المدرحية ـ فلسفة أنطون سعادة الاجتماعيةـ الفصل الأول (ما هي المدرحية)
جورج يوسف معماري
المدرحية
فلسفة أنطون سعادة الاجتماعية
الفصل الأول:
1- النظرية الاجتماعية
2- النظرية السياسية
3- الفلسفة السياسية
الفصل الثاني:
سعادة والفكر الغربي
1- إميل دوركهايم
2- كارل ماركس وفريدريك أنجلز
3- ماكس فيبر
الفصل الثالث:
مدرحيات التلامذة
1- مدرحية الأمين حيدر الحاج اسماعيل
2- مدرحية لبيب زويا
3- مدرحية كامل المقدم
4- مدرحية الأمين أنيس فاخوري
5- مدرحية جورج عبد المسيح
6- مدرحية هشام شرابي
7- مدرحية الأمين إنعام رعد
8- مدرحية وليد زيدان
9- مدرحية علي عمران
10- مدرحية الدكتور عادل ضاهر
الفصل الأول
تمهيد
مما لا شك فيه أن سعادة كعالم اجتماع انزوى في ظل الحزب الذي أنشأه /الحزب السوري القومي الاجتماعي/ ولم يظهر كعالم اجتماع أبدع في مجال هذا العلم، عُرف سعادة بزعيم للحزب بلا منازع، وقضى حياته مناضلًا فيما سعى إليه حزبه، آمن بالحزب وسيلة لبلوغ أهدافه التي تجلت في دعوته لوحدة سورية الطبيعية، فتعثر سعيه بجملة من العوامل السياسية تحديدًا، أشدّها موقفه من الصهيونية العالمية، التي عملت -وما تزال- على إجهاض أي مسعى لهذا الحزب في تحقيق غايته، آزرتها في ذلك قوى جبارة، ماديًّا ومعنويًّا -أميركا والغرب الأوروبي- لتأثّر مصالحها في مسعى الحزب لتحقيق هدفه أيضًا، وتعاونت معها قوى داخلية رجعية/ دينية، عرقية، ثقافية../ وسياسية، أبرزها كان حزب البعث العربي الاشتراكي ممثلًا بأحد قياديه الثلاثة “أكرم الحوراني”، في الوقوف في وجه أي محاولة لانتشال أمته مما هي فيه، فتآمرت عليه واغتالت زعيمه في أبشع جرائم التاريخ السياسي على الإطلاق، ومن ثم عملت على اغتيال حزبه في قضية اغتيال المالكي؛ مهزلة التاريخ القضائي في الشرق الأوسط إن لم يكن العالم..
لم يكن سعادة مجرد قائد وزعيم لحزب، حتى ولا رجلًا استثنائيًّا تخطى زمانه بعشرات السنين، إن لم يكن قد تخطاه بقرون، إذا ما قيس ما دعا إليه والحالة الاجتماعية التي عمل في وسطها، لم يكن سعادة رجلًا سياسيًّا، وإن يكن حزبه قد ألزمه بالعمل السياسي، كان سعادة مفكرًا وعالمًا في الاجتماع والأنثروبولوجيا قبل أي شيء آخر، وكان رائدًا في فكره وعلمه، سبق الكثيرين من العلماء الذين تناولوا أيًّا من العلمين (علم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا)، تخطى ما قبله وما بعده بعشرات السنين، على الرغم من أن ما تناوله في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا -الذي كان ما يزال علمًا يحبو في محاولته أن يكون علمًا معترفًا به- تجاوز كل ما جاء به علماء الاجتماع قبله وبعده.
لقد تجلت عبقرية سعادة في مؤلفه العظيم والرائع /نشوء الأمم/ والذي لقي مصير مؤلِّفه من التهميش والإهمال والاغتيال العلمي، المقصود تخطيطًا وتنفيذًا، حيث لم يقف ذلك على تلك القوى الخارجية والداخلية التي سعت بمختلف قواها المادية والمعنوية على طمس ما جاء به من حقائق في علمين كانا في طفولتها، بينما كان مؤلف سعادة قد بلغ بهما سنّ الرشد، لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى تلامذة سعادة، الذين لم يتبصروا فيما جاء به من تعاقدوا معه على تحقيق ما انتهى إليه قدوتهم في مؤلفه المشار إليه، بل إن المتابع لما كتبه الأوائل منهم وما تلاهم، بقي في حدود التكرار والاجترار والإسقاط لفكر معلّمهم على وقائع -هي بطبيعة الحال واقعية- لكنها لم تكن لتعبّر أو تظهر محتوى ومضمون وجوهر ما جاء به نشوء الأمم، أكثر من ذلك لم يسعوا لترجمته للغات الأخرى لأسباب، أبرزها ما سبق
مدخل:
إن دراسة معمقة في فلسفة أنطون سعادة الاجتماعية /المدرحية/ لم تحظَ حتى الآن باهتمام أيٍّ من المفكرين القوميين الاجتماعيين أو سواهم من المفكرين السوريين أو العرب،عدا بعض الإسقاطات على بعض الوقائع الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية، التي حاولت أن تقدم تعريفًا لهذه الفلسفة فهامت حولها دون أن تبلغ جوهرها، وتحددها كما هو متبع في الفلسفات الأخرى، التي تبدأ بالتعريف عن نفسها بمقولة رئيس تختزل كل جوانبها العامة والخاصة، لذا كان لابد، لإيضاح هذه الفلسفة، من تعريفها وفق ما دلّل عليه سعادة دون زيادة ولا نقصان، فكل ما سيلي، لا يعدو كونه تعريفًا بهذه الفلسفة، أو بالأحرى رسم معالمها كما جاءت في مؤلف سعادة العظيم /نشوء الأمم/.
الناموس المدرحي
المقولة الأولى أو الناموس المدرحي
(المادة تعيّن الشكل)
تقوم الفلسفة المدرحية على مقولة رئيس، ينضوي تحتها كل ما كتبه سعادة أو تحدث به /خطب ومقالات ورسائل وأحاديث../، مقولة تحكم فكر سعادة الفلسفي والاجتماعي والسياسي والثقافي.. الخ، بكل تفرعات أي مما سبق، مقولة رئيس تقول: “المادة تعين الشكل”، ولتأكيد ما تقدم، نسوق جملة من الأمثلة التي قالها سعادة أو كتبها في مختلف هذا وذاك:
يقول سعادة: “.. لا بد لقيام الحقيقة من شرطين أساسيين: الأول الوجود بذاته، أي أن يكون الشيء موجودًا. والثاني أن تقوم المعرفة لهذا الوجود..” فعلى مبدأ /أن المادة تعيّن الشكل/ يلعب الوجود في القول، آنف الذكر، دور (المادة) بينما تلعب المعرفة دور (الشكل)، ذلك أن الوجود هو محتوى المعرفة، فالمعرفة هي التي تعكس الوجود في الفكر الإنساني، فكما يقول سعادة: “لا يكفي تحديد الوجود لقيام الحقيقة، فالوجود يجب أن يصير معرفة ليكون حقيقة.. لا يمكننا أن نتصور وجودًا بلا معرفة. فلا يمكننا أن نقول إن لأي وجود مفترض، غير مدرك بالمعرفة، قيمة الحقيقة، لأن الحقيقة قيمة إنسانية نفسية والإنسان هو وحده الذي يميز بين الحقيقة والباطل بالمعرفة..”، فالوجود هو الذي يحدد محتوى، مضمون، جوهر، باطن (مادة) المعرفة، حيث تأتي المعرفة على شاكلته دون زيادة أو نقصان، هكذا يبقى الجوهر محددًا للمظهر، أو الباطن للظاهر، أو المحتوى (للشكل)..
من جهة أخرى، لا بدَّ لنا من التنويه بأن (التفاعل) الذي اجتهد الكثيرون في تفسير الفلسفة المدرحية به من حيث أنه تفاعل المادة والروح تفاعلًا يعلو المفهوم المادي والروحي عند الفلاسفة الآخرين الذين قالوا به، دون تحديد مفهوم هذا التفاعل عند سعادة ومقارنته مع الفلسفات الأخرى، التفاعل الذي قال به سعادة، ما هو في واقع الحال سوى تطابق المعرفة (الشكل) مع الوجود (المادة)، بمعنى آخر هو (أي التفاعل) المعرفة التامة والكاملة لقوانين المادة التي يمكن من خلالها (أي من خلال هذه القوانين) تسخيرها لما فيه مصلحة رقي وتقدم الإنسان، يقول سعادة بهذا الخصوص: “في مجرى هذين العصرين الحجريّين اللاّحق والمتأخّر تمّ نطق الإنسان وارتقى إلى مرتبة لغة وارتقت أحوال معاشه بتدجين الحيوان والتّنبه لطبائع المادّة ولكنّها ظلّت على مستوى سدّ الحاجة مباشرة.. في هذا العصر (عصر التفاعل)، /ابتدأ (الإنسان) يدرك طبائع المواد المحيطة به.. فهو قد حسّن أدواته الحجريّة تحسينًا كبيرًا واخترع أدوات جديدة من العظم ونوّع الجميع لمختلف الأغراض”، إذًا في العصر الذي يسميه سعادة بعصر التفاعل، هو وفق سعادة عصر إدراك طبائع المادة، أي معرفة قوانين المادة، حيث يمكن للإنسان تنويع استخدامه لها وفقًا لما تقتضيه إمكانيات استخدامها… يضيف قائلًا: “في كل النواميس التي نكتشفها يجب ألا ننسى أننا نستخرج النواميس من الحياة، فيجب ألا نجعلها تتضارب والمجرى الطبيعي الذي نعرفه بها، فكوننا اكتشفنا ناموسًا أو ناموسين من نواميس الحياة العامة، يجب ألا يحملنا على نسيان الواقع الطبيعي ونواميسه الأخرى، فالنواميس لا تمحو خصائص الأنواع، وإذا كنا قد اكتشفنا سنّة التطور، فيجب ألا نتخذ من هذه السنّة أقيسة وهمية تذهب بنا إلى تصورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة”. إذًا، في عدم تضارب النواميس، أو القوانين، أو المقولات، مع المجرى الطبيعي الذي نعرفه بها، تكمن المعرفة الحقّ، أي تطابق المعرفة مع الوجود، أو تطابقها مع الواقع الذي يبقى دليل الصحة من الخطأ، فالتفاعل هو هذا التطابق بين المعرفة والقوانين المادية، أي معرفة المادة كما هي، ولا شيء سواه.
في مؤلفه الرائع “نشوء الأمم”، يبتدئ سعادة بالتأكيد على أن الإنسان قد نشأ بالتطور، وأن تطوره- اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا.. (الشكل) جاء مطابقًا لخصائص بيئته (المادة)، فأيًّا كان موضوع التطور، أو محتواه أو مضمونه أو جوهره، فإنه يأتي مطابقًا للبيئة الطبيعية التي يجري التطور فيها، هنا البيئة هي المادة التي تصوغ التطور، حيث يأخذ التطور دور الشكل المطابق كليًّا لخصائص البيئة (المادة)، يقول: “.. والّذي نرجّحه أنّ السّلالات البشريّة هي عدّة تطوّرات أو سلسلة تطورّات حدثت في ظروف وبيئات تطوريّة، أي قبل استقرار البيئة الطّبيعيّة على حالتها المعروفة الآن..”.
فالسلالات جاءت تلبية لمتطلبات البيئة الطبيعية، بمعنى آخر إن العضوية راحت تتكيف مع تلك التطورات البيئية، وبنتيجة هذا التكيف نشأت خصائص عضوية متوافقة كل التوافق مع خصائص تلك البيئات في تطورها، فالسلالات إذًا هي (شكل) تلك التطورات التي حدثت في البيئة (المادة)، وتاليًا تمايزت واحدة عن الأخرى بخصائص تطورات بيئتها الطبيعية، هنا البيئة هي (المادة) التي حددت للسلالة خصائصها فجاءت مطابقة في (الشكل) لتلك الخصائص، فالمادة (التطورات البيئية) اقتضت (شكلًا) لها هو السلالات.
والسلالات بدورها خضعت لمقتضيات التمازج السلالي نتيجة الارتحال لبيئات تمكنها من الحياة، فتمازجت مع سلالة أو سلالات أخرى، ووفق مبدأ /أن الصبغة الوراثية الأقوى تتغلب على الصبغة الأضعف/ كان المزيج السلالي الناتج هو السلالة التي راحت أيضًا تتكيف مع البيئة النازلة بها، هكذا يمكننا القول إن (المادة) هي التمازج بين السلالات، أما المزيج السلالي الناتج هو (الشكل) الذي تختلف به الجماعات البشرية بعضها عن بعض بين مزيج متفوق وآخر وضيع متخلف وفق تلك الخصائص التي اكتسبتها السلالات من تكيفها مع التطورات البيئية، يقول سعادة: “وإذا بحثنا في عوامل الامتزاج وجدنا بينها عاملين بارزين هما الزّواج الخارجيّ والحرب. والزّواج الخارجيّ هو عادة تحريم تزاوج الجنسين في القبيلة الواحدة وجعله بين رجال قبيلة ونساء قبيلة أخرى. بل هو أكثر من عادة، إنّه من شروط شرف الأخلاق(67). فإذا دفعت عوامل المهاجرة قبائل من سلالتين أو ثلاث في جهة واحدة حتّى تلاصقت وتفاعلت، إمّا بالحرب وإمّا بتبادل المنتوجات والزّواج الخارجيّ، حصل الاختلاط الدّمويّ وابتدأ نشوء الجماعة المطلقة مع الإقامة بالأرض..”.
هكذا، يكون التمازج بين سلالتين أو أكثر، بأي عامل كان، هو (المادة) التي تعين (الشكل) الذي هو كما يقول سعادة: “فإذا دفعت عوامل المهاجرة قبائل من سلالتين أو ثلاث في جهة واحدة حتّى تلاصقت وتفاعلت، إمّا بالحرب وإمّا بتبادل المنتوجات والزّواج الخارجيّ، حصل الاختلاط الدّمويّ وابتدأ نشوء الجماعة المطلقة مع الإقامة بالأرض..”.
وحتى لا تتكرر أمثلتنا للتأكيد أن الفلسفة المدرحية هي هذه المقولة التي اختصرت مختلف الفلسفات الأخرى بمقولتها الرائدة (المادة تعين الشكل)، والتي من خلالها تبلغ الفلسفة غايتها في إيجاد قانون يمكن له تفسير مختلف مظاهر الحياة البيولوجية والفيزيولوجية والسيكولوجية للإنسان الفرد كذلك مختلف مظاهرها الاجتماعية والفلسفية والسياسية والاقتصادية والثقافية.. الخ. فهذه المقولة (المادة تعيّن الشكل) هي التي ستكون نبراسنا في توضيح فلسفة سعادة الاجتماعية في مقولته الرائدة الثانية (دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية) المجتمع، أي (النظرية الاجتماعية) كذلك في توضيح مقولته الثالثة (النظرية السياسية) وهي (القومية الاجتماعية) الأمة، وكذلك أيضًا في مقولته الرابعة (الإنسان- المجتمع) الدولة، أي الفلسفة السياسية عند سعادة.
بداية لا بد لنا من التنبيه والتنويه إلى أن سعادة، وعلى خلاف علماء الاجتماع الآخرين، عندما يستشهد بغيره من هؤلاء، فهو يستشهد لسببين، الأول للشرح وتاليًا نقض ما جاء به غيره من نظريات تتعارض وعلم الاجتماع من حيث هو علم موضوعي له قوانينه المتعارضة كليًّا وأي موقف ذاتي يستهدف البناء على ما يأتي به هذا العلم من حقائق لا يمكن تجييرها لخدمة أغراض سياسية، على سبيل المثال، نظرية الحتمية البيئية التي جاء بها الألماني /فريدريك راتزل/ والتي تتلخص في أن /الدولة كائن عضوي يكبر وتزداد احتياجاته باستمرار، وأن الحدود هي أشبه بجلد الكائن العضوي، والذي يجب أن يتمدد باستمرار مع نموه../ دون التمييز بين الأمة والدولة، حيث حدود الأمة الطبيعية هي الحدود التي تشكل البوتقة التي تنصهر فيها مختلف ردود فعل الجماعة النازلة بها على محرضاتها، وحيث تنتهي فيها حدود التفاعل الاجتماعي، حيث يمكن للدولة أن تتوسع دون أن تتوسع معها حدود تفاعل الجماعة وبيئتها، لكنه، سعادة، يستشهد بتلميذ راتزل /بواس/ الذي يقول إن للعضوية حدودًا للتكيف مع الواقع البيئي لا يمكنها أن تتعداه، لتدعيم وجهة نظره من /أنّ البيئة تؤثّر، في الغالب، على أشخاص مختلفين تأثيرًا يؤدّي إلى اتجاه واحد بناء على أنّ لكلّ عضو [حدود سلامة] يتكيّف ضمنها تبعًا لمقتضيات البيئة، فيتّخذ الهيئة الّتي تتطلّبها عوامل البيئة دون أن يفقد خصائص وظيفته../، وعلى سبيل المثال أيضًا، وعلى خلاف مع أنجلز الذي يعتمد كليًّا على ما جاء به /هنري جيمس مورغان/ في كتابه /المجتمع القديم/ أو كتاب /حق الأم/ لمؤلفه /يوهان ياكوب باخوفين/ الذي يسميه أنجلز بترجمته الإنكليزية /باتشوفين/ وذلك في كتاب أنجلز الشهير /أصل العائلة والملكية والدولة/ والذي تشغل به كتابات مورغان وباخوفين إضافة لآخرين، أكثر من ثلثيه، سعادة يوجز في استشهاداته كثيرًا، ويقدم الخلاصة نقدًا أو نقضًا لما جاءت به استشهاداته ليستنبط في نهاية تحليله وتركيبه نظريته.
سعادة يمضي في تحليله لما جاء به علماء الاجتماع الآخرون، على النسق الذي جاء به /أنشتاين/ في معالجته لميكانيك نيوتن، حيث تساءل أنشتاين عن العلاقة بين سرعة الضوء ومنبعه، والتي كانت المقدمة لقيام النظرية النسبية العامة والخاصة، سعادة يحلل ومن ثم يستخلص فيركب ما استخلصه ليستنبط نظريته على نسق ما جاء به في مناقشته للفارق بين عوالم الكائنات الحية، حيث يقول: “نرى أيضًا من متابعة درسنا عالم الحشرات والحيوانات الدّنيا من الوجهة البيولوجيّة أنّ هنالك أنواعًا من الزّنابير تجري في حياتها على أسلوب فرديّ مطلق. وحين ندقّق في هذه الظاهرة الّتي تخالف ظواهر النّحل يتّضح لنا أنّ السّبب هو في حيويّة هذه الزّنابير الجنسيّة، فإنّ اكتمال جهازها الجنسيّ هو السّبب الظّاهر الوحيد الّذي نستطيع بواسطته تعليل حياتها الفرديّة، كما أنّ ضمور الجهاز التّناسليّ في النّمل والنّحل هو أقوى عامل في تجمهرها حول ملكاتها وبيوضها.
… ولسنا نطيل الشّرح في موضوع يبعدنا التّوغّل فيه عن متّجه هدفنا في هذا الكتاب ونحن ما عرضنا لبعض نواحي الاجتماع الحيوانيّ البيولوجيّة إلاّ لنوضح بالدّليل والأمثلة أنّ الاجتماع في الكائنات الحيّة أنواع، لكلّ نوع منها خصائص لا تتعدّاه إلى نوع آخر، وأنّ تطبيق الاجتماع الإنسانيّ على مظاهر التّجمهر في الحشرات والحيوانات الدّنيا أو بالعكس غلط فادح سببه جهل مرتكبيه العوامل البيولوجيّة المختلفة في أنواع الاجتماع المختلفة..”
ما يجب أن نلفت إليه الانتباه أيضًا، هو أن سعادة كعالم اجتماع لا يستغني عن علم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) الذي قام عليه علم الاجتماع، مع العلم أن علم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) قد سبق من حيث الظهور على مسرح العلم، علم الاجتماع، الذي يمكن اعتبار مقدماته في كل ما جاءت به كتابات مونتسيكيو وسان سيمون وديفيد هيوم وآدم سميث.. ويمكننا أن نعتبر عام 1861 هو العام الذي ابتدأ به علم الأنثروبولوجيا بظهور كتاب (السير هنري مين) تحت عنوان (القانون القديم) ومن ثم ظهور كتاب (باخوفين) -حق الأم- الذي يأتي أنجلز على ذكره في كتاب (أصل العائلة والملكية والدولة) باسم (باتشوفين) ومن ثم كتاب (فوستل دي كولينج) -المدنية القديمة- 1864 وكتاب (ماكلينان) -الزواج البدائي- عام 1865 وكتاب (السير إدوارد تايلور) -أبحاث في التاريخ القديم للجنس البشري- وكتاب الحضارة البدائية عام 1871- ومن ثم كتاب (لويس هنري مورغان) -أنساق روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية- والذي يعتمده (أنجلز) كمصدر رئيس لكتابه المشار إليه..
مع بداية القرن العشرين، ظهرت كتابات في علم الاجتماع، استندت لما جاء في علم الأنثروبولوجيا، كان أبرزها كتابات (جيمس فرايزر) و(إميل دوركهايم) و(راد بروان) و(مالينوفسكي) و(البوثسيمث).. وظهرت بالتالي مدارس لمجمل هذه الأفكار /مدرسة الانتشار الحضاري والمدرسة الوظيفية والمدرسة البيئية التي ظهرت في أواسط أربعينيات القرن العشرين (وضع سعادة مؤلفه نشوء الأمم في عام 1936، أي قبل ظهور المدرسة البيئية بعشرة أعوام)..
وتتداخل في بحثه عن حقيقة (قوانين) التطور البشري نشوءًا وارتقاء، عواملَ وأسبابًا، ونتائج مختلف علوم الأنثروبولوجيا وعلم الأحياء وعلوم الفيزياء ومختلف العلوم التي لها علاقة بالعلوم الإنسانية.. ويقدم في مؤلفه الموما إليه، قواعد جديدة لهذا العلم التي اكتشفها علماء الاجتماع بعده بعقود عدّة..
لذا كان من المفيد في مقدمة بحثنا، التعريج على موضوعات هذا العلم والتعريف بها ودلالاتها، حتى يكون لدينا إلمامٌ بأهمية الموضوعات التي أثارها سعادة في موضوع علم كان ما يزال جنينيًّا على مستوى الدراسات المتخصصة، التي نشهدها اليوم..
إذا كان علم الأنثروبولوجيا سابقًا في الظهور على علم الاجتماع، حيث يمكن اعتبار العلم الثاني مشتقًّا من العلم الأول ومستندًا عليه، فيمكننا القول إن علم الاجتماع يقوم في المحصلة على تلك الموضوعات التي تناولها الأول، مضيفًا عليها موضوعاته الخاصة التي اقتضتها موضوعات الأول.
علم الأنثروبولوجيا:
لهذا العلم تفرعات عدة تنضوي تحت عناوين كبرى، هي على التوالي:
(1) علم الإنسان الطبيعي
(2) الأنثروبولوجيا الاجتماعية
(3) الأنثروبولوجيا الحضارية (أو الثقافية)
(4) الأنثروبولوجيا التطبيقية
ما يهمنا في هذا المجال هو (1، 2)، ذلك أنها تدرس البناء الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والنظم الاجتماعية مثل العائلة، والفخذ، والعشيرة، والقرابة، والزواج، والطبقات والطوائف الاجتماعية، والنظم الاقتصادية، كالإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك، والمقايضة، والنقود، والنظم السياسية، كالقوانين، والعقوبات، والسلطة والحكومة، والنظم العقائدية، كالسحر والدين. إضافة إلى ظهور الإنسان على الأرض كسلالةٍ مُتميزة، واكتسابه صفات خاصة كالسير منتصبًا، والقدرة على استعمال اليدين، والقدرة على الكلام، وكبر الدماغ، ثم تدرس تطوره حياتيًّا. وانتشاره على الأرض، وتدرس السلالات البشرية القديمة وصفاتها، والعناصر البشرية المُعاصرة وصفاتها وأوصافها الجسميّة المُختلفة، وتوزيع تلكَ العناصر على قارات الأرض، وتضع مقاييس وضوابط لتلكَ العناصر، كطول القامة، وشكل الجمجمة، ولون الشعر وكثافته، ولون العين وأشكالها، ولون البشرة، وأشكال الأنوف. وتدرس الوراثة، وانتقال ميزات الجنس البشري من جيلٍ لآخر.. ويطلق على كل ما تقدم علم (الإنسان الطبيعي).
ويهتم فرع الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة بتحليل البناء الاجتماعي للمجتمعات الإنسانية وخاصة المُجتمعات البدائية التي يظهر فيها بوضوح تكامل ووحدة البناء الاجتماعي، وهكذا يتركز اهتمام هذا الفرع بالقطاع الاجتماعي للحضارة، ويتميّز بالدراسة العميقة التفصيلية للبناء الاجتماعي وتوضيح الترابط والتأثير المتبادل بين النظم الاجتماعية… أما علم الاجتماع، فيختص بدراسة المجتمع الإنسانيّ؛ ويبحث في علاقة الناس مع بعضهم البعض، وما ينتُج عن هذه العلاقات من ظواهر اجتماعيّة تختلف باختلاف المجتمعات الإنسانيّة، وتتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، وتُستنبَط بعد كل هذه الملاحظات والمشاهدات قوانين عِلم الاجتماع التي تُحدّد مدى تقدّم المجتمع وازدهاره أو تخلّفه وتراجعه..”
بالطبع، لم يكن علم الأنثروبولوجيا قد تطور وبلغ هذا المستوى من الدقة في تشعب وتفرع موضوعاته، عندما وضع سعادة مؤلفه نشوء الأمم، مع ذلك نراه في مؤلفه المذكور يمر على أكثر هذه الموضوعات ويستنبط منها مقولاته..
في مؤلفه /نشوء الأمم/، يتناول سعادة بدقة مذهلة ما يمكن اعتباره عروضًا عابرة للمجتمعات الإنسانية، تناولتها مختلف تلك المدارس، بينما تناولها سعادة بدقة تكاد تكون متناهية فيما وصل إليه من نتائج، فهو يبتدئ بدراسة ظاهرة الإنسان نشوءًا وارتقاء منذ اللحظة التي انتصبت قامته فيها محرّرة يديه ومطلقة شرارة الفكر الأولى، وصولًا لمرحلة يقظته اجتماعيًّا وتاليًا قوميًّا، وما يترتب على ذلك، بدءًا من تأسيس حزبه وانتهاء باغتياله..
وهكذا على مدى صفحات مؤلفه العظيم /نشوء الأمم/ لا يأتي على ذكر مصطلح دون تعريفه والمرور تاريخيًّا على تطوراته..
سعادة في مؤلفه الرائع /نشوء الأمم/ يدحض مختلف النظريات التي قام عليها علم الاجتماع الغربي والأميركي والماركسي.
سعادة يعيد دراسة التاريخ البشري، في محاولة منه لاستخراج مقولات التطور التي انتهت بالبشرية لما هي عليه مجتمعًا ودولة، ولتحديد البنية المادية والنفسية لكليهما، وذلك عبر مقولته /دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية/.. والتي تعني أن مختلف التجمعات البشرية خضعت بطريقة أو بأخرى لمقتضيات بيئاتها الجغرافية وعبر تتالي أجيالها، راحت تكرر ما درج عليه الأولون من هذه الجماعات، هذه التكرارية في الاستجابة لما تقتضيه البيئة الطبيعية، وهي التي يطلق عليها سعادة (دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية) والتي يقيمها على بديهيات لا تترك مجالًا للشك في صحتها، والتي نأتي على ذكرها، مع التنويه، أننا وفي السياق سنشير إلى المقولة التي سبق وأشرنا إلى أنها تحكم فكر سعادة، على أي نحو أخذ به، وتاليًا لما يشكل (المادة) ولما يشكل (الشكل).
يبتدئ، سعادة- في دراسته أحوال الاجتماع البشري على خلاف علماء الاجتماع كافة ببديهيات..
أولى هذه البديهيات كما يقدمها سعادة هي أنه: “في فلسفة العلم الطّبيعيّ.. التّعليل العلميّ يقرّر أو يرجّح، أسبقيّة الأرض (المادة) على الحياة (الشكل).. ومهما يكن من شيء فإنّنا لا نعرف الحياة إلاّ على الأرض ولا نعرفها تقدّمت إلاّ بتقدّم الأرض في الصّلاح للحياة..”.
البديهية الثانية هي: “إنّ الأرض (المادة)، مع كونها وحدة جوّيّة مقسّمة بحسب طبيعتها إلى أقاليم (شكل) تتنوّع فيها مقوّمات الحياة وتتفاوت، وفي بعضها تنتفي بالمرّة كما في القطبين..”.
البديهية الثالثة هي: “تختلف علاقة الطّبيعة بالنّبات والحيوان عنها بالإنسان. فالعلاقة الأولى علاقة مفردة أو وحيدة الطّرف.. أمّا علاقة الطّبيعة بالإنسان فهي مزدوجة.. فالأرض تكيّف (مادة) الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل (شكل) ويكيّفها. وإلى هذه العلاقة المتينة يعود تفوّق الإنسان على بقيّة الحيوانات في تنازع البقاء. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى (مادة) هذا التّكييف (شكل) وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة. وفي الوقت الّذي يسعى هو لتكييف الأرض لتوافق حاجاته الحيويّة يجد نفسه مضطرًّا لتكييف حاجاته (شكل) حسب خصائص (مادة) الأرض النّازل فيها..”.
البديهية الرابعة: “قلنا إنّ الأرض مقسّمة بحسب تكوّنها إلى أقاليم وبيئات، ولكلّ إقليم خصائص تختلف عن خصائص الإقليم الآخر، لا توجد مادّة واحدة تمدّ الطّبيعة بها إمدادًا مستمرًّا ولكلّ بيئة خصائص تتميّز عن خصائص البيئة الأخرى. وهذه الخصائص (المادة) هي الّتي تعيّن وجهة (الشكل) تقدّم الإنسان في سدّ حاجاته مداورة- أي مدنيّته. بل إنّ البيئة هامّة لتقدّم الإنسان بقدر ما هي الأرض عمومًا هامّة لحياته..”.
البديهة الخامسة: “إنّ تقسّم (مادة) الأرض إلى بيئات هو السّبب المباشر لتوزّع (شكل) النّوع البشريّ جماعات. فالبيئة كانت ولا تزال تحدّد الجماعة، لأنّ لكلّ بيئة جغرافيّتها وخصائصها.. فمدنيّة الجماعة المستقلّة مستمدّة من بيئتها لأنّ الاستنباط (الشكل) والتّكييف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص (مادة) البيئة الطّبيعيّة..”.
البديهة السادسة: “وهكذا نرى الجماعات البشريّة قد تأثّرت كلّ جماعة منها بمواد بيئتها وجرت على أساليب (شكل) توافق طبيعة (مادة) هذه البيئة، فتنوّعت أساليب الجماعات ومجاري حياتها حسب تنوّع بيئاتها..”.
هذه هي البديهيات التي بنى عليها سعادة رؤيته للتطور البشري، نشوءًا وارتقاءً، مع التذكير بالمفهوم المدرحي للمادي والنفسي (الروحي) والذي يجب أن يبقى ماثلًا في الذهن، لا يبارحه، طوال هذه الدراسة المقدمة.
فالمادي هو: كل ما ليس له علاقة بالإنسان وجودًا ومعرفة (الوجود برمته (مادة)، دوران الأرض حول نفسها (مادة)، دوران القمر حول الأرض (مادة)، دوران الأرض حول الشمس (مادة) هو ذا مفهوم المادة الذي يعنيه سعادة بهذا المصطلح (مادة).
أما المفهوم المدرحي للنفسي أو (الروحي، مجازًا) فهو كل ما له علاقة بالوجود الإنساني، وجودًا ومعرفة، (الثقافي، نفسي- روحي)، السياسي (نفسي- روحي)، الفني (رسم نحت موسيقى علوم على اختلافها.. الدين الحرف الرقم.. المحراث المنجل، كل ما هو صناعي.. الخ (نفسي- روحي).
النظرية الاجتماعية
2
المقولة الثانية أو النظرية الاجتماعية
“دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية”:
يبني سعادة نظريته الاجتماعية على مقولته /دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية/ وعلى البديهية السادسة، آنفة الذكر، بديهية أن التطورات البيئية (المادة) تبقى ثابتة لمدى زمني طويل، حيث تبقى هي هي في تأثيرها على ردود فعل (نفسي- روحي) الإنسان في مختلف أطوار نشأته وتطوره فهي الثابت الوحيد الذي يواجهه الإنسان في مختلف أجياله.. بمعنى آخر، إن التطورات البيئية لا تواكب التطورات الإنسانية، وحيث تبقى التطورات البيئية هي الثابت، بينما تأتي ردود فعل الإنسان كمتحول أو تابع لتلك التطورات، فهي التطورات البيئية لا تأبه بالإنسان ومختلف تحولاته أو تغيراته، وعليه، فـ(دورة الحياة) هي (المادة) التي تحدد (الشكل) (الحياة الاجتماعية- الاقتصادية) أو متجه التطور عبر ردود الفعل الإنسانية، وعليه أيضًا، فهي المقولة التي ترسم معالم التطور البشري منذ أن انتصبت قامة الإنسان الفرد وصولًا إلى بلوغه مرحلة الجماعة الشاعرة بشخصيتها- القومية، وتُلَخص هذه المقولة بأنها المسار الذي سارت به البشرية كافة، نشأة وتطورًا، وهي المقولة التي تحكم مختلف النزالات البشرية وفي أية بقعة نزلتها، وفي أية مرحلة من مراحل تطورها، فأي تطور طرأ على أية جماعة كائنة ما كانت، يخضع لهذه المقولة، في شقيها المادي (دورة الحياة) والنفسي الشكل أي التطورات (الاجتماعية- الاقتصادية). وتاليًا، فكل ما هو اجتماعي اقتصادي يأتي على نحو ما هي عليه البيئة الطبيعية التي ينزل فيها ويتفاعل معها على تتالي أجيال تلك النزالة.
سعادة، كعالم أنثروبولوجي، يعيد تقسيم التطور البشري إلى عصرين..
العصر الاحتكاكي الأول:
يقول: /ولذلك فضّلنا أن نسمّي عصر الـ(Homo Sapiens) (الإنسان العاقل) عصر التّفاعل وما قبله عصر الاحتكاك. ويظهر أنّ الاحتكاك ابتدأ من الدّرجة الّتي نجد الشّمبانزي عليها اليوم، أي من درجة عقل بعض الأشياء المحيطة واستخدامها. وقد لا تكون هذه الأشياء الأغصان المتّخذة لبناء العرازيل، كما يفعل الشّمبانزيّ، إذ يرجّح أنّ النّوع القرديّ المجهّز بالاستعداد للتّطور نحو الإنسانيّة لم يكن يقطن الغابات الّتي لا تساعد على تولّد الخصائص الإنسانية كتحرير الذّراعين والمشي على القدمين. ويظهر أنّ الاحتكاك ارتقى إلى تناول النّار واستعمالها لأغراض متعدّدة(82)، وأنّ فجر الإنسانية مقرون بفجر الثّقافة الإنسانيّة.. فاستعمال النّار هو الخطوة الفاصلة الّتي عيّنت للإنسان السّابق اتجاهه.. أعدّت النّار الإنسان السّابق لدخول العصر الحجريّ(84) الّذي هو بدء الإنسان الّذي ولّى الحيوان ظهره وبدء الثّقافة الإنسانيّة. ومنذ تلك العصور المتطاولة في القدم لم تفارق النّار الإنسان ولا قطع الإنسان صلته بها.. وظلّت صناعة الأحجار ثقافته الوحيدة طول الحقب المبتدئة من الحقبة الشّليّة الدّنيا إلى الشّليّة العليا إلى الأشوليّة، التي خلف فيها الإنسان النيندرتالي الإنسان الهيدلبرغي، إلى المستريّة الدّنيا إلى المستريّة العليا الّتي هي نهاية الإنسان النيندرتالي، أو على الأرجح الشّكل النيندرتالي Homo NeandertalensisPrimigenius. وهذه الحقب تعادل نحو 250000 سنة من الزّمان الجليديّ(86). وعند هذا الحدّ ينتهي القسمان الأوّلان من العصر الحجريّ السّابق وبنهايتهما تتمّ مدة الاحتكاك.
العصر الاحتكاكي الثاني:
يقول سعادة: /ليس لنا من أدلّة (على) اجتماعيّة إنسان هذا العصر الاحتكاكيّ ونفسيّته سوى آثار مواقده وبقاياه العظميّة وأدواته الحجريّة، وكلّها تدلّ على حالة الخروج من الحيوانيّة وبدء الإدراك وانحصار الأعمال الإنسانيّة في الاشتغال بأدوات الفتك. ولا شكّ في أنّ نفسيّته كانت لا تزال في بداءة وعيها. أمّا اجتماعيّته فلم تكن نوعيّة مطلقة، إذ إنّ تنقيبات قريانفتش- كرامبرقر 1905- 1899 (87)(Gorjanovic. Kramberger) في كرابينا من أعمال كرواطية دلّت على أنّ الإنسان النيندرتالي كان يأكل نوعه. وحالة معيشته كانت على درجة سدّ الحاجة مباشرة./
عصر التفاعل:
“.. في هذا العصر، /ابتدأ (الإنسان) يدرك طبائع المواد المحيطة به.. فهو قد حسّن أدواته الحجريّة تحسينًا كبيرًا واخترع أدوات جديدة من العظم ونوّع الجميع لمختلف الأغراض. وقد فسح له هذا الارتقاء الاقتصاديّ المجال لبروز الحاجات النفسيّة مع الإدراك فأخذ الإنسان ينقش في الطّبيعة ويحفر في كهوفه، على الحيطان، وعلى الأدوات العاجيّة والعظميّة رسومًا جميلة تدلّ على سلامة ذوق.. ومع ذلك فإنّنا لا نجد تغيّرًا خطيرًا في وسائل سدّ الحاجة. فالإنسان لا يزال صيّادًا وإن كان قد حسّن عدّة الصّيد باختراع القوس والسّنان للرّماية. وقد يكون أضاف إلى صيد حيوان البرّ صيد حيوان البحر.. ولكنّنا نلاحظ أنّ هنالك بداءة جديدة لأشكال الإنسان العاقل تجعلنا نسمّيه [الإنسان العاقل الحديث] Homo Sapiensrecens تمييزًا له عن إنسان العصر الحجريّ السّابق../ التغير الخطير في هذا العصر هو/ ظاهرة تدجين الحيوان باقتناء الكلب، ونلاحظ أيضًا أنّ الأدوات الحجريّة تتّخذ وجهة أغراض جديدة، فنجد بعضها خشنًا قاسيًا -ولعلّه لغرض العزق أو الحفر في الأرض- ونجد بينها الفأس الحجريّة وإذا بنا في مدخل العصر الحجريّ المتأخّر المتصّل بعصرنا الحاليّ في بعض السّلالات الابتدائيّة..
في مجرى هذين العصرين الحجريّين اللاّحق والمتأخّر تمّ نطق الإنسان وارتقى إلى مرتبة لغة وارتقت أحوال معاشه بتدجين الحيوان والتّنبه لطبائع المادّة ولكنّها ظلّت على مستوى سدّ الحاجة مباشرة، الأخذ ممّا تقدّمه الأرض من حيوان ونبات بريّ، وفوقها قليلًا؛ إذ نرى ابتداء النّسيج وصناعة الخزف. والرّابطة الاجتماعيّة هي الرّابطة الدّمويّة، رابطة القبيلة… وممّا لا شكّ فيه أنّه بينما كانت أوربة في إبّان العصر الحجريّ المتأخّر وكان بعض مناطقها الشّماليّة (سكندينافية) لا يزال في بدء هذا العصر، إذا بالعصر المعدنيّ ينبثق في سورية -(بلاد الكلدان- بابل- وأرض كنعان)- وفي مصر..”
يتضح مما تقدم أن سعادة يقيم دراسته على مبدأ التفاعل بين الإنسان الفرد والطبيعة، وليبقى هذا النشاط نبراسه في تقييم التطور الإنساني، حيث تظهر للوجود صفة الإنسان العاقل، حيث راح الإنسان يعقل طبائع المادة (أي معرفة قوانينها وكيفية الاستفادة من تلك القوانين لتسخير المادة لأغراضه، مما يؤكد أن التفاعل “المادي- الروحي” هو تطابق المعرفة والمادة، الذي نوهنا إليه أعلاه)، التي يتعامل معها تحت ضغط سد حاجته مداورة، من هنا نرى سعادة يعطي النار قيمتها، كأداة قوَّت في الإنسان حاجته للاجتماع، والتي بدورها عملت على ظهور النطق وارتقائه لمرتبة اللغة، يضاف إلى ذلك ثباته في الأرض وتاليًا تدجين الحيوان، الذي قدّم له وفرة في سد الحاجة مع ضرورة حاجته للزراعة التي حفّزت لديه ضرورة الثبات في الأرض النازل بها، والتي بدورها أيضًا، دفعته للارتحال بحثًا عن بقاع تمكنه من الزراعة في سد الحاجة، وفي المحصلة كانت اجتماعيته هي التي تقود مختلف توجهاته، حيث رابطة الدم هي الرابطة الاجتماعية الأولى، رابطة القبيلة. سد الحاجة مداورة، هو ما يطلق عليه سعادة الرابطة الاقتصادية، حيث لا يمكن تصور حياة دون غذاء، فردية كانت أم جماعية (اجتماعية)..
يقدم سعادة نظريته الاجتماعية، على نحو من (دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية) عندما يقول: “حتّى العصر المعدنيّ كانت الثّقافة البشريّة عامّة تناولت النّوع الإنسانيّ بكامله. فجميع البشر كانوا صيّادين وصانعي أدوات حجريّة وجامعي القوت النّباتيّ ممّا تقدّمه الأرض الكريمة. ولكن لمّا حصل الاتجاه الزّراعيّ في العصر الحجريّ المتأخّر القصير الأمد ظهر عامل جديد في ترقية حياة البشر لم تشترك فيه جميع سلالاته أو شعوبه. ومع الزّراعة والاشتغال بالمعادن يرتقي عصر التّفاعل إلى ما نسميّه التّفاعلّ العمرانيّ أو الثّقافة العمرانيّة..”
ما يسميه سعادة (العصر الاحتكاكي) لم يتناوله سواه من علماء الاجتماع (وليس علماء الأنثروبولوجيا) لبيان الأسس التي قام عليها الاجتماع البشري، إذ ابتدؤوا جميعًا من المرحلة التي ظهرت بها القبيلة، حيث الرابطة هي رابطة الدم، ولعل أنجلز في كتابه (أصل العائلة والملكية والدولة) يبقى المثال الأوفى لما نذهب إليه، حيث اعتمد كليًّا على ما جاء به لويس هنري مورغان في كتابه (المجتمع القديم) والذي انكب على دراسة القبائل الهندية (الأيروكيوس) ليستخرج منها مقولات الاجتماع البشري في مراحله الثلاث /الوحشية والبربرية والمدنية/ وليعمّمها على مختلف الجماعات البشرية ولينتقي منها أنجلز ما يتفق وأطروحته (المادية- التاريخية) التي تنتهي للقول بـ(التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية) والتي هي بالتعريف (المجتمع في مرحلة ما من مراحل تطوره)، حيث تقسيم العمل بين الرجل والمرأة كان السبب المباشر لقيام العائلة التي يعتبرها أنجلز بدورها السبب المباشر لقيام الملكية التي انتهت بقيام الدولة.. يبحث أنجلز في الحقوق الأمومية، التي أوردها مورغان، كما يستند إلى باخوفين في كتابه (حق الأم)، للتأكيد على أن تنازل المرأة عن حقوقها جعل من الرجل صاحب الملكية وليتمتع الأخير بحق الوراثة..، أنجلز في كتابه الموما إليه، لا يتطرق إلى المرحلة الوحشية وفق مورغان والتي يسميها سعادة بالعصر الاحتكاكي، واستطرادًا، أسطورة (آدم وحواء) التي تبتدئ بعد مرحلة الوحشية وبعد قيام العائلة الزوجية (رجل مع امرأة) وهي مرحلة متقدمة جدًّا من مراحل التطور البشري، سبقها وفق تصنيف سعادة أدوار الزواج الطوطمي والزواج القائم على حقوق المرأة ومن ثم زواج الرجل الواحد بامرأة واحدة ويليه تكوين الأسرة التي جاءت أسطورة آدم وحواء في هذا العصر، بمعنى أن تلك الأسطورة جاءت بعد قرون سحيقة في القدم من التطور الاجتماعي، بمعنى آخر أنها لم تكن هي بادئة عهد البشرية كما تدعي التوراة…
سعادة في نظريته الاجتماعية /دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية/ يقيم هذه النظرية على جملة من المبادئ، أبرزها كما يقول: “لا يمكننا أن ندرس الثّقافة ومراتبها ونتتبّع تطوّرها إلاّ في سياق التّفاعل.. والمقياس الّذي نقيس به قيمة أيّة مرتبة ثقافيّة هو نسبة ما بين حصول أسباب العيش والعمل المبذول في هذا السّبيل، لأنّ كلّ تطوّر في الحياة الاجتماعيّة وأنظمة الاجتماع لا يمكن أن يحدث إلاّ ضمن نطاق هذه العلاقة..”، بمعنى آخر، إن العلاقة بين الإنسان وبيئته، التفاعل، ليس مطلقًا، بل نسبيًّا، حيث تعود نسبيته إلى ممكنات البيئة ومقدرة الإنسان على الاستفادة منها، وعليه، فنسبة الجهد المبذول في الزمن الذي يخرج به الإنتاج كسلعة، كمًّا ونوعًا، هي المقياس الذي يعتمده سعادة في تصنيف التفاعل المجدي من غير المجدي، أي:
إن المرتبة الدنيا أو المتأخرة أو المتخلفة هي التي يكون فيها الجهد في الزمن أكبر بكثير من الإنتاج كمًا ونوعًا.
المرتبة المتوسطة، أو المراوحة في المكان، أو الراكدة، غير المتقدمة، المتطورة، المجدية، تبقى على نحو أن الجهد المبذول في الزمن المطلوب للإنتاج، تبقى مساوية للإنتاج في الكم والنوع.
المرتبة الثالثة، المجدية، المتقدمة، المتطورة، التي تسمح للرقي في اطراد تقدمه هي تلك التي يكون فيها الإنتاج أكبر في الكم والنوع، من الجهد في الزمن، وتاليًا هي المرتبة التي تسمح باطراد التقدم والرقي، فكلما تناهى الجهد إلى أقل ما يمكن، والزمن إلى أدنى ما يمكن مقابل تناهي الإنتاج، كمًّا ونوعًا إلى منتهى ما يمكن، فإن التفاعل، العمل الإنساني، يكون قد بلغ مبتغاه، لذلك يبقى السؤال في العملية الاقتصادية على الدوام هو: كيف يمكننا بلوغ المرتبة التي يتناهى بها الجهد إلى أقل ما يمكن وكذا الزمن إلى أدنى ما يمكن، مقابل أعظم إنتاج ممكن كمًّا ونوعًا، لأن في ذلك توفيرًا للطاقة الإنسانية والزمن الإنساني، وبما يعني أن الاقتصاد، مبدأً ووسيلةً وغاية، مهمته إطالة متوسط عمر الإنسان لا العكس، استهلاكه طاقة وزمنًا..
ثاني هذه المبادئ هو: “أن النّظام الاجتماعيّ هو دائمًا حاصل تفاعل الإنسان والطّبيعة أو البيئة بطريقة معيّنة أو منبعث منه وموافق له.. والتّطور الاجتماعيّ، نشوءًا وارتقاءً هو وفاق لتطوّر التّفاعل بين الإنسان والبيئة بدافع الحاجة المادّية.”
بما يعني أن سعادة يمايز بين جماعة وأخرى على نسبة قطبي هذه المعادلة /الأرض الصالحة والقوم المؤهلون/ هذا على الصعيد المادي، بينما يأتي التمايز الثقافي (النفسي) على نسبة الجهد في الزمن مقابل الإنتاج، كمًّا ونوعًا، ذلك أن الاقتصاد “لا يعني حقيقة سوى سدّ الحاجة أو تأمين سدّها بأقل مجهود وأسرع وأكبر نتيجة ممكنين.. والمقياس الّذي نقيس به قيمة أيّة مرتبة ثقافيّة هو نسبة ما بين حصول أسباب العيش والعمل المبذول في هذا السّبيل..”
في دراسته لمراحل التطور البشري، ينتقل سعادة بسلاسة في رسم معالمه، فمن الصيد إلى التدجين إلى تربية الماشية والرعي الذي تطلب الارتحال إلى مناطق معشوشبة وتاليًا الإقامة في الأرض، ومن التقاط الثمار وما تجود به الأرض من أعشاب إلى الزراعة التي تتطلب مصادر مائية، وتاليًا الإقامة في الأرض، ومن نحت الحجارة إلى التعدين أو ما يسميه سعادة بـ(العصر المعدني)، ومن تربية الماشية والزراعة والتعدين، إلى الصناعة التي اقتضت نشوء ما يمكن تسميته بمبدأ المقايضة أو المبادلة كما يصفه سعادة، حيث ظهرت للوجود المتاجرة في الفائض الحيواني والزراعي والصناعي بهدف الحصول على المواد التي لا تقدمها البيئة الطبيعية، يقول: “تأتي أخيرًا المرتبة الثّالثة، التي أطلقنا عليها اسم ثقافة الإنتاج التّجاريّ، وهي الثّقافة القائمة على زراعة المحاصيل الكبيرة وإنشاء الصّناعات الكبرى. وهذه هي مرتبة التّمدّن الحديث الّتي أخرجتها من المرتبة الثّانية التّجارة التي ولّدت الأساس النّقديّ والرّسماليّ وحوّلت عمليّة المبادلة الأوّلية، إلى تجارة أنترنسيونيّة وأكسبت الحاجة إلى الآلة المحقّقة الأغراض معنى اقتصاديًا عاليًا وجعلت الآلة من أهمّ عوامل ترقية هذه الثّقافة..”
على الصعيد الثقافي (النفسي)، ينتقل سعادة من اكتشاف النار إلى الاجتماع حولها، فنشوء الحالة الاجتماعية الأولية إلى العائلة (لكن ليس بالمعني الحديث للمصطلح) والنطق، ومن زيادة أفراد عدد العائلة الواحدة إلى القبيلة إلى العشيرة إلى القرية فالمدينة حيث يقول: “.. نرى أنّ النّظام الاجتماعيّ ابتدأ من مرتبة الشيّوعيّة في نظام العشيرة الدّمويّ، حيث الأرض التي تحتلّها العشيرة وتربتها مشاع للعشيرة كلّها.. والعائلة نظام اقتصاديّ قبل كلّ شيء(98) قائم على قاعدة توزيع العمل الّذي ابتدأ في الأصل بين الجنسين.. ولولا هذا النّظام التّعاونيّ الاقتصاديّ لكان نشوء العائلة الموحّدة تأخّر كثيرًا.. (نجد مما تقدم) أساسين للكيان الاجتماعيّ الأوّليّ هما: نظام الوحدة الاجتماعيّة المنصرفة إلى الاهتمام بالغذاء الّذي هو قوام الحياة،.. ونظام الوحدة العائليّة المنصرفة إلى الاهتمام باقتسام العمل وهو بدء تنظيم التعاون. وحالة المرأة، على هذا المستوى الثّقافيّ، تدعو إلى تأمّلنا.. أن الإقامة الّتي تتطلّبها الزّراعة أوجدت فكرة التّملك العقاريّ.. ومن ثمّ أوجدت استقلال العائلة والكيان الاقتصاديّ لها.. فأدّى ذلك إلى الأخذ بتمييز العمل ونشوء طبقة الصّناع من أسرى الحرب المستعبدين عند أصحاب البيوتات الكبيرة.. وهكذا نرى التّمييز الاجتماعيّ يقود التّمييز الاقتصاديّ فيكون الأشراف الملاّكون طبقة دونها طبقة العامّة من أرقّاء أو داخلين في نظام المنزل القائم بنفسه.. وفي نظام القبيلة الّذي تتّحد فيه القرى.. بحيث يبرز الشّيخ أو الأمير على رأس القبيلة أو مجموعة القرى المتقاربة. ومن هذه النّقطة تبتدئ الحياة السياسيّة..”
نشأت المدينة وفيها ارتقت شؤون المأكل واللّباس وازدادت الصّناعات اليدويّة واتّسع نطاق التّمييز الصّناعيّ (وهذا التّمييز كان، طبعًا، بين الذّكور) فتناول صناعات عالية كصناعة الطّبّ، وفنونًا كفنّ الحرب وفنّ النّحت والنّقش، وفنّ الكتابة الأوّليّة الهيروغليفيّة في مصر والمسماريّة في شنعار (بابل).. كان هذا التّطور بداءة عودة الاقتصاد الاجتماعيّ بدلًا من الاقتصاد الفرديّ العائليّ.. وقيامها على سدّ جميع حاجاتها بعملها الخاصّ في بقعة صغيرة من الأرض المحوّلة إلى بستان زراعيّ غنيّ خصب، ولكنّ أهميّة العائلة الاقتصاديّة لم تتلاشَ، في هذا الطّور، بالمرّة، بل احتفظت بكثير من خصائصها الاقتصاديّة حتى مجيء عصر الآلة المعروف بعصر الثّورة الصّناعيّة، فأخرج الصّناعات اليدويّة الباقية من بيوتها وأخرج الصّناع من المصانع بالمئات والألوف، وأوجد هذا العصر، فيما أوجد، الآلة المنزليّة الّتي أخذت معظم عمل المرأة في بيتها وزال توزيع العمل بين الجنسين ولم يعد الزّواج مبدأ اقتصاديًّا يقوم على تقسيم العمل، الرّجل لأعمال التّحصيل والمرأة لأعمال التّدبير. فاضطرّت المرأة إلى إيجاد عمل لها خارج المنزل بدافع الحاجة إلى إيجاد عمل يشغلها وبدافع الحاجة المعاشيّة في نظام توزيع العمل والثرّوة الرّسماليّ الحاضر. ومن هذه الحالة نشأ تمييز العمل بين الإناث أيضًا وظهرت الحركة النّسائيّة الحديثة. وهذه الظّاهرة الاجتماعيّة الحديثة هي السّبب في حياة المرأة العصريّة، الغربيّة خصوصًا، الّتي يريد الكتاب الّذين لم يعنوا بدرس سنن الاجتماع، أن يفضّلوا المرأة الشّرقيّة عليها، لحشمة هذه وحيائها ولسفور تلك وإقدامها وتطرّفها..”
“.. إنّ الثّورة الصّناعيّة وضعت الاجتماع على أساس جديد. فهي لم تقتصر على سلب العائلة صناعاتها وصاحب الحرفة الفرديّة حرفته، بل هي أوجدت المعامل والمصانع الكبيرة الّتي تضمّ مئات وألوفًا من العمّال في كلّ معمل أو مصنع. فنشأت في المدن والمناطق الصّناعيّة هذه الطّبقة من العمّال، الّتي عرفت في التّعابير العصريّة بلفظة [بروليتارية] (Proletariat)، والّتي أصبحت في العقود الأخيرة قوة سياسيّة هائلة، لأنّها تختلف عن الطّبقة الزّراعيّة المتّصفة بالجمود(109) الّتي، لبعدها عن مراكز الثّقافة المتمدّنة وانتشارها على أبعاد شاسعة، لم تتسنّ لها وسائل الاتحاد وتنظيم صفوفها وتكوين قوّة سياسيّة متحرّكة.
قادت الأبجديّة العالم في طريق المعرفة والعلم وتفوّق القوى العقليّة على صعوبات الطّبيعة إلى الآلة الاقتصاديّة الّتي وضعت في يد الرّسماليّ قوّة لم يكن يحلم بها، ففاقت قوّة الرّسمال المتعاظم أيّة قوّة أخرى مناقبيّة أو مادّية. فقضت هذه القوّة الجديدة على النّظام القديم: النبلاء والأحرار والعبيد، ووضعت نظامًا جديدًا: الرّسماليّون ومزاولو المهن الحرّة والعمّال، أو ما عبّر عنه بالطّبقة العليا والطّبقة الوسطى والطّبقة الدّنيا.. أوجدت الأبجديّة والتّجارة اتجاهًا ثقافيًّا جديدًا انتهى إلى عصر الآلة الصّناعيّة الّذي هو عصر التّمدن الحديث. وهذا العصر فسح للثّقافة العقليّة أوسع مجال ورقّى التّفاعل الاجتماعيّ إلى درجة عالية جدًّا.
منذ الفترة الّتي ظهرت فيها الأبجديّة إلى جانب التّجارة واتّحد هذان العاملان في التّفاعل الاقتصاديّ الاجتماعيّ، اتّجه الاجتماع البشريّ نحو الحياة النّفسّية (العقليّة).. المتعدّدة تعدّد القوميّات، وللخصائص النّفسيّة الّتي تنكشف عنها في أمم عددها عدد البيئات..”
المبدأ الثالث هو أن: “العقليّة الاجتماعيّة نتيجة تطوّرات التّفاعل الماديّ لتأمين الحياة الاجتماعيّة..”
لكن، ماذا يعني سعادة بـ(العقلية الاجتماعية)؟ ومن ثم (التفاعل المادي)؟ وما المقصود بـ(الحياة الاجتماعية)؟
بداية علينا التمييز بين العقلية الاجتماعية التي يتناولها في مبحثه عن كيفية حدوث التطور في العقلية الاجتماعية ومدى ارتباطها بالبيئة الطبيعية وتاليًا نشوء وتمايز الحياة الاجتماعية بين الأقوام والشعوب والمجتمعات، وبين تلك التي يدعو لها في نظريته السياسية (القومية الاجتماعية)! التي يشتقها من الأولى والتي تدور حول سلوكيات كل أفراد المجتمع بين بعضهم البعض، والمؤثرات الثقافية والدينية والسياسية في ذلك والتي تحدد مجمل علاقاتهم ورؤاهم، بمعنى آخر ما يمكن أن نطلق عليه مجازًا مصطلح (التقاليد) الموروثة ومدى علاقتها بالعادات التي يكتسبها الفرد وتاليًا المجتمع من خلال الحياة اليومية التي يئد بها نفسه، وتاليًا أيضًا بينهم كمجموع والدولة، بمختلف مؤسساتها وتفرعاتها وإشكالياتها التاريخية والإثنية على وجه الخصوص، مما يدخلنا في علم آخر يفرض نفسه على علم الاجتماع وهو علم النفس الاجتماعي، والذي تناوله سعادة في مبدئه الثالث الذي تقوم عليه نظريته الاجتماعية (دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية) قبل غيره من علماء الاجتماع!!.. ولنفهم تاليًا ما يقوله سعادة بصدد العقلية الاجتماعية أو ما يعنيه بهذا المصطلح..
فعلم النفس يدرس سلوك الفرد، والخبرة التي يمر بها الفرد مع البيئة الاجتماعية المحيطة به، ويدرس الفرد من خلال الاهتمام بالخصائص والعمليات التي تنمو لدى الإنسان، وكيفية القيام بوظائفه، في حين أن علم الاجتماع يختص بالخبرة والسلوك الاجتماعي الذي ينتج من خلال الأمور، والأعمال، والتنظيمات الاجتماعية، والتي يعمل على تطويرها، وحالته النفسية تنعكس على جانبه الاجتماعي، فهناك علاقة مباشرة بين الطرفين، وأيضًا المجتمع والثقافة المتعارف عليها، جميعها تعمل على تكوين شخصية الفرد، وتحدد طريقة تفكيره، وسلوكه، والطرق التي يعبّر بها عن نفسه..
في العودة للمقولة الرئيس (المادة تعين الشكل) تشغل محرضات البيئة (المادة) التي تتشكل من خلالها العقلية الاجتماعية أو (الشكل)، وعلى مبدئه الأول الآنف ذكره، تتحدد السوية الثقافية التي عليها مختلف شعوب الأرض، أي وفق المراتب الثقافية الثلاث للجهد في الزمن مقابل الإنتاج. وعلى قاعدة /الأرض الصالحة والقوم المؤهلون/ ليبني أطروحته في العلاقة بين البيئة والعقلية الاجتماعية، ففي دراسته لتطور العقلية الاجتماعية للشعوب، يقدم سعادة الكثير من الأمثلة التي تؤكد ما يذهب إليه من تأثير البيئة الطبيعية على مختلف الأساليب التي جرت عليها تلك الشعوب في سياق تكوين عقليتها الاجتماعية بما في ذلك المؤثرات التاريخية الموضوعية (المادية) التي تتعرض لها الجماعات في مجرى تطورها التاريخي، كالحروب والغزوات التي تتعرض لها طمعًا بمدخرات بيئتها الطبيعية، يقدم سعادة لنا مثالًا على ما تقدم عندما يقول: “.. وما يروى، مثلًا، عن كرم العرب وفروسيّتهم والشّعور بالشّرف عندهم وضيافتهم، يروى مثله عن أهل بلاد النّار (تراد لفويقو) وهنود أميركا والفيجيين والطنقوسيين(77) فهذه الصّفات المشتركة تظهر بقوّة في الشّعوب الّتي لمّا تحرّكها الثّقافة الزّراعيّة التجاريّة وساعدتها أحوال معاشها الضّيّقة على حصر قواها النّفسّية في بعض المظاهر المحدودة. ونرى أذواق هذه الجماعات مشتركة حتى في الطّعام. فهم، لجوعهم، يزدردون الطّعام بطريقة لا تسمح بالتّلذّذ به على حدّ الجماعات الرّاقية.. كما وتشترك هذه الجماعات في العادات الاجتماعيّة والأذواق بحكم مستوييهم الاقتصاديّين المتقاربين. فترى الضّيافة الّتي تفرضها عليهم أحوال معاشهم صفة عامّة عندهم على السّواء وكذلك تعاملهم فيما بينهم، وخصوصًا معاملتهم المرأة(76). وإذا أمعنّا النّظر في كلّ مرتبة من المراتب المتقدّمة، وجدنا أنّ الأولى منها ابتدائية جدًّا في العمران فهي لا تدخل في نطاق الثّقافة العمرانيّة إلاّ من حيث إنّها طور تمهيديّ لها، والصّحيح أنّ أهل هذه الثّقافة يدخلون في المجتمع البدويّ الّذي وصفناه آنفًا. فإذا كان لهم حياة عقليّة فهي محدودة جدًّا. وهم خارج نطاق شعوب آسية وأوربة المتمدّنة. فبين الشّعوب الّتي لها إلمام وقسط من هذه الزّراعة، بعض هنود أميركا الشّماليّة كالموهكان والأركوى والبنكا والمندان وغيرهم، وبعض هنود أميركا الجنوبيّة أيضًا كالبكايري والقواراني في البرازيل. وهم يمارسون إلى جانبها الصّيد. وسكّان جزائر المحيط الهادي وجزائر المحيط الهنديّ يمارسون هذه الزّراعة مع صيد السّمك. وزرّاعو أفريقيا الّذين لا يدخلون في عداد الصّيادين والرّعاة تقوم حياتهم على هذه الزّراعة فقط كقبائل زمبازي ومكلاكه ونيام نيام وغيرها(93). والسّبب في بقاء هذه المرتبة خارج نطاق العمران نسبة العمل إلى مقدار الحاصل الغذائيّ.”، يضيف: “وأحوال هذا المجتمع، أو الجماعات، الاجتماعيّة هي بحكم الضّرورة متابعة لأحوالهم الاقتصاديّة ومطاوعة لها. فنظامهم الاجتماعيّ يقوم على الرّابطة الدّمويّة المنتهية بالقبيلة. والفرد في هذا النّظام ككلّ فرد آخر بدون فرق أو ميزة، أي إنّ قيمته هي في الغالب عدديّة عامّة لا نوعيّة خاصّة، لأنّ فقد العمران ونقص المطالب الحاجيّة والكماليّة يبطلان المواهب الشّخصيّة وينفيان المزايا الفرديّة، وكذلك نرى أنّ نظامهم يخلو من الحقوق الشّخصيّة والملك الفرديّ، وإذا وجد شيء من ذلك فهو في صورة أوّليّة غامضة. ومن درسنا أحوال العرب الذين هم في جوارنا نرى أنّ الفرد لا يكون عندهم سوى وحدة عدديّة في القبيلة، سواء في ذلك أهل الوبر وأهل المدر، والانتساب إلى إحدى القبائل هو ضرورة(74). ومن هذه الحقيقة ندرك أهميّة الثّأر الّذي يعني حقّ القبيلة لا حقّ الفرد، كما سيجيء، ويرى فقدان الملك الشخصيّ عندهم في أنّ الفرد لا يمكنه الاعتماد على نفسه في الدّفاع عن الممتلك وفي أنّه إذا فقد أحد مقتنياته توجّب على بقيّة أفراد القبيلة أن يعطوا كلّ واحد من ماله ما يعوّض على الرّجل خسارته(75).
وهكذا نرى أيضا كيف “.. أنّ الثّقافة النّفسيّة جارت الثّقافة الماديّة وقامت عليها، إذ الحياة العقليّة لا يمكن أن تأخذ مجراها إلاّ حيث تستتبّ لها الأسباب والمقومات. ولذلك نجد التّطوّر الثقافيّ بجميع مظاهره يرتقي ويسبق غيره، حيث أسباب الحياة أوفر وأرقى ممّا في سواه..
يمكننا عبر قنوات التواصل التأكد مما تقدم، من خلال مقارنتنا لقضايا اجتماعية تعكس النظام والعقلية الاجتماعية، على سبيل المثال ما سمي بـ(فضيحة مونيكا)، حيث مثل الرئيس الأميركي أمام المحكمة وعلى مرأى من العالم أجمع، معترفًا بعلاقته مع مونيكا، ومع ذلك فقد استمر برئاسة الولايات المتحدة الأميركية، بل وأعيد انتخابه لولاية ثانية، بينما كانت نتائج ما عرف حينها بقضية (بروفومو) والتي استدعت استقالة رئيس وزراء بريطانيا (ماكميلان) وكذلك وزير دفاعه وانتهت بانتحار الطبيب الذي احتوى كريستين كلر محور القضية..
ننتهي من كل ما تقدم للقول، بأن نظرية سعادة الاجتماعية تتلخص بأن دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية، والتي تمثل خط التطور البشري بكامله نشوءًا وارتقاءً تقوم على حقيقة أن النظام الاجتماعي والعقلية الاجتماعية هما دائمًا حاصل تفاعل الإنسان والطّبيعة أو البيئة بطريقة معيّنة أو منبعث منه وموافق له ومقياس الأنظمة الاجتماعية في كونها متقدمة، متخلفة، متأخرة، يبقى على الدوام، الجهد في الزمن مقابل الإنتاج، فالدولة، كما سيجيء لاحقًا، ومن حيث هي شأن ثقافي، تبقى نسبة الحقوق إلى الواجبات هي مقياس لديمقراطيتها، دكتاتوريتها، تيوقراطيتها.. الخ
النظرية السياسية
2- المقولة الثالثة أو: النظرية السياسية
(القومية الاجتماعية)
عندما أسس سعادة حزبه كان قد وضع مبادئه قبل تأسيسه، وكانت على قسمين، الأول، وهو “المبادئ الأساسية” والتي تختص بتحديد ماهية الأمة من الوجهة القومية، أي ككيان مستقل مميز، لا تشوب مجرى تطوره /نشوءًا وارتقاءً/ أية شائبة على الرغم من تعرضه ككيان له شخصيته الاعتبارية تاريخيًّا، لجملة طويلة من الاجتياحات الحربية التي فعلت فعلها في بنيته الاجتماعية، والتي بقيت، نظامًا وعقلية اجتماعيين متميزين، وعلى ما هي عليه رغم المؤثرات الخارجية والتي رغم سطوتها لم تحل دون تأثير النفسية السورية في المحتل أيًّا كان وأيًّا كانت المدة الزمنية التي بقيت الأمة تحت تأثيره، ولعل أبرز مؤثرات هذه النفسية ظهرت في احتلالين حملا معهما تراثًا لا يمكن بأية حال نكران مؤثراته على مجرى التطور الاجتماعي السوري، الأول الروماني، حيث حكم روما أباطرة سوريون على مدى خمسين عامًا، أما الثاني فكان الفتح العربي الذي حمل معه رسالته الدينية والتي طبعت الشعب السوري بطابعها لكنه كان فاعلًا فيها في مختلف جوانبها الفكرية..
القسم الثاني من المبادئ، كان له سمته الإصلاحية التي قامت، كما يقول سعادة، على المبادئ الأساسية وأبرزها مبدأ /الأمة مجتمع واحد/ يقول سعادة: “إلى هذا المبدأ الأساسي تعود بعض المبادئ الإصلاحية التي سيرد ذكرها وتفصيلها. عن الدولة، إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب- وهذا المبدأ هو من أهم المبادئ التي يجب أن تبقى حاضرة في ذهن كل سوري. فهو أساس الوحدة القومية الحقيقي ودليل الوجدان القومي. والضمان لحياة الشخصية السورية واستمرارها. أمة واحدة- مجتمع واحد. فوحدة المجتمع هي قاعدة وحدة المصالح ووحدة المصالح هي وحدة الحياة. وعدم الوحدة الاجتماعية ينفي المصلحة العامة الواحدة التي لا يمكن التعويض عنها بأية ترضيات وقتية”.
وكما هو واضح من النص أعلاه، أن سعادة يعتبر أن القومية متضمنة بديهيًّا الوجهة الاجتماعية، لذا أطلق على حزبه /الحزب السوري القومي/ ومع مرور الوقت، واللغط الذي رافق مسيرة الحزب، والوسط الذي نشأ به الحزب، إضافة لمجموع الشعب المتلبس جلباب الدين دونما وعي بما هو متجلببٌ به، ولهشاشة الثقافة التي راحت تنهل من الثقافة الغربية وتحاول طبع المجتمع السوري بطابعها، ولكثرة التساؤلات التي طرحت حول علاقة الحزب بالمسألة الدينية تحديدًا، ومن ثم الطبقية ثانيًا، والروابط العنصرية والأثنية التي راحت تحدد مواقفها من الحزب بناء على مختلف الخلفيات المذكورة أعلاه، كان لا بدَّ من إضافة البعد الاجتماعي لإزالة مختلف الالتباسات، فأضحى الحزب يعرف بـ(الحزب السوري القومي الاجتماعي) والذي أثار جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية، داخليًّا وخارجيًّا، حول تغيير منهجية الحزب بتغيير تسميته..
بالنسبة لسعادة الذي كان يدرك أن الأوساط التي لغطت بإضافة (الاجتماعي) لمسمى الحزب، لم تكن قد وعت أنه لم يغير شيئًا في ما ادّعته، بقدر ما كان قد أوضح أن الحزب قد أسس فكرته السياسية على مبدأ القومية وهذه بناء على أسطورته السياسية التي سبق وأوضحها في مؤلفه الرائع والعظيم نشوء الأمم، تحت مسمى (الإثم الكنعاني)، حيث يقول: “… ما دمنا قد بلغنا حدّ الوجدان القوميّ الّذي هو أبرز الظّواهر الاجتماعيّة العامّة العصريّة فقد بلغنا هذا الدّين الاجتماعيّ الخصوصيّ الّذي أعطى الكنعانيّون فكرته الأساسيّة للعالم ونُعت في بعض الظّروف بالخديعة الكنعانيّة(238) أو الإثم الكنعانيّ.. إنّ الكنعانيّين، من بين جميع شعوب التّاريخ القديم، كانوا أوّل شعب تمشّى على قاعدة محبّة الوطن والارتباط الاجتماعيّ وفاقًا للوجدان القوميّ، للشّعور بوحدة الحياة ووحدة المصير، فارتحلت جماعة منهم من حوالي البحر الميت إلى الشّمال الغربيّ ونزلت على السّاحل أمام لبنان وعرفت في التّاريخ باسم الفينيقيّين(239) الذي أصبح أشهر من اسم كنعان ولكنّها ظلّت محافظة على نسبها الكنعانيّ، فظلّ الفينيقيّون يسمّون أنفسهم كنعانيّين… أنشأ الفينيقيّون (الكنعانيّون) الدّولة المدنيّة فكانت طرازًا جرى عليه الإغريق والرّومان. ومع ما نشأ عندهم من الدّول فإنّهم لم يتحاربوا وظلّوا محافظين على صفة الشّعب الواحد المتضامن في الحياة وكانت زعامة فينيقية تنتقل من مدينة إلى مدينة، من دولة إلى دولة بعامل التّقدّم والكبر وازدياد المصالح والنّفوذ، كانتقال الزّعامة من مدينة صيدا إلى مدينة صور الّتي أسّست أوّل إمبراطورية بحريّة في التّاريخ.. وباكرًا أسّس الفينيقيّون الملكيّة الانتخابيّة وجعلوا الملك منتخبًا لمدّة الحياة فسبقوا كلّ الشّعوب والدّول التاريخيّة إلى تأسيس الدّولة الدّيمقراطيّة. وما الدّولة الدّيمقراطيّة سوى دولة الشّعب أو دولة الأمّة. هي الدّولة القوميّة المنبثقة من إرادة المجتمع الشّاعر بوجوده وكيانه..
وإنّ المحافظة على الرّباط الوطنيّ القوميّ عند الفينيقيّين ظلّ ملازمًا لهم في انتشارهم في طول البحر السّوريّ وعرضه وفي المستعمرات والإمبراطوريات الّتي أنشؤوها، فظلّت الحقوق المدنيّة في الزّواج والاختلاط وجميع المظاهر الاجتماعيّة والثّقافيّة واحدة لهم جميعًا ولم يكن هنالك استثناء إلاّ في الحقوق السّياسيّة.
ومع أنّ الفينيقيّين (الكنعانيّين) أنشؤوا الإمبراطورية البحريّة فإنّ انتشارهم كان انتشارًا قوميًّا بإنشاء جاليات استعماريّة تظلّ مرتبطة بالأرض الأمّ وتتضامن معها في السّرّاء والضّرّاء. كان انتشارهم انتشار قوم أكثر منه اتّساع دولة. وإنّ هذا الانتشار مع بقاء الاشتراك في الحياة بالرّوابط الوطنيّة والدّمويّة والاجتماعيّة كان الظّاهرة القوميّة الأولى في العالم الّتي إليها يعود الفضل في نشر المدنيّة في البحر السّوريّ، والّتي خبت نارها قبل أن تكتمل بما هبّ عليها من حملات البرابرة الإغريق والرومان…”
يؤسس سعادة على أسطورته السياسية (الإثم الكنعاني) فكرته السياسية /القومية/ والتي تتناولها مبادئه الأساسية والتي تشكل (المادة) التي يبني عليها مبادئه الإصلاحية، يقول: “تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي”. وفي ضوء ذلك تكون “القضية السورية هي قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى.. يمثل هذا المبدأ فكرة أن جميع المسائل الحقوقية والسياسية التي لها علاقة بأرض سورية أو جماعة سورية هي أجزاء من قضية واحدة غير قابلة التجزئة أو الاختلاط بشؤون خارجية يمكن أن تلغي فكرة وحدة المصالح السورية ووحدة الإرادة السورية”.. وعليه تكون “سورية للسوريين والسوريون أمة تامة..”، لكن ماذا عنى لسعادة مبدأ، أن تكون القضية السورية هي قضية قومية، هي كذلك لأن “القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري.” وتاليًا كان عليه تعريف كل من الأمة والوطن، يقول: “الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.. وهكذا نرى أن مبدأ القومية السورية ليس مؤسسًا على مبدأ وحدة سلالية، بل على مبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية لمزيج سلالي متجانس، الذي هو المبدأ الوحيد الجامع لمصالح الشعب السوري، الموحد لأهدافه ومثله العليا، المنقذ القضية القومية من تنافر العصبيات الدموية البربرية والتفكك القومي.”، أما الوطن السوري فهو “الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة..” سعادة في مقولتيه الأمة والوطن، يؤكد أن الأمة هي وحدة الشعب، هي ليست تاريخًا وآمالًا وعادات وتقاليد وآلامًا مشتركة ولا لغة ودينًا..، هي وحدة حياة، دورة حياة اجتماعية- اقتصادية ليس إلا. أما الوطن فهو الرحم (البيئة) الذي تكونت به الأمة وترعرعت به واستمدت من غناه شخصيتها، نظامًا وعقلية، وتميزت بسخائه عن بقية الأمم بل وتقدمت عليها بشتى مجالات الحياة..، فإذا كانت الأمة هي وحدة الشعب، فهي أيضًا: “مجتمع واحد..”، ولذلك كله “فمصلحة سورية فوق كل مصلحة.”..
على ما تقدم، بنى سعادة نظريته السياسية، فإذا كانت “الأمة مجتمع واحد” فإن (القومية) التي تمثل شخصيته، هي بالضرورة اجتماعية، ذلك أن (الوجدان القوميّ هو أعظم ظاهرة اجتماعيّة في عصرنا، وهي الظّاهرة الّتي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدّرجة العالية من التّمدن. ولقد كان ظهور شخصيّة الفرد حادثًا عظيمًا في ارتقاء النّفسية البشريّة وتطوّر الاجتماع الإنسانيّ. أمّا ظهور شخصيّة الجماعة فأعظم حوادث التّطوّر البشريّ شأنًا وأبعدها نتيجة وأكثرها دقة ولطافة وأشدّها تعقّدًا، إذ إنّ هذه الشّخصيّة مركّب اجتماعي اقتصاديّ نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه.)
الفلسفة السياسية
– المقولة الرابعة أو الفلسفة السياسية عند سعادة:
(الإنسان- المجتمع) أو الدولة:
يحاول هذا البحث التعريف بمدلولات مصطلح “الاقتصاد القومي الاجتماعي” وفق طروحات أنطون سعادة العامة والخاصة، في محاولة للإجابة على جملة من تساؤلات تتعلق بالمنوط بهذا الاقتصاد آنيًّا ومرحليًّا ومستقبليًّا، في عالم يلعب فيه الاقتصاد الدور الأبرز في تحديد سياسات الدول على اختلافها، وفي أجواء ما تعانيه الأمة السورية من إشكالات مصيرية تهدد وجودها في محاولتها النهوض من تحت ركام تاريخ استعماري واكبها على مدى يزيد على الألفي عام.
بداية، علينا الإقرار بأن سعادة ليس عالم اقتصاد بقدر ما هو باحثٌ في علم الاجتماع، يحاول إيجاد دورٍ لأمته بين الأمم، بما يعني أنه يرى الاقتصاد شأنًا -على أهميته- لا يختلف عن الشؤون الأخرى المتعلقة بما تعنيه له الأمة، أي إنه اقتصادٌ قومي بالدرجة الأولى، ومن حيث هو كذلك، فهو اقتصاد اجتماعي، بمعنى أنه خاضعٌ بكليته لمتطلبات المجتمع المعني بتأمين احتياجاته.
لم يضع سعادة نظرية اقتصادية، كما أنه لم يبحث في الاقتصاد كعلم يهتم /بفن إدارة الموارد المحدودة لسد احتياجات غير محدودة/ أو في النشاط الاقتصادي، الذي يشتمل على جميع تصرفات الأفراد، التي تتصل بكل من الإنتاج والتوزيع والاستهلاك والتبادل، وما يتفرع عنها من ظواهر اقتصادية مثل التنمية والدخل والادخار والاستثمار والتضخم والدورات الاقتصادية والبطالة وغيرها.
كذلك لم يقدم سعادة بحثًا في تاريخ الفكر الاقتصادي كفرع من فروع علم الاقتصاد، والذي يهتم بدراسة التطورات التي حدثت في علم الاقتصاد، وجعلته على ما هو عليه الآن، خصوصًا في النظرية الاقتصادية بشقيها الجزئي والكلي، بالإضافة إلى أن هذا الجزء يدرس الأفكار التي قدمها علماء الاقتصاد عبر الزمن..
لم يضع سعادة، على سبيل المثال، بحثًا على نحو ما ذهب إليه “آدم سيمث” في كتابه “ثروة الأمم” أو “جون كينز” في كتابه الشهير «النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود» أيضًا كتاب «الآثار الاقتصادية للسلام» أو كارل ماركس في كتابه الضخم والشهير “رأس المال” أو “ميلتون فريدمان” في كتابه «الرأسمالية والحرية»، أو “ديفيد ريكاردو” صاحب نظرية قانون الميزة النسبية، أو في مجمل أبحاثه في الحلول للمشكلات المطروحة في عصره، مثل التضخم وانخفاض قيمة العملة الورقية وارتفاع أسعار الذهب، والتي لخّصها في كتابه اليتيم «مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب».
ولسعادة مبرراته في هدا المجال، فالأمة التي تنكب القيام بمهمة نهوضها، كانت ولم تزل على سوية من التخلف ينعدم فيها أي مجال للبحث في موضوع لا تمت إليه بصلة، وتحديدًا في النصف الأول من القرن العشرين، حيث الحالة الزراعية التي وجدت عليها لم تكن تسمح حتى مجرد النظر فيها، فهي حالة ركود وتواكل خاضعة بكليتها لإقطاعي لا يