قطب دولي واحد

 

إلى أي مدى، يُمكَّننا استقراء أحداث النصف الأخير من القرن المنصرم، من استشراف المتوضع منها نتائجاً في النصف الأول من هذا القرن، على الرغم من أننا قد لا نراه بكامله إلا بعيون أولادنا وأحفادنا؟! ومع ذلك فللسؤال ما يدفع إليه وما يبرره، خاصة وقد ورث القرن الحالي عن سلفه قضايا، كان يمكن لها أن تكون على غير النحو الذي هي عليه، لو كنَّا أحسنَّا قراءتها وتداولها مع تلك التي حملها معه هذا السلف إلى متحف التاريخ مخلفة لنا من نتائجها ما يمكنه أن يحول دون رؤية موضوعية للذي تجري صياغته اليوم على شكل ما بعد المواجهة العسكرية مع العدو، والتي كانت بدورها مجرد مواجهة كلامية في جوانبها المتعددة، لم تغني ولم تقي من جوع الانكسار والهزيمة المرة، والتي، بدورها أيضاً، غدت أكثر من هرولة لطلب الاعتراف «الإسرائيلي» فينا بعد طلب الغفران والسماح عَمَّا «ارتكبناه» بحق هذه الدولة المغتصبة حقوقنا والمشردة شعوبنا والمنـزلة الدمار والمآسي في كل قرية ومدينة وأسرة من أسرنا وقُرانا ومدننا.

إلى أي مدى يمكننا فهم الذي يجري، لا على صعيد ساحتنا الوطنية والقومية وحسب، وإنما على صعيد الساحة الدولية أيضاً بما تعنيه منعكساتها من توضعات هي بعضٌ من ترهيب وبعضٌ من ترغيب بالتنازل عن حقنا في الحياة تدريجياً؟ أليس هناك من ظاهرات يمكن لها أن تكون مؤشراً على ما يَمهَّدُ له اليوم، وقد استحوَذَنا الحدث وغفلنا عن التكرارية في الحدث التاريخي، وإن اختلفت الأسماء والأمكنة والظروف والأوضاع؟.

ألاَّ يمكن لنا استشفاف ذلك ونحن نعود أدراجنا لبداية القرن العشرين حيث الحدث في وادٍ ونحن في وادٍ أخر، فإذا بنهاية النصف الأول منه تحمل لنا ولادة «الدولة» العبرية، حتى إذا ما أزفت نهايته كان الاعتراف بها شراً لابدَّ منه؟.

ألم يكن في الظاهرات، التي حفل بها القرن العشرون، ما يَنُمُّ على ما انتهى إليه؟ مما يستدعي السؤال عن ماهية المطروح اليوم كحقيقة لا يمكن خداع النفس بغيرها، على نحوٍ من الانهيار السوفيتي وكتلته الشرقية وهيمنة قطب دولي واحد ملحقاً في ركبه أيضاً كتلته الأطلسية على السياسة العالمية وتقرير مصير شعوب وشعوب، أو على نحوٍ من فراغ الساحة من قوىً تقليدية كان لها دورها محليَّاً وإقليمياً ودولياً وقد أثبتت عملياً بسقوطها أنها لم تكن في مستوى طروحاتها ولم تكن تمتلك من العدة والعتاد ما يخولها الانتصار وأنها لم تكن سوى أحلامٍ وآمالٍ وأمالٍ لا تجد لها مكاناً أو صوتاً لمحاكاة الواقع، وأنه بانحسارها وتراجعها المشين فتحت المجال رحباً لظهورات ما كان قد وُريَّ التراب أو تراكمت فوقه غبارات السنين والأيام عقوداً وعقود؟ وهل فعلاً أن هذه الظهورات تجمل معها حقيقة أن الحقيقة لابد وأن تظهر مهما قبعت في الظل وأنه لا يصحُّ غير الصحيح ولا يُحقُّ غير الحق وأن /الحق والباطل في صراع إلى صراع أن ينتصر الحق ويزهق الباطل/ وأن الباطل كان زهوقاً؟!.

