المدى الزمني، ودون أن تتنبه أيضًا لموضوعيَّتهما، أي كونهما موضوعين “ماديان” في المفهوم الماركسي، أي إنهما خارجان على إرادة ورغبة وإمكانية المجتمع في المدى الزمني، فالجماعة المجتمع، بتتابع أجياله، يتغير تحت تأثير الثابت المكان، أو كما يقول سعادة: تُعدُّ “البيئة الفوارق الشكلية للجماعات البشرية، وأن الترابط بين البيئة والجماعة في أنواع الحياة وفوارق الأشكال ومميزات العمران والاتجاه التمدني، قويٌ جدًا.. إنّ البيئة تؤثّر، في الغالب، على أشخاص مختلفين تأثيرًا يؤدّي إلى اتجاه واحد بناء على أنّ لكلّ عضو [حدود سلامة] يتكيّف ضمنها تبعًا لمقتضيات البيئة، فيتّخذ الهيئة الّتي تتطلّبها عوامل البيئة دون أن يفقد خصائص وظيفته..” وعليه كان أخذه بعامل الامتزاج بين الأقوام النازلة -بسبب ارتحالاتها- في بيئة محددة المعالم، وبالطبع تحت تأثير عامل الزمن، وقوله أيضًا باختلاف الجماعات بناء على هذا التأثير، فالتطور هنا، وكما أشرنا سابقًا، يعني التغير والتبدل والتكيف، فلا بدَّ إذًا من أن تتكيف مختلف الجماعات مع الظروف (الخصائص البيئية) الجديدة عبر الزمان- (التاريخ) والتي خضعت لها في هذه البيئة أو تلك، وتتحدد صفاتها وخصائصها تبعًا لذلك، فإذا كانت البيئة الجغرافية، وفق ستالين “تؤثر طبعًا على تطور المجتمع وتسرع أو تؤخر تطوره..”، فالسؤال: كيف يتم ذلك إذا كان ما تحتاجه هذه (لتتغير) آلاف السنين؟ بينما المجتمع يتغير في بضع من مئات منها؟ كيف تُسرَّع أو تُبطئ البيئة التطور طالما أنها ثابت لا تتغير، إذا ما كان المقياس هنا، هو التغير أو المدى الزمني سريعًا كان أم بطيئًا؟

لا شك أننا هنا وقبل الإجابة على ما تقدم، بحاجة للتنويه لمصطلح “بيئة”، حيث يبقى في ذهن القارئ أن المصطلح لا يدل على وحدة خصائصها أو يلغي اختلافها وتباينها وتاليًا تبيان إمكاناتها أو بمعنى آخر ثرواتها الباطنية وغيرها من حيث إمكانية زراعتها من جهة أو أهليتها للرعاية مثلًا، وعليه، فإن الجماعات النازلة بها تكتسب شخصيتها مما هي عليه بيئتها، يقول سعادة “إنّ من أهمّ مؤثّرات البيئة أو الأرض في تمييز الجماعات أنّها أهمّ عامل في تكوين [شخصيّة الجماعة]. والسّبب في ذلك هو الارتباط الوثيق المولّد حقّ الوراثة واستمرار التّشابه الشّكليّ..”.

يسهب سعادة في الإجابة على التساؤلات المتقدمة في بيان العلاقة بين الثابت والمتحول يقول: “إنّ تأثير امتلاك أرض أو عقار (ثابت، وفق سعادة بحق الوراثة) في شخصيّة الممتلك (متحول متغير أيضًا بموجب حق الوراثة) شديد جدًا..” -بغض النظر عن الموقف من الملكية وكذلك الوراثة باعتبارهما جانبًا من جوانب الطابع الاجتماعي الذي سارت عليه مختلف الجماعات البشرية-، يتابع قائلًا: “.. إنّ الملك قد يكون أهمّ ما في الشّخص المالك، بل أهمّ منه، لأنّ الشّخص زائل والملك هو الباقي على التّوارث.. حتى إذا زال من يديه تغيّرت شخصيته ورتبته. هكذا، مثلًا، حدث لأمراء الرّوس حين جرّدتهم الثّورة البلشفيّة من أملاكهم فخرجوا إلى العالم سائقي سيارات وخدمًا بعد أن كانوا أمراء. وهكذا الجماعات شخصيّاتها مرتبطة بالأرض الّتي تملكها ارتباطًا وثيقًا، بل قوام شخصيّاتها البيئة. الوطن”. من هنا كان الاختلاف بين الجماعات البشرية، فقد تختلف البيئات اختلافًا حديًّا كالبيئة السورية وشبه جزيرة العرب- مما يؤدي بطبيعة الحال لاختلاف حديٍّ أيضًا في طابع النظام الاجتماعي، ناتج عن العلاقة بالأرض، إذ يستحيل أن يكون المحراث أو العجلة (أدوات الإنتاج) قد استنبطا في شبه جزيرة العرب مثلًا، نظرًا لعدم توافق طبيعة الأرض معهما جوهريًّا، وتاليًا اختلاف العلاقات الاجتماعية (أسلوب الإنتاج) الناتجة عن استخدامهما بما يقدمانه من نتاج على المستوى الاقتصادي الذي يساهم إلى هذا الحد أو ذاك في مستوى تطور الطابع الاجتماعي وتاليًا التباين بين المجتمعات، في ظل العلاقة القائمة بين ثلاثية (قوى الإنتاج وأدوات الإنتاج وتاليًا أسلوب الإنتاج) وفق التصنيف الماركسي، “فخصائص أو مزايا المجتمع البدويّ والمتوحّش… إنّ مستواه الاقتصاديّ لا يزال على درجة ابتدائيّة بحت فهو لا يعلو عن درجة سدّ حاجة الحياة مباشرة إلاّ قليلًا. ومن مظاهر هذه الدّرجة فقدان الصّناعة أو وقوفها عند حدّ صنع بعض الأدوات الضّروريّة.. وأسباب عيش الجماعات التي على هذه الدّرجة تقتصر على الضّروريّ ويندر أن تتعدّى إلى الحاجيّ فضلًا عن الكماليّ.. وأحوال هذا المجتمع، أو الجماعات، الاجتماعيّة هي بحكم الضّرورة متابعة لأحوالهم الاقتصاديّة ومطاوعة لها. فنظامهم الاجتماعيّ يقوم على الرّابطة الدّمويّة المنتهية بالقبيلة. والفرد في هذا النّظام ككلّ فرد آخر دون فرق أو ميزة، أي إنّ قيمته هي في الغالب عدديّة عامّة لا نوعيّة خاصّة، لأنّ فقد العمران ونقص المطالب الحاجيّة والكماليّة يبطلان المواهب الشّخصيّة وينفيان المزايا الفرديّة، وكذلك نرى أنّ نظامهم يخلو من الحقوق الشّخصيّة والملك الفرديّ..”، هذا على افتراض أن مستوى المزيج السلالي متقارب من حيث الرقي أو الانحطاط، مما يدفع بسعادة للقول: “لا بدّ للأرض من جماعة مؤهّلة للاستفادة منها. فحيث كانت الأرض خصبة والجماعة البشريّة عديمة الخبرة في الأرض لم ينشأ عمران، كما هو الواقع في أودية أميركا الخصبة الّتي ظلّت عديمة العمران -تعترف الماركسية بهذه الحالة على لسان أنغلز في مؤلفه أصل العائلة والملكية والدولة، كما مرَّ آنفًا- إلى أن جاءت أميركا أقوام جديدة راقية في خبرتها بطبيعة الأرض واستعدادها للاستفادة منها..”، مضيفًا “ومن هذا نستنتج أنّ الطّبيعة والجغرافية هما الطّبقة الدّاخليّة في تاريخ حياة الإنسان، فمع أنّهما تميّزان الجماعة تمييزًا واضحًا فإنّهما، فيما يختصّ بتاريخ الجماعة، لا تقدّمان الاضطراريّات إلاّ نادرًا وفي حالات استثنائيّة ولكنّهما تقدّمان الإمكانيّات. إنّ التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة”. وعلى ما خلُص إليه، يعتبر سعادة أن أبرز دليل على ذلك هو انتصاب قامة الإنسان الذي كان الخطوة الأبرز في انتقاله من الطور الحيواني إلى الوحشي، بينما يأتي اقتسام العمل بين الرجل والمرأة في الطور الأخير من مرحلة البربرية، الخطوة الأهم في تحديد الاتجاه إلى المدنية، فاقتسام العمل، لم يكن مجرد تجريد للمرأة من حقوقها في مرحلة العلاقة الدموية والانتساب للأم، بل كان بدافع بروز شخصية الإنسان (امرأة كان أم رجلًا) والذي ساهم في الدفع لهذا الاقتسام، بل إننا نرجح أن يكون الدافع له هو المرأة لا الرجل، ذلك أن مشاعية العلاقات الجنسية، وبعد بروز شخصية الفرد، دفع بالمرأة، لاعتبارات شتى، أن تختص برجل واحد دون الآخرين، ذلك أن المشاعية قد بدت لها، في هذه المرحلة، إهانة لها وحطًّا من شأنها الشخصي في إباحة جسدها لمن يشاء، وهذا بحد ذاته تحديد لعلاقتها بالرجل الذي لم يكن هذا في صالحه، كما نرى في استمراريته في علاقاته الجنسية المتعددة التي رافقته حتى وقتنا الحاضر، كان القرار أنثويًّا بحتًا، تحملت المرأة نتائجه بكل جدارة، وما زالت إلى يومنا هذا، بهدف تكوين العائلة التي ساهمت بفعالية لانتقال المجتمع خطوة أخرى إلى الأمام بظهور الملكية المولدة حق الإرث، هكذا نشأ “أساسان للكيان الاجتماعيّ الأوّليّ هما: نظام الوحدة الاجتماعيّة المنصرفة إلى الاهتمام بالغذاء الّذي هو قوام الحياة، بصرف النّظر عن أقسام العمل وهو حقّ الجماعة. ونظام الوحدة العائليّة المنصرفة إلى الاهتمام باقتسام العمل وهو بدء تنظيم التعاون. وحالة المرأة، على هذا المستوى الثّقافيّ، تدعو إلى تأمّلنا..” كما يقول سعادة، معتبرًا أن المرأة قد فقدت جملة من ميزاتها في النظام الناشئ عن اقتسام العمل ومع ذلك فإنه يقر “بأن العائلة نظام اقتصاديّ قبل كلّ شيء.. قائم على قاعدة توزيع العمل الّذي ابتدأ في الأصل بين الجنسين.. ولولا هذا النّظام التّعاونيّ الاقتصاديّ لكان نشوء العائلة الموحّدة تأخّر كثيرًا..”.

فعلى النقيض من الماركسية، يخلص سعادة، بناءً على ما تقدم، لجملة من التأثيرات البيئية على الجماعة بعامل الزمن:

1- النّظام الاجتماعيّ هو دائمًا حاصل تفاعل الإنسان والطّبيعة أو البيئة بطريقة معيّنة أو منبعث منه وموافق له..

2- إنّ التّطوّر الإنسانيّ، نشوءًا وارتقاءً، هو وفاق لمقتضيات تطوّرات الطّبيعة والبيئة..

3- التّطور الاجتماعيّ، نشوءًا وارتقاءً هو وفاق لتطوّر التّفاعل بين الإنسان والبيئة بدافع الحاجة المادّية..

4- العقليّة الاجتماعيّة نتيجة تطوّرات التّفاعل الماديّ لتأمين الحياة الاجتماعيّة..

“وليبني قاعدته الأولى في علم الاجتماع: “لا بشر حيث لا أرض ولا جماعة حيث لا بيئة ولا تاريخ حيث لا جماعة”

“الإنسان- المجتمع”

في ضوء ما تقدم، يمكننا البحث في البناء النفسي (الروحي) الذي أقامه سعادة على القاعدة المادية (دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية) لفلسفته الاجتماعية، ونقصد (الإنسان- المجتمع) وبه تتكامل الرؤية المدرحية (1) التي قال بها.. يقول: “تقصّينا فيما دوّناه آنفًا الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله، وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع. ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلًا للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان..”، ويضيف: “إنّ الدولة شأن ثقافيّ بحت..”، ذلك أن “التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة..”، وعليه فإن “.. البحث المنطقيّ العقليّ يرغّبنا في تتبّع أسباب نشوء الدّولة وردّها إلى الخاصّة الإنسانيّة النّفسيّة المعيّنة بالتّمييز بين أنانيّة المرء (نسبة إلى أنا لا اسمًا لحبّ الذّات) الظّاهرة في استعمال [أنا] وبين الظّاهرة الّتي توجد [أنت] ماثلًا أمام [أنا]..”، ذلك أننا لا “نجد واقع الدّولة إلاّ حيث نجد في المجتمع قوّة فيزيائيّة تخضع أو ترهب..”، لقد نشأت “الدّولة بعامل الحياة الإنسانية، ومنذ نشأت الدّولة أصبحت هي شخصيّة المجتمع وصورته..”، مؤكدًا على أنه، على الرغم من أن الدولة شأن ثقافي لكنها في واقع الحال ليست “في ذاتها مقياسًا للثّقافة العقليّة بل بما تنطوي عليه من حقوق..”، وهنا بيت القصيد، أي نسبة الحقوق إلى الواجبات بغية تحديد المرتبة الثقافية التي يمكن من خلالها تصنيف الدولة أو الدول على وجه العموم.

بديهي في السياق ذاته، أن نلفت الانتباه إلى أننا ندرس ها هنا الدولة القومية، بمعنى آخر نظرية الدولة عند سعادة، كما استخلصها من مجمل رؤاه الفلسفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بكل تفرعاتها، فهي خلاصة تبقى في الحدود النظرية وتاليًا تقبُّلها للنقد والتغيير في كثير من تفصيلاتها كردٍّ لتساؤلات تطرحها كثير من المتغيرات السياسية من جهة وتساؤلاتٍ يفرضها الوعي السياسي الفردي والمحلي والإقليمي والدولي على مستوىً واحد..

إن السؤال الأبرز في مبحثنا هذا هو: ما تأثير عوامل نشأة الدولة وتطورها على مفهوم الدولة اليوم، حقوقًا وواجبات؟ وهل يمكننا استخلاص قوانين (مقولات) محددة تطورية تسري اليوم على مختلف الدول؟ أم أن الدول حاليًّا -رغم تباين نشأتها وعوامل تطورها- تختلف عن كل ما يمكن استخلاصه من تاريخ الدولة نشأة وتطورًا؟ هل الصيرورة التاريخية للدولة تحكمها أم لا؟ هل الدولة اليوم رهن بماضيها أم أن حاضرها هو الذي يقرر ماهيتها؟ أم أن هذه الماهية تتحكم بها عوامل أخرى لا علاقة لها بماضيها ولا حتى بحاضرها مستقبلًا من حيث /أنها وجدت لتبقى/ القاعدة الوحيدة التي تحكمها وتتحكم بها وتدفع بها أيضًا لسلوكيات لا عهد لها بها؟ هذه التساؤلات وغيرها الكثير تضعنا أمام تحديات معرفية لا بد لنا من خوض غمارها وبشكل مُتْقَنٍ مدروس منهجًا (وصفيًّا وتركيبيًّا) للوصول لما يمكنه الإجابة الموضوعية على مختلف التساؤلات المطروحة.. لنكتشف، معياريًّا، كيف على الدولة أن تكون في واقع ما هي كائنة عليه، بل وكيف يمكن التغيير في هذا المجال تحديدًا، وبديهي أن نحتاط في مبحثنا هذا من أحكام الجهل بما نحن مقبلون عليه، ذلك أن الجهل بما نتداوله، يضعنا أمام تحديات لسنا بصدد بحثها والإجابة على تساؤلاتها، ذلك أنها محكومة بمنطلقات أحكام الجهل ذاته المطلقة الرافضة من حيث المبدأ للآخر، حوارًا أو بحثًا أو دراسة أو جدلًا أو تحليلًا أو نقاشًا.. الخ.

وعلينا بادئ ذي بدء أن نُعَرِّفَ مجال ما نحن مقبلون على دراسته، ونقصد: “السياسة”، بما هي ميدان الدولة الوحيد والمظهر الذي تتمظهر به نشاطاتها المختلفة..

تعريف السياسة:

ما السياسة؟ سؤالٌ يضعنا أمام متجهاتٍ كثيرة، كلٌ منها له منطلقاته ووسائله المعرفية وغاياته الأيديولوجية..

هل السياسة فن الحكم أم علمه أم كلاهما معًا؟ أم أنها حكم المجتمعات المنقسمة على ذاتها أيديولوجيًا؟، أم هي التوزع السلطوي للقيمة؟، أم هي احتمال أن يفرض شخص (بدل فرد) إرادته ضمن علاقة اجتماعية رغم الممانعة التي قد يواجهها؟، أم أنها فردٌ يسوس آخر؟ أم أنها أخيرًا -وليس آخرًا- هي الممارسة الاجتماعية للسلطة طالما أنها فنٌ أكثر منها علمٌ وطالما أن غايتها تبقى تحقيق أشكالٍ من التحالفات الممكنة بين الناس بدلًا من زرع الفتن؟ وطالما أنها تقتضي التعاون بين مجموعاتٍ مختلفة في المجتمع لتحقيق مكاسب أو فوائد أكثر مما لو كانت تقتضي جوًّا تنافسيًّا بين تلك المجموعات كما هي في تعريف “بارسونز”؟

هذه التعريفات للسياسة تعود في اختلافاتها للاختلاف في منطلقات بحثها، أي للنسبة بين علوم الفلسفة والاجتماع والتاريخ (أي مَنْ يقود مَنْ في هذه العلاقة الثلاثية)، أو للنسبة بين الفن وعلمي الاجتماع والاقتصاد (ثلاثية أيضًا) وهي –السياسة- أيضًا عند سعادة تبقى في أجواء ما سبق طرحه في هذا الاجتهاد من حيث أن لكل قطب من أقطاب ثلاثيات سعادة دورًا تفرضه مستجدات المكان والزمان، فسعادة لا يرجح قطبًا على آخر إلا بناءً على دور محدد يحدده الثابت (المكان) والمتغير (الزمان- ومجراه المجتمع) والتابع (الفرد)، وعليه فالسياسة عند سعادة، وباعتبار أن دولته هي دولة قومية كانت “.. فن بلوغ الأغراض القومية وتحقيق الغايات القومية التي يجب على كل فرد أن يرتبط فيها لأنها رابطة المجتمع.. السياسة عندنا وسيلة لا غاية، وسيلة لبلوغ الأغراض القومية بأقصر الطرق وأقل التكاليف..”، ولأن “شرط الوضوح التعيين”، هي علم، يقتضي تعيين ماهية الأغراض القومية ومن ثَمَّ تعيين الطرق، الوسائل، الكيفية، التي يتم من خلالها ضمان أقل التكاليف، وعليه يمكن فهم السياسة على أنها، من وجهة نظرنا “فن اقتناص الفرصة”، والفرصة الجيدة هي الكم المعلوماتي الذي تمتلكه الدولة عن المحيط الدولي من جهة والمجتمعي الذي تقوده من جهة أخرى.

تعريف الدولة:

بداية لا بدَّ لنا من لفت نظر المتابعين، لمدلولات المصطلحات الواردة أدناه على أنها قابلة للتغيير (التطور) في مدلولاتها (مفاهيمها)، ذلك أنه وفق سعادة “في المبادئ التي تمتّ للإنسان الحرّ بصلة لا يمكن الاستناد لأي قولٍ استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية أو لها علاقة بالإنسان- المجتمع”، والمطلق هنا هو المبهم، وتاليًا غير القابل للتغير أو التبدل أو التكيف أو التطور، يقول سعادة: “كل مطلق ليس واضحًا هو نسبي مهما قيل إنه مطلق غير نسبي. كل مطلق مبهم هو لا شيء. المطلق الذي هو شيء هو المطلق الواضح. فإذا وجدنا أمامنا مطلقًا غير واضح، إذا افترضنا أي مطلق افتراضًا وابتدأنا نحوم حول فهم هذا المطلق ومعرفته، فإننا قد عيَّنا مبهمًا للخروج من جدل لم نصل فيه إلى الحقيقة. فكل لا وضوح لا يمكن أن يكون أساسًا لإيمان صحيح، وكل لا وضوح لا يمكن أن يكون قاعدة لأي حقيقة من جمال أو حق أو خير”. و”شرط الوضوح التعيّن..”، أي أن نكون قادرين على فهم ما نحن مؤمنون به وأنه قابل للتغيير، لأنه في الحال المعاكسة نكون أمام مطلق ثابت لا يتغير ولا يتبدل، بما يعني أننا أمام طلسم مصمتْ لا حول لنا به ولا قوة إرادة، ونكون بالتالي قد عطلنا ميزة العقل الذي هو الشرع الأعلى في الإنسان بما يذهب إليه سعادة قائلًا: “لم يوجد العقل الإنساني عبثًا -لم يوجد ليتقيد وينشل- بل وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميز، ليعين الأهداف وليفعل في الوجود. وفي نظرتنا أنه لا شيء مطلقًا يمكن أن يعطل هذه القوة الأساسية وهذه الموهبة الأساسية للإنسان. العقل في الإنسان هو نفسه الشرع الأعلى والشرع الأساسي. هو موهبة الإنسان العليا. هو التمييز في الحياة، فإذا وضعت قواعد تبطل التمييز والإدراك، تبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الإنسان الأساسية وبطل أن يكون الإنسان إنسانًا وانحط إلى درجة العجماوات المسيرة بلا عقل ولا وعي..”.

