التعصب بين الواقع والحقيقة
في البداية لا بد لي من تحديد مفاهيم المصطلحات الواردة أدناه حتى أتجنب اللغط في ما تذهب اليه المصطلحات لأن البعض منا يعتمد في نقده على اللغط السائد وغياب وحدة المفاهيم للمصطلحات المعتمدة في مثل هكذا أبحاث أو دراسات ..
الملة : الشريعةُ أو الدِّينُ ، كمِلَّةِ الإِسلام والنصرانية ، وهي في المجمل طوائف عدة .
الطائفة : جماعة من الناس لهم اجتهاد في وجه من وجوه ملتهم أو دينهم .
المذهب : طريقة أو أسلوب أو كيفية في تطبيق الاجتهاد .
يمكن القول بناء على ما تقدم ملة الإسلام الطائفة السنية المذهب الحنفي ، المالكي ..
من حيث المبدأ ، لا يمكن لأحد الادعاء باختياره ـ الشخصي الفردي وبناءً على وعي ودراسة وفهم سبق اعتناقه هذه الملة أو تلك الطائفة أ و هذا المذهب ،ـ لا يمكنه ذلك لكون الانتماء أيا كان، والديني تحديدا ، هو وراثي ـ في مجتمعاتنا ـ أولاً وقبل أي شيء آخر، فالفرد لا يختار ملته ، طائفته، مذهبه ، إلاَّ بقدر اختياره لأمه وأبيه . لكنه ، وبعامل التربية ، يؤمن أن ما ورثه عن أمه وأبيه ، هو الأفضل ، ليس لأنه كذلك وإنما لكون مقومات التربية والوسط العائلي والاجتماعي ساهما مساهمة فعلية في تكوين مقومات ومصطلحات ومفاهيم ورؤى هذا الفرد الفكرية والتي من خلالها بات قادرا على تحديد مواقفه من هذا الحدث أو ذاك رفضا أو قبولاً انطلاقاً منها واستنادا عليها وباتت بالنسبة له مقياس الخطأ والصواب من حيث المسلكية النفسية والاجتماعية على مختلف أوجهها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وحتى الجمالية والفنية والذوقية ..الخ
الاستعصاء الذي يقودنا لحالة العصبية الدينية ، مثلا ، هو أننا لم نكن في يوم بقادرين على إعادة النظر في هذا المنحى الفكري ، فإن حدث ، فيكون وللأسف من ذات المنطلقات التي نشأ عليها أيٌ منا ، هذا الاستعصاء ناتج بالضرورة عن غياب الموضوعية و النزاهة والتجرد الرياضي عن مختلف ما علق بالذهن من بديهيات ومسلمات ، من عادات وتقاليد وأعراف وعقائد قد لا تمت للملة أو الطائفة أوالمذهب بصلة بل وعلى العكس قد تتموضع هذه في مختلف الحالات مكان الدين الأساس الذي انطلقت منه ، وهي أقرب ما تكون لاجتهادات تنبع من الحاجة للتكيف الاجتماعي السياسي الاقتصادي والتي بعامل الزمن غابت في المنطلقات وترسَّخت من حيث النتائج ..
مصطلح العصبية ، أيا كانت ، يقوم على مفهوم المطلق ، فالملة هي الحق المطلق والخير المطلق والجمال المطلق ، هي المطلق الذي يكتنه الحقيقة المطلقة ، ودونها كلٌ باطل ، مصطلح العصبية قد يكون دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا أو عرقيا أو اقتصاديا…
هذا المصطلح يتضمن تلقائيا ،نفي الآخر ، رفضه ، عدم القبول به أو قبول شراكته في شيء ما ،( أنا الحق وما دونيَ باطل) هذا هو العنوان الذي تؤطر به أية عصبية كانت،
الاستعصاء الآخر الذي يقدمه لنا هذا المصطلح هو، رفضه المطلق في كونه نسبيَّاً ، أي أنه جزءٌ من كلٍ ، هذه مسألة بالغة الخطورة في المنهج الذي لا يُقرُّ مبدأ أن / العقل هو الشرع الأعلى في الإنسان / ، أي أنه يغيبُ العقلَ كليا عن كل ما هو قابل للدراسة والحوار والمناقشة والتداول والجدل ..الخ ، ويضحى تغييب العقل ميداناً للمهاترات والمماحكات والسباب والشتائم على غرار ( الاتجاه المعاكس ) سيء السمعة ، هذا ما يودي بأية حوارات نخوضها في ميدان ما الى فراغ نوقن بعده أن لا أمل من أي نقاش يخاض في هذه المسألة أو تلك ، ففي مختلف الحوارات التي نخوض نفتقر لمسألتين :
الأولى ، هي أننا نريد الآخر على شاكلتنا ومثالنا ، دون ذلك ، يبقى الآخر مرفوضا على قدر اختلافنا معه في رفضه أن يكون على شاكلتنا ومثالنا…
الثانية ، هي أننا نرفض رفضا قاطعا ، مسبقا، أن نكون على خطأّ في أية مسألة ما خاصة ونحن ،نحن فقط ، من يكتنه المطلق بكل مطلقيته ، بكل لا محدوديته .. دون الأخذ بعين الاعتبار ، أننا جميعا على حق في كثير من الأحيان ، من منطلق أننا جميعا ننظر لموشورٍ يحلل الضوء الأبيض لألوان الطيف الضوئي ، فكل منا سوف يرى لونا من خلال الزاوية التي ينكسر فيها الضوء مرتدا عليه بلون من ألوان الطيف ، فما أراه أنا بنفسجيا قد تراه أنت أحمرا وقد يراه آخرٌ برتقاليا ورابع قد يراه أصفرا أو أخضرا أو… وهكذا في جدلية الألوان ننسى أننا ،جميعا ، انما نرى جزئية من اللون الأبيض ..
هكذا، يهبط الله على الموشور الاجتماعي فنراه مللاً، بحيث تكون كلٌ من هذه موشوراً فنراه طوائفاً، بينما نراه في موشور الطوائف مذاهباً كذلك كل مذهب يبقى موشورا يراه الأفراد كلٌ من موقعه بما يجعل من المنتمين للمذهب كلٌ يراه بما يتوافق مع بيئته وثقافته وتربيته ومستوى قدرته على تلقط أنه جزء من كل أو أنه الكل بالكل وهذا منتهى التعصب …
لنتبادل المواقع اذن لنتيقن أن كلاً منا كان محقا في ما يراه من من ألوان الطيف
تبادل المواقع يعني رؤية أنفسنا من موقع آخر ، يعني في أن الآخر على حق كما نحن على حقٍ أيضا كذلك هم البقية ، في تبادل المواقع نرى أننا جميعا نشكل لونا واحداً هو الأبيض بالرغم من اختلافنا في الجزئية ، هذا يعني أن المسلم من حيث العقيدة قد يختلف عن النصراني لكنه وإياه يشكلان اللون الأبيض الذي هو الله ، كذلك الطائفة في تفرعاتها المذهبية إنما تشكل الموشور الذي يؤول بها لألوانٍ شتى ترى من خلاله أن الحق هو في تبادل المواقع ورؤية أنفسنا منه ، لنرى في ذلك ـ التبادل ـ الله ، ولنرى أننا جزء من كلٍ يتكامل في الآخر ، فإذا كان الاسلام لوناً أبيض فطيفه في طوائفه التي ارتأت في مكان ما ولظرف ما ولمعلومة ما ولاجتهاد ما أو تأويل فرضه الوضع ليتكيف من خلاله مع ضروراته من جهة ومتطلباته وغاياته من جهة ثانية ، للخروج من مأزقٍ تاريخي غابت اليوم منطلقاته وبقيت نتائجه ، وهذه ظاهرة عامة في كل ما يمت للإنسان بصلة ، كما الدين كذلك هو العرق ، فمن حيث المبدأ ، إن مصطلح العرق ، يبقى من حيث المفهوم ،تعبير عن حالة اجتماعية،تاريخية ، تنتفي بها أية حقيقة علمية ، ذلك أنه لم ولن يوجد عبر التاريخ ما يمكن القول أنه عرق صافٍ ، فالمتداول من مصطلح عرق لا يعني بأية حال كونه حقيقة ، فهذا المصطلح الذي يدل على مفهوم اجتماعي خاطئ من حيث كونه دلالة على أصل أو نسل أو سلالة أو ، نَبْعَة ، مَحْتِد ، مَنْبِت ، عُنْصر ،على خارطة وراثية خاصة بهذا العرق دون ذاك ، لا يعني أنه كذلك في واقع الحال ، ذلك أن البشر أجمعين هم في حقيقة الأمر مزيج سلالي يتباين أو ينسجم بين أو مع بعضه البعض تبعا لموروثات بيئية ساهمت في زوالها أوبقائها جملة لاعدَّ لها ولا حصر من عوامل وظائفية “فيزويولوجية ” وحيوية “بيولوجية ” ونفسية “سيكولوجية ” واجتماعية”سسيولوجية ” بحيث لا يمكن للمرء الادعاء بأنه من عرق صافٍ لا يشارك في موروثاته كائن آخر،نحن كما مختلف شعوب الأرض مزيج سلالي من الآمورين والسومريين والبابليين والآشوريين والكلدان والكنعانيين والحثيين والفلسطينيين ( نسبة لقبائل فلاستي التي هاجرت من جزر بحر إيجه واستوطنت الشاطئ الجنوبي الغربي من سورية واعطته اسمها ) والفراعنة والفرس واليونان والرومان والعرب والأتراك وحتى الفرنسيين والانكليز، نحن في التصنيف العالمي للشعوب هندوأوروبييون ، ما عدا ذلك هراء بهراء
وما الملصقات العرقية التي يتغنى بها البعض سوى محاولات فاشلة للتمايز عن بقية عناصر المجتمع الواحد ، لذا نرى هذه الملصقات تقتصر على مرحلة تاريخية لا تتعداها لأخرى ، نحن ك(أعراق) مزيج سلالي ومن يدعي غير ذلك فمن منطلق تعصُّبي ليس إلا ، لكن اذ ما تبادلنا المواقع فإننا نرى اننا في مجموعنا أطياف لمجتمع واحد سوري الانتماءـ ذلك أن الشعوب باتت تتخذ الأسماء لنفسها من الأرض التي تسكنها وتنتمي لها ـ …
لم نتقن بعد أننا جزء من كل ، لونٌ من طيفٍ ضوئي ، لم نتقن بعد فكرة تبادل المواقع ، والتي تعني دون أدنى شك ، أن نرى أنفسنا من موقع الآخر ، كما يرانا هو لا كما نرى أنفسنا نحن ،ـ لم نُتقن بعد ـ تعني دون أدنى شك أيضا ، أننا متعصبون لمبدأ ، لفكرة ،أننا غير قادرين على رؤية أنفسنا إلا من حيث نحن ، لأننا لم نكتمل بعد فكريا ، بما يعني أننا لم ننضج اجتماعيا وبأننا ما زلنا متخلفون ومتخلفون جداً عما ندعيه من ألتوق للحرية للديموقراطية ،فالحرية تعني الانعتاق من القديم ، من المتخلف ، مما يعيق حركتنا الاجتماعية ويحول دون انخراطنا في عملية التفاعل مع الآخر ورؤية أنفسنا من موقع آخر ، وهذا بطبيعة الحال ما يقودنا للديموقراطية التي ، كما كل القيم ، التي نتداولها كمصطلح للمكبوت فينا ، وليس من حيث هي تقبل الآخر كما هو لا كما نريده نحن ، تقبل رؤية أنفسنا من موقع آخر هو الديموقراطية كما الحرية والعدالة والمساواة ، كما الحق والخير والجمال ، قيمٌ تبقى في إطار المصطلح ما لم تخرج من نطاق المكبوت وتكسر قشرة الذات، لبلوغ المفهوم من المصطلح حيث الكل في الكل وحيث المفهوم مصطلح يجمع ولا يفرق ، الديموقراطية من حيث هي مصطلح تخرج من دائرة الشكل الى المضمون حيث تضحى سلوك ، مسلك ، نهج يبتكر الشكل ، ولا يقتصر على المتدوال من حيث هي ـ الديموقراطية ـ شكل من أشكال الحكومات أو شكل من أشكال الانتخابات ، الديموقراطية ليست صندوق اقتراع ، ليست إبداء رأي ، ليست حق التظاهر ، ليست رأيا عاما ، ليست هي الرأي العام ، الديموقراطية نهجا يتقبل الآخر كما هي ، مسلكٌ ينقلنا لموقع آخر بحيث نرى أنفسنا منه في عملية نقدٍ ذاتي ، ينصهر فيها المكبوت لينخرط في المعلن ، لذا تبدو الديموقراطية بغير الخجولة ، بغير المُجامِلَةً، هي وفي أحيانٍ كثيرة ، وقحة حتى درجة الصفاقة ،ونحن لم تبلغ بعد هذه الدرجة من تقبل وقاحة الديموقراطية لذلك نحن خجولون لدرجة لا يمكن تصورها في أن نتقبل ما نحن مطالبون به ولاهثون للوصول إليه.
فإذا كان التعصب واقعا هو رفض النسبي واللجوء للمطلق في فهم ما يدور من أحداث تتعدى السياسي للاجتماعي والاقتصادي ، فلا أمل لنا من الخروج من الحالة الراهنة من التخبط والضياع والانفلات من كل ما له علاقة بحياتنا ، وكل المحاولات تبقى عبثا في الزمن وقبض من الريح في النتيجة , والمشكلة بل والمعضلة الكبرى التي تعترض صيرورة حياتنا كما نريدها أن تكون عليه ,هي أننا نبقى مستهدفون من المطلق الوهمي باعتبارنا النسبي في المكان والزمان ، بالتعبير الشائع بين الأقلية والأكثرية ، والتي تبقى مقولة لا تتعارض مع ما نحن هادفون اليه بقدر ما تنقضُّ على ما نحن تائقون اليه من الديموقراطية والحرية والعدالة والمساواة والحق والخير والجمال , لا لشيء سوى أننا في واقع الحال مجزؤون لدرجة يصعب معها للمطلق الوهمي أن يجمع شمل مختلف التناقضات التي ابتلتنا فيها صيرورة الحياة لواقع نختلف فيه بالقيم ـ من حيث المضمون لا من حيث المصطلح ـ بين الأنثى والرجل بين الغني والفقير بين الأمي والمتعلم بين العربي ولأرمني وبين هذا والكردي وبينهم جميعا والتركماني أو الشركسي أو السرياني والأشوري .. الخ والاستعصاء الذي يجعلنا في دائرة شبه عبثية هو أننا مجتمعون في شيء مختلفون في أشياء ، على سبيل المثال لا الحصر الفرق بين السنة أنهم موزعون لطبقات اجتماعية واثنية وأحزاب سياسية ورجال ونساء و… مما يجعل مقولة الأكثرية مقولة وهمية بطبيعة الحال حيث الجميع أقلية فالنساء قد يكنَّ أكثرية بالنسبة للرجال ، لكن الرجال قوامون على النساء فهم أقلية تحكم أكثرية ، وقد يكون السنة أكرادا وعربا وشركسا وتركمان فيختلفون عرقيا ولا يتوحدون طائفيا كذلك المسيحيون في مختلف مذاهبهم فهم ليسو وحدة في ما يواجهون من تحديات على مختلف الأصعدة ، فهم مختلفون في ما بينهم وحتى متقاتلون كما بقية الأطياف الاجتماعية الأخرى ، نحن مجزؤون في الجنس والطبقة في العرق في الانتماء السياسي الحزبي ، فالبعثي غير الشيوعي غيرالكتائبي وهكذا دواليك نحن منقسمون على بعضنا البعض في المطلق متوحدون في النسبي فأيهما نختار ؟ وذا السؤال الذي علينا واجب الاجابة عليه مسلكيا ومسلكيا فقط ، لأننا جميعا مستهدفون من بعضنا البعض ومن عدوِّنا الخارجي المتربص بنا شرا .
في المحصلة ,نحن في مجموعنا ، طيف ،لون من ألوان الضوء الأبيض ،والذي هو/ اللون الأبيض / في المفهوم الاجتماعي الوحدة الطبيعية لمجتمع تشكل عبر التاريخ ، نحن النسبي في المطلق الذي هو المجتمع ، نحن وكلٌ على حدة ، جزء من كل ، لكننا في تبادل المواقع ، نشكل في الموشور الاجتماعي ، اللون الأبيض ،الوحدة الطبيعية لمجتمع تذوب فيه مفاهيم الأقلية والأكثرية بكل مفرداتها ، بكل معانيها ، بكل مصطلحاتها ،بكل ما تمتُّ إليه بصلة ..
هي ذي الحقيقة ـ والتي هي ـ على عكس الواقع ،الذي يفيد بأننا لم نتلقط بعدُ مغزاها ومتطلباتها اختيارياً ، تطوعاً إراديَّاً ، لكننا ، وللأسف الشديد ننقاد إليها انقيادا أعمى ، رغماً عنا ، غصبا عنا ، دون تفكير في ما نحن سائرون إليه ،أو ثائرون عليه في كثير من الأحيان , ولكن ، كيف ذلك ؟!
في الواقع ، حيث يرى كلٌ منا ذاته أنه المطلق وما دونه باطلٌ ، يبقى ، مهما أيقن بصوابية إيمانه ومعتقده ، في الخلفية الذهنية مقتنعا أنه مستهدفٌ من ذاك الباطل الذي يحدُّه من كل جانب ،بل ، و متغلغلٌ به حتى العظم ،فهو يساكنه مبناه ويشغل معه وظيفته ويتسوق منه ويجالسه مقهاه ويتقاسم وإياه لقمة عيشه، عاداتٍ وأعراف َ وتقاليد ، هو مستهدفٌ من الآخر الذي ليس على شاكلته ومثاله ، هذا الاستهداف يبقى يقينيَّاً ، لكن على المستوى النظري ليس إلاَّ ،لأنه عملياً، يسقط وبسرعة عندما نُسْتَهْدَفُ في واحدة من هذه المفردات ملليّا ، طائفيا ، مذهبيّاً ، عرقيّاً، حزبيّاً ، طبقيّاً ، كيانيّاً ،جنسيّاً ، مناطقيّاً ، ..الخ
ما تقدم ، بحاجة ماسة للتوضيح ، ذلك أن المجرد يبقى مبهما لعموميته أولاً ولصعوبة الوصول لمدلولاته في أغلب الأحيان ، فنحن ـ وعلى سبيل المثال لا الحصر ـ عندما نُستهدف كملة ، تسقط مقولات الطائفة والمذهب والعرق و… وعندما نُستهدف كعرق ، تسقط مقولات الملة ومستتبعاتها كما الطبقة والحزبية .. بينما عندما نُستهدف كيانيّا تسقط مقولات الملة والعرق والطبقة ..كذلك عندما نُستهدف طبقيا تسقط كلُّ المقولات السالفة الذكر ، الأمثلة كثيرة في مجتمعنا وفي غيره من المجتمعات ، ففي الثورة البلشفية كان المستهدف هو الطبقة الحاكمة من الأمراء والبورجوازيين الروس الذين تمت تصفيتهم جميعا ومن بقي منهم تحولوا لسائقي سيارات ، في الحرب الأهلية الأمريكية كان المستهدف الوحدة الأمريكية فانخرط العرق الأسود المستعبد في الدفاع عن حريته التي