أليس في مجريات الأوضاع ما ينبئ /الحق/ بما يُمهَّدُ له ويُخبَّئ؟ وكيف يمكن للحق أن لا يرى الباطل؟ وكلاهما، على مدى نصف قرن على الأقل، في صراع دامٍ ينتهي، في أحسن الأحوال، لسلامٍ في حقبة /ما بعد الصراع/؟.

أليس في هذه /الـ ما بعد/ /بعضاً من/ /ما كان/ أو من /ما هو كائن/ أو من /ما يمكن أن يكون/؟.

تلكم هي التساؤلات التي تطرحها المرحلة الراهنة والتي تتطلب بالدرجة الأولى عودة أشبه ما تكون في البحث الرياضي المُعَّمقِ في البديهيات المطروحة وفي المُسلَّمات وحتى في الفرضيات التي لابد وأن تحقق النظرية وعكسها في آن، وبحيث يبدو أن طرح السؤال أكثر صعوبة من الإجابة عليه: هل يكرر التاريخ نفسه؟ وكيف لا، إذا ما استمرت محاكمة الوقائع على نحو ما كانت تحاكم به، وبقيت مقولة /لانهرب من دب إلاَّ لنقع في جب/ مردَّدَةً ترديداً ببغائياً لا يفيد أن الخطأ يبقى أبداً في منهج العقل باستخلاص النتائج والوقوف مكتوف الأيدي أمام الحقائق، بما هي كذلك وبما يقدمه الواقع من أدلة عليها تبدأ على نحوٍ من الظهورات المشار إليها.

في البديهيات، هل صحيح أن الانهيار السوفيتي كان سقوطاً للماركسية في التطبيق؟ أم أن التطبيق السوفيتي، على النمط الستاليني، أجهز على الماركسية؟.

هل صحيح أن الماركسية في ماديتها الديالكتيكية والتاريخية أعجز من أن تتحقق أم أنها في سوفيتيتها حالت دون تحققها؟ أو ما معنى استمراريتها في الصين وكوريا وكوبا وفيتنام بل وما معنى التبرؤ منها في أوروبا الشرقية، بل والأكثر من ذلك قساوة في استغرابه هو هذا الانحسار الماركسي في العالم العربي على النمط الشرقي الأوربي بتبرؤ اكثر الماركسيين العرب من ماركسيتهم وتخلِّيَهم عما كانوا قد بلغوه في الستينات والسبعينات من القرن الفائت؟.

هل صحيح أن الاتحاد السوفيتي كان العقبة الكأداء في وجه الماركسية، وأن انهياره مهد بوضوح وجلاء لأن تأخذ المادية الديالكتيكية في تاريخيِّتها، وفق تصور ماركس قبل قرن ونصف، وجهتها الصحيحة وفق ما ينحى إليه عالم اليوم من اندماجات كبرى على الصعيد الاقتصادي بحيث بات متلمساً، أن ما نبَّه إليه كارل ماركس، بات معمولاً به اليوم إن لجهة الشركات المتعددة الجنسيات أو لجهة الكارتيلات الاقتصادية أو لجهة الاحتكار الرأسمالي للسوق والإثراء لشعوب على حساب شعوب أو حتى على صعيد تساقط الرأسماليين واحداً بعد الأخر بحيث بات معروفاً للجميع أن قلة لا يتجاوز عددها المئة والثلاثين فرداً باتوا هم المتحكمون بالعالم بما يملكونه من ثلثي ثروته وأن ما يملكه ثلاثة منهم يعادل في الحد الأدنى حاصل الإنتاج المحلي لدولة المليار والثلاثمائة مليون نسمة ـ الصين.. ألاَّ يعني كل ما تقدم أن الماركسية لم تسقط بعد، بل أن التحدي بات اليوم في الصين كما في كوريا كما في فيتنام كما في كوبا.. على اشده مع الإمبريالية..

هل صحيح أن القومية العربية باتت ملهاة مسرحية يبقى الحديث فيها شكلاً من أشكال التندر الساخر على ما كان يدغدغ أفئدة الملايين من البشر من محيطهم الهادر إلى خليجهم الثائر وقد افتقد الجميع عبد الناصر وذهبت جهود الأسد في لمِّ الشمل العربي أدراج الرياح عبر مقولة /التضامن العربي/ الأصح والأصوب والأكمل من كل ما قيل في القومية العربية تنظيراً وممارسة؟ وهل صحيح أنه بعد هذا التشرذم العربي المهرول بعضه باتجاه «إسرائيل» والمغرق بعضه الأخر في ذاتيته والمتمسك في بعضه الثالث بأهداب دينه العربي!! ما يحمل على إقامة مأتم العروبة لتنهال بعد ذلك كلمات تأبينها وعظات حياتها؟ أم أن كل ما تقدم يحمل على التساؤل حول ماهية المطروح اليوم والهدف الكامن وراء طرحه وإلى أي مدى يمكن للبعض الانجرار وراءه دون وعي للمصير المشؤوم الذي ينتظر الجميع بل وما معنى هذا الانسياق الأعمى وراء المطروح واللهج الأخير صبح مساء وليل ونهار، ألاَّ تعني هذه الهجمة الأصولية الشرسة على كل شأن من شؤون حياتنا شيئاً من الإجابة على كل ما تقدم من أسئلة حول جملة المقولات المطروحة في ساحة يومنا؟ بل وما معنى أن يتم الخلط عمداً وقصداً بين التيار الأصولي العابث في مقدرات حياتنا وبين الاتجاه الديني المؤمن بالله واليوم الأخر والذي لا يرتجي من حياته سوى رضى الله ومغفرته يوم الحساب ولا يبتغي من دنياه سلطة، ينهي عن المنكر ويأمر بالمعروف، ولا يعتدي لأن الله لا يحب المعتدين..

أفلا يمكن استشفاف ما يهئ له اليوم لتأتي نهاية النصف الأول من هذا القرن على نحوٍ من نهاية النصف الثاني للقرن الفائت؟ أفلا يكرر التاريخ نفسه؟.

ما الذي كان يحمل على الاعتقاد أنه بانتهاء النصف الأول من القرن المنصرم، تكون الإمبراطوريات التاريخية /اليابانية والعثمانية../ وكذلك الاستعمارية /الفرنسية والإنكليزية../ قد انتهت؟! وأن الإمبراطورية القيصرية ستستحيل لقطب سوفيتي يقارع بقوته العالم الأمريكي الوالج حديثاً ساحة السياسة الدولية وأن الصراع بين العملاقين سينتهي لهذه النهاية المأساوية للماركسية وأن حربين ستعصفان بأوروبا الليبرالية وأن ديكتاتوريات فاشية ونازية ستتحكم بمصير الملايين الأوروبيين وأن ديكتاتوريات أخرى في إسبانيا والبرتغال ستشب في أحضان الديكتاتوريات السابقة، وأن الولايات المتحدة ستكون أول المقتصِّين من حلفائها في الحرب فتعمل على تجريدهم من ممكنات انتصارهم على المحور، المستعمرات.

لقد أدركت أمريكا مع نهاية الحرب الثانية وبروز القوة السوفيتية، أن أوروبا المتخبطة بأزمات ما بعد الحرب، غير قادرة عملياً على الوقوف في وجه الزحف السوفيتي باتجاه أسيا وأفريقية فكان لابد لها والحال من المواجهة على حساب أوروبا..

كان على الولايات المتحدة أولاً أن تحتضن الثراء اليهودي باحتضان «إسرائيل» بدل احتضانها أوروبياً، وكان عليها ثانياً ضمان أمنها بتطويق دول الطوق داخلياً بالانقلابات العسكرية التي افتتحها حسني الزعيم ببلاغ أمريكي أول تبني مأساة العرب في فلسطين ومحملاً مسؤولية ما جرى لدول الانتداب الأوروبي.. لتكرَّ السبحة فيما بعد بانقلابات تأتي على الدوام لتطويق ردود الفعل إزاء تنفيذ أية مرحلة من مراحل المخطط الدولي المرسوم للعالم ومن جملته المنطقة التي أطلق عليها أمريكياً /الشرق الأوسط/ حيث الحياة السياسية في جنينيتها، لم تكن قد تمرست بعد بالتجربة والخبرة، فالأحزاب، قبائل متنازعة متنافرة لا يربطها رابط ولا يجمعها قاسم مشترك واحد ـ على الرغم من توفره بعقائدها كافة ـ تتداخل في بنيتها الذهنية أوزار /آل عثمان/ لتختلط فيها الماركسية بالدينية بالعروبية بالعرقية وبكل ما شاب المجتمع، وما يزال يشوبه حتى الآن، من تشوهات.

لقد ارتجلت الولايات المتحدة، انقلاب حسني الزعيم، ارتجالاً، للتسريع بالقضاء على ما يهدد مخططاتها في المنطقة..

ففي الثاني من آذار 1947 وطأت قدمي انطون سعادة أرض وطنه بعد اغتراب قسري دام سنوات عشر، كان قد أطلق في مغتربه مقولته الأولى /العداء للسامية/ وهو السامي أيضاً وفق مفهوم السلالة التوراتي ـ بقولته المشهورة /كلنا مسلمون، منا من أسلم لله في الإنجيل ومنا من اسلم لله في القرآن ومنا من أسلم لله في الحكمة وما من عدوٍ يقاتلنا في ديننا وأرضنا وأهلنا إلاَّ اليهود/. ولقد كرر في محاضراته العشر الرفض المطلق لقيام الدولة العبرية إنها هجرة لا يمكن هضمها بأية حال من الأحوال..

وليعلن بعد ذلك، مقولته الثانية /البترول سلاح.. لم يستخدم بعد../ وبهذه الأخيرة حكم على نفسه بالإعدام، فهو قد هدد تكتيكياً ـ في مقولته الأولى ـ المحاولة الأمريكية لإيجاد الذريعة لكل انقلاب، وفي مقولته الثانية كان يهدد الاستراتيجية الأمريكية أيضاً الحائلة دون السوفيت ومنابع النفط بهدف الاستثمار الأمريكي لها..

وطأت قدمي الرجل ارض وطنه، وكان الحزب الذي افتقده قد تغيَّر كلياً في عقيدته ودستوره ونظامه وحتى في شاراته وانتماءاته، إذ كان رجالاته قد انخرطوا في المخطط الأمريكي بالتحالفات التي قامت بينهم وبين السلطات التي خلفها الأوربيون، وبتقسيمات إدارية أقرب ما تكون للاعتراف بما آلت إليه الأمة كانت الماركسية كما العروبية، جنينية، فالأخيرة كانت حتى ذلك الحين إقطاعية الطرح، عرقية الأداة دينية الاتجاه، وهي لذلك، كما الماركسية، لم تكن في منحى عدائية سعادة لليهود، كان المخطط الأمريكي يرمي لفصل مسار الحركة الصهيونية عن مسار الدين اليهودي، وقد تبينته كلتا الحركتين..

أعدم الرجل، وبإعدامه لوحق حزبه، فكراً ورجالاً، كانت الأداة «الفلانج» بما افتعلوه في الجميزة وكان على حسني الزعيم أن يسلمه، وعلى رياض الصلح أن يوقع القرار.. وهكذا كان، حتى إذا ما أزفَّ أربعين الرجل، كان حسني الزعيم قد أعدم ومن بعده كان اغتيال الصلح وشلل شربل قسيس..

كان على الحزب أن ينتهي بنهاية سعادة، لكنه خرج أقوى وأمنع وبات خطره محدقاً، خاصة وقد شهد إقبالاً من لاجئي فلسطين، حيث كل شيء محتمل وممكن ومتوقع..

الحياة السياسية ـ الحزبية الجنينية، سمحت لكل الذي تلا، وشجع على ذلك ذهنية /آل عثمان/ وتدخلات واختلاطات الماركسية بالعروبية بالإسلامية بالعرقية..

سمة الحزب المطروحة أمريكياً، عنفي /انقلاباً واغتيالاً/ وشعبياً، أمريكياً أيضاً نازي، بعدائه لليهودية، مسيحي في «عدائه» للإسلام وتولي شؤون المسلمين، رأسمالي غربي في معاداته للشيوعية وتحديداً الاشتراكية، عرقي في مزيجه السوري المتجانس.. «عدواً» للبنان بمحاولة دمجه مع سورية.. طروحات ما تزال متداولة في أكثرها عن الحزب.

 بتوالي الانقلابات في سورية، كان على الولايات المتحدة أن تجد قاعدتها الثانية في مصر، فكان انقلاب 23 يوليو، إعلاناً أمريكياً أيضاً بطرد الإنكليز ومليكهم فاروق..

كانت حركة الضباط الأحرار في مصر رداً على النكبة، وتستهدف بالدرجة الأولى: السلطة، فما أن بلغتها، حتى انشغلت بالحكم..

الثورة الجنينية أيضاً، كانت حائرة بين فرعونيتها وعروبتها وإسلامها، وكان على عبد الناصر أن يقرر، وكرجل طموح، كانت الثانية مقولته لتأتي الثالثة على شكل متكئ لها.

في الطموحات الناصرية، المشروعة، كانت الخبرة هي الحلقة المفقودة، فإذا بالنظرية العروبية والإسلامية تأتي على نحوٍ مجزوءٍ يفتقر للبحث والدرس والتمحيص.

كان المشروع العروبي أمريكياً في ضبابيته، في تهويماته، في طموحاته، لكنه، وفي ضوء ذهنية ،آل عثمان/ كان جماهيرياً.. وكان أن استهوت الجماهير عبد الناصر.

عبد الناصر ـ الرمز، لم يكن قد اكتمل بعد، فتأميم القنال ومحاولة الاغتيال كانت حتى هذا التاريخ في شكل مخطط.

بعد عقدين من الزمن، يفاجئ عبد الناصر، بضباط الفاتح من أيلول، يقدمون لمصر كل ما لديهم، بل ويطرحون شراء صواريخ نووية من الصين لمصر دعماً لها في معركة الاستنـزاف ـ التحرير..

قبل ذلك، والثورة في مهدها ما تزال تحبو، يفاجئ، عبد الناصر، بالضباط الأحرار في سورية، فيوفد /محمود رياض/ سفيراً للقاهرة في دمشق.

يقول محمود رياض في مذكراته: «لمس عبد الناصر أهمية الدور الذي يمكن لسورية أن تلعبه في السياسة العربية، فسعى لتوطيد العلاقات معها وقرر تعيني سفيراً لمصر في سورية في ربيع 1955 للقيام بهذه المهمة وأطلق يدي في العمل لتحقيق هذا الهدف. ولم أكن بحاجة إلى وقت طويل لتوطيد علاقاتي مع كافة الأحزاب السورية ومع قيادات الجيش..».

في دمشق كان /عبد الحميد السراج/ على رأس المكتب الثاني /المخابرات/ والضليع في تنفيذ المخطط الأمريكي، الهادف مرحلياً لتغييب /العداء للسامية/ في ظل الفصل بين الحركة والدين، كما وتغييب مقولة اللغط في إمكانية استخدام سلاح البترول في المعركة مع «إسرائيل». كانت الأجواء مهيأة، مهدت لها سلسلة الانقلابات التي تلت انقلاب حسني الزعيم ممارسات أديب الشيشكلي ذو الخلفية القومية السورية، السمة العنفية التي اتسم بها الحزب، الصراع الداخلي الذي عصف به الانتشار الكثيف للحزب في جبل العلويين، إعدام سليمان المرشد، المهتمون عبد المنعم دبوسي، بديع مخلوف، يونس عبد الرحيم، المخطِطِ غسان جديد، القرار «الفردي» لجورج عبد المسيح. الطعم عدنان المالكي السني الدمشقي ذو الخبرة السياسية الضعيفة، السيناريو «الصراع» المفتعل بينه وبين غسان جديد المكان مباراة كرة القدم والحضور السفير المصري شوكت شقير عبد الحميد السراج..

على الصعيد العام، استبعاد الحزب من مؤتمر حمص علاقته بعراق نوري السعيد، تالياً حلف بغداد، كل ذلك في التوق للوحدة مع مصر..

والأحزاب، المتهافتة من جهة لنيل رضى السلطة، والمتنازعة في ما بينها من جهة أخرى للعباءة العربية بعضها من أهل البيت، وبعضها يتفاخر بنسبه وأصله والثالث قريشي النـزوع، والمتهم مرتد أمريكي السمة واللون والبشرة والطموح و..