الدولة بالتعريف:

هي مُجَمَّعْ مصالح مختلف المنضوين تحت سلطتها لأن وظيفتها عند سعادة “العناية بسياسة المجتمع وترتيب علاقات أجزائه في شكل نظام يعيّن الحقوق والواجبات..” وتبقى مرتبتها الثقافية رهنًا بنسبة الحقوق إلى الواجبات، يقول: “يجب أنّ ننظر إلى الحقوق إذا كنّا نريد أن نحصل على تحديد حقيقيّ للدّولة..” بغض النظر عن الشكل الذي تتمظهر به، تيوقراطي أو دكتاتوري أو ديموقراطي أو تمثيلي أو تعبيري.. الخ، ذلك أن “أشكال الحكم تتغير وتتطور مع تغيير أحوال الشعوب وتطورها..”، يضاف لما تقدم أن الشكل- النظام “ليس مجرد تنظيم دوائر وصفوف..” ليس مجرد “.. ترتيبات شكلية خارجية..” بقدر ما “هو نظام الفكر والنهج، ثم نظام الأشكال التي تحقق الفكر والنهج..” المتمثل في الدولة كنظام- الشكل، وتاليًا فالنظام الشكل ليس دليلًا على مرتبة الدولة الثقافية، الدليل الذي يفترضه سعادة هو نسبة الحقوق إلى الواجبات بحيث، كما أشرنا سابقًا، تتناهى الحقوق إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، بينما تتدنى الواجبات إلى أقل ما يمكن، بالطبع تبعًا للحالة التي تختصُّ بها هذه الدولة أو تلك..

سبق أن ألمحنا، في السياق أيضًا، إلى أن الدولة التي يسعى لها سعادة هي الدولة القومية، يقول: “.. الدولة هنا هي الدولة القومية فقط. الدولة التي يصح القول فيها إنها قومية تشمل المجتمع القومي كله، ذا الدورة الاقتصادية الكاملة التامة..”.

فلماذا يقول سعادة بالدولة القومية؟، وليس بالدولة كما هي عليه اليوم؟، سؤالٌ يفرض ذاته في عالم لم تعرف له الدولة مثيلًا من قبل، فقد شهد القرن العشرين، انهيارًا لإمبراطوريات شغلت حيِّزًا مهمًّا في التاريخ، ونقصد الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية البريطانية، مما أدى لنشوء دويلات سميت بمصطلحات علم السياسة بـ”الدول الحديثة” (2) عكست في كل بقاع العالم -ومنها سورية الطبيعية- الأطماع الاستعمارية التي استدعت تجزئة المجتمعات الطبيعية إلى كيانات أعجز من أن تقوم في وأد ذاتها، مما أوقع العالم بمشكلات لم تكن معروفة في عهد الإمبراطوريات حتى القديمة منها، حيث “معدودية الدولة” كانت تقتضي اعترافًا بعضوية مختلف أفراد تلك المجتمعات الطبيعية كأعضاء في الدولة، بدءًا من الإمبراطورية الرومانية ومرورًا بالعثمانية والبريطانية والأوروبية عمومًا، ولما لم تكن الدول الحديثة دولًا بالمعنى الحقوقي والدستوري والاشتراعي والإداري، المستخرج من تجربتها في إدارة شعوبها التي لم تكن قد ألفت الاستقلال المادي والنفسي والخارجة للتو من تاريخ استعماري استمر قرونًا طويلة، فقد بدت كإقطاعات سياسية، كلٌ منها تأتمر بأوامر منشئها، حتى إنها استعارت قوانينها ودساتيرها من مستعمرها وحاولت مطابقتها مع معتقداتها الدينية والعنصرية وأوهام ماضيها الذي لم تكن قد تبينت منه إلا ما جاد به موجدها عليها، فقد عانت مما آلت إليه من مشكلات أبرزها المشكلات العرقية /العنصرية/ والدينية والاقتصادية والثقافية وغيرها، ووقوع مئات آلاف الضحايا في حروب محلية وأهلية عكست أيضًا بما لا يقبل الجدل والنقاش مصالح أمم “الديمقراطيات الغربية” التي تحاول فرض ثقافاتها على مختلف الشعوب لتسويق سياساتها الاستعمارية، كالتسويق مثلًا للديمقراطية والحرية والمساواة الجنسية… الخ.

من هنا، كان سعادة من أوائل الذين نادوا بوحدة العالم على أساس وحداته الطبيعية التي تحول دون ما تقدم بكل تأكيد، يقول “القوميّة هي الّتي عيّنت شكل دولة البلاد العصريّة ووسّعت دائرة المساهمة في الدّولة أو معدوديّتها إلى حدود لم تكن معروفة من قبل..”، ذلك أن “الأمّة هي أتمّ متّحد..” و”المتحد هو اللفظة التي تفيد التجانس والتلاحم والتي أريد بعد الآن أن أقتصر فيها على الواقع الاجتماعي..” و”لأنّ الأمّة تنطوي على عنصر عامّ، بل حيويّ لها، مفقود من المتّحدات الأخرى (ويقصد الدول الحديثة)، هو العنصر السّياسيّ..”، حيث أرقاها على الإطلاق “المصالح السياسيّة وأكبر جمعيّاتها، الدّولة، التي تشمل جميع مصالح المتّحد الأتمّ الّذي هو الأمّة..”، يقول: “ولكنّ القوميّة لم تقف عند حدّ القضاء على سلطة الإقطاعيين وتوحيد المرجع في الملك، الّذي أخذ تفرّده في السّلطة يتعاظم حتّى أصبح شديد الوطأة، بل سارت نحو الهدف الّذي يبرر وجودها، وهو إقرار أنّ السّيادة مستمدّة من الشّعب وأنّ الشّعب لم يوجد للدّولة بل الدّولة للشّعب. هذا هو المبدأ الدّيمقراطيّ الّذي تقوم عليه القوميّة. فالدّولة الدّيمقراطيّة هي دولة قوميّة حتمًا، فهي لا تقوم على معتقدات خارجيّة أو إرادة وهميّة، بل على إرادة عامّة ناتجة عن الشّعور بالاشتراك في حياة اجتماعية- اقتصادية واحدة. الدّولة أصبحت تمثّل هذه الإرادة. فتمثيل الشّعب هو مبدأ ديمقراطيّ قوميّ..”.

لذلك كان لا بدَّ من التطرق لما تعنيه هذه الدولة نشأة وتطورًا، من وجهة نظر سعادة، لبلوغ المرتبة الثقافية التي هي عليها في الوقت الراهن ولبيان موقف سعادة وامتيازه في نظريته السياسية عن علماء الاجتماع الآخرين، ذلك أنه لم يقصر أبحاثه وتاليًا نظريته على ما اقتصر عليه غيره في كون المصدر الرئيس لمشروعهم السياسي التاريخ الغربي (الإغريق والرومان) بل تناول العالم القديم بكليته وتطرق إلى العالم الجديد في أميركا وتحديدًا حضارة الأنكا والأزتك، وبهذا كان امتيازه على كلٍ من النظرية الوظيفية والنظرية الفيبرية، ولأننا نعتقد أن هناك تداخلًا شديدًا بين النظريات الثلاث، لابد من جلائه لتتضح ماهية الرؤية المدرحية لسعادة..

نظريات نشأة الدولة:

تشكل ثلاثية الثابت والمتحول والتابع عند سعادة بوتقة جامعة صاهرة لمختلف النظريات السياسية التي تطرقت لنشأة الدولة وصيرورتها التاريخية -على تناقضاتها وتضادها واختلافها- ذلك أنها -العلاقة- لا تقدم قطبًا أو عنصرًا من عناصرها على أنه رائدها (على عكس النظريات الأخرى كما سيأتي)، بل تفسح المجال رحبًا لكل عنصر بأن يتقدم على الآخرين وفقًا للمكان- البيئة (كثابت) والزمان- ومجراه المجتمع- (كمتحول) وأيضًا الفرد (كتابع)، وفي علاقة تبادلية ديمقراطية بحتة تفرضها مستجدات ديناميكية حركة الحياةٍ لأي من عناصرها.

نشأة الدولة عند سعادة:

كما سبق أن أشرنا، إن نقطة انتقال الإنسان من طور الحيوانية إلى طور الإنسانية، عند سعادة، كان بانتصاب قامته وإطلاق يديه في سدّ حاجته مداورة، فإنه ها هنا يعيد نشأة الدولة للخاصة النفسية الإنسانية التي /توجد أنت ماثلًا أمام أنا/ دون الخوض في موجبات هذا /المثول/ أكان بدافع كاريزما الفرد أم بما يتمتع به من قوة فيزيائية أكسبته المكانة التي أوجبت بروزه كشخصية متميزة، وعلى الرغم من أنه يشير إلى أن الدولة ترافقت بشكل أو بآخر مع وجود القوة التي غدت سلطة “تخضع وترهب” لكنه، في تتبعه لنشأتها يبقى في حدود تعريفه لها كشأن ثقافي، ولكونها كذلك، فإن الحقوق تبقى هي بوصلته في تتبع تطورها من حالة بدائية أولية إلى الحالة التي هي عليها اليوم، يقول: “ليست الدّولة في ذاتها مقياسًا للثّقافة العقليّة بل بما تنطوي عليه من حقوق. فلا بدّ لنا من إلقاء نظرة على بداءة الحقوق لكي نتمكّن من فهم نشوء الدّولة وتطوّرها في ظروفهما. يجب أنّ ننظر إلى الحقوق إذا كنّا نريد أن نحصل على تحديد حقيقيّ للدّولة..”.

(1)- تجدر الإشارة إلى أن سعادة يستخدم مصطلح (المادي- الروحي) مجازًا بدل (المادي- النفسي)، ذلك أن المصطلحين يحملان مفهومين متناقضين تمامًا، فالروحي، بما يعنيه من انفصال تام عن الجسد، بينما يأتي النفسي للدلالة على وحدة النفس والجسد، وهذا الأخير هو ما يؤمن به سعادة ويناضل من أجله.

(2)- يطلق مصطلح “الدول الحديثة”على كل الدول التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى، مثالها في سورية الطبيعية “الشام والعراق -بما فيه الكويت- والأردن وفلسطين ولبنان وقبرص”، وهي دولٌ تعاني من مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، فالكيانات الناشئة أضحت جزءًا من المفهوم العام وحلَّ التمايز بين كيان وآخر مكان الوحدة الروحية الجامعة، ومع مرور الزمن بات التعصب الكياني مظهرًا من مظاهر الحياة اليومية، فالتجزئة السياسية جزّأت المجتمع الواحد لعدة مجتمعات وكلٌ منها يعاني ما يعانيه من نزوعات للوحدة الجزئية كالنزوع للوحدة المذهبية أو العرقية التي عملت التجزئة على تفتيتها، فالموارنة على سبيل المثال باتوا في كيانين والعلويون كذلك والدروز في ثلاثة كيانات والشيعة في أربعة والشركس كما الأرمن كما التركمان كما الأكراد في كيانات عدة، وكل منها عصيّ على الاندماج في وحدة الكيان- بل ويطالب بانفصاله، حتى العائلات باتت موزعة على كيانات عدة، وكلٌ مما تقدم راح يسطّر حكايته العرقية أو المذهبية أو العائلية بشكل يحول دون استقرار الكيان ذاته ويزيد من مشاكله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وقُولبت الدساتير والقوانين الكيانية وفقًا لهذا النزوع أو التضاد والتناقض، فلا حالت دون الأزمات الناشئة ولا توافقت مع الواقع المعاش وباتت الفرقة في الكيان الواحد عنوانًا للنشاط اليومي..

نشوء الدّولة وتطّورها

“الإنسان- المجتمع”

تبقى على الدوام ثلاثية سعادة دليلنا في بيان ما تقدمه رؤاه الفلسفية /اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا/، كما وتبقى خصائصها منهجه في إيضاح ما تحمله هذه الرؤى، أي تداوليتها للقيادة وفق الظروف والأحوال والأوضاع، أو على وجه العموم مستجدات عوامل صيرورة الحياة، فـ/الثابت والمتحول والتابع/ ليس بمنفصل أحدها عن الآخر، بل في علاقة تفاعلية بين بعضها البعض، هي أقرب ما تكون للعلاقة الديمقراطية التداولية للسلطة، بمعنى آخر، أنه عندما يتنحى أحدها فاسحًا المجال ليتبوأ آخر سدة القيادة، فلا يعني تنحي دوره عن الفعل، بل على العكس تمامًا، يبقى دوره فاعلًا بتوجيه من القائد الأعلى في العلاقة التفاعلية، وليس من مثال نقدمه على ما ذكر سوى تنحي الثابت (البيئة) عن دوره في تقرير متجهات الصيرورة الإنسانية، ففي بحث سعادة نشوء الدولة، يقول: “التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة..”، هنا يُعطي سعادة القيادة للعوامل “النفسية والفردية..” وهو هنا يقترب من النظرية الفيبرية في إبرازها لأهمية الفرد ولدوره في الحياة الاجتماعية، لكنه، وفي بحثه عن الحقوق كمعيار للمرتبة الثقافية للدولة، يُبرز دور الفرد (التابع)، حيث (المتحول)، المجتمع، في طور التكوين، وهذه مسألة لا يجب أن تغرب عن بال المتابع، فدور الفرد يبقى هو الرائد في مرحلتي نشوء الدولة الأولية والتاريخية، ليتنحى كما سيَلي للمتحد (الدولة القومية) بعد تكونه دون أن يفقد أيًّا من خصائصه التفاعلية، أي التأثير في مجريات الأوضاع أو الأحوال- فالفرد- في الدولة الأولية والتاريخية- هو الدولة على ما ذهب إليه لويس الرابع عشر /أنا الدولة/. وعليه، فسعادة إذ يتناول الدولة شكلًا ووظيفة، فهو يتناولها من الوجهة الحقوقية، من وجهة مدى تمثيلها للمصلحة العامة كمنحى لتطورها نحو الوحدة القومية بسلطة الفرد، وبأي صفة كانت، ملكًا أو قائدًا أو مفكرًا..

ينتقل سعادة سريعًا في بحثه عن الحقوق من حالة الفرد المتماهي في الجماعة، حيث الحق والدين شيء واحد، وحيث الفرد مجرد قيمة عددية لا أكثر، كما يتضح بعد ذلك في المرحلة الطوطمية، حيث زواج الطواطم بعضها ببعض هو القاعدة الأولى التي تنتظم من خلالها القبائل والعشائر، حيث المكان هو الجامع، ولا شيء آخر سواه، ومن هذه المرحلة إلى أولى الحقوق وهي الحقوق الأمومية وهي هنا حقوق قبلية أو عشائرية وليست حقوقًا شخصية، تتمتع بها المرأة، فهي مباحة لرجال الطواطم الأخرى، وعلى الرغم من ذلك، فبداءة الحقوق تعود للمرأة التي اعتبرت الإباحية امتهانًا لها، فرفضتها لتختصَّ برجل واحد، فكانت سابقة للرجل في إدراك كيانها الشخصي، لكن وعلى الرغم، أيضًا، من كونها المسبية الأولى، كما يشير سعادة، كانت العامل المهم في تكوين الحياة الزوجية التي أعطت الرجل مكانته، والتي استغلَّها في تثبيت حقوقه، والذي بات يشعر بقوته، بسيادته على المرأة أولًا وبما يملكه من ممكنات الحياة المادية ثانيًا، هكذا بدأت الحقوق الفردية بالظهور، وخاصة أن هذه الحقوق باتت هي السلطة الاجتماعية التي تنتظم حولها مختلف الحقوق الأخرى وتتفرع عنها، ونقصد (العادة)، والتي أدت في تطورها لظهور الرأس في القبيلة أو العشيرة الذي قضى على الدستور الطوطمي المتعارض وسلطته..

العادة (وهي اتفاق جمعي طوعي على منحى من مناحي الحياة التي تضمن وحدة الجماعة)، وهي عند سعادة، أولى القوانين، وهي مشتقة من ظروف الحياة وضروراتها، يقول: “تنشأ التّقاليد من اختبارات الحياة والاعتقادات بشأنها وتنشأ العادات من ظروف الحياة واستحسان بعض أساليبها ورموزها..” وبما أنها كذلك، فالقوة هي التي تعطي العادة مواصفاتها وخصائصها التي يفرضها بشكل مباشر أو غير مباشر، مالكها أو مُقَرُرُها، لذا كان الجنس القوي في المجتمع الأولي هو الرأس الذي تجتمع فيه قوة العادة، التي مايزت بين الرجل والمرأة في الحقوق أولًا، وبينه وبين الرجال الآخرين ثانيًا، فكانت السلطة له، لتتنحى المرأة لأعمال البيت والتربية والعناية بملكية الرجل، والذي لم تكن القوة الفيزيائية والمادية فقط هي المعين له، بل كان لا بدّ له من الخبرة في بسط سلطته على المجموع، ولم تكن الخبرة سوى السنّ الذي يُكسبه القدرة على التمييز بين ما هو في صالح القبيلة أو العشيرة من العادة، وليشكل الإجماع على ذلك القاعدة الشرعية للسلطة، فبداءة الدولة عند سعادة تتمثل في ثلاثية (الجنس، السن، الشخصية)، مقابل الثلاثية الممثلة لها وهي (القضاء والتشريع والتنفيذ)، والتشريع، في هذه المرحلة لا ينفصل عن العرافة والدين، أما الدولة من حيث الشكل، فهي دون شك غير منفصلة عمّا قامت عليه، (الجنس والسن والشخصية).

يدرس، سعادة، الدولة وتطورها من الدولة الأولية إلى الدولة التاريخية وأخيرًا الدولة القومية، الأولى هي الدولة الأولية، حيث “نجد وظائف الدّولة تقابل بتشكيل الدّولة من الشّيخ أو الأمير وشيوخ القبيلة أو العشيرة واجتماع الشّعب. وحيث يتّسع نطاق الدّولة يسقط اجتماع الشّعب ويبقى الأمير والشّيوخ”. وللدّولة الأولية “.. ثلاثة أشكال رئيسيّة هي الدّيمقراطيّة والأوطقراطيّة والأرستقراطيّة، أو هي حكم الشّعب وحكم الفرد المطلق وحكم الأقليّة المفضّلة.. هكذا الدّولة الأوّليّة في أشكالها السّياسيّة..”، ولما كانت تفتقر للإدارة والتي بقيت متأخّرة جدًّا عن النّظام الدّستوريّ لذا فإنه “لا يصحّ مطلقًا أن نطلق على الدّولة الأوّليّة اسم منظّمة فهذا الاسم تحتفظ به الدّولة التّاريخيّة الّتي شكّلت الإدارات وسجّلت الحقوق القانونيّة..” كما و”نظّمت الدولة المركزيّة ذات السّلطة الفرديّة الإدارة العامّة والجيش.. والحقيقة أنّ الدّولة ما كادت تشعر بوجودها وكونها سلطة في المجتمع حتّى أخذت تسيطر على المجتمع وتصرفه في أغراضها. فالدّولة هي الّتي تشكّل المجتمع وتعيّن مداه وتكيّف شؤون حياته وتمثّل شخصيّته. هكذا نجد الدّولة المنبثقة مع فجر التّاريخ، وهكذا تنشئ الدّول التّاريخ..”، وكما سبق وأشرنا لما يقوله سعادة بهذا الصدد “لا تاريخ حيث لا جماعة” فسيكون التاريخ المكتوب دليلنا فيما نحن ذاهبون إليه، فالتاريخ يبتدئ بتشكيل الدّولة التّاريخيّة وذلك “.. بالانتقال من التنظيم العشائريّ إلى دولة الأرض، وبتحوّل الأمير ذي القوّة السّحريّة الخرافيّة إلى ملك هو الإله أو كاهنه الأعلى”، وبطبيعة الحال فقد طُبِعَتْ “الدّولة التاريخيّة في بدء نشوئها بطابع الاستبداد، لأنّ الدّولة بطبيعتها قوّة والقوّة تطلب دائمًا السّيطرّة..”، وخاصة أن طبيعتها كانت مستمدة من قوى فوق الجماعة “فهي كانت شيئًا فوق المتّحد الاجتماعيّ وكانت تدّعي سلطة من عالم فوق هذا العالم..”، ومع ذلك، فقد ظهر الصراع على السلطة في شكله الأولي بعدما ارتقت أحوال الجماعة الاقتصادية. بظهور طبقة الملاكين، حيث بدأ الصراع على السلطة بمزاحمة الملك على سلطته على الرغم من كونه هو كل شيء، فالخطط، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كانت خططه، “وأخبار حمورابي تدلّ على كثرة ما كان يمرّ على يدي الملك من الشّؤون. فهو الّذي كان يهتمّ بالأعمال الزّراعيّة كالرّيّ وبناء المخازن لأيام الجدب وما شاكل، وهو مرجع كلّ أمر كبير أو صغير..”، لذا كان الفوز من نصيبه في هذا الصراع، مما أدى لتفرده في السلطة وكان لهذا التفرد، كما يقول سعادة “الشّأن الأعظم في تنظيم الدّولة وترتيب الإمبراطورية”، بل ويضيف، مؤكدا دور الفرد “.. والحقيقة أنّنا نجد جذور الدّيمقراطيّة الحديثة في سلطة الفرد الّتي أنقذت السّيادة من مطامح الأقليّة الممتازة..” كما وأن “سلطة الفرد كانت دائمًا أقرب إلى الدّيمقراطيّة من سلطة الأرستقراطيّة المكوّنة طبقة ممتازة.. إنّ الدّولة الإمبراطورية عرفت السّيادة بمعنى التّملّك وحوّلت الثّروة العامّة إلى ملك خاصّ، ولكنّ السّلطة الفرديّة أنقذت الشّعب من استبداد الطّبقة، حيث وجدت..”.

جديرٌ بنا أن ننوه إلى أن الدولة التاريخية تبتدئ بظهور المدن، أي الدولة المدينة، وتمتد في التاريخ حتى منتصف القرن التاسع عشر.

في الدولة- المدينة، في بابل وآشور ونينوى.. في صور وصيدون، في أثينا وإسبارطة وروما وقرطاجة، أخذت الحقوق في الظهور رويدًا رويدًا وتحديدًا في الدولة- المدينة البحرية، حيث “تحوّلت الرّابطة القبيليّة القديمة إلى الرابطة الاجتماعيّة الواسعة.. فزال باكرًا ذلك الخضوع الأعمى للملك وزالت عن الملكيّة تلك الصّبغة الإلهيّة الّتي كانت لا تزال ترافق الملك والأسرة المالكة في الإمبراطوريات البرّيّة.. وأصبح الملك فيما بعد ينتخب انتخابًا لمدّة الحياة، فكان ذلك أصل الدّيمقراطيّة والجمهوريّة.. فحقوق أبناء المدينة الأحرار في انتخاب الملك وفي الاجتماع لتقرير المسائل المهمّة، كانت حقوقًا مشروعة وإن كانت غالبًا اسميّة أكثر منها فعليّة.. في هذه المدينة ازدادت الحركة الاجتماعيّة والاختلاط الاجتماعيّ.. والاتجاه نحو الدّيمقراطيّة.. التي ارتقت في قرطاضة إلى وضوح الحقوق المدنيّة والحقوق الشّخصيّة مع بقاء الدّولة شيئًا متميّزًا عن الشّعب، مؤسّسة لا يمكن أن تعرّض لعبث الجمهور..” وبعد أن تم اعتماد تمديد معدوديّة الدولة (عضوية الدّولة) في الدولة الرومانية، إلى الملحقات وتكوين وحدة سياسيّة تحفظ روح الإرادة العامّة.. غدت هذه المعدودية لكافة أبناء الإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور السوري كركلاّ..

وبانقسام الإمبراطورية الرومانية إلى شطرين غربي وشرقي، يبدأ الشطر الغربي بالتفكك، بينما الشطر الشرقي يستمر على نحو من اقتسام السلطة بين رجال الدين والملك، ويغرق في مبحث اللاهوت ولتظهر في الغرب الولايات الإقطاعية ولتغدو مصلحة الأمير الإقطاعي هي المصلحة العليا بدل مصلحة الدولة، لكن ما لبثت هذه المصلحة أن تعرضت للمنافسة أيضًا من قبل سلطة رجال الدين الذين تمكنوا من العقلية العامة لمختلف الشعوب الغربية فكانت خاضعة خضوعًا مطلقًا للدين المتمثل برجاله وتقولاتهم، حيث ساهمت هذه العقلية في سيطرة رجال الدين على مجمل الإقطاعيات التي ظهرت على أنقاض الإمبراطورية، ولقد حاولت المؤسسة الدينية، في الشرق والغرب، الجمع بين متناقضين، السلطة الروحية والسلطة الزمنية، فلم توفق بذلك إذ نهضت في وجهها الحركات الدينية الإصلاحية في الغرب بينما عانى الشطر الشرقي، والذي دام قرابة الألف عام، من هجمات الدولة الإسلامية الناشئة ومن ثم اجتياحات المغول بعد تفكك الخلافة لتسيطر الدولة العثمانية بعد ذلك على مختلف مقدراته، والتي بدورها كانت تحت تأثير المتغيرات في الغرب والتي ما لبثت أن ظهرت على مثالها الغربي دويلات استقلت فعليًّا عن سلطة السلطنة، وحتى منتصف القرن التاسع عشر، نبقى في دائرة الدولة التاريخية، حيث ظهرت الحركات الإصلاحية الدينية بعدما فشل رجال الدين في التوفيق بين متناقضي، السلطة الروحية والسلطة الزمنية، واتخذت هذه الحركات منحى الاستقلال القومي عن روما وتبعتها حركات سياسية واجتماعية وفكرية وثقافية تؤجج في معتنقيها روح الاستقلالية والتفكير العلمي متأثرة بالمكتشفات الجغرافية التي غدت ثرواتها تصبّ في ساحة الغرب المنفتح على المعرفة والبحث والتساؤل حول مختلف مشكلات حياته، وفي هذا يقول سعادة: “لم ينقذ الدّولة من هذه الفوضى في الغرب إلاّ الاتّجاه نحو المدينة، فنشوء المدن ونموّها والعمل الصّناعيّ والاتّجار أوجدت المحيط والجوّ الصالحين لحرّية العمل وتبادل الأفكار والمعارف. إنّ المدينة كانت دائمًا أصلح مكان لنموّ الفكرة الدّيمقراطيّة. وهي المكان الوحيد الّذي يمكن أن تتمركز فيه الحياة السّياسيّة..”، في المدينة الصناعية سقطت مختلف المفاهيم التي تعارضت والدولة وتحولت الإصلاحات الدينية لحركات اجتماعية وسياسية خرجت على المألوف فظهرت تيارات فكرية ثقافية فلسفية تطرح تساؤلاتها حول الوجود ومشكلاته، وتجد في مختلف البنى الاجتماعية مؤيديها، فكان ذلك بمجمله الطريق إلى عصر جديد هو عصر الديمقراطية ونشوء القومية وكما يقول سعادة “القوميّة هي الّتي عيّنت شكل دولة البلاد العصريّة ووسّعت دائرة المساهمة في الدّولة أو معدوديّتها إلى حدود لم تكن معروفة من قبل. وتحت تأثير عوامل القوميّة الآخذة في النّشوء أهمل النّظام الإقطاعيّ وقويت الملكيّة المركزيّة. لأنّها كانت دائمًا أقرب إلى تمثيل وحدة الأمّة. وسلطة الفرد كانت دائمًا أقرب إلى الدّيمقراطيّة من سلطة الأرستقراطيّة المكوّنة طبقة ممتازة..”.

الدّولة الدّيمقراطيّة القوميّة:

يقول سعادة “مع نشوء المدن ونشاط التّجارة والاحتراف ونهضة الاختراعات، دخل التّمدّن في طور جديد زعزع مؤسّسات كثيرة. فالتّجارة والاحتراف زعزعا النّظام الفرديّ والعائلة القائمة بأود نفسها والاتّجاه نحو المدن وحرّر الأرقّاء وأبطل الاعتماد على سيدّ الأرض، واختراع البارود قضى على مكانة الفرسان النّبلاء.. واختراع الورق والطّباعة فتح الأعين والبصائر وأيقظ الشّعور. ومن هذه العوامل جميعها تكوّنت الطّبقة الوسطى وأخذت طبقة الملاّكين والإقطاعيّين تضعف وقويت سلطة الملك.

إنّ استيقاظ الشّعور بالوحدة الحيويّة والمصلحة الواحدة والرّابطة الواحدة بالحياة في أشكالها وأسبابها واتّجاهها جعل الجماعة تدرك وجودها وجهّزها بوسائل التّعبير عن إرادتها، فكان ذلك بدء نشوء القوميّة…”.

وعلى النحو الذي حددت فيه البيئة الطبيعية ظهور الدولة الأولية، كان الفرد العامل الذي طبع بل وحدد الدولة التاريخية، ودفع لاعتماد معدودية الدولة والتي بدورها مهدت الطريق لنشوء الشعور بالاختلاف بين متّحد وآخر، وبدا واضحًا التمايز بينها في مدى المشاركة والمساهمة في مختلف مناحي السلطة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كما يقال، فقد تبوّأ سبعة سوريين عرش الإمبراطورية الرومانية، أبرزهم كانت “جوليا دومنا” ومنهم كركلا الذي مدّد المعدودية، كما أشرنا سابقًا، إلى كل الداخلين في عداد هذه الإمبراطورية، مما دفع بالإمبراطورية العثمانية للتنبه لهذه الميزة فكان أن اعتمدت مبدأ عدم جوازية أن يكون أحد من رعاياها السوريين في أية مرتبة سياسية عليا فيها،على الرغم من معدوديتهم كأعضاء في الدولة لجهة كونهم “مسلمين”، فلم يتولى سوري واحد حتى مرتبة والٍ لأي ولاية أو سنجق سوري وفق التقسيمات التي اعتمدتها في سورية الطبيعية إلا ما ندر ولفترات قصيرة لا تتعدى السنة الواحدة، باستثناء بعض الإقطاعيين الذين استطاعوا كسب ود الباب العالي وحوّلوا إقطاعياتهم إلى شبه دولة أو إمارة على نسق المعنيين الذين قضت عليهم السلطنة لنزوعهم للاستقلال، أما الشهابيون الذين كانوا موالين بالمطلق للسلطنة في لبنان فقد استمروا في حكم إقطاعيتهم، كذلك آل العضم في دمشق، وفي فلسطين كان ظاهر العمر الذي خاض حروبًا عدة في سبيل الاستقلال فكان أن انتهى قتلًا بعد معارك ضارية تجاوزت حدود إقطاعيته..

لم يكن حال الغرب كما كان في الشرق، (ماكس فيبر في تساؤله: “لماذا ظهرت الحداثة العلمية والتكنولوجية والبيروقراطية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية فقط؟ بمعنى آخر: لماذا تطورت العقلانية في هذه المنطقة من العالم أكثر مما حصل في سواها؟: ما هو السبب في أن المجتمعات غير الغربية لا هي علمية ولا هي فنية ولا هي سياسية وكذلك ليست متطورة اقتصاديًّا) بهذه العقلية خطا الغرب خطوات رائدة في هذا المجال لجهة الاستقلالية عن رومة أولًا بظهور الحركات الإصلاحية الدينية التي اكتست بكساء النزعة القومية، مهما قيل إنها دينية، فقد طُبِعَتْ هذه الحركات بطابع نظرة مُتَّحَدِها إلى الحياة والكون والفن، وحوّرت الدين لما كانت تصب فيه تلك النظرة (ماكس فيبر في التمييز بين البروتستانتية الكالفانية والكاثوليكية… ((لابد هنا من الإشارة إلى كيفية تحوير المفاهيم الدينية المسيحية في الغرب بما يتوافق والنزوع القومي، فمبدأ “الدولة للشعب وليس الشعب للدولة جاء تحويرًا لقول المسيح السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت، كما يمكن القول إن “روح القوانين” جاء تحويرًا لقول بولس الحرف يقتل أما الروح فيحيي))، وثانيًا بانحياز العامة الشعب إلى جانب الملكية في صراعها مع الأرستقراطية الإقطاعية المستبدة، حيث مهّدت السلطة الفردية الطريق للدولة القومية، يقول سعادة: “إنّ مصلحة الشّعب ومصلحة الملك كانتا، بطبيعتهما، ضدّ مصلحة الأرستقراطيّة الإقطاعيّة الاستثماريّة المتسلّطة المستعبدة.. والّتي كانت حائلًا قويًّا دون ظهور الإرادة العامّة الآخذة في النّمو والشّعور بنفسها”. وتاليًا أصبح للعامة- الشعب- “رأي وإرادة، وهذه الإرادة شرَعت تميل نحو الملك، لأنّ الملك كان يمثّل وحدة الدّولة ووحدة السّلطة ووحدة المصلحة ووحدة الشّعب” لكن هذا الميل للسلطة المركزية في الدولة، قوّى من سلطة الملكية التي ازدادت تفرّدًا بها، وأرهقت الشعب في استبدادها، مما أدى بطبيعة هذه التحولات الجذرية في العقلية العامة لبلورة نواة التمايز بين المتحدات الاجتماعية بعضها عن بعض، كما وأن إقرار مبدأ “إنّ السّيادة مستمدّة من الشّعب وإنّ الشّعب لم يوجد للدّولة بل الدّولة للشّعب..”. مهّد الطريق أيضًا لتغيّرٍ في مفهوم الدولة التي لم تعد وفق سعادة “تمثّل التّاريخ الماضي ولا التّقاليد العتيقة ولا مشيئة اللّه ولا المجد الغابر، بل مصلحة الشّعب ذي الحياة الواحدة الممثّلة في الإرادة العامّة، في الإجماع الفاعل، لا في الإجماع المطاوع.. هذا هو المبدأ الدّيمقراطيّ الّذي تقوم عليه القوميّة. فالدّولة الدّيمقراطيّة هي دولة قوميّة حتمًا، فهي لا تقوم على معتقدات خارجيّة أو إرادة وهميّة، بل على إرادة عامّة ناتجة عن الشّعور بالاشتراك في حياة اجتماعية- اقتصادية واحدة. الدّولة أصبحت تمثّل هذه الإرادة. فتمثيل الشّعب هو مبدأ ديمقراطيّ قوميّ..”.

يقول سعادة: “كانت الدولة قبل نشوء القوميّة إرادة خصوصيّة تفرض نفسها على المجموع الّذي تشمله، أمّا بعد نموّ القوميّة فقد أصبحت النّظام والهيئة الممثّلين لإرادة الأمّة..”.

كان للثورة الفرنسية اليد الطولى في تنبيه الشعوب لمبدأ التمثيل السياسي والذي كان قائمًا على مبدأ “إن الدولة للشعب وليس الشعب للدولة” والذي بدوره مهّد السبيل لفصل السلطات الذي قدم “منتيسيكيو” أطروحتها في كتابه “روح القوانين” مرجّحًا السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية والسلطة القضائية على الاثنتين معًا، وغدت عضوية الدولة حقًّا من حقوق كل فرد من أفراد الدولة بالولادة. وبنمو الشعور بالتمايز والوحدة بدا واضحًا الشعور بروحية الجماعة وشخصيتها القومية التي أعادت صياغة مفهوم الدولة كنظام وهيئة ممثلة لهذه الروحية وهذه الشخصية، ولم تكن القومية مجرد شعور، بل أضحت تعبيرًا عن كيانٍ له مواصفاته وخصائصه- المتحد الاجتماعي. هكذا تنحى الفرد عن قيادته كتابع للمتحدّ كمتحول في (ثلاثية سعادة الثابت والمتحول والتابع)، يقول سعادة: “فالدّولة وحكومتها ليستا مظهرين اجتماعيّين نهائيّين، بل تقومان على ما هو أعمق منهما، على حياة المتّحد وإرادته.. وإذا كانت الدّولة مظهرًا سياسيًّا من مظاهر الاجتماع البشريّ فالأمّة واقع اجتماعيّ بحت..”.

هذا التطور في مفهوم الدولة المتحدّ، كان القانون الطبيعي الذي سارت عليه مختلف المجتمعات فيما بعد، وحدّدت في ضوئه الحقوق والواجبات لأعضائها واقتبست منه مختلف مقولاتها في بيان هويتها التي تميزها عن غيرها من المجتمعات، واعتمدته الدول الناشئة، قاعدة لشرعيتها التاريخية، (أبرز الثورات بعد الثورة الفرنسية، كانت الثورة الأميركية على الإمبراطورية البريطانية، فالخليط من الأوروبيين والآسيويين، بعد أن جبلته الحياة شعر بمدى التمايز عن الإنكليز، على الرغم من أن أكثريتهم كانت إنكليزية وإيرلندية، لكن البيئة الطبيعية الأميركية كانت قد فعلت فعلها في إحداث التغيرات الجذرية في العقلية الأوروبية التي تأمركت وغدت شعورًا مستقلًا بل ومغايرًا لما عهده الأوروبيون بأنفسهم) ومايزت بين متّحدها وبين معدوديتها إقطاعًا من الإمبراطوريات القائمة حتى ذلك العهد، العثمانية والبريطانية تحديدًا، فاندلعت الثورات في كل مكان شرقًا وغربًا ونشبت الحروب في سبيل السيطرة وإعادة حركة التاريخ إلى الوراء حروب فرنسا النابليونية إلى عهد الإمبراطوريات الأولى، أو لاستكمال حدود بيئتها الطبيعية، وكما كانت الحملات التي شنّها ملوك بابل وآشور استكمالًا لدورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية أو ما عرف “بالمدى الحيوي” للأمة، كذلك كانت الحروب التي خاضتها مجمل الدول الأوروبية فيما بينها في القرن السابع والثامن والتاسع عشر، مجرد استكمال للمدى الحيوي، وبعضٌ منها ما يزال موضع التباس بين الدول، الألزاس واللورين بين فرنسا وألمانيا، وإقليم الباسك أو ما يعرف بكتالونيا في إسبانيا وما بين إيرلندا وبريطانيا، والحركات الصقلية في إيطاليا وما بين اليونان وتركيا، إضافة للكثير من المناطق المتنازع عليها، كشمير، وإقليم كارباخ، وجزر الفوكلاند.. حيث يمكن القول إن المدى الحيوي للأمة يمثل الصراع الحقيقي اليوم والمغلف سياسيًّا بأطر لا تمت إلى واقعه بصلة.. هذا الاتجاه للتمايز والتباين بين المجتمعات لم يأتِ محض صدفة، بل هو نتيجة تطور في جملة المفاهيم للمصطلحات السائدة حتى ذلك الوقت، إذ لم يعد التمايز الديني المذهبي أو الطائفي أو الطبقي أو العائلي.. الخ مثار جدل ونقاش في المجتمعات التي أخذت تعي “المتكرر” في تجربتها التاريخية والميل للوحدة والتجانس وزوال الفوارق بين أعضائها أيًّا كانت.

والسؤال: تحت أي عنوان يمكن لنا أن نضع هذا المجرى أو المنحى من التطور التاريخي للدولة؟

الدولة- المتحد:

الدولة الديمقراطية القومية، عند سعادة، تقوم على محددات تاريخية شكلت البوتقة التي تفاعلت فيها عناصر ثلاثياته، (المحيط- الجسم- النفس)، متداولة فيما بينها قيادة الصيرورة، منطلقًا وحاملًا ومتجهًا، و بما لا يتناقض وخصائص أيٍ منها، بل وفي انسجام تام، ينحو أي منها لإشباع ذاته ليتنحى بعد ذلك فاسحًا المجال رحبًا ليتبوّأ آخرٌ سُدَّةَ القيادة، فالأولوية، تبقى لمن تكتمل به خصائص مرحلة من مراحل صيرورة العلاقة التفاعلية بتوافق وانسجام وشفافية لا تخلو من تشابك يصل مستوى التعقيد، لكن وبدقة ورهافة، تُطرحُ الحلول لما قد ينتاب هذا التعقيد من إشكالات فيما بين عناصرها، هكذا، مثلًا، نشأ الإنسان عندما استقرَّتْ الطبيعة على حال سمح للعضوية بأن تطور إلى حالة نشأت بها الحياة مستمرة في عطائها، وبسخاء، حتى انتصب الإنسان على قدميه، وأُطلقت يداه لتأمين ما أودعته إياه الحياة مداورة، هذه المداورة هي التي حرضت فيه ميزة العقل في الابتكار، وهذه بدورها أيقظت فيه نفسيته الفردية، محققًا بذلك استقلالًا نسبيًا عن البيئة، ليتولى قيادته في تحديد منحى صيرورته، التي وصلت في “الدولة المتحد” للشعور بأنه جزء من كُلٍّ، (أنا- أنت- نحن) هذه الـ”نحن” هي ما يُطلق عليها سعادة مصطلح “المتحد” أو الجنين الذي ولد مكتملًا في “الأمة” لتعي ذاتها الشخصية التي تتميز بها عن سواها في “القومية” ثلاثية أيضًا تتوضع كما “الطبيعة- البيئة” ومن ثمَّ “الإنسان- الفرد” إلى “الإنسان- المجتمع” وهي هنا (المتحد الأمة القومية)، ولكل من هذه الثلاثية، عند سعادة، خصائصه التي تميزه عن سواه، والسؤال: كيف؟

يطلق سعادة مصطلح “الناموس” على القوانين أو المقولات التاريخية والاجتماعية التي يمكن لها أن تحدد الإجابة على سؤالنا أعلاه: و”الناموس” بتعريفه “هو اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها..” ولا بأس من أن نعيد للأذهان ما سبق وقلناه في معرض تعريفنا للنظرية السياسية من أنها البحث عن المتكرر في حركة التاريخ المجتمع فـ(لا تاريخ حيث لا جماعة ولا جماعة حيث لا بيئة) فالناموس عند سعادة هو “استمرار (تكرار) حدوث فعل أو خاصة من أفعال وخواص الحياة أو الطبيعة..” كما وأن على النظرية ألا تكون متناقضة ذاتيًّا، يقول: “إنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الذي نعرفه بها..، فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع.. وإذا كنّا قد اكتشفنا سنّة التّطوّر فيجب أن لا نتّخذ من هذه السنّة أقيسة وهميّة تذهب بنا إلى تصّورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة.. فإذا كان الاجتماع صفة عامّة في الإنسانيّة فهذا لا يعني أنّ الإنسانيّة مجتمع واحد يسري فيه الاجتماع بمجرّد الإنسانيّة.. لا يختار الإنسان- المجتمع الّذي يعيش فيه أكثر ممّا يختار والديه، ولكنّه قد يخير أمّه على أبيه أو العكس.. ليس المجتمع أساسه الفرد”.

