ملف السلطة والنظام الانتخابي

 

 

فيما تتصاعد حدة الطروحات حول الكيفية التي يمكن لقانون الانتخاب أن يأتي وينفذ ديمقراطياً بما يسمح بانبثاق السلطة وتداولها شرعياً وبتغيير في البنى والنخب السياسية التي ما تزال قائمة على أسس طائفية وعشائرية وإقطاعية، اجتماعية، سياسية.

وحيث أن الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، نلعب دوراً بالغ الأهمية في صياغة مثل هكذا قانون لما لها من تجربة في هذا المضمار، فإن إلقاء الضوء على تجربة الأحزاب «الديمقراطية» يبدو بالغ الأهمية، لما يسلطه على الخلفية التي تحكم طروحات هذه الأحزاب وتالياً على الأهداف التي تتواخاها من طروحاتها والأكثر من كل ذلك هل هي في موقع تتمكن فيه من إسداء النصح في هذا المجال نظراً لما خاضته في تاريخها من معارك «ديمقراطية» مع النص الدستوري؟.

وحتى تأتي الإجابة أقرب ما تكون للموضوعية، لابد من تقديم جملة احتياطات يلتزمها البحث في الوصول لنتائجه.

1 ـ في المنطلق:

في زحمة الحديث عن الديمقراطية، تُطرح جملة مفاهيم لها وفق المقاصد المتوخاة منها، فلابد والحال، من إيجاد قاسم مشترك لها طالما أن الجميع متفق على أنها ليست مجرد رغبة، كما ليست مجرد قرار أو معرفة معمقة لإشكالها ومضامينها تاريخياً ومفهومياً، فهي في محصلة المتداول منها تجربة تمخضت خبرة في التكييف مع الأخر بما يعنيه من اعترافٍ به منطلقاً ووسيلة وغاية، اعتراف ينفى مبدأ إلغائه في مختلف الظروف والأحوال والأوضاع وبكل ما يعنيه أيضاً من اعتراف بحقوقه كإنسان أولاً وقبل أي شآن أخر وبما تعنيه الديمقراطية من انبثاق مشروع للسلطة يرضى به المجموع المعني بها وبما يسمح أخيراً بتداولها سلمياً.

2 ـ في الأسلوب:

بمعنى هل المطلوب من الأحزاب، وهي المخضرمة في التجربة «الديمقراطية» أن تدلي بدلوها في هذا الموضوع فتبين كيف نصت دساتيرها وقوانينها وأنظمتها على انبثاق سلطتها ديمقراطياً أم أن عليها أن توضَّح كيف انتهت بها تجربتها «الديمقراطية» في تعاملها مع النص الدستوري وما انتهت إليه كأحزاب  في هذا السياق؟

إننا نعتقد، أن الأحزاب إذ ما تنطحت للإجابة على ما تقدم من أسئلة فهي بلا شك ستعكف على نصها الدستوري تفسيراً وتغفل عن تجربتها «الديمقراطية» تجنباً لنقدٍ ذاتي ليست هي الآن بصدده وغير مؤهلة له موضوعياً.

لذا، نعتقد أن على هذه الأحزاب والقوى، أن تقف موقف المصغي لما يقال بصددها وأن تمعن النظر فيه، وأن تنتهي للإقرار بنتائج التجربة «الديمقراطية» التي خبرت، أكثر من غيرها نتائجها والتي يمكن تلخيصها.

أولاً: افتراق النظرية عن التطبيق في مجالات عدة، إذ تبقى النظرية ما كان وما يمكن أن يكون بل وما يجب أن يكون، بينما يأتي الواقع على نحو من  الكائن والمحتمل والمتوقع والفارق الجوهري بينهما أن النظرية، في كل ما تتمتع به من «صحة» تبقى جانباً أو مستوى من جوانب الواقع ومستوياته، هذا إذا ما توخت النظرية ديمقراطيتها في تحركها على أرض الواقع وأقرت ، أن هناك نظريات أخرى تتحرك كما تتحرك هي وتتطلع إلى غير ما قد تتطلع إليه ولها من الإمكانيات والإمكانات مالا يتوفر لها في ظروف كثيرة.

ثانياً: أن تقر أن عملية إخضاع النص الدستوري المستمر للتعديل، يعني دون أدنى شك قصوراً في النص، وأنه القصور الذي كان يقود، في ما يقود إليه، إلى تلك الأزمات الحزبية المتكررة، والتي لا يمكن أن تكون أكثر من اختناقات دستورية تتفجر على الدوام بالتعديل وأن ديمومة النص الدستوري رهن بمؤهلاته: رؤية الواقع كما هو لا تطوره في ما يجب أن تمليه النظرية.

3 ـ في الغاية:

لن يغرب عن البال، أن تجربة الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، بما حفلت به من نتائج، وإن تكن مدمرة في أغلب الأحيان، فهي تجربة لا غنى عنها في المتداول اليوم على صعيد قانون الانتخاب، إذ أنها قد فقهت هذه اللعبة أكثر من غيرها، فهي اللعبة الوحيدة التي مارستها على مدى تاريخها السياسي، اللعبة التي كانت المخرج مما كانت تمنى به سياسياً من هزائم ونكبات.

لذا فإن الغاية من إصغاء الأحزاب لما يقال، أن تتلمس أن تجربتها لم تكن حصراً بها أو سراً من أسرارها، وإنما باتت في متناول الجميع، وأن لهؤلاء القول الفصل في نتائج التجربة الحزبية «الديمقراطية» لما وضعته هذه التجربة على أرض الواقع من أحداث لم تقتصر على المنتمين إليها بل تعدَّتهم ليحصد الشعب والوطن نتائجها المرة.

في حدود الاحتياطات المتقدمة، يمكن تناول هذه التجربة «الديمقراطية» من مرتكزات عدة:

أولها: البنية الذهنية لنشأة الأحزاب وممارستها:

لم تنشأ الأحزاب في بيئة اجتماعية سياسية ثقافية فيها من المؤسسات ما يكفل لها أن تكون ذا باعٍ في الممارسة الديمقراطية، إذ أن الجميع يقر أن بيئة «آل عثمان» أبقت المجتمع وعلى مدى قرون خالٍ من الحياة السياسية المؤسساتية وأن الديمقراطية كانت مستبعدة في حياة كهذه، وتالياً، فإن الحديث فيها كان حديثاً في شأن ليس بالجديد فحسب وإنما كان حديثاً في شأن متوخى لا يملك إمكانيات تحققه في ظل الذهنية الغيبية السلفية الطائفية العشائرية الفردية التي كانت الأحزاب تسعى بها لتحقيق ما كانت تستهدفه في نظريتها ـ  عقائد ومبادئ ـ وأنه في هكذا ذهنية لا مجال لممارسة ديمقراطية بما تعنيه هذه الأخيرة من خبرة..

كانت «الديمقراطية» التي ارتجلتها الأحزاب ديمقراطية طوباوية، سلفية التسليم لقيادات لم تتمكن ـ وهي من ذات الذهنية ـ من أن تستفيد كلياً من الثقة الممنوحة لها، وهي في الآن ذاته لم تكن في موقع استشراف الحدث أصلاً، فكانت أن ارتجلت المواقف لافتقارها أساساً للمؤسسات حيث البحث والدرس والنقاش والحوار والتطارح والتداول الذي يسبق اتخاذ مواقف تاريخية كالتي اتخذتها الأحزاب وكانت في كل موقف تثبت مرة تلو المرة عدم قدرتها عن اقتناص الفرصة المتاحة، لأنها أصلاً لم تكن في مستوى استشراف هذه الفرصة، فحلت الهزائم والنكبات والنكسات.. مما كان يستدعي السؤال عمَّا يجري ولم يكن السؤال بذي صدى، لأن غياب المؤسسات قد غيب معه تداعيات السؤال المختصرة في الحوار.

بذهنية «آل عثمان» واجهت القيادات «آل عثمان» ومن ثم «الـ  الانتداب» وأخيراً «الـ الأنظمة» التي خلفها الأخير.

في مواجهة كهذه، كان لابد للحياة الحزبية أن تستمر تحت مقولة المواجهة عبر «نظام» المواجهة: التنظيم السري.

ثانيها: الظروف الموضوعية لعمل الأحزاب

في التنظيمات السرية التي اقتضتها ظروف «المواجهة» وجدت الذهنية اللامؤسساتية ضالتها متمثلة في الفردية التي صاغت الدساتير صياغة سلطوية تحول دون الأنظمة  القمعية والحزب فما زادت الطين إلاَّ بلة، ذلك أن أولى نتائج ذلك كان انعزال القيادات عن قواعدها التي رأت في قيادتها المجهولة، المنتظر والمنقذ والفادي، فجاءت النتائج على غير ما كان منتظراً.

أولاً: على صعيد علاقة الحزب بالحزب الأخر:

من المفترض في أحزابٍ تواجه تحدياً واحداً متمثلاً بالاستعمار من جهة والأنظمة القمعية من جهة ثانية أن تكون في خندق واحد، لكنما الحال لم تكن كذلك، طالما أن الأحزاب كافة وحدت في السلطة هدفها الأول والأخير، وأنها الشرط اللازم والكافي لتحقيق الأهداف التي جاءت بها، وذي هي المقولة التي قضت على الأحزاب كافة، ذلك أنها كانت تقوم على مبدأ إلغاء الأخر.

 إن استهداف السلطة لا يعني بأية حال إلاَّ فرض المبادئ والأفكار فرضاً ديكتاتورياً ولا يعني بأية حال أيضاً سوى أنه كما الديكتاتورية لا تقوم إلاَّ بدكتاتوري، كذلك الديمقراطية لا تقوم إلاَّ بديمقراطي واحد، وما يعنيه هذا في مطلق الأحوال من فهم خاطئ كل الخطأ للديمقراطية التي طالبت بها الأحزاب أنظمة القمع في المسعى للسلطة.

 وقعت الأحزاب في مطب السلطة، فراحت تحرق المراحل واحدة تلو الأخرى وذلك بمحاولات إزاحة الأحزاب الأخرى من طريقها إلى السلطة، فتآمرت الأحزاب بعضها على بعض وتخلت في ذلك عن أهدافها، ترتكها جانباً حتى استلام السلطة بتعاملها مع السلطة!! التي وجدت في ذلك ضالتها بالقضاء على الأحزاب واحداً تلو الأخر، وكان لابد من مواجهة التعامل من التعامل مع الأقوى، فتوزعت الأحزاب بين متعامل مع سلطة قمعية إلى متعامل مع دولة كبرى ولم يتورع بعضها من التعامل مع العدو المتربص بها جميعاً في الجنوب..

في تجربة الأحزاب «الديمقراطية» كان إلغاء الأخر هو الذي توضع في علاقة الأحزاب بعضها ببعض. وإن يكن ما توضع خارج الحزب على نحو إلغاء الأخر، كان قد توضَّع داخل الحزب الواحد بشكل أدهى وأخطر.

ثانياً: في علاقات الحزب الداخلية

1 ـ القيادات التاريخية: بعامل التنظيم السري تحولت الأحزاب إلى أحزاب عسكرية ديكتاتورية في بنائها السلطوي وفي ما أدى إليه من انعزال القيادات عن قواعدها، والتي استحالت ـ أي القيادات ـ بعامل الزمن لقيادات تاريخية محجوبة مجهولة، مما أتاح لها فرصة التحرك الحر البعيد كل البعد عن سؤال القواعد لها عمَّا يجرُّه عملها من مآسٍ ، تحملت القواعد وحدها النتائج المباشرة للإرهاب والقمع الذي كانت تمارسه الأنظمة باتجاه الأحزاب.

في ظل هكذا أجواء، كان السؤال عمالة إن لم يكن خيانة في مفهوم القيادات التاريخية التي ألفت مركز القرار الحزبي وما عادت بقادرة على فهم الحزب إلاَّ من خلال قيادتها له وكان لابد والحال هي هذه من قمع كل سائل ومحاور، فما كان من القواعد إلاَّ أن لجأت للعمل السري أيضاً في حواراتها وتساؤلاتها، وكما كانت القيادات التاريخية تحمل الأنظمة ما نمنى به م هزائم، كذلك راحت القواعد تحمل قياداتها مسؤولية هزائم الحزب المتكررة، كما كان التآمر على الأنظمة، كذا التآمر على القيادات وهذه على قواعدها..

2 ـ المحاور والتكتلات: في الحوار القاعدي المنوه عنه بمعزل عن القيادات، شكلت الإجابات على الأسئلة المطروحة محاور، كل منها وفق الإجابة عن: من المسؤول؟ وما كانت  الإجابات في مجملها، إجابات موضوعية، إذ أطرتها الذهنية الغيبية السلفية العشائرية الطائفية الفردية، بما كانت تجتهده من النظرية وما تؤوله من الممارسة الحزبية وما كان موقف القيادات التاريخية بأفضل من مواقف الأنظمة باتجاه الأحزاب، راحت القيادات التاريخية، وفي محاولتها الإبقاء على تاريختها، تحكَّم الدستور والقانون والأنظمة الحزبية، السلطوية في الجوهر، بينها وبين المتسائلين المتكتلين والمتمحورين حول إجاباتهم سلفياً وغيبياً وطائفياً وفردياً..

3 ـ التعديلات الدستورية: في محاولتها احتواء الأزمة الحزبية، وفي ضوء مقولة الصراع على السلطة في الحزب الواحد، راحت التعديلات الدستورية، توَّفق بين الطامع  بالسلطة والطامح لها، فجاءت التعديلات على نحوٍ من اللعب بالدستور على الدستور من الدستور، إذ اقتصرت التعديلات على المواد التي تعنى بانبثاق السلطة الحزبية مهملة ما عداها من المواد المتضمنة من الواجبات ما يكفي لإلغاء الحقوق، وفي التعديلات التي كانت تقر إفساح المجال للطامعين بالسلطة، كانت تقر بطريقة أخرى إبقاء القيادات في قياداتها التاريخية مما استدعى على الدوام صراعاً على السلطة في السلطة كان ينتهي للانشقاق.

الانشقاقات الحزبية:

أكدت الانشقاقات التي عانت منها كافة الأحزاب، والتي هي في الجوهر انقلاباً عسكرياً بلاغه الأول اتهام القيادات التاريخية وتأطيره باجتهاد دستوري عقدي لا يخلو من الذهنية السلفية..، أكدت هذه الانشقاقات أن لا حياة ديمقراطية في الحياة الحزبية فبالإضافة لإلغاء التداول الشرعي للسلطة وانبثاقها جاءت الانشقاقات لتؤكد:

1 ـ إلغاء العضوية: في أسوء أنواع الديكتاتوريات لم يكن إلغاء المواطنية بالمتبع حيال المعارضين، أما في الانشقاقات، فكان إلغاءها بالإقصاء والاتهام والتشويه المنفذ الوحيد للخلاص من المعارضين، كان كل من الطرفين يقصي الأخر تعسفاً، بالطرد والفصل والإبعاد والتهميش و.. إن ما مارسته الأحزاب بعضها حيال بعض وازى في أكثر الأحيان ما مارسته الانشقاقات حيال بعضها البعض وفاق كليهما ما كانت تمارسه الأنظمة حيال الأحزاب.

2 ـ إلغاء المؤسسات: إن تكن المؤسسات المنصوص عنها في دساتير الأحزاب هي الحكم في ما يعترض سبيل عملها، فإنها قد اقتصرت في مطلق الأحوال على الشأن الإداري وباتت إدارات لا معنى لها سوى أنها في سدة «المسؤولية» بعد شيوع روح الانتهازية والوصولية والمحسوبية والاستزلام في الانشقاقات، غيَّب القضاء، البوتقة الديموقراطية الأولى، وتلاشى التشريع في ظل التنفيذ وأتمر الجميع بأمر القيادات التاريخية، مصدر الوحي  والاستشراف أو بأمر المنتظر المنقذ لم يعد الفصل بين السلطات معمولاً به وباتت مقولة الفصل، مقولة مهترئة ولعية يمارسها الدستور شكلاً ويسهل نفيها عملياً.

3 ـ مصادرة تاريخ الحزب وتراثه الفكري:

من أخطر ما قادت إليه الانشقاقات الحزبية أنها أحالت تاريخ الحزب الواحد إلى تواريخ يختلف فيها تقييم مراحل الحزب التاريخية، وبات من العبث الوثوق بأحدها، فالحدث التاريخي الواحد بات منعطافاً رئيساً في التاريخ وهامشياً في آخر وعملاً استعمارياً في ثالث ليخضع في رابع لنقد ذاتي تكون نتيجته تبرئة الحزب من عوامله ومسبباته ونتائجه.. وانتفت في أيٍ منها الدراسة الموضوعية للتاريخ، باعتباره الحقيقة الواحدة الممارسة على الأرض نتائجاً، واستحال بذلك وضع الإصبع في جرح الأزمات الحزبية المتكررة وعوامل التكتلات والمحاور والانشقاقات وبات كل ما يُتوقع فعله ليس بأكثر من ارتجال للحظة التاريخية.

والأنكى من كل ذلك، كانت مصادرة التراث الفكري في الحزب، إذ حظَّر كل انشقاق تداول تراث الأخر، بل أضحى تداول مثل هكذا تراث جريمة يعاقب عليها النظام والقانون الحزبين، لقد اقترن باسم كاتبه، فإذا كان مرضياً عنه مثل تراث الحزب، وإن لم يكن كان كل ما كتبه خروج على نظرية الحزب وفكره وإستراتيجيته.

الشأن التراثي الوحيد الذي اتفقت بصدد عدم تداوله مختلف الانشقاقات ذاك الذي دلل على انتفاء الديمقراطية داخل الحزب معتبراً إياه جوهر الأزمة الحزبية والمخرج الوحيد منها.

4 ـ انتفاء الخبرة:

في الانشقاقات التي عصفت بالأحزاب وأدت للإقصاء والتهميش والتغيب والاتهام والتشويه انتفت الخبرة في العمل الحزبي وباتت القواعد حقول اختبار لمن نضجتهم هذه الانشقاقات في ظل انتفاء الخبرة دارت الحياة الحزبية في الحلقة المفرغة أبداً كان البدء من جديد هو عنوان المرحلة القادمة كما دارت الإدارة الحزبية في بيروقراطية عملها وبقيت معالجتها في الحدود الدنيا البدائية والمبدئية لمشاكل الحزب مما جعلها أبعد ما تكون عن التطور والاستفادة من تجار الأمس وخبراته.

5 ـ الإحباط:

أضحت الأحزاب أداة إحباط لا أداة استنهاض فإضافة للهزائم المتكررة، إن على الصعيد السياسي بعدم القدرة على تحقيق أي من الأهداف الأولية أو على الصعيد الداخلي المتفكك فكرياً والمتشرزم تنظيمياً والمشوه لرجالته وتاريخه ولدوارنه المفرغ من أية استهدافات على الأرض سوى النيل من الأخر إضافة لاقتصار العمل الإداري على رتابته وتكراريته المملة في تعليماته وقرارته..

إضافة للإهمال الذي كانت تعاني منه القواعد عموماً في مختلف الانشقاقات كل ما تقدم في كفة والافتراق الصارخ بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاقتصادية ـ الاجتماعية في كفة والذي كان لا يولي الأهمية للتوافق بين حياة العضو اليومية وواجباته الحزبية إذ ما عاد العضو بقادر على تحديد ما يريده من الحزب وما يعمل من أجله في الحزب مما كان يبعث على هجر الحزب بعد أن يكون العضو قد فقد الأمل والرجاء فيما قدمه أو يقدمه الحزب خاصة بعدما تراءت له في الاتهامات هشاشة الذين أمن بهم وبنضالتهم وتضحياتهم والتي انتهت بهم إلى الثروة أو الثورة على الحزب أو الموت..

6 ـ تراجع نسبة الانتماء للأحزاب:

في أفضل الحالات الحزبية انتعاشاً كانت نسبة الواحد بالألف هي النسبة المتعمدة بالانتماء الحزبي عموماً والتي تراجعت في العقد الأخير من هذا القرن إلى الربع ومن ثم إلى ما يقارب الصفر ذلك أنه إذا ما أضفنا إلى هذه النسبة نسبة الذين أقصوا وغيبوا وأبعدوا وهمشوا وترهلوا والمتواجدين اسماً في الحزب فإن من يتبقى من العاملين في الأحزاب كافة لا يزيد على عدد العاملين في إداراته.

في المحصلة كانت الأحزاب دون المرتجى منها بل والعامل الهام في تهدم أي اهتمام بالحياة العامة.

في المحصلة يبقى المطلوب من الأحزاب وبعد التجربة القاسية التي مرت بها وحتى تكون في مستوى ما هو مطروح على المستوى الوطني وحتى لا تكون في طروحاتها متناقضة مع تجربتها:

أولاً: أن تعكف الأحزاب على قراءة تاريخها قراءة موضوعية لتخلص لممارسة تجربتها الديموقراطية داخلياً بالتأكيد على حقوق العضو كإنسان فلا تلتهمها الواجبات والعمل على الانبثاق الشرعي للسلطة عملياً وتداولها سلمياً فتعيد بذلك ثقة المواطن بها وأن لا يكون استهدافها للسلطة إلا استهدافاً ديمقراطياً يكون الشعب مصدره.

ثانياً: أن تكون الأحزاب أحزاب مؤسسات لا أحزاب شعارات فتعكف على ممارسة ما تحملها إياه المهمة التي تتنكب فتعمل على خلق فرص عمل جديدة بما تمكنها منه إمكانيتها الذاتية بإقامة المؤسسات الاقتصادية الاجتماعية السياسية، إذ كيف لحزب لا يمتلك صحيفة أو إذاعة أو تلفزيون أو مطبعة أو مدرسة أو جامعة.. أن يكون في السلطة وأن يكون خبير في إدارتها وهو غير القادر على إدارة مصنع أو مؤسسة وأن لا يكون له استقلاله المادي وتالياً المعنوي.

لقد انتهت أحزاب الشعارات وبدأت مرحلة أحزاب المؤسسات إنها أحزاب القرن الحادي والعشرين.