باغتيال عدنان المالكي، طويت صفحة الحزب، وتتالت الانقلابات، كل منها ثأري لحدث في مخطط أمريكي في العراق، في الأردن، في لبنان في .. العالم العربي والمدُّ العروبي كما الماركسي كما الديني في أوجه، الستينات كانت الذروة وفي السبعينات كانت ذروة المقاومة الفلسطينية والتي استهلكت بدورها ما كان قد تبقى من قوى الساحة لتأتي الأصولية وتتوج مختلف المخططات المطروحة في المنطقة.

طويت صفحة الحزب القومي الذي حاول عبثاً العودة للساحة السياسية، فهو مستبعد أمريكياً، والساحة السياسية، بما تمهد له، مشرعة الأبواب للجميع العروبيون بمختلف مشاربهم، الماركسيون بكافة انقساماتهم الناصرية على تنازعاتهم المحلية متمحورون حول القائد ـ الرمز عبد الناصر، والجميع في معركة التحرير بقيادة منظمتها المستبعدة من الأردن والخارجة على التوجه السوري والغارقة في الرمال المتحركة اللبنانية..

والملايين التي خرجت مستنكرة تنحي عبد الناصر، والمودعة له إلى مثواه الأخير، تلاشت بقرار السادات /زيارة/ تل أبيب.. وبدأ عهد الانهيار ببزوغ شمس الأصولية التي عمل السادات وجهات عربية متمولة على تزكيتها وتأليبها على الناصريين والماركسيين.. الحركة الوطنية اللبنانية تنهار أيضاً بخروج المقاومة من لبنان وتنخرط أطرافها في الاقتتال.. والحزب السوري القومي الاجتماعي الملحق بها إلحاقاً ينقسم على ذاته ويتبدد أعضاؤه.. ويبقى متخلفاً عن الركب.. حتى إذا ما انهار السوفيت وتشرذمت الكتلة الشرقية وهرولت باتجاه الغرب في رداء الفقر والصقيع، هرولت العروبية واحدة بعد الأخرى باتجاه «إسرائيل» وفي المقدمة منظمة التحرير الفلسطينية مقتنصة ثمرة أطفال الحجارة.

وخلت الساحة.. حتى تهيأ للعراق إمكانية غزو الكويت.. وفي لحظة من الزمن، تبدد كل شيء وفرغت الساحة من كل قواها، وبات المطلوب ملؤها بقوى جديدة أو مستجدة ومتجددة..

وانحسرت الحياة الحزبية ـ السياسية، العقائدية والفكرية، حتى غدا ما يطرح فكرياً نوعاً من التهويم والتعويم بل وحتى التضليل،.. ومتى بلغ الحال هذا المستوى، كان لا بد من وقفة تأمل، خاصة والقطب الدولي المتفرد بالعالم اليوم، هو نفسه الذي كان يقود، بمخططاته، إلى ما آل إليه عالم اليوم..

وكما هي بداية الخمسينات من القرن الآفل، هي بداية الخمسينات من القرن القادم إلينا بثوب العولمة على مختلف الأصعدة والمستويات والأوجه والزوايا.. والطروحات.

نحن أمام مرحلة، أو بالأحرى في خضم مرحلة تتطلب توضيع مقولات تحكم الحركة السياسية بما يتناسب والأهداف المرسومة لها.. فقد يكون هناك عدنان مالكي جديد( * ) وقد تكون هناك سلسلة من الانقلابات، عسكرية وغير عسكرية، وقد يُدفع بقوى سياسية من جديد إلى الواجهة وقد يتمخض الوضع عن تيارات تتنازع البقاء على الساحة، وتتوسل السلطة تجنباً لقمعها فتتآمر على القوى الأخرى.. والأجواء مهيأة، وخلفيات القرن المنصرم بأحداثه المتوضعة نتائجاً على الساحة تسمح بتوكيد كل شأن وإيجاد مبررات قيامه ودوافعه ورجالاته بل وحتى عقائده وأفكاره ونظرياته وأولاً وأخيراً تاريخيته..

المطلوب استعمارياً، ما كان مطلوباً في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، والمطلوب قومياً ووطنياً تفويت الفرصة، بإدراكها مقومات وعوامل وأسباب، طرقاً ووسائلاً وأدوات، غايات وأهداف فهل من متعظ من تكرارية الحدث التاريخي؟!.

(*) بعد سنوات عدة كان رفيق الحريري هو عدنان المالكي لبداية الألفية الثاني