هذه هي المنطلقات والقواعد التي يحدد بها سعادة “المتحد” من حيث صفاته وعلاقاته الداخلية والخارجية ومصالحه وإرادته..

حتى منتصف القرن التاسع عشر، كانت الدولة (1) المُمَثَلَة في الإرادة الملكية، قد نحت منحىً آخر في نهجها السياسي، إذ راحت، في محاولتها تُمثل المجموع المنضوي تحت سلطتها، وتاليًا، التأكيد على أنها وجدت لتبقى، للأخذ بعين الاعتبار بخصائص وطموحات وآراء.. من تُمثلهم بطرق شتى، فتحددت كثيرًا من صلاحيات الملكية وباتت السلطة تخضع للكثير من القوانين التي تحول دون تفرد الملك بالسلطة وذلك بظهور مجموعات ضغط، تحت مسميات مختلفة، لكنها كانت بصورة عامة، إضافة لتمثيل مصالحها ومنافعها الخاصة، تمثل مصالح مجموع الشعب أو تتلبس تلك المصالح تبريرًا لشرعية مطالبها، مما استدعى بالضرورة البحث عمّا يدعم تبريرها في معترك إثبات وجودها، فظهرت للوجود نظريات في الاجتماع والسياسة تحاول تأطير مصالحها ومنافعها بعناوين عامة تضيق حينًا وتتسع حينًا آخر وفاقًا للظروف والأوضاع والأحوال التي تتعارض أو تتنافس معها نظريًّا تارة وفلسفيًّا تارة أخرى واجتماعيًّا وسياسيًّا في طور ثالث، لكنها، في مجملها، كانت تبحث عن إجابات لتساؤلات كثيرة تدور حول: من نحن أو لِما نحن أو كيف نحن.. وقبل كل ذلك كانت قد تبلورت في الأذهان ماهية هذه الـ”نحن” لتتضح رويدًا رويدًا عبر تعارضها مع “نحن” أخرى تنافسها أو تتداخل وتتشابك معها في قضايا حياتية لم يكن قد تنبّه لها الفكر سابقًا وقادت إليها جملة من المصالح والأغراض والإرادات والطموحات المتعارضة والتي غالبًا ما جمحت إلى أبعد مما تعنيه أو تأمله أو تسعى إليه.. كل ما تقدم كان محاولة لفهم ما يمكن له أن يؤطر المجموع الشعبي الذي تمثله الدولة في أي من القضايا المطروحة، إذ لم تعد المطالب مجرد رأي فردي مُدَعَّم فلسفيًّا أو علميًّا أو اجتماعيًّا أو دينيًّا أو سياسيًّا أو حزبيًّا، بل هي مطالب “مجموع الشعب” الذي أصبح قوة لها حضورها الشكلي في غالب الأحيان، لكنه حضورٌ لا يمكن التغاضي عنه من حيث صفاته وعلاقاته ومصالحه وإراداته..

بات واضحًا أن الصفات التي قد تتلبس هذا المجموع أو ذاك كنتيجة لظروف تاريخية تراوح بين قوته، تاريخيًّا، أو ضعفه، وتطغى على صفاته التي يوضّعها مجرى الحياة، فتتلبس تلك هذه، ليختلط ذلك على الفكر غير المدقق والباحث عن جوهر الحركة التاريخية، التي لا تلبث أن تفرض نفسها في خضم هذا الخلط، فإذا كان لكل من هذا المجموع الشعبي أو ذاك صفات فرضها واقع تاريخي ظرفي، كالمعدودية القانونية أو الدينية أو اللغوية.. والتي لا تمتُّ بصلة لجوهر حركة التاريخ، فإن، حركة التاريخ تفرض عليه على الظرف التاريخي التنحي لغيره كواقع لم يعد بالإمكان تجاهله، متجاوزة الكثير من الصفات العامة التي كانت تجمع بين متحدين، لكل منهما دورته الاجتماعية- الاقتصادية، أو ما يصطلح على تسميته سعادة بـ”الاشتراك في الحياة” يقول: “الاشتراك في الحياة هو ما يعمى عنه عدد وافر من الكتّاب والدّارسين حين يتكلّمون عن المتّحد أنّه جماعة لها صفات مشتركة من عادات وتقاليد ولهجات.. وهم في فعلهم هذا ينسون أو يجهلون أنّ هنالك صفات عامّة تسري على جميع البشر من غير أن تجعل منهم متّحدًا. فالمتّحد هو دائمًا أمر واقع اجتماعيّ. وأنّ من الصّفات ما قد يميّز جماعات من النّاس عن جماعات أخرى من غير أن يعني ذلك وجود متّحد منها. فإنّ الصّفات تتبع المتّحد لا المتّحد يتبع الصّفات..” (2).

في الدولة- المتحد، تبين أنه “ليس شرط المتحد أن يكون مجموعًا عدديًّا من ناس مشتركين في صفات النوع الإنساني العامة فحسب، بل مجموعًا متحدًا في الحياة متشابهًا أفراده في العقول والأجسام تشابهًا جوهريًّا من حيث الإجابة العضوية على محرضات البيئة التي تحدد المتحدّ.. إن التشابه العقلي والفيزيائي، نتيجة لا سبب، فهو ناتج عن الاشتراك في الحياة الواحدة..” فالتشابه هنا ليس تشابهًا سلاليًّا، إنما تشابه في الفعل اليومي لتأمين الحياة، في الدولة المتحد، سقطت نظرية الرؤية السلالية الدموية، كما المعدودية الدينية والقانونية واللغوية، وبات التمييز بين ما هو ظرفي وبين ما هو حياتي، بين السبب والنتيجة، واضحًا، لا ريب فيه، لم تعد أميركا أو كندا أو أستراليا متحدًّا واحدًا في الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا) على الرغم من التقارب أو التشابه شبه التام في المزيج السلالي واللغوي والديني، فالاشتراك في الحياة بات واقعًا يفرض ذاته على أي من هذه المتحدات الأربعة وبات تمايزها هو الذي يقرر سياستها، في الدولة المتحد لم تعد العادات والتقاليد، أيًّا كان سببها هي التي يستدل بها على الوحدة الاجتماعية، فهي في تطورها تنحى منحى البيئة ومتطلبات هذه وشروطها، فما حمله الجيل الأول من المهاجرين لكل من أميركا وكندا وأستراليا، راح يتكيف مع ضرورات الحياة الجديدة، وما استحسنه هؤلاء من أساليب العيش والمفاهيم المشتقة منها وغدا تقليدًا في الجيل الثاني أُضيف إليه ما استحسنه الجيل الثاني ليغدو تقليدًا في الجيل الثالث بات هو المميز لهذه المتحدات، هكذا تتطبع العادات والتقاليد بطابع البيئة والحياة، فاللغة الإنكليزية باتت متمايزة في لهجاتها الأميركية عن الكندية عن الأسترالية عن اللغة الأم البريطانية وعندما نقول، لهجة، فهي ليست مجرد طريقة أو أسلوب لفظ الحرف أو الكلمة، بل وفي المعنى والمفهوم أيضًا، فالبيئة تفرض نفسها في إضافات لغوية واستعارات وصور ومفاهيم مستمدة منها.

نتبين مما تقدم “أنّ صفات المتّحد قائمة على أساس الاشتراك في الحياة، لا أنّ الاشتراك في الحياة قائم على أساس الصّفات..” و”أن المتحد هو أمر وقع اجتماعي..” فتجانسه هو دائمًا أقوى وأعمق من تباينه، فهو إذًا “اتّحاد مجموع من النّاس في حياة واحدة على مساحة محدودة يكتسب من بيئته ومن حياته المشتركة الخاصّة صفات خاصّة به إلى جانب الصّفات العامّة المشتركة بينه وبين المحيط الّذي هو أوسع منه، بينه وبين جميع البشر، وبينه وبين المتّحدات الأخرى..”، أما من حيث مصالحه وإرادته فهو: “وحدة اجتماعيّة حاصلة لأعضائها القناعة الدّاخليّة الإجماعيّة. إنّ لهم مصالح تكفي لتفاعل أعمالهم، تفاعل مصالحهم وإرادتهم، في حياة عموميّة مشتركة على مستوى ثقافيّ معيّن، ضمن حدود مساحة معيّنة..”.

(1)- الدولة التي نتناولها بالبحث هي الدولة التي ضربت جذورها في التاريخ (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا…) وليست الدولة الناشئة أو الحديثة التي لم يكن لها جذور في التاريخ الدولي والتي وجدت بعد انهيار الإمبراطوريات.

(2)- فيما يتعلق بالعادات والتقاليد وهي في أغلبها مستمدة من الدين السائد في بيئات متعددة، وما قد يُشتقُّ منها، نذكر على سبيل المثال، ثلاث دول إسلامية هي السعودية وباكستان وإندونيسيا، وكيف أن العادات السائدة في كلٍ منها والمشتقة من الدين الإسلامي، تختلف جذريًّا إذا ما تعارضت والصفات المنبثقة من مجرى الحياة في البيئة المحددة، ففي السعودية قد حُرم على المرأة حتى قيادة السيارة، بينما نرى المرأة المسلمة في باكستان تتبوأ أعلى مناصب السلطة التنفيذية، ناهيك عن السلطة التشريعية والقضائية، بينما يحق للمرأة المسلمة في إندونيسيا أن تضاجع أي من الرجال في أعياد جبل النار..

الدولة- الأمة

كان الكنعانيون هم أول من تنبّه للخصائص التي تميّز قومًا عن قوم، وتحديدًا بعد إنشائهم “للدولة المدينة”، والتي كانت إسهامًا تاريخيًّا في التطور الإنساني نحو الديمقراطية، حيث زالت مبكرًا الملكية الوراثية وحلّت محلّها الملكية الانتخابية، ففي كل البقاع التي وَجَدَ بها الكنعانيون نُموًّا لمصالحهم، أقاموا جاليات لهم تبقى صلتها بالمركز (الدولة- المدينة) على الرغم من انخراطهم في الحياة العامة للجماعة المقيمين بينها، وتمده –المركز- بما يساهم في تطوير تجارته مع هذه الجماعة بالذات، هذه الصلة بالمركز هي ما نعته بعض المفكرين بـ”الخديعة الكنعانية أو الإثم الكنعاني” وهو بمعناه “الوطن- الأم”، حيث لم يكن أي من الشعوب التي جارتهم تاريخيًّا، قد تنبه لما يعنيه “الوطن” وحيث لم تكن الوطنية قد ظهرت للوجود أو لم يكن الشعور بالانتماء الوطني قد بزغت شمسه بعد..

بعد قرونٍ طويلة، وعلى الرغم من بزوغ شمس الشعور بالتمايز بين قوم وآخر، بين جماعة وأخرى، لكن دون تعيينٍ لما قد يعنيه هذا التمايز، أصدر الإمبراطور السوري المتربع على العرش الروماني “كركلا” مرسومه “الأممي” الشهير الذي جعل بموجبه جميع سكان الإمبراطورية سواسية، يخضعون لقانون واحد ضمن الحرية والحقوق الأساسية التي منحت إليهم، ويُعدّ هذا المرسوم نقطة تحول بالغة الأهمية في تاريخ الإمبراطورية الرومانية والعالم، إذ إنه لم يقتصر على تحقيق المساواة بين رعايا الإمبراطورية أي بين المركز والأقاليم فحسب، وإنما منح الرعايا حقوقًا كاملة، سياسية واقتصادية واجتماعية، وفتح أمامهم أبواب الإدارة في الإمبراطورية إلى أرفع المناصب.

ويرى بعض الباحثين أن (جوليا دومنا) استهدفت بهذا المرسوم (الذي كانت وراء إصداره) تحويل أقاليم الإمبراطورية الرومانية إلى مجتمع واحد لا تزول فيه الفروق بين رعايا الأقاليم فحسب، وإنما تزول فيه أيضًا نظرة التفوق التي كان يتعامل من خلالها الرومان مع شعوب الأقاليم التي تحكمها روما(1)، وعلى الرغم من أن المرسوم جاء لكبح جماح الشعور بالتمايز، فإنه من حيث المبدأ جاء للدلالة على أن الدولة هي لجميع المنضوين تحت ظلالها..

بعد انتصار المسيحية، وعلى اعتبار أن الدين بطبيعته وجوهره أممي النزعة، بقي مرسوم “كركلا” ساري المفعول إنما بصيغته الدينية “المعدودية الدينية” والتي تنضوي تحتها مختلف الشعوب الآخذة بالمسيحية، لكنه لم يَحُلْ، أيضًا، دون الشعور بالتمايز الذي أخذ يظهر شيئًا فشيئًا بعد تفكك الإمبراطورية الرومانية على شكل إمارات بلغت أكثر من ثلاثمائة إمارة- إقطاعية في الجوهر تلبست معنى الدولة من حيث استقلاليتها عن الإقطاعيات الإمارات الأخرى وأبقت على صلتها بالمركز الديني وإن بصورة شكلية..

بعد نحوٍ من أربعمائة عام، كان مرسوم كركلا هو المرسوم الذي سارت عليه كلٌ من الدولة الأموية ومن بعدها العباسية وبصيغته الدينية أيضًا، حيث لم تَحُلْ المعدودية الإسلامية من ظهور الدويلات بعد أن ضعُفت الدولة العباسية وأصبحت مرتعًا لما سُمّي بـ”الشعوبية الفارسية والتركية”.

هذا التحول التاريخي في الشعور بالتمايز، تمثل بنزوع استقلالي عن المركز، في الغرب والشرق معًا، واستمر قرونًا، عمّت بها الفوضى مختلف بقاع العالم القديم، وبلغ ذروته في حرب الثلاثين في أراضي الإمبراطورية الرومانية المقدسة وحرب الثمانين عامًا بين إسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة التي أنهكت أوروبا، والتي أدرك الجميع نتائجها الوخيمة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، فكان من الطبيعي أن تتغير النظرة إلى المركز (الكنيسة) لجهة التبعية الدينية، التي لم تجدِ نفعًا في الحيلولة دون الحروب بين أتباعها، بل وعلى العكس فإن هذه التبعية كانت وراء الفوضى التي برّر من خلالها المتحاربون حروبهم، وأدرك الجميع “بذاءة الجدل الديني. ووحشية الحرب، وقساوة العقيدة. وأعدم أثناء المعمعة آلاف من الساحرات. وبدأ الناس يرتابون في المذاهب التي تبشر بالمسيح وتقترف قتل الأخوة بالجملة. وكشفوا عن الدوافع السياسية والاقتصادية التي تسترت تحت الصيغ الدينية، وارتابوا في أن حكامهم يتمسكون بعقيدة حقة، بل إنها شهوة السلطة هي التي تتحكم فيهم، فولّى كثير من الناس وجوههم شطر العلم والفلسفة للظفر بإجابات أقل اصطباغًا بلون الدم من تلك التي سعت العقائد أن تفرضها في عنف بالغ. وكان جاليليو يفرغ في قالب مسرحي ثورة كوبرنيكس. وكان ديكارت يثير الجدل حول كل التقاليد وكل السلطة. وكان برونو يشكو إلى أوروبا آلامه المبرحة وهو يساق إلى الموت حرقًا..”.

لكن وفي مجمل التحولات التاريخية هذه، كانت الدولة هي الهدف، فإقامة الدولة المركزية القوية والتي تستطيع تأمين مصالح وأغراض مجتمعها وتمثيل إرادته، هي الهدف الأسمى الذي سعى إليه القادة السياسيون والعسكريون والمفكرون والفلاسفة الاجتماعيون الذين أطّروا هذا الهدف بمختلف المبررات التي تؤكد شرعية هذا الطموح في بناء الدولة المستقلة ذات السيادة، وعلى مدى أربعة قرون من الفوضى في سبيل تحقيق هذا الهدف وعلى الرغم من الحروب التي سادت أوروبا، نتيجة تضارب طموحات ما تقدم، بات التمايز بين المجتمعات واضحًا كل الوضوح وراحت الدولة تبحث عن مخرج لها من فوضى ضاربة أطنابها في كل الشؤون الحياتية مما كان يحول دون استقرارها وتاليًا وحدتها وسيادتها.. فكانت معاهدة “وستفاليا” /1648/ المخرج العملي لما عانت منه شعوب أوروبا كافة، في وستفاليا، وعلى الرغم من تعثر الطريق إليه، وضع حجر الأساس للأمة- الدولة..

في الدولة- الأمة، ظهرت للوجود الدولة ذات السيادة، والتي شكلت بدورها الأساس لما سمي فيما بعد بـ”السياسة الدولية”، والدولة ذات السيادة هي في جوهرها “حقيقة جيوسياسية” بل ومفهوم قانوني وعلى القدر نفسه “عقيدة سياسية”، الدولة ذات السيادة هي بالتعريف “مجتمع سياسي محدد جغرافيًّا” معترفٌ به من قبل المجتمعات الأخرى، والاعتراف هنا فعل قانوني رسمي على أنها المسؤول الوحيد عن حكم تلك الأرض وتاليًا هي الدولة المستقلة عن أي وصي أعلى سياسي أو ديني وهي أيضًا عقيدة سياسية جوهرها الاستقلال والحرية وتقرير المصير، هذا ما أقرته مختلف الاتفاقات الجيوسياسية، والتي كانت بحق الصرخة المدوية لنظام الأمة الدولة والتي بدورها وضعت الحجر الأساس للعلاقات الدولية الحديثة وجوهرها يقوم على أن الدول شخصيات اعتبارية لا تتحدد بصغرها أو كبرها أو بضعفها أو بقوتها، مما يعني بطبيعة الحال، أن الحاكم المسؤول عن صيانة الأمن والسلام في نطاق سلطته، مسؤول أيضًا عن عدم المساس بالنظام الدولي الذي لا يجيز تدخله في شؤون الدول الأخرى، هذا ما أقره على التتالي مشروع معاهدة “وستفاليا” والذي كان الحجر الأساس في توطيد السلام الأوروبي أولًا ومن ثم السلام العالمي في بعد..

لقد عانى مفهوم الدولة الأمة الكثير من اللغط، وتحديدًا في شطره الثاني “الأمة” حيث تداخلت في تحديده مختلف النتائج التاريخية التي انتهى إليها الصراع على اختلاف أشكاله على الصعيد الأوروبي، فعلى الرغم من أن الاتفاق قد وضع حدًّا للحروب الدائرة فيها مع ملاحظة استمرار الحروب على جبهات أوروبية أخرى، فرنسا مع إسبانيا حتى عام 1659،.. فإنه من جهة أخرى ترك الباب مشرعًا للفوضى على الساحة الأوروبية، ومن ثم بعد حركة الاستكشاف الأوروبية في إفريقيا وآسيا وأميركا، عُمم اتفاق وستفاليا من حيث مفهوم الأمة الدولة على مختلف الدول التي نشأت بعد انحسار الإمبراطوريات (العثمانية والبريطانية) وظاهرة الاستعمار الغربي بوجه عام، حيث قاد هذا التعميم لرسم خرائط عشوائية في مختلف أصقاع العالم، فجُزّئت الأمم ذات الدورات الاجتماعية- الاقتصادية الواحدة إلى دول أطلق عليها مسمى “أمة” وتمتعت هذه الدول بسيادة وهمية أسبغتها عليها مرحلة الاستعمار المشار إليها أعلاه..

وحيث لم يكن لدى الأوروبيين مفهوم موحد لمصطلح “أمة” فإنهم أسبغوا تناقض مفاهيم هذا المصطلح على ما تبقى من العالم، وتاليًا، فإن معاهدة وستفاليا، وإن أرست مفهومًا محددًا للسياسة بين الدول “السياسة الدولية” المعمول بها اليوم فإنها لم تَحُلْ دون استمرار الحروب بين الدول والتي تدور في مجملها حول التجزئة بهدف تكامل المدى الحيوي “الأمة” لأي من الدول المعترف بها “ذات سيادة” الأوروبية منها وغيرها، إذ بقي مفهوم مصطلح “السيادة” رهنًا بالتقلبات السياسية ومصالح الدول التي أضحى لها هذا المفهوم محرضًا ودافعًا، بل ونزوعًا لاستكمال معنى السيادة بمعناه “المدى الحيوي” والذي وجدت به الدولة، أنها بدونه تبقى عاجزة عن القيام بمهماتها الملقاة على عاتقها وتحديدًا تأمين احتياجات مصالحها وحماية بنيتها الدولية من تعديات الدول الأمم الأخرى، وهذا ما تفسره استمرارية الحروب بعد وستفاليا، فقد استولت السويد مثلًا لاحقًا على ليفونيا وأستونيا وأنجريا وكاريليا وفنلندا وأصبحت في عداد الدول العظمى باعتبارها سيدة البلطيق حتى مجيء بطرس الأكبر.. أما فرنسا فقد استولت على فرانشن كونتية واللورين، وتمكنت من تحقيق وحدة فرنسا وقوة دفاعها، والإبقاء على فوضى الإمارات في الإمبراطورية، وعلى الصراع بين الأمراء والإمبراطور، وعلى النزاع بين الشمال البروتستانتي والجنوب الكاثوليكي، مما ساهم في حماية فرنسا من خطر ألمانيا الموحدة..

حيال ما تقدم، كان لا بدَّ من تعيين مدلول مصطلح “أمة” وتاليًا مصطلح “دولة” بعدما ثبت أن كلا المصطلحين لم يحولا دون تنازع البقاء من جهة والسلام الدولي من جهة أخرى.

وفق مبدأ سعادة “شرط الوضوح التعيين” ووفق مبدئه أيضًا “وحدة الفكر والنهج والأشكال التي تحقق الفكر في النهج” على اعتبار أن الدولة هي الشكل الذي تتحقق من خلاله مصالح الأمة، وإن كان مصطلح “دولة” المعمول به اليوم يقارب مفهوم “ماكس فيبر” الذي يقول إنها “منظمة تدعي (بنجاح) احتكار الاستخدام الشرعي للقوة المادية ضمن رقعة جغرافية محددة “هذا المفهوم للدولة الأمة ما زال يعاني من شوائب كثيرة، حتى على الصعيد الأوروبي الذي لم يتبلور فيه هذا المفهوم” الأمة الدولة “إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وبما يتناسب والمصلحة الأوربية بالتحديد، والتي بدأت تعاني من النقص الفاضح في مفهومها لهذا المصطلح والذي بات يتعارض حتى مع مصالحها كدول ومجتمعات، ومع ذلك ما يزال هذا المفهوم متعثرًا في الكثير من الدول التي تعاني من خروقات اجتماعية وسياسية وثقافية ودينية وعرقية.. نتيجة ما تقدم، على شاكلة ما تعانيه فرنسا من النزوع الاستقلالي في بريتون والباسك أو ما تعانيه كل من سويسرا وكندا وبلجيكا من تواجد الجاليات الفرنسية داخل كياناتها، وكما في أوروبا كذلك في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.. فعلى سبيل المثال، ونتيجة تشكل الدول وفق المفهوم الأوروبي، فإن “نيجيريا مثلًا تضم ثلاث مجموعات عرقية كبرى منها /يوروبا والهوسا/ وحيث إن التجزئة لعبت دورًا سلبيًّا في ما يتعلق بهذه العرقيات فإنها شكلت بؤر توتر مستمر بين هذه الدول بنزوعها للوحدة والاستقلال.. على ذات النمط نجد أن الأكراد في سورية الطبيعية موزعون على دول أربع ويثيرون اليوم إشكالات الاستقلال في هذه الدول وقد أشرنا سابقًا لهذه المسألة وفي ظل هذا المفهوم أيضًا بات من الضروري إيجاد حلول عملية للاضطراب في العلاقات الدولية، فموناكو دولة كما الولايات المتحدة الأميركية، كذلك الفاتيكان دولة ضمن دولة، وهذه كردستان العراق دولة ضمن بؤرة معادية بالمطلق لوجود هكذا دولة، مما يُنبئ بمشكلات قد تتطلب تدخلًا دوليًّا بعد سقوط أعداد من الضحايا يقدمون على مذبح المفهوم والمصلحة الغربية عمومًا.

حيال ما تقدم وهو جزء يسير من الواقع السياسي اليوم يبدو أن تحديد سعادة لمفهوم مصطلح الأمة هو الحل، والذي عملت مختلف الهيئات الدولية والكيانية بمختلف هيئاتها، على طمسه وتغييبه عن الساحة السياسية بل والاجتماعية والثقافية و…

(1)- كان الشاعر اللاتيني (جوفنال) يتذمر في هجائيته المسماة “بابل” من أن نهر (العاصي) السوري أصبح يصب منذ زمن بعيد في (التيبر) والحياة أصبحت في روما لا تُطاق من كثرة هؤلاء الأغراب الذين توافدوا على العاصمة واستقروا فيها..

في مفهوم سعادة لمصطلح “أمة” تتخذ السياسة الدولية منحى آخر، حيث نتبين النتائج من الأسباب، ولا نخلط بينهما، نتبين ما الفرق بين نتائج تاريخية ظرفية مرحلية، طبعت فترة تاريخية معينة، وبين نتائج “الاشتراك في الحياة” الموما إليه آنفًا، بين الصفات المكتسبة تاريخيًّا وتلك المكتسبة حياتيًّا كنتيجة للتفاعل التاريخي بين الجماعة والبيئة، بين الطارئ والدائم، بين الثابت والمتحول والتابع.. وتاليًا تغدو السياسة الدولية تبادل منافع ومصالح، لأنه وكما مرَّ معنا آنفًا، يبقى السؤال الملحُّ هو: لماذا يبقى الربح خسارة للآخر؟ ولماذا لا تكون السياسة الدولية ممكنة في واقع أن الربح لا يعني خسارة للآخر، فبالتعاون يمكن لمجموعات مختلفة في المجتمع أن تحقق مزيدًا من الفوائد أكثر مما لو عملت في جو تنافسي (بارسونز)، خاصة وأن السياسة، في أوسع إطار لتعريفها، تبقى “غايتها تحقيق أشكال من التحالفات الممكنة بين الناس بدلًا من زرع الفتن بين المجموعات البشرية المختلفة؟..”.

في مؤلفه الرائع “نشوء الأمم” يناقش سعادة المفهوم الغربي لمصطلح “أمة” في محاولة منه لوضع الإصبع على الجرح، حيث يجد أن التداخل والاختلاف والتناقض كان في أن التعريف “لا يخلو من عصبيّة القوميّة أو الوطنيّة، أو من الأغراض السّياسيّة، وهو لذلك عرضة لاختلاف النّظريّات وتعدّد المذاهب فيه..” والسبب الذي يراه جوهريًّا في هذا الموضوع هو “أنّ الأمّة تنطوي على عنصر عامّ، بل حيويّ لها، مفقود من المتّحدات الأخرى، هو العنصر السّياسيّ..” والذي في ضوئه تتوضع مفاهيم هذا المصطلح، فتنازع البقاء مسألة لا يغفلها السياسيون عمومًا، لذا “يلجأ سياسيّو الأمّة ومفكّروها إلى نظريّات توافق ظروف أممهم وتكسبها معنويّات قويّة. فبعضهم يبحث عن حقيقة تاريخيّة أو مثال حقيقيّ أو موهوم من التّاريخ، أو عن نزعة دينيّة أو سلاليّة..” من هنا تأتي “صعوبة فهم المتّحد القوميّ أو الوطنيّ من وراء التّحديدات الّتي قد تبدو متعارضة، وتكون كذلك أحيانًا إن لم يكن غالبًا، لأنّ الّذين حدّدوا الأمّة حدّدوها على ما سطع لكلّ منهم من نورها ووحيها في بيئته الخاصّة..” لأنهم في ذلك يعودون أدراجهم، لطفولتهم، لأصدقائهم، لتربيتهم، للأحداث التي تعصف بمجموعات ينتمون إليها، لما تعلموا مَنْ يكونون، وبالمجمل، لمستوى ثقافتهم وعمقها وتأثيراتها على مصالحهم ومنافعهم وكاريزما الكاتب فيلسوفًا كان أم عالم اجتماع..(1) ما بين “سنيكا” و”بابنيان” نقع على اختلاف مفهوم مصطلح الأمة، لدى منتشيني وبرادير، دوركهايم، ايوانوف، رينان، شبكلر، فون إيرن، الذين تباروا في تعريف هذا المصطلح وتناول سعادة نظرياتهم بالنقد والتحليل.. وعلى ما يبدو أن اختلاف التعريفات يعود في جوهره لنسبة العلاقة بين ثلاثية (القانون والفلسفة والتاريخ) بهدف اكتشاف نظريات أو قوانين عامة حول طبيعة السلوك السياسي أو هي نتاج لنسبة الفلسفة إلى الاجتماع والاقتصاد/ يقول سعادة: “إنّ القياس كان ولا يزال مصيبة كبيرة في الأبحاث العلميّة الاجتماعيّة، خصوصًا في الأبحاث الّتي لا تجرّد علم الاجتماع من النّظريّات الفلسفيّة، من الفلسفة الاجتماعيّة، وهو الالتجاء إلى القياس ما أوجد شيئًا كثيرًا من الخلط في المسائل الاجتماعيّة عمومًا ومسألة الأمّة والقوميّة خصوصًا”، والتي تنبّه الغرب لها بعد نحوٍ من ربع قرن على ما جاء به سعادة (2) والتي ما تزال مدارس الغرب الاجتماعية تحبو نحوه يعيقها في ذلك تعارض استنتاجات دراساتها مع الواقع السياسي ومصالحه في الاستئثار بالمواد الخام التي تملكها المجتمعات محور تلك الدراسات..

في نقده التحليلي، يميز سعادة بين السبب والنتيجة، بين الدائم والطارئ، بين الثابت والمتحول، بين الباطن والظاهر.. فيُسقط كل ما هو خارج “الاشتراك في الحياة” من مفهوم الأمة لديه وكل ما هو طارئ نتيجة ظرف أو مرحلة تاريخية معينة، يسقط الشكل على حساب المضمون، وكل ما يتعارض أو يمكن له أن يتعارض ومبدأ الاشتراك في الحياة، باعتبار أن الأمة “واقع اجتماعي بحت”.

اللغة والدين والعادات والتقاليد والآلام والآمال المشتركة والتاريخ المشترك والأصل الواحد والمصالح المشتركة.. من وجهة نظره “كلّ ميزة من ميزات الأمّة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتّحاد في الحياة الّذي منه تنشأ التّقاليد والعادات واللّغة والأدب والدّين والتّاريخ “

يقدم سعادة عنصر البيئة على أي عنصر آخر من عناصر تكوين الأمة “البيئة الجغرافيّة ضروريّة لحياة المتّحد أو المجتمع ضرورة الأرض للحياة..”، حيث -كما أشرنا سابقًا- “لا جماعة حيث لا بيئة” ذلك أن “الظواهر الجغرافية الإنسانيّة (توزيع البشر) تنسب إلى الوحدة الأرضيّة الّتي لا يمكن تعليل تلك الظّواهر بدونها. إنّها (الظّواهر) تعزى، في كلّ مكان، إلى البيئة الّتي هي بدورها وليدة توافق حالات فيزيائيّة..”، ولما كانت الأمة “واقعًا اجتماعيًّا بحتًا” فهي دون أدنى شك “مجتمع طبيعي” وليست مجتمعًا مصطنعًا بعوامل خارجة على مبدأ الاشتراك في الحياة كالاجتياحات الحربية، فالإمبراطورية الرومانية ومن بعدها الأموية والعباسية ومن ثم العثمانية وآخرها الإمبراطورية البريطانية، ضمت الكثير من المجتمعات الطبيعية، لكنها لم تستطع دمج هذه المجتمعات في وحدة طبيعية، بل بقيت متمايزة بعضها عن بعض على الرغم من الوحدة السياسية التي ضمّتها قرونًا عدة.

وانطلاقًا من مبدأ “الاشتراك في الحياة” ينطلق سعادة في تأكيده على أن “الأمّة من الوجهة السّلاليّة أو من وجهة الأصل، هي مركّب أو مزيج معيّن كالمركّبات الكيماويّة الّتي يتميّز كلّ مركّب منها بعناصره وبنسبة بعضها إلى البعض الآخر..”، أما لجهة العادات والتقاليد فإنها تخضع بعامل الاشتراك في الحياة لمبدأ التطور: “كلّ تطوّر ثقافيّ في أمّة من الأمم يولّد تقاليد جديدة. وشرط التّقاليد المميّزة الأمّة أن تكون متولّدة من حياة الأمّة. فهنالك تقاليد مشتركة بين عدد من الأمم ولكن ليست هذه التّقاليد هي الّتي تميّز الأمّة..” وحيث إن اللغة هي نتاج اجتماعي، فهي ليست سابقة للمجتمع، أي إنها ليست عنصرًا من عناصر تكوينه أو سببًا من أسباب تشكله، يضاف لما تقدم أن اللغة لها طابع أممي بعوامل عدة، تاريخي /كنزوع المحتل لفرض لغته على الجماعة المُحتلَّة/، أو ديني /وجعلناه قرآنًا عربيًّا لعلكم تعقلون/، أو اقتصادي /الآرامية كلغة للعالم القديم أو الإنكليزية اليوم/. وعليه يؤكد سعادة “إنّ وحدة اللّغة لا تقرّر الأمّة ولكنّها ضروريّة لتماسك الأمّة..” ولما كان الدين “في أصله لا قوميّ ومنافٍ للقوميّة وتكوين الأمّة، لأنّه إنسانيّ ذو صبغة عالميّة..” كان خارج مبدأ الاشتراك في الحياة وتاليًا ليس عنصرًا من عناصر تكوين الأمة ذلك أنه “حيثما تضاربت مصلحة المجتمع، الدّولة أو الأمّة، ومصلحة الدّين كانت مصلحة المجتمع هي الفاصل في النّزاع..”، وهذا ما نراه بوضوح في الطوائف والمذاهب الدينية على اختلاف الأديان، وهي بطبيعة الحال الطوائف والمذاهب محاولة المجتمعات تكييف الدين وفق أساطيرها الدينية وثقافاتها وعاداتها وتقاليدها، كما هي الحال في الطقوس المسيحية التي “ترومنة” بعدما اعتمدتها الإمبراطورية الرومانية دينًا رسميًّا لها، أما الوحدة السياسية فعلى الرغم من أهميتها بالنسبة للأمة “ليست شرطًا للأمّة ولا عنصرًا من عناصرها ولكنّها ضرورة من ضرورات الأمّة ليكون لكيانها الاجتماعيّ الاقتصاديّ قيمة حيويّة عمليّة. كلّ أمة تتجه بطبيعة وجودها إلى إنشاء دولة تضمن لها سيادتها وحقوقها الأنترنسيونيّة..” وهي “التّاج الّذي تتوّج به الأمّة نفسها وتحصل به على اعتراف الأمم الأخرى بحقّها في الحياة وكرامتها الشّخصيّة”. كذلك هو التاريخ “فهو سجل مجرى حياة الأمّة، وخطورته هي في القوميّة، في روحيّة الأمّة ووجدانها، لا في الأمّة بعينها..” كذلك أيضًا “لا تعيّن الثّقافة الأمّة ولكنّ الثّقافة تكون فارقًا بين أمم وأمم. والسّبب في هذا الفارق اقتصاديّ جغرافيّ قبل كلّ شيء، حيثما وجدت المؤهّلات الرّوحيّة.”.

بناء على ما تقدم، يمكننا صياغة تعريف للأمة التي ينادي بها سعادة “الأمّة جماعة من البشر تحيا حياة موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النّفسيّة الماديّة في قطر معيّن يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التّطوّر، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات.”.

(2)- “لقد طلب الإمبراطور كركلا، من الفيلسوف (سنيكا) أن يُعِدَّ رسالة تسوغ هذا القتل (قتل أخيه غيتا) موجهة للسانتو (مجلس الشيوخ) ففعل، ثم أمر (بابنيان) وهو شقيق جوليا دومنا، النابغة الحقوقي، أن يفرغ كل ما أوتي من مهارة وفصاحة في سبيل تلمّس الأعذار لهذه الفعلة، ولكن المفاجأة التي لم يكن كركلا يتوقعها هي رفض رجل العدالة هذا الأمر.. مفضلًا الموت على تشويه الحقيقة” مما يعني أن الموقف، نظريًّا كما في علوم الإنسانية أو العملي، مرهون بكاريزما الفرد المعني به، خاصة وأن علوم الاجتماع والسياسة ليست حيادية موضوعية، منزهة، عن الشخصية التي تمليها، كتابة أو إملاءً.

(3)- يقول سعادة مثلًا “ولا يقتصر تنازع البقاء على تنازع النّظريات بين الأمم، بل يمتدّ إلى تنازع النّظريات ضمن الأمة الواحدة، لما تشتمل عليه الأمّة من طبقات وجماعات يكون لبعضها مطامع ومصالح خاصّة”.

يقدم كلٌ من (ستيفن. د.تانسيو نايكل جاكسون) في كتابهما (أساسيات علم السياسة)، عرضًا للكثير مما أورده سعادة في مؤلفه “نشوء الأمم”، وعلى سبيل المثال نورد هذه الفقرات:

(.. على أية حال، يبدو واضحًا أن للعوامل الدينية واللغوية والقبلية إضافة لعوامل عرقية أخرى، أهمية في بناء الهوية السياسية عند الكثير من الناس، لكن بدرجات متفاوتة وبأوقات وأزمنة مختلفة اعتمادًا على البيئة السياسية.. يبدو أن الهوية العرقية للفئات العرقية قيد الدراسة تمثّل عاملًا نفسيًّا وسياسيًّا مهمًّا، فالعنصرية التي تعني وجود فروقات طبيعية مرئية حقيقية أو متصورة هي في الحقيقة اجتماعية وليست بيولوجية، لأن التجمعات الحالية هي عمليًّا خليط وراثي إلى حد بعيد..) و(إن أحد الانقسامات الكبرى الذي يبدو شاملًا في الأنظمة السياسية الكبرى هو ما يدعوه “الآردت وليتنين” 1964 /خطوط الانقسام العمودية/، تلك التي تحدث بين التجمعات المحلية والأقاليم وفي بعض الحالات المناطق الوطنية ضمن الدول.. ومن الواضح أن تأثير القرب الجغرافي يتعلق بمجموعة من العوامل الأخرى التي قد تؤثر بقوة في الولاءات المحلية والإقليمية وعليه فالسؤال: ما مدى تقسيم المجتمعات الجغرافية اجتماعيًّا ولغويًّا؟ وقد تكون طبيعة الاقتصاد هي مهمة أيضًا.. كما أن تأثير الفتوحات التاريخية والهجرة عاملين في هذه الأشكال من الانقسامات..)

إن الاستقرار السياسي أو عدمه ينشأ عن عدد من الصراعات المختلفة يمكن طرحها بصيغة تساؤلية على النحو التالي:

(1)- من نحن؟ ويتضمن السؤال بحثًا في القضايا المتعلقة بالهوية الوطنية/ القومية، العنصرية، العرقية، الطبقة، الجنس، الدين.

(2)- ما نفعل؟ ويتضمن البحث في مواضيع توزيعية، كيف نقدم خدمات الدولة وننظم الاقتصاد.

(3)- كيف نقوم بذلك؟ ويتضمن البحث في قضايا إجرائية المحافظة/ الراديكالية، المؤسساتية.

من المستفيد؟ ويتضمن البحث في قضايا إعادة التوزيع، الأغنياء مقابل الفقراء (الناس، الأقاليم، الدول).

الدولة- القومية:

في القومية، تغدو الدولة، هي الممارسة المجتمعية للسلطة، من هنا كانت الدولة القومية هي دولة ديمقراطية، كون هذه الأخيرة، كما سبق وألمحنا، ليست شكلًا من أشكال الحكم الدولة، كما هو متداول، إنها نسق حياة، نهج، سلوك، ممارسة، تربية، ولأنها كذلك، هي قومية، ولأن هذه الأخيرة أيضًا هي “الرّوحيّة الواحدة، الشّعور الواحد.. إنّها الوجدان العميق الحيّ الفاهم الخير العامّ، المولّد محبّة الوطن والتّعاون الدّاخليّ.. الموجد الشّعور بوحدة المصالح الحيويّة والنّفسيّة، المريد استمرار الحياة واستجادة الحياة.. شعور خفيّ صادق وعواطف حيّة وحنوّ وثيق على الحياة التي عهدها الإنسان. إنّها عوامل نفسيّة منبثقة من روابط الحياة الاجتماعيّة الموروثة والمعهودة”.

القومية هي في تعريف سعادة إذًا، قيم، مناقب، سلوك، تربية، نهج.. هي مرادف لغوي للديمقراطية، القومية ديمقراطية لأنها شعور، وجدان، عواطف، حنو، إنها، عوامل نفسية منبثقة من روابط الحياة الاجتماعية، لذلك هي “الشعور الفاهم الخير العام، المولد محبة الوطن والتعاون الداخلي.. الشّعور بوحدة المصالح الحيويّة والنّفسيّة، المريد استمرار الحياة واستجادة الحياة..” فأي معنى للديمقراطية غير هذا؟

لذلك كانت الحتمية الوحيدة التي يُقِّرُّها سعادة في مجمل طروحاته هي أن: “الدّولة الدّيمقراطيّة هي دولة قوميّة حتمًا،” ذلك أنها دولة المتحد الأمة، وحيث أن القومية “هي ظاهرة نفسية اجتماعية” هي تاليًا “يقظة الأمّة وتنبّهها لوحدة حياتها ولشخصيّتها ومميّزاتها ولوحدة مصيرها..”.

ولأن القومية ديمقراطية تخرج عن كونها، فكرة أو معتقد أو “نوعًا من الطوطمية” أو “نعرة دموية سلالية” أو “عصبية هوجاء” أو “نعرة متولدة من اعتقادات أولية” هذه الأخيرة، هي ما يوليه سعادة اهتمامه الأكبر ويضمنها “قسم الانتماء لحزبه”.. وأن “أتخذ مبادئه شعارًا لي ولعائلتي..”، وفي موضع آخر يؤكد على “إن أعظم أعمالي بعد تأسيس القضية هي المؤسسات.” المنوط بها صهر وبلورة وصقل هذه القناعات الأولية التي تتشكل نتيجة مؤثرات اجتماعية تربوية بحتة (الأسرة، الأصدقاء، والرفقة المدرسية، والوسط الاجتماعي بشكل عام..) في مراحل الفرد المبكرة، حيث المؤهلات الفردية النفسية تربة غضة يمكن أن تتجذر بها أي مفاهيم، وحيث الانتماء هو المقدمة الأولى لإثبات الشخصية الفردية في المجتمع، وحيث الأسرة هي البوتقة التي تتشكل فيها تلك القناعات الأولية، يؤازرها في ذلك الأصدقاء والرفاق والزملاء.. إضافة للوسط الذي يلعب دورًا مهمًّا في قبول أو رفض ما تشكل منها، حيث تلعب هذه أو تلك في تجذيرها ذهنيًّا دون أية خلفية فاهمة واعية مدركة لماهية الانتماء أيًّا كان، دينيًّا،عرقيًّا، طبقيًّا.. وعلى وجه الخصوص إذا كان المجتمع منقسمًا بحد ذاته إلى جملة من الأطر المتناقضة كما هي حال المجتمع السوري، مما يدفع بالفرد لتفضيل مجموعة اجتماعية واستعداء مجموعات أخرى لا تتقاسم معه قناعاته بل وتتناقض والمفاهيم التي تغدو “قيمًا” تشكل البوصلة التي يهتدي بها لضالته المنشودة أيًّا كانت أيضًا، هذه القناعات التي تواكب الفرد حتى نهاية حياته.. لا بد من صهرها وبلورتها وصقلها في بوتقة القومية للحيلولة دون المنحى السلبي الذي يهدد وحدة الأمة المجتمع، يقول: “كلّ جماعة ترتقي إلى مرتبة الوجدان القوميّ، الشّعور بشخصيّة الجماعة، لا بدّ لإفرادها من فهم الواقع الاجتماعيّ وظروفه وطبيعة العلاقات النّاتجة عنه. وهي هذه العلاقات الّتي تعيّن مقدار حيويّة الجماعة ومؤهّلاتها للبقاء والارتقاء، فبقاؤها غامضة يوجد صعوبات كثيرة تؤدّي إلى إساءة الفهم وتقوية عوامل التّصادم في المجتمع فيعرقل بعضه بعضًا ويضيّع جزءًا غير يسير من فاعليّة وحدته الحيويّة ويضعف فيه التّنّبه لمصالحه وما يحيط بها من أخطار من الخارج..”.

هكذا، وعلى الرغم من كون القومية هي ظاهرة نفسية اجتماعية، لكنها تبقى في جوهرها خاصة من خصائص الفرد من حيث هو “مواطن” يقول سعادة في مقدمة مؤلفه “نشوء الأمم”: “هذه الشّخصيّة (شخصيّة الجماعة) مركّب اجتماعي اقتصاديّ نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه..”، أي إنها سلوك ونهج فردي يرى مصلحة أمته فوق كل مصلحة من حيث أن المصلحة، في مفهوم سعادة هي “كل ما يولد عملًا اجتماعيًّا” هي نهج وسلوك فردي تبقى غايته الاشتراك في العمل المنتج لما فيه خير الجميع، بما يزيد من التأكيد على وحدة المصالح الحيوية والنفسية، العمل الهادف والمريد استجادة الحياة، هي الـ(نحن) في الأنا، هي الأنا المتمثلة في الـ(نحن) كل خير وحق وجمال، وعليه فالديمقراطية منتج قومي بامتياز.

يميز سعادة القومية عن الوطنية، نظرًا للحالة التي عليها أمته، والتي جُزئت بعامل الهيمنة نتيجة فقدانها السيادة على نفسها قرونًا طويلة، وحيث الأمة بالنتيجة مجموعة كيانات لا حول لها ولا قوة حتى على وأد ذاتها، وحيث إن “القرية متّحد والمدينة متّحد والمنطقة متّحد والقطر متّحد ولكلّ متّحد خصائص تميّزه عمّا سواه ممّا هو أصغر منه أو أوسع منه، أقلّ منه أو أكثر منه..” كان بطبيعة الحال الانتماء الأولي يبقى لواحدٍ من هذه المتحدات، هذا الانتماء هو ما يصطلح سعادة على تسميته بـ”الوطنية” حيث تلتبس القومية “بالوطنيّة الّتي هي محبّة الوطن، لأنّ الوطنيّة من القوميّة ولأن الوطن أقوى عامل من عوامل نشوء الأمّة وأهمّ عنصر من عناصرها..”، وهو بهذا التمييز يشدد على أن القومية من الأمة بينما الوطنية من الوطن الكيان أو من الدولة الأمة في المفهوم الغربي المعترف به عالميًّا على صعيد (عصبة الأمم المتحدة). هذا التمييز، كان ضروريًّا، لأمة جُزئت حديثًا (1918- 1936) ذلك أن رؤية سعادة الثاقبة لما يأتي من الأيام وولادة أجيال لم تحيَ حياة الوحدة القومية والتي كانت قائمة على مدى التاريخ رغم الاحتلالات بدءًا من 450 قبل الميلاد (قورش) إلى الاحتلال الإغريقي (اسكندر المقدوني) إلى الروماني فالعربي فالعثماني وآخرها الفرنسي والبريطاني، بل وجدت نفسها فيما خلفه الاستعمار الغربي من تجزئة سياسية تمثلت في كيانات (دول ذات سيادة أمة)، هذه الكيانات السياسية لا بد وأن تتمثل في هذه الأجيال بصورتها الاستقلالية، أي بالتعصب لها وتلبسها بالتالي مصطلح القومية بالوطنية، حيث يصبح الكيان هو الأمة والوطن وتتناسى هذه الأجيال كونها جزءًا من الأمة السورية وتلك الأجزاء المسلوخة عنها، لذا يأتي هذا التمييز (بين القومية والوطنية) للتنبيه لهذا الواقع الشاذ والذي لا ينكره سعادة بقدر ما ينبّه لخطورته على مستقبل الأمة.

من جهة أخرى، يقارع سعادة بمفهوم القومية الديمقراطية، جملة المفاهيم الغربية في الأمة والقومية، والتي لا نكاد نلحظ أي مفهومات حولها في مختلف النظريات الاجتماعية أو السياسية السائدة، وهو يشير في مقدمة مؤلفه -موضوع هذا الاجتهاد- إلى أنه “ومنذ ألّف ابن خلدون مقدّمة تاريخه المشهور ووضع أساس علم الاجتماع لم يخرج في اللّغة العربيّة مؤلّف ثان في هذا العلم فظلّت أمم العالم العربيّ جامدة من الوجهة الاجتماعيّة، يتخبّط مفكّروها في قضايا أممهم تخبّطًا يزيد الطّين بلّة.. ولفقر اللّغة العربيّة في المؤلّفات الاجتماعية نجدها فقيرة في المصطلحات الاجتماعيّة العلميّة. فوضعت في هذا الكتاب مصطلحات جديدة أرجو أن أكون قد توفّقت في اختيارها للدّلالة على الصّفة المعيّنة، كقولي: [الواقع الاجتماعيّ] و[المتّحد الاجتماعيّ] و[المناقب] و[المناقبية] (للمورال)”. مع ملاحظة أن مختلف النظريات الغربية الاجتماعية والسياسية، تتجاهل “مقدمة ابن خلدون”، بل وحتى التاريخ السوري وتكتفي باعتبار أن التاريخ يبدأ في إسبارطة وأثينا ورومة، بل وتستمد مختلف مستنداتها التاريخية من الإلياذة والأوديسة وأحيانًا نادرة “توراة اليهود”، رغم اعترافها بأنها مجموعة من الأساطير، كما وتتجاهل في تناولها للحقوق الرومانية أنها من وضع السوري (بابنيان) وإن أشارت إليه فتكتفي بالإشارة إليه كروماني.. هذا التجاهل كان واحدًا من العوامل التي دفعت بسعادة لوضع مؤلفه الرائع في الاجتماع وفي السياسة في محاضراته العشر التي يشرح فيها مدلولات هذا المؤلف الذي لم يُعطَ حقه حتى تاريخه.

تتناول كل النظريات الغربية الاجتماعية والسياسية، وخاصة الحديثة منها، موضوعات مجتمعاتها من حيث هي مجتمعات قائمة موضوعيًّا دون التطرق إلى أية إجابة على التساؤل: كيف انتهت مجتمعاتهم إلى ما هي عليه؟ ذلك أن السؤال المتقدم سيكشف مقومات هذا الواقع الاجتماعي والسياسي لهذه المجتمعات، ونقصد الحقبة الاستعمارية وتاليًا سياسة استنزاف موارد الأمم الأخرى (دول الشمال ودول الجنوب) (1) باستثناء المادية الديالكتيكية وتطبيقاتها في المادية التاريخية، والتي انتهت إلى الإهمال بعد سقوطها سياسيًّا (انهيار الاتحاد السوفييتي) وإن أشارت إلى الصين باعتبارها أحد أهم الاقتصاديات العالمية اليوم، فتشير إلى أن “ماركسيتها الماوية” تطعَّمت بكثير من المفاهيم الرأسمالية.

سعادة والفكر الغربي بمختلف مدارسه:

يقف سعادة موقفًا حاسمًا في فلسفته الاجتماعية /المدرحية/ من علم الاجتماع الغربي، الذي يتناول موضوعاته دون أي تحديد أو تعيين لمصطلحاتها والتي تبقى تحمل كل التأويلات، وهذه صفة عامة في مختلف مدارسه، لذا يبدو أن الحقيقة التي لا مراءاة فيها هي أن علم الاجتماع الغربي باستثناء المادية الديالكتيكية أقرب ما يكون إلى علم النفس السلوكي منه إلى علم الاجتماع، في موضوع هو أقرب إلى الشمولية منه إلى الخصوصية، يضاف إلى ذلك أنه يتناول المجتمع من حيث هو مُعطى موضوعي لا يمكن دراسته إلا من حيث علاقة الفرد به في ظل مجموعة النظم القائمة ومدى تأثيرها على سلوكية الفرد وموقف الفرد منها، ومن حيث إمكانية التغيير في هذه العلاقة والعوامل المؤثرة المباشرة وغير المباشرة في عملية التغيير المرجوة، وإلى أي مدى يمكن المضي في مثل هذه الأهداف التي تبقى غايتها تحسين ظروف الحياة في هذه المجتمعات بالتحديد، ناهيك عن أن نظرته للمجتمع على الرغم من اعترافه بأنه “وجود موضوعي” بالنسبة للأفراد تبقى منقطعة عن كونه “محتوى تاريخ أجياله” بمعنى أنه علم يبحث في خصائص وميزات وإمكانيات ومواصفات الجيل الذي يعاينه وإلى أي حد يمكن المضي في عملية الإصلاح أو التغيير لما يشوب هذا الجيل من تشوهات تعيق عملية التطور أو تؤخرها. والخلاصة التي يجب أن تبقى ماثلة في الذهن، هي أن علم الاجتماع الغربي هو علم كيانات تشكلت نتيجة ظروف سياسية مرت بها أوروبا في مرحلة سبقت عصر التنوير وسادت فيها الحروب والنزاعات والفوضى، هي إذًا ليست أممًا تشكلت تاريخيًّا، بل نظمٌ سياسية احتفظت بها المدن الرئيسية (باريس، لندن، برلين.) بطيف من المدن والقرى من حولها وشكلت ما اتفق على تسميته بالدول، دون نكران أن تقدمها ورقيها على مختلف الأصعدة والمستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية يعود في جوهره إلى تقييم موضوعي لجملة الأحداث العاصفة التي ضربتها وغيرت مختلف نظراتها إلى الكون والحياة، وهي المجتمعات الوحيدة التي استفادت من تجربتها التاريخية بشكل تام وكامل. وهذا ما نلاحظه واضحًا في الموضوعات التي يتناولها علم الاجتماع الخاص بها، ذلك أنه ينصب عمومًا على مواصفات وخصائص المجتمع الغربي بالتحديد، وكأن بقية المجتمعات المنتشرة على مساحة سطح الكرة الأرضية لا معنى لها ولا قيمة لدراستها.

لذلك يسهل على الدارس لهذا العلم أن يصنف علم الاجتماع الغربي بمختلف مدارسه بثلاث نظريات هي “التوافق، الصراع، الفعل” وما عداها يبقى خارج علم الاجتماع، ولما كنا قد تناولنا نظرية الصراع بأبرز أمثلتها /المادية الديالكتيكية/ فإننا نكتفي هنا بتناول نظرية التوافق بأبرز أمثلتها /الوظيفية/ ونظرية الفعل، أيضًا بأبرز أمثلتها /الفيبرية/.

ينعكس ما تقدم بمجمله على مختلف الموضوعات التي يتناولها هذا العلم، إذ تبقى مفهومات مصطلحاته عامة لا يمكن حصر مدلولاتها في مفهوم محدد، كما هو الحال عند سعادة الذي يمضي منطلقًا من شرط الوضوح والتعيين في تحديد مدلولات مصطلحاته قبل الخوض في الموضوعات التي تتناولها، فمن حيث الشكل العام، قد لا نجد خلافًا جذريًّا بين الوظيفية أو الفيبرية والقومية الاجتماعية عند سعادة، لكننا إذا ما أمعنا النظر يتضح لنا أن الخلاف قائم في المصطلحات التي تبقى جوهر الفكرة التي يُراد إيضاحها في أيٍّ من النظريات الثلاث، حتى إننا نجد أن سعادة يبدو أقل تطرفًا من دوركهايم وفيبر، الأول فيما يتعلق بتأثير الطبيعة على الفرد والمجتمع من جهة وتحديد مفهوم الطبيعة والمجتمع وملحقات الثاني “المعايير والقيم والثقافة والتنشئة الاجتماعية والدين”. وماكس فيبر في النزعة الفردية التي ينصب جلَّ اهتمام نظريته على تقديسها وإعطائها الأولوية في صيرورة المجتمع.

تطرح الوظيفية “الطبيعة” كمعطى موضوعي لا يمكن الانفكاك عن مؤثراته، فالإنسان في نظرها ما هو إلا كائن قد أتمت الطبيعة برمجته بيولوجيًّا، والشذوذ يبقى خللًا في هذه البرمجة “إن كل السلوك البشري متضمنًا التفاعل الاجتماعي هو ناتج ترسبات موروثة نمتلكها نحن كالحيوانات فإننا مثل الحيوانات مبرمجون بيولوجيًّا من قبل الطبيعة”. وعليه فإن “النسق الاجتماعي يعمل كنسق عضوي” فكما أن الجسم البشري مؤلف من أعضاء لها صفاتها وخصائصها ووظائفها البيولوجية والفيزيولوجية (القلب، الرئتان، الكبد). كذلك المجتمع بمختلف وظائفه “إن مؤسسات ومنظمات المجتمع مثل النظام الأسري والسياسي والتربوي والديني، كلها تماثل أجزاء الكائن الحي وأعضائه، وتتكون المجتمعات من مجموعة من الأعضاء المترابطة والمتداخلة فكما هو الحال مع أعضاء الكائن البشري فإن سبب وجود أي شكل من أشكال التفكير أو العمل المؤسساتي في المجتمع هو أنها تلعب دورًا حيويًّا وفريدًا وتمثل “وظيفة حيوية” في صيانة المجتمع والحفاظ عليه في وضع مستقر، كذلك، الوضع بالنسبة للجسم البشري فإن أي فشل في أي عضو من أعضائه بالقيام بوظيفته، سيؤدي حتمًا إلى المرض أو إلى الموت في النهاية”. وهذا ما تعبر عنه الوظيفية بمصطلحات مثل “فقدان الترابط الاجتماعي” أو “نقص الترابط والتكامل” أو “فقدان التوازن”.

ما تقدم يعطي صورة واضحة عمّا يشكل محور الوظيفية وما تصطلح على تسميته بالتماثل العضوي، الذي يبدو منتهى التطرف في موضوع تأثير الطبيعة “البيئة” على المجتمع، سعادة لا ينفي تأثير الطبيعة ولا كونها وجودًا موضوعيًّا بالنسبة للكائنات الحية بمواصفاتها العامة، التي عليها أن تتكيف وفق متطلباتها، لكنه يعيد التأثير لجملة من العوامل، أبرزها هو ما كان في “البيئات التطورية”، حيث لم تكن الطبيعة في وضعها المستقر الذي هي عليه الآن، وثانيها التأثير الذي يكون ناتجًا لخضوع الإنسان لمدى زمني طويل لمؤثراتها، ومع ذلك فهو يحدّ من تأثير البيئة على المستوى البنيوي للكائن البشري نظرًا لكون الأخير له ما يسميه “حدود سلامة” أو كما يقول: “تؤثر البيئة الطبيعية على لون البشرة، ونزيد هنا أنّ تأثير البيئة الطّبيعيّة في أشكال الهيئة غير السّلاليّة تأثير قويّ جدًّا، فقد ذكر “بواس” أنّ البيئة تؤثّر، في الغالب، على أشخاص مختلفين تأثيرًا يؤدّي إلى اتجاه واحد بناء على أنّ لكلّ عضو [حدود سلامة] يتكيّف ضمنها تبعًا لمقتضيات البيئة”. ومع ذلك فإن لهذه المؤثرات البيئوية حدودًا عند سعادة يقول: “إنّ التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة، الّتي، مع أنّها تتأثّر كثيرًا بعامل البيئة، إمّا أن تستفيد من القاعدة الطّبيعيّة شأن الجماعات الرّاقية، وإمّا تهملها على حسب استعدادها وإراداتها”. أما بالنسبة لموضوعية المجتمع وحتى البيئة يقول: “لا يختار الفرد مجتمعه إلا بقدر ما يختار أمه وأباه، لكنه قد يفضل أمه على أبيه”. بمعنى أنه قد يفضل النظام الاجتماعي القائم على سواه وقد يرفضه مفضّلًا نظامًا اجتماعيًّا آخر. لكن ما نلاحظه في كلتا النظريتين، الوظيفية والقومية الاجتماعية، هو تحديد المصطلحات التي تبقى غائمة في الوظيفية وواضحة كل الوضوح في القومية الاجتماعية، ففي حين تتحدث الوظيفية عن الطبيعة بشكل عام، نجد سعادة يحددها بالبيئة، بين المصطلح والمفهوم، تكمن أولى الميزات التي تتميز بها القومية الاجتماعية بل وتتفوق بها على الوظيفية والتي بدورها تقر ضمنًا بصوابية مفهومات القومية الاجتماعية لدى تناولها مصطلح المجتمع الذي يبقى أيضًا عامًّا غائمًا غير محدد، فهو بتعريف دوركهايم: “حقيقة مستقلة بذاتها وله وجوده الخاص”، وهذا يأتي استجابة منه لفهمه لمحتوى “المادة” والذي يبني عليه أنه يمكننا تطبيق القوانين العلمية المجردة على القوانين المجتمعية. “فالبنى الاجتماعية موضوعية مثلها مثل الطبيعة”. سواء أعجبتني أم لا فهي مفروضة عليّ، فأنا “عندما أقوم بتحقيق الالتزامات. فأنا أمارس الواجبات المفروضة عليّ والتي تمَّ تحديدها وتعريفها بشكل خارجي(؟) مع نفسي وتصرفاتي المختلفة، كما هو الحال مع القانون والعادات والأعراف، حتى لو كانت هذه الالتزامات تتفاعل مع مشاعري الخاصة وأشعر بحقيقتها بشكل ذاتي فهي أو الحقيقة الخاصة بها ما زالت موضوعية، حيث إنني لم أصنعها أو أخلقها بنفسي فقد ورثتها (؟) بشكل بحت من خلال التربية”. وفي المحصلة ينتهي دوركهايم للقول: “إن أفكار الأفراد وكذلك أفعالهم المختلفة هي منتج القوى الاجتماعية الخارجية(؟) والتي تشكل الأبنية الاجتماعية المختلفة. فقوانين المجتمعات ليست بمختلفة عن تلك الحاكمة لباقي الظواهر الطبيعية، والطريقة التي يتم اكتشافها بها متطابقة مع مثيلاتها من العلوم الأخرى”. عند هذه النقطة تقف الوظيفية عاجزة عن الإجابة عن التساؤل المنطقي وأيضًا العلمي الذي يطرح: أنه إذا كانت القوانين الاجتماعية هي متطابقة مع الظواهر الطبيعية فلماذا تختلف المجتمعات بعضها عن بعض، إذا لم تكن البيئة هي العامل الحاسم في هذا الشأن، ولماذا تختلف القوانين والعادات والأعراف بين مجتمع وآخر. لو لم تكن البيئة لا الطبيعة هي الحاكمة بقوانينها إلى الحد الذي لا يلغي دور الفرد، حيث العوامل الفاصلة في التاريخ هي العوامل النفسية والفردية وفق سعادة.

يختلف سعادة من خلال فهمه للمجتمع مع دوركهايم، فمن جهة أولى يستخدم مصطلح “المجتمع” كمفهوم “لوحدة الحياة” أو هو “وحدة الشعب” أو هو “الأمة التي هي وحدة الشعب المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي”، ويفرق بينه وبين المتحد وبينه وبين المجتمع المصطنع (كما هو الحال في زمن الإمبراطوريات حيث الأمم على اختلافها دولة واحدة) (1) كذلك مفهوم البنى الاجتماعية عند دوركهايم تتكون من مجموعة من المعايير والقيم يقول: “إن تحقيق الإنجاز في الحياة الاجتماعية بين الأفراد ووجود النظام الاجتماعي (التضامن العضوي) يتم تدعيمه بالثقافة والتي تمثل المعايير الجمعية، وقواعد السلوك (الوقائع الاجتماعية) ليست سوى امتداد خارجي ويتم فرضها على هؤلاء الأفراد”.

وعلى الرغم من صحة ما تذهب إليه الوظيفية في مفهوم البنى الاجتماعية وموضوعيتها بالنسبة للأفراد، لكنها تخطئ في ردها لمثيلاتها من الظواهر الطبيعية، ذلك أنها تعود في جوهرها إلى مفهوم المجتمع كوحدة حياة، كاستمرار الحياة على أرض محددة المعالم لها مؤثراتها التي تختلف من بيئة إلى أخرى، كما يشير، ويؤكد سعادة لكيفية نشأتها وتطورها وما هو نابع من وحدة الحياة وما هو طارئ نتيجة ظروف قاهرة خارجة على منطق الوحدة الحياتية والتي هي بالذات مصدرها ومُقرر منحى تطورها التاريخي يقول: “إنّ الاشتراك في الحياة يولّد اشتراكًا في العقليّة والصّفات كالعادات والتّقاليد واللّهجات والأزياء وما شاكل. الاشتراك في الحياة هو ما يعمى عنه عدد وافر من الكتّاب والدّارسين”. يتابع سعادة تحديد مصطلحاته فيقول: “والفرق بين العادات والتّقاليد، أنّ الأولى لا يجب أن تكون موروثة من الأجيال الماضية والثّانية وراثية في الأجيال. تتناول التّقاليد ما هو بمعنى الطّقس أو القانون غير المكتوب لما يكون لها من المساس بالحالات النّفسيّة العميقة وشؤون الحياة الهامّة كالزّواج وأحواله والمآتم وطريقة دفن الموتى ونظام العائلة، وهي لذلك أثبت وأصلب من العادات. وبالإجمال العادة تتعلّق، على الأكثر، بالذّوق وما هو مستحسن وما هو مكتسب في الحياة الجيّدة اليوميّة، والتّقليد يختصّ بما هو جوهريّ في الحياة الاجتماعيّة وما يتعلّق بالاعتقادات الخفيّة المتوارثة ومنها ما صار اعتقادات دينيّة أو نصف دينيّة. تنشأ التّقاليد من اختبارات الحياة والاعتقادات بشأنها وتنشأ العادات من ظروف الحياة واستحسان بعض أساليبها ورموزها. فإنّ من التّقاليد والعادات ما هو مشترك بين عدّة أمم أو بين عدد كبير من الأمم، خصوصًا الأمم الّتي كانت قديمًا قبائل أو شعوبًا متجاورة كالشّعوب الساميّة. فإنّ هذه الشّعوب جميعها تشترك في تقاليد وعادات بعضها دينيّ وبعضها اجتماعيّ، ولكنّ هذه التّقاليد والعادات ليست كلّ تقاليدها وعاداتها موحّدة، بل إنّنا نجد لكلّ من هذه الأمم تقاليد وعادات خاصّة بها ناتجة عن اختباراتها الخاصّة الشّخصيّة وعن نموّ أذواقها بتفاعلها مع بيئتها وباتّصالها بالعالم الخارجيّ. ووحدة هذه التّقاليد والعادات الشّخصيّة، الّتي تظهر وجهًا من نفسيّة الأمّة في مجرى حياتها، هي العنصر الهامّ من عناصر وجود الأمّة. كلّ تطوّر ثقافيّ في أمّة من الأمم يولّد تقاليد جديدة. وشرط التّقاليد المميّزة الأمّة أن تكون متولّدة من حياة الأمّة”. هذا التحديد المتعمق في ماهية المعايير والقيم التي تفعل في المجتمع، هو ما يوهي مختلف نظريات الغرب أمام القومية الاجتماعية، وهذا ما تغفله الوظيفية قصدًا بهدف التعمية على واقع الكيانات السياسية القائمة والذي بسببه، وفق ما نعتقده، قد تم تجاهل سعادة كعالم اجتماع رائد في هذا العصر.

أما لجهة الثقافة التي تدعم البنى الاجتماعية عند دوركهايم، يعرفها سعادة قائلًا: “الثّقافة هنا بمعنى Culture وهي مجمل العلوم والفلسفات الّتي تتناول الحياة وما له علاقة بها، وما يحصل من ذلك من مستوى عقليّ واتّجاهات فكريّة واعتقادات مناقبيّة وإدراك للشّؤون النّفسيّة والمادّيّة. والحقيقة أنّ طبيعة الثّقافة عامّة كطبيعة الدّين. وقد مرّ على العالم أدوار ثقافيّة سمّي كلّ دور منها باسم الشّعب الّذي قام به (الإثم الكنعاني) أو اللّغة الّتي كانت واسطته، ليست الثّقافة شيئًا خاصًّا، بل شيئًا عامًّا يتفاوت في الدّرجات بين الأقوام. وجميع الأقوام المتمدّنة يشتركون في ثقافة واحدة عامّة دورها هو الدّور العصريّ. ولكنّ كلّ أمّة من هذه الأمم تحتفظ لنفسها بأسلوبها الأدبيّ أو الفنيّ الخاصّ فيما تعطيه لهذه الّثقافة. ويجوز أن يكون لكلّ أمّة بعض مظاهر ثقافيّة خاصّة. إذن لا تعيّن الثّقافة الأمّة ولكنّ الثّقافة تكون فارقًا بين أمم وأمم. والسّبب في هذا الفارق اقتصاديّ جغرافيّ قبل كلّ شيء، حيثما وجدت المؤهّلات الرّوحيّة”. لمفهوم الثقافة، عند سعادة، مفهوم أعمق بكثير مما لهذا المصطلح من مفاهيم، إذ يقيس به سعادة التطور بمختلف مناحيه، فالثقافة وفق رؤيته، تتخطى مفهوم القناعات السائدة في مجتمع ما، فهذه لا تعبر عن مراحل التطور الاجتماعي لهذا المجتمع أو ذاك بقدر ما تعكسه من نسبة العمل المبذول في منحى ما إلى نسبة الزمن والناتج وبالقدر الذي يكون فيه الناتج أكبر بكثير من حيث الجهد والزمن، والثقافة هنا تشكل الفارق بين الأمم من حيث التقدم والرقي وليست مجرد نظام سائد فيه كل الأوهام والخرافات والقناعات الفردية أو المجموعية غير القائمة على ما يعني مصلحة المجتمع من حيث هي “كل ما يولد عملًا اجتماعيًّا” وفق سعادة، التي يطالب دوركهايم بالالتزام بها قائلًا، إن النظام الاجتماعي “نابع من الالتزام، من خلال وجود مجموعة من المعايير المشتركة والقيم المتبعة”. من هنا كان الخلل الاجتماعي الفردي يرجع إلى “الأنومي” أي “ضعف أو نقص المعايير التنظيمية” بحيث يُعَدْ “الأنومي” نتيجة العقاب الكامن للمجتمع المعاصر المتنافس، وذلك دون معايير ضابطة للسلوك، إن الأفراد يظهرون الكثير من الرغبات غير المشروعة والشرهة بالإضافة للرغبات غير المحدودة، وإثارة المشاعر العامة وكذلك عدم الرضا”. أما المجتمع الذي يراه دوركهايم مجتمعًا مثاليًّا فهو المجتمع الذي “تسود فيه الحرية الفردية التي تضمن فقط في وجود مجموعة من المعتقدات والسلوكيات المنظمة والمقبولة من خلال التنشئة الاجتماعية، حيث إن الفرد يخضع وينصاع للمجتمع وهذا الانصياع هو شرط حريته، ذلك أن حرية الأفراد تتكون أساسًا في ظل التخلص من الانقياد الأعمى لقوى الجهل المادية، وذلك يتم من خلال معارضة هذه القوى الظالمة الجاهلة باستخدام قوى الذكاء العظيمة المتمثلة في المجتمع والتي يحتمي تحت ظلالها المواطن”. في كل ما تقدم، لا يبين لنا ما هو المقصود بالالتزام، أو تلك المعايير والقيم وكيف تنشأ وكيف تتطور، أو الحرية الفردية ولا حتى المعتقدات والسلوكيات ولماذا هي مقبولة ومشروعة وما هي القوى الظالمة أو قوى الجهل المادية، وماذا يقصد بقوى الذكاء ولماذا المطلوب من المواطن ليكون مواطنًا أن ينصاع لها. فهذه مجرد مصطلحات عائمة وغائمة وتحتمل كل تأويل.

يختلف سعادة مع دوركهايم في مصطلح “النظام الاجتماعي” ومستتبعاته المعايير والقيم من حيث المفهوم من جهة وما يتشكل منه هذا النظام يقول سعادة: “فالنّظام الاجتماعيّ هو دائمًا حاصل تفاعل الإنسان والطّبيعة أو البيئة بطريقة معيّنة أو منبعث منه وموافق له، فكما أنّ التّطوّر الإنسانيّ، نشوءًا وارتقاءً، كان وفاقًا لمقتضيات تطوّرات الطّبيعة والبيئة، أي إنّه تطوّر محتّم بالاختيار الطّبيعيّ لا مفضّل بالاختيار العقليّ، كذلك التّطور الاجتماعيّ، نشوءًا وارتقاءً هو وفاق لتطوّر التّفاعل بين الإنسان والبيئة بدافع الحاجة المادّية. فإذا كان العقل نتيجة تطوّرات الدّماغ الفيزيائيّة، فالعقليّة الاجتماعيّة نتيجة تطوّرات التّفاعل الماديّ لتأمين الحياة الاجتماعيّة. وأنه إذا كانت الرّابطة الاقتصاديّة أساس الرّابطة الاجتماعيّة البشريّة، فالعمل ونظامه التعاونيّ مصدر نظام الاجتماع. إنّ النّظام الاجتماعيّ ابتدأ من مرتبة الشيّوعيّة في نظام العشيرة الدّمويّ. (وعند الهنود الحمر) في النّظام الاجتماعيّ الّذي يحدّد جميع العلاقات بالعرف والعادة ولا نرى إقامة ثابتة وبداءة عمران. وترقية النّظام الاجتماعيّ إلى ما يزيد عن إمارة القبيلة وتعيين العلاقات بين السّادة والعبيد أو إقرار هذه العلاقات على الحالة التي توجد فيها. في طور الثّقافة الزّراعيّة الصّناعيّة القائمة بأود المجتمع عن طريق العائلة والتّملّك الشّخصيّ نجد نموًّا في النّظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ القائم على طبقات ثلاث: الأشراف، الصّنّاع الأحرار، العبيد. “حيث” تظلّ القرابة الدّمويّة الفاعل الأقوى في النّظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ”. هكذا هو النظام الاجتماعي، بناء اجتماعي يعكس ما توصل إليه المجتمع من مرتبة ثقافية في ترتيب وتنظيم شؤون حياته. فالنظام الاجتماعي ليس مجرد معايير وقيم وسلوكيات مقبولة أو مشروعة بقدر ما هو بناء ثقافي له مواصفاته وخصائصه على مستوى التقدم والرقي من حيث مدى الحرية التي يطلق لها العنان لتفسح المجال رحبًا لكل تطور وتقدم ورقي، أو يحد ويحول دون ما تقدم، وهكذا تختلف الأمم بأنظمتها المجتمعية المستمد أساسًا من وحدة الحياة فيها والاشتراك في النظرة إلى الحياة والكون والفن، التي يعكسها بشكل مباشر النظام الاجتماعي القائم.

ويبقى الاختلاف قائمًا بين القومية الاجتماعية والوظيفية في نظرة الأخيرة للدين من حيث هو اعتقاد أو معتقد يوحّد المجتمع أو ما تطلق عليه عبارة “الأشكال الأساسية للحياة الدينية” ومثالها في ذلك “شعب” الأبوريجين القائم في أستراليا ومنه وفق التعبير الوظيفي سلالة الأورنتا، حيث الطوطم هو “شعار القبيلة، فهو رمز لهذه الشعوب داخل مجتمعهم والذين لا يعيش معه أفراد هذه الشعوب ولكنهم يحسون بالانتماء كأقربائهم، فهم أفراد يجب مساعدتهم ودعمهم عند الضرورة ومن خلال الطوطم، الذي يمثل رمز المجموعة فإن أفراد المجموعة يشعرون بالانتماء تجاه بعضهم كما يشعرون بوجودهم. هكذا تكون وظيفة الطوطم هي توحيد للأفراد داخل نظامهم الاجتماعي، وذلك من خلال توحيد أجزائه معًا وتحديدها والحفاظ عليه كوحدة واحدة. فالطوطم يبقى في هذه الحال وسيلة للتضامن والتماسك بغض النظر عما يعنيه أو يفرضه من طقوس”. الدين، أيًّا كان، من حيث هو معتقد، لا يختلف عن الطوطم “الأورنتي” يجب أن يكون وسيلة للتضامن والتماسك الاجتماعي، هذه النظرة الساذجة والبدائية للدين “كفلسفة اجتماعية” وفق سعادة، لا تعني شيئًا لنظام اجتماعي تتوزعه أديانٌ مختلفة في الطقس وفي مطلقية المعنى المقدس للمعتقد الديني، بحيث يستعدي متَّبعي هذا الطقس أو هذا المطلق المقدس الآخر تلقائيًّا، حتى ولو لم يُشرْ إلى ضرورة ذلك، لكنه من حيث التأويل والاجتهاد يعني ذلك بالمطلق. ما تهتم به الوظيفية من الشأن الديني أنه كمعتقد يبقى موحِّدًا لا مُجزِّئًا للوحدة الاجتماعية، ومهما يكن من أمر العلمانية والإلحاد والقانون المدني وحتى تلك المناسبات العامة كالأعياد الوطنية والقومية والأعياد العالمية، الأول من أيار، عيد الأم، التي ليس لها علاقة بالإيمان أو بما وراء الطبيعة، فإن الوظيفية تعتبر كل ما تقدم يدخل في معنى الدين طالما أنه معتقد جامع.

يبقى أن نشير إلى افتقار الوظيفية لأية رؤية اقتصادية، رغم محاولات واحدٍ من رجالاتها تسديد هذا النقص “مالينوفسكي” عبر مثال “الكولا” الذي يبقى في جوهره لا يمتّ للاقتصاد بصلة “تعمل لتصبح غنيًّا ومن ثم توزع مالك هبات لتصبح كريمًا”.

(1)- يمكن للمدقق العودة لما قيل في موضوعي “الدولة المتحد” و”الدولة الأمة “.

الدين كـ(فلسفة اجتماعية)، وفق سعادة، وفي مجتمع تتوزعه أديان مختلفة، لا يمكن أن يكون جامعًا، بل على العكس من ذلك، سيكون بكل تأكيد، مجزِّئًا للوحدة الاجتماعية، خاصة وأنه يحمل في ذاته تناقضه مع الأديان الأخرى، والذي يجعله دينًا متمايزًا عن الأديان الأخرى وإلا لما كان دينًا، بقدر ما كان مذهبًا من مذاهب الأديان الأخرى، يضاف إلى ذلك الرؤية الماورائية المستقلة للدين، وتلك الزمنية التي تستهدف الدولة بدستورها وقوانينها وأنظمتها مسخّرة إياها لخدمة الدين، حيث “لا قيام للدين إلا بقيام دولته” وفق ما ذهب إليه “محمد عبده وجمال الدين الأفغاني” أو الوهابية التي نادى بها “محمد بن عبد الوهاب” أو تلك التي اجتهد فيها “ابن تيمية” أو المذاهب الأخرى المحمدية منها والمسيحية، هي بيت القصيد الذي حاول سعادة في كتابه “الإسلام في رسالتيه” درء خطرها عن مجتمعه، وفي محاضراته العشر حيث مبدئه الإصلاحي القائل: “فصل الدين عن الدولة” و”إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب” و”منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين”، ذلك أنه في حالٍ كالّتي نوهنا عنها، لا يمكن للدين أن يكون كمعتقد، معتقدًا جامعًا، إلا في إطار الآخذين بواحدٍ من مذاهبه أو اتجاهاته الفلسفية منها والزمنية، وفي حال كهذه يبدو الدين مجزِّئًا أيضًا حتى “للملة” الواحدة كالمارونية مقابل الأرثوذكسية أو هذه مقابل الكاثوليكية وهذه أيضًا مقابل البروتستانتية، خاصة وأن الدين بطبعه أممي النزعة ووراثي بالدرجة الأولى، حيث تُلَقَنُ رؤاه منذ الطفولة والتي لا انفكاك من مؤثراتها على مدى الحياة.

هذا ما يمكن ملاحظته في كتابات ماكس فيبر وتحديدًا في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”، والذي أسهب فيه كيف أن هذه الأخلاق كانت وراء نشوء الرأسمالية والتي إليها يعود ما نشهده من رقي وتقدم، حتى إن ماكس فيبر البروتستانتي راح يفاضل بين هذه والكاثوليكية متّهمًا الأخيرة بإعاقة التقدم الذي تكتنز ملامحه “الكاليفانية” مفاضلًا أيضًا بينها وبين البروتستانتية (1) وبين مختلف المذاهب التي تفرعت عنها وفق مبدأ /تكييف الدين وفق متطلبات حياة الأمم وميراثها الثقافي/ الذي نراه متغلغلًا في مختلف المذاهب الدينية أيًّا كانت.

فيبر، في كتابه المنوه عنه، لا يتناول اليهودية أو المحمدية أو حتى الأرثوذكسية، فقط الكاثوليكية بمشتقاتها ويبني عليها مختلف ما جاء في “الأخلاق البروتستانتية وروح الرسمالية”، بخلاف سعادة الذي تناول الأديان الأكثر انتشارًا في العالم، محاولًا التوفيق بينها بما يضمن مصلحة أمته التي كانت مصدرها. بينما حاول فيبر الإجابة عن تساؤل وفق “ريمون أرون”(2): “إلى أي مدى تؤثر التصورات الدينية عن العالم والوجود في السلوك الاقتصادي؟” مقررًا وفق “ريمون أرون” أيضًا: “1- إن سلوك الأفراد في مختلف المجتمعات يفهم في إطار تصورهم العام للوجود وتعتبر المعتقدات الدينية وتفسيرها إحدى هذه التصورات للعالم والتي تؤثر في سلوك الأفراد والجماعات بما في ذلك السلوك الاقتصادي. 2- إن التصورات الدينية هي بالفعل إحدى محددات السلوك الاقتصادي ومن ثم فهي تعدّ من أسباب تغير هذا السلوك”. هذه المسألة لم يتناولها سعادة لأسباب شتى أبرزها، بل وأهمها، كما يقول: “إن سورية تحيا اليوم ليس في القرن العشرين في حالتنا الحاضرة، إنها تحيا في القرون المتوسطة، فالنظام الاقتصادي فيها لا يزال نظام القرون المتوسطة”. لقد تناول سعادة في كتابه “الإسلام في رسالتيه” في مقابل فيبر وكتابه “الأخلاق البروتستانتية” ما تعاني منه أمته من انقسام مذهبي، طائفي، ملّي. وما قد يستتبع ذلك من انقسام وتجزئة وتشتت يقول: “إننا في الحزب قد بطل أن نكون محمديين أو مسيحيين، أو دروزًا، وصرنا سوريين قوميين اجتماعيين فقط في كل ما يعني الاجتماع والسياسة، وترك الحزب في مبادئه حرية الاعتقاد الفردي الديني لكل عضو فيه ولكل عضو في الدولة القومية الاجتماعية”.

يبقى السؤال الذي يحكم مختلف التراث الفيبري هو: “لماذا ظهرت الحداثة العلمية والتكنولوجية والبيروقراطية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية فقط؟ بمعنى آخر: لماذا تطورت العقلانية في هذه المنطقة من العالم أكثر مما حصل في سواها؟ نقول ذلك ونحن نعلم أن الحداثة تعني عقلنة العالم: أي دراسة العالم بشكل علمي، موضوعي، عقلاني لا بشكل غيبي، ميتافيزيقي، خرافي. هنا يكمن الفرق بين مجتمعات الحداثة والمجتمعات التقليدية. فهذه الأخيرة تسيطر عليها الرؤيا القديمة المليئة بالخرافات والمعجزات والأساطير. ثم جاءت الحداثة فتبخرت كل هذه الأساطير والخرافات وتم نزع السحر عن العالم وبدا العالم على حقيقته المادية والفيزيائية والبيولوجية”، بينما بقي السؤال الرئيس عند سعادة: “ما الذي جلب على أمتي هذا الويل؟” والفرق بيِّن بين السؤالين من حيث المستوى الذي جاءت به كل من الفيبرية والقومية الاجتماعية، ففي كتابيه “مفاهيم أساسية في علم الاجتماع” و”الاقتصاد والمجتمع” أطلق فيبر لنفسه العنان لتمجيد النزعة الفردية باعتبار الفرد مقياس الحقيقة، وإن تكن غير الكاملة أو أن الحقيقة تبقى أشمل حتى مما قد يكتشفه الفرد منها، يردّ سعادة على ذلك قائلًا إنه إذا كان الفرد مقياس الحقيقة، فلن تكون هناك حقيقة بل حقائق عددها عدد الأفراد، فالحقيقة من حيث هي وجود ومعرفة لا يمكن تجزئتها لعدد لا متناه من الجزئيات الفردية، خاصة إذا ما كانت الحقائق تُعنى بحياة الأمم، وعليه يصب سعادة جام غضبه على النزعة الفردية محذّرًا منها ومن مضارها على حياة الأمم، مناهضًا ما جاء به فيبر الذي أخذ الوجه الحضاري من الفردية، والتي هي وفق سعادة تحمل في طياتها كل ما هو تقدمي، حيث “العوامل الفاصلة في التاريخ هي العوامل النفسية والفردية”، فيبر يأخذ هذه الوجهة ويبني عليها فلسفته الاجتماعية، يقول: “الفعل الاجتماعي بالتعريف الفيبري صورة للسلوك الإنساني الذي يشتمل على الاتجاه الداخلي أو الخارجي الذي يكون معبّرًا عنه بواسطة الفعل أو الإحجام عن الفعل، إنه يكون الفعل عندما يخصص الفرد معنى ذاتيًا معينًا لسلوكه، والفعل يصبح اجتماعيًا عندما يرتبط المعنى الذاتي المعطي لهذا الفعل بواسطة الفرد بسلوك الأفراد الآخرين ويكون موجهًا نحو سلوكهم”. وعليه، فلا بدَّ لفهم السلوك الاجتماعي أو الظواهر الاجتماعية على مستويين، الأول على مستوى المعنى للأفراد أنفسهم والثاني على المستوى الجمعي، ومن وجهة نظر الفرد كعضو في جماعة. يتضح أن فيبر أعطى لمفهوم الفعل الاجتماعي معنى واسعًا كل السعة بوصفه الموضوع الأساسي للبحث السوسيولوجي من وجهة نظره، فلقد ضمّنه كل أنواع السلوك ما دام الفاعل يخلع عليه معنى. والمعنى هنا، كما أوضحه “ريمون أرون” “السلوك في ضوء الغرض والمرمى الذي يسعى إلى تحقيقه الفاعل”. وبالتالي فلا بدَّ من “فهم المعنى الذي يخلعه الإنسان على سلوكه وهذا المعنى الذاتي بالطبع هو المعيار الذي على أساسه يمكن تصنيف الأفعال الإنسانية توطئة لفهم بناء السلوك”، وهذا ما دفع فيبر لتنميط الفعل كما سبق ونوهنا عنه في تناولنا لأعمال ماكس فيبر، لذا كانت. “العلاقة الاجتماعية عند فيبر تعني تبادل الأفعال بين الأفراد على أساس فهم كل منهم للمعاني التي يضيفها كل فرد على سلوكه” هذا الفهم الفيبري للفردية يناقض فهم سعادة لها، ذلك أن سعادة يعتبر أن الفردية شيء يتناقض والمجتمعية من حيث أن المصلحة هي كل ما يولد عملًا اجتماعيًّا، وفي هذا السياق تبدو الفردية متعارضة والمصلحة المجتمعية يقول: “من الأول رأينا أن النزعة الفردية والرأي النفعي الفردي الشخصي هما مرض من أعظم الأمراض، وصعوبة من أعظم الصعوبات الداخلية التي يجب أن نتغلب عليها لنواجه العالم الخارجي كوحدة متينة وإرادة واحدة. الشخصية الفردية المنافية لنفسية الأمة وشخصيتها وارتقائها. القضية هي قضية كل المجتمع لا قضية الفرد، لكل فرد منهم قضية تختلف عن قضية الفرد أو الأفراد الآخرين. القضية هي حياة المجتمع وقضية مصير المجتمع. قضية ارتقاء المجموع أو انحطاط المجموع، قضية جمال حياة المجتمع لا قضية جمال حياة الفرد. يوجد بعض المجتمعات في العالم لم يمكن أن تصل إلى هذه النقطة من التفكير. وبالنظر لحالة نجاح أو لحالة استقرار واطمئنان وبحبوحة في حياتها، يوجد من يظن أن عدم وصولها لها، إلى هذه النقطة هو الفاعل الرئيس في نجاحها في حياتها. إن هذه النظرة هي نظرة خاطئة لأنها لا تشبه نظرة شعوب أخرى شددت على الناحية الفردية من الأمور أو لم تجد ما يدفعها على وجوب التشديد على الناحية الاجتماعية، على الناحية المجموعية. إذا أخذنا أميركانية مثلًا نجد أن الأميركان مولعون ولعًا شديدًا بالتكلم عن الشخصية الفردية والشعور الفردي وسائر شؤون الفرد. والبعض منا وأعني بهذا البعض الذين لم يدرسوا أسباب الأشياء يظنون أن هذا منتهى درجات الرقي في التمدن والنظرة الاجتماعية الإنسانية. ولكن الواقع هو غير هذا. الواقع هو أن الأميركان لم يكونوا قد وصلوا، ولست أدري بالتدقيق إذا كانوا قد وصلوا إلى هذه الدرجة التي أشرت إليها في مقدمة “نشوء الأمم” درجة الوعي للشخصية الاجتماعية. إنهم شعروا مرة واحدة فقط بنظرة الجماعة وبفرق المجتمع والجماعة. تلك كانت في الوقت الذي احتاج الأميركان إلى إعلان الثورة على “المتروبول”.

بعد أن حققت تلك الثورة ما حققت لم يعد الأميركان يشعرون بنظرة المجموع، بنظرة المجتمع، إلى الكون والحياة لأن أميركانية بعد استقلالها وجدت نفسها جسمًا عظيمًا جدًا كبيرًا هائلًا بثروته المادية بغناه، بالحديد بالفحم بالزيوت بالحبوب بالماشية بكل ما يحتاج إليه الإنسان. وهي مع هذا الغنى على بعد كبير عن أي مجموع آخر يمكن أن يكون عدوًّا مزاحمًا على الخيرات والبلاد. كان بعدهم وعظم جثة الوطن الأميركاني من عوامل الاطمئنان مع السعة الداخلية في البلاد، فانصرف الناس إلى الشؤون الداخلية، إلى مسائل التفاعل الداخلية، إلى المصالح الجزئية الداخلية التي بررت وتبرر نظرة الأميركان إلى الكون والفن. لم توجد الولايات المتحدة بحاجة إلى مجهود روحي لكي تصبح عظيمة، لذلك نجد، حتى حروبها، فاقدة المعنى الروحي العظيم ونرى أن دخولها حرب 1914- 1918 كان من باب الدفلوماسية. في الحرب الأخيرة لم نجد مبدأ واحدًا اقتصاديًا روحيًا أو غير ذلك فاعلًا من الناحية الأميركانية يحتاج إليه العالم وتحتاج إليه الإنسانية في سيرها. أما الديمقراطية التي ناضلت أميركانية لأجلها، ليست مبدأ أميركانيًا ولم تضف أميركانية إليه شيئًا من ذاتيتها غير هذا التراخي. وهنا فيما يسمونه “الأميركانكوميونتي” نجد أمثالًا كثيرة من التراخي الأميركاني البديع الذي أصاب مرضه بعض المشتغلين معهم أو المتعلمين عندهم أو الأساتذة المشتغلين معهم. أما نحن فمجتمعنا هو غير المجتمع الأميركاني، لذلك وجب أن تكون نظرتنا وجهادنا في نفسنا من أصل الأغراض الأساسية الكبرى التي تتم بواسطة نفسنا. في الكلام على هذين المبدأين، خصوصًا على المبدأ السابع تناولت نواحي نفسية وسياسية. ومن النقاط الأخيرة الهامة التي تناولتها كانت نقطة النظرة الفردية والنظرة المجموعية أو الجماعية وهذه الأخيرة هي وجهة نظرنا نحن. وضربت مثلًا على الأسباب التي تحمل مجتمعات معينة على الأخذ بوجهة نظر أخرى، مما يحمل البعض من غير الدارسين والمنقبين على الظن، أننا نحن هم المتأخرون في طريقة التفكير عما وصلت إليه بعض المجتمعات الراقية وبينت أن المسألة بالعكس تقريبًا. ضربت مثلًا أميركانية أو الولايات المتحدة الأميركية من حيث النظرة الفردية إلى الحياة فيما يختص بعلاقة الفرد بالمجتمع وأبنت أن الأسباب التي تحمل مجتمعًا كمجتمع أميركانية على الأخذ بوجهة نظر من هذا النوع هي أسباب ضخامة وكبر أرض الولايات المتحدة الأميركية، الغنية بمواردها الطبيعية من معادن وحبوب وماشية إلى آخره. ومن جهة أخرى بعد تلك الأرض عن أراض متاخمة تقطنها شعوب عدوة للشعب الأميركاني. فكبر البلاد وغناها وبعدها عن أن تكون محاطة بأعداء تحتاج إلى تضامن وثيق للدفاع عن نفسها، جعل طابع الحياة في الولايات المتحدة الأميركية طابع التراخي المجموعي الذي يظهر في هذه النظرة الفردية أو الإفرادية إلى الحياة”. هذا على المستوى الاجتماعي، أما على المستوى الاقتصادي فسعادة يرى وفق الحال التي عليها أمته أن “أن هذه الحالة (الإقطاع) تمثل تأخرًا عظيمًا من الوجهة الاقتصادية بالمعنى القومي، لأنها تضع مساحات واسعة من الأرض في أيد فردية غير شاعرة بالمصلحة القومية والترابط القومي الاقتصادي، يتصرف الفرد بهذه المساحات من الأرض وفاقًا لنظرة فردية محض، بصرف النظر عن أي فكرة اجتماعية أو معنى أساسي عام. ومن هنا ينشأ إجحاف للبلاد وإجحاف بفئات من الناس تعمل في الأرض تحت سيطرة وسلطة مطلقة من الإقطاعي الذي، وإن لم يكن معترفًا به إقطاعيًّا قانونيًّا، فإن الامتيازات التي يتمتع بها تجاه الحكومة وتجاه الشعب تجعله ذا سلطة مطلقة يتصرف بالناس في إقطاعه تصرف المالك في ملكه أو السيد في عبيده”. يضيف قائلًا: “يضع هذا المبدأ (يقصد تنظيم الاقتصاد على أساس الإنتاج) حدًّا للتصرف الفردي المطلق في العمل والإنتاج، الذي يجلب أضرارًا اجتماعية كبيرة، لأنه ما من عمل أو إنتاج في المجتمع إلا وهو عمل أو إنتاج مشترك أو تعاوني”. ولا يكتفي سعادة في المثال الأميركاني على ما تحمله النظرة الفردية من مساوئ، بل يضرب مثالًا آخر هو فرنسا، يقول: “قد يخطر للبعض أن فرنسة مثلًا، تقرب مثلًا آخر من أمثلة الفردية إلى الحياة، وهذا صحيح. ومثل فرنسة يأتي مثلًا آخر لتأييد وجهة نظرنا في الموضوع. إن فرنسة قد خسرت حربين متتاليتين. وأنا أقول إن تدهور فرنسة من النظرة الفردية إلى الحياة، والنظرة الفردية إلى الحياة هي المسؤول الأول والأوحد عن انكسارها التام وانسحاقها في حربين عظيمتين. إن التراخي الفردي وفقدان الوجدان المجموعي المتين والاتجاه الموحد في الحياة الذي يجمع وحدة الأمة في إرادة واحدة واتجاه واحد هو المسؤول عن عدم تمكن فرنسة من الثبات والنهوض إلى حياة جديدة بعد الانكسار في حربين متتاليتين. ولو ذهبنا ندرس مظاهر التطور النفسي في فرنسة في أواسط الحرب العظمى الأخيرة لوجدنا حالة انحلال غريب في الأمة الفرنسية، ثم لوجدنا كيف تحاول أن تكتشف مبدأ أو نظرة جديدة تنقذها من حالة التضعضع التي وصلت إليها بعامل النظرة الفردية التي تسلطت مدة طويلة من الزمن. بعد الهدنة مع ألمانية وقيام حكومة فيشي، بدأ الفرنسيون يبحثون عن مبادئ أو نظرات في الحياة جديدة يمكن أن ترفع المجموع الفرنسي إلى مرتبة أمة ناهضة مستعيدة لحيويتها، ولكن ذلك كان عبثًا”. المثال الأكثر وضوحًا حول النزعة أو النظرة الفردية يطرحها سعادة عن حال أمته يقول: “الفردية، خصوصًا في بلاد كبلادنا، لم تكن لها تربية قومية ولا وعي قومي ولم تتمكن أن توقظ شيئًا قوميًا لا في طلبة المدارس ولا في فئة ولا في مجموع. ينشأ الفرد منا في حالة من هذا النوع غير شاعر إلا بمسائل وقضايا محدودة تختص بدائرته هو، مصيره هو، مهما كان مصير مجموع الأمة، مجموع الدولة أو الجماعة الكبرى. فالرسمال الفردي الآخذ في أن يزداد أمام أعيننا في هذه البلاد ويسيطر على مصير هذه البلاد والشعب، هو من أسوأ حالات الرساميل في العالم على الإطلاق. وطبعًا لكي يمكن أن ننظر في حالة العمل والعمال والرسمال يجب أن نصل إلى الطور الصناعي وإنّا بدون شك نرى أنه لا بد للدولة القومية المقبلة من أن تسير في إيجاد حالة صناعية في هذه البلاد تخرج الأمة من حالة الرق للنظام الرسمالي القائم على الصناعة الكبرى في الأمم الكبيرة المتقدمة. إن الأمة التي تبقى في حالة زراعية محض تبقى حتمًا مستعبدة للأمة التي هي منظمة صناعيًا، تنظيمًا عاليًا يمكنها من إحداث الآلات الصناعية والحربية لإخضاع أي شعب لا يخضع لأحكامها الاستبدادية. من هذا يعني أننا لا نرمي إلى إبادة الملكية الشخصية كملكية عملية ولا إلى أخذ الرسمال من أيدي الأفراد رأسًا ونزع حق التصرف من أيديهم، ولكن يعني أن الأفراد الذي يتصرفون الآن بالرسمال تصرفًا فرديًا يتصرفون به تحت إشراف الدولة لضبطه وتوفيقه لأنهم مبدئيًا مؤتمنون عليه ائتمانًا من قبل المجتمع يبقي لهم قوة الاستنباط والتفنن لإنتاج ما يشعرون بأنفسهم الكفاية لإنتاجه، ويتصرفون بحرية ضمن شروط تضعها الدولة. ولكن يكون من حق الدولة أن تنظم للأفراد وتحدد لهم وتسنّ القوانين اللازمة لضبط الإنتاج وتقسيم العمل وتوزيع الإنتاج الحاصل من العمل، فلا يعود الرسمالي الفردي، من جهة حقوقية، حرًّا في أن يتصرف تجاه العمال وتجاه الذين يستأجرهم أو يستأجر منهم الأرض أو ما شاكل ويفعل ما تمليه مصلحته الفردية بصرف النظر عن مصالح المشتركين معه في الإنتاج والذين يجب أن يكون لهم حق في نصيب من الإنتاج. وهذا يعني أن الإقطاعات الكبيرة التي تظهر اليوم بمظهر ملك شخصي تحتاج إلى إعادة النظر من قبل الدولة فيها وإلى إعطائها اتجاهًا يحرر جماعة كبيرة من الناس ويعطيها المجال لتتحرر في نفوسها ولتعمل على أساس جديد يساعد على رفع مستوى حياتها والحصول على حياة أليق بالإنسان من الحياة التي يحياها اليوم. وهذا لا بد منه لأنه كما قلنا إن النظام الاقتصادي السيئ الذي يجعل مئات وألوفًا من الفلاحين في حالة من شظف العيش، في حالة من الجهل، في حالة من المرض والبؤس، لا يمكن لدولة عصرية من تثبيت نفسها في تنازع البقاء. إذا احتاجت الدولة إلى هؤلاء الألوف في حالة حرب مثلًا، وجدت أنها لا يمكنها أن تستند إليهم في الحرب فكيف تستند إلى رجل خمدت في نفسه عوامل الحياة وشوهته الأمراض وأقعده الذلّ ليكون بطلًا يحارب بكل قلبه وكل نفسه من أجل وطنه وأمته اللذين يجد فيهما تحقيقًا للحياة المثلى التي يريد ويطمئن أن يحياها. لذلك نحن لا نقول بالنقابات نظامًا ولكن نقول بالتصنيف الفني للإنتاج، والتصنيف الفني لا يعني النقابات المحاربة لتصل إلى حقوقها، بل يعني إيجاد الأسس الصحيحة التي يصير فيها التوزيع مع حفظ نظر الدولة في المسائل الأساسية. لأنه لا يمكن أن نعني إلغاء الرسمال بالمرة، لا يمكن إلغاء الرسمال كرسمال بالمعنى الجاري، لا يمكن تعطيل الرسمال دون تعطيل المجتمع. إن الرسمال يمكن أن يتحول من حالة إلى حالة ولا يجوز أن يلغى أبدًا. وإذا منع التصرف بالرسمال الفردي، فلا يعني ذلك منع الرسمال بل منع الاستبداد بالرسمال من قبل فرد ضد مصلحة المجموع. والأمة الناهضة لا يمكن أن تفكر أبدًا بمسألة جنونية كإلغاء الرسمال مثلًا، إن الرسمال ضمان وفي حالة اقتصاد لا قومي لا يلام الرسمال الفردي إذا طلب المزيد من رسماله لأن ليس له العلم بما يحاربه به الزمن. الضمانة الوحيدة للرسمال الفردي هي أن يزداد ويزداد للنهاية. الرسمالي الفردي لا يدري ما يحدث إذا نشبت حرب غدًا أو اعتداء من أمة من الأمم يصدر إليها، أو أصدرت تلك الأمة قوانين منعت ما كان يصدره. إنه يحتاج إلى ضمانة من رسماله يواجه بها الأحداث التي لا يعلم متى وبأية كيفية تأتي. وكذلك الأمة في نضالها وحياتها لا ينتظر أن تستغني عن المحشود الحاصل بمعنى رسمال في أية طريقة من الطرق، في حالة تحتاج فيها كل أمة إلى النظر وإلى الاحتياط للأحداث الأنترنسيونية التي يمكن أن تحدث لها بين لحظة وأخرى، خصوصًا في عصر ارتقت فيه الضربات وارتقت فيه المبادئ، كمبدأ الهجوم الدفاعي مثلًا: نحن نخشى هجوم أمة علينا فنهاجمها من غير سابق إنذار. كالحالة التي نشأت في الحرب. وكالحالة التي حدثت في الحرب الأخيرة، حالة اللامحاربة التي لا يقصد بها الحياد، بل التوقف عن الحرب مؤقتًا. وقواعد كثيرة تزداد تراكمًا كلما ازدادت البشرية اختبارًا.

إن سوء الحالة الاقتصادية ليس من الآلة بل من النظام السيئ تنمّيه النظرة الفردية اللامسؤولة عن المصير القومي في استخدام الآلة الحديثة”.

(1)- البروتستانتية، مذهب أنشأه “مارتن لوثر” الألماني في مرحلة النزاع مع السلطة البابوية في رومة، وهو مذهب يعكس كيف أن الاجتهاد الديني ما هو إلا محاولة لتكييف الدين وفق متطلبات حياة أمة من الأمم.

(2)- ريمون أرون، هو من قام بجمع شتات التراث الفيبري بعد وفاة الأخير وأضاف الكثير عليه وفق ما فهمه من هذا التراث.