وجدها في هذه الوحدة ، في الثورة القرنسية كما في البلشفية ، في الثورة ( العربية الكبرى ) انخرطت كافة الفئات والأطياف في الدفاع عن كيانٍ وجد فيه الجميع ضالتهم في الحرية والمساواة والعدالة والتحرر من ربقة الاحتلال العثماني ، عندما لوحق الأخوان المسلمين في سورية سقطت مختلف الانتماءات الأخرى لتبقى الطائفة هي العنوان ، وعندما لوحق القومييون السوريون ـ اثر اغتيال المالكي ـ سقطت مقولات الملة والطائفة والعرق والطبقة ليطفو على السطح الانتماء السياسي ، كذلك أثناء ملاحقة الحزب الشيوعي السوري ، سقطت كل المقولات ليبقى الانتماء السياسي .. وهكذا نجد أننا في حالة الاستهداف من هذا الآخر ـ كائنٌ من كان ـ تطفو على السطح، واحدة من مفردات الأقلية والأكثرية لتسقط بقية المفردات غير مأسوفٍ عليها ..
نحن إذن منقادون ، ملزمون ، مجبرون ، ولا إرادة لنا في ذلك و تحت ضغط الضرورة للتخلي عن مفردات كثيرة في الانتماء المجتمعي عندما نستهدف في واحدة منها ، هذا التخلي الطوعي ـ تحت ضغط الحدث ـ لم يكن ، في يومٍ من الأيام طوعيّاً ، إراديّاً ، عقلانيّاً .. وذي هي المعضلة التي تقف عقبة كأداء في وجه ما نعاني منه اليوم ..
المشكلة التي نعاني منها هي في جانب من جوانبها الخلط بين العام والخاص ، فأنا عندما أستهدف من الآخر ، طائفيا ، طبقيا، حزبيا ، .. تكون ردة الفعل الآنية اللحظية ، المباشرة ، الدفاع عن وجودي الشخصي ، الفردي ، وليس لأنني طائفي ، طبقي ، حزبي ،.. لكن وكوجود شخصي معرضة حياته للخطر ، يرى سلامته في الآخر المستهدف كما هو مستهدف ، فيشد البعض أزر البعض الآخر المختلف معه مذهبيّاً ، طبقياً ، سياسيا ، .. المصلحة هنا مصلحة مركبة قد تختلط على البعض فأنا عندما أدافع عن وجودي كفرد عبر الطائفة ، المذهب ، العرق ، الحزب .. ليس لأنني كذلك ـ وإن كنت منخرطاً في ذلك ـ يل لأنني مجرد هدف ليس إلاّ ، على مبدأ /عدو عدوي صديقي / ندخل في احتراب قلما ندرك تبعاته منطلقين من مقولات هشة تسقط عندما تختلف منطلقات الاستهداف ..
والسؤال الذي يفرض نفسه كخاتمة لما تقدم هو : لما نستهدف بعضنا البعض من منطلقات لا تلبث أن تسقط في جحيم معركةٍ قد لا تبقِ ولا تذر ؟!!!
لتبقى الإجابة أيُّ احتراب نحن سائرون إليه؟!!! ، فإذ ما توضحت منطلقاته ووسائله وأغراضه أدركنا مدى الخطر الذي يداهمنا كما المؤامرة التي تستنزف قدراتنا وقدرات أجيالٍ لم تولد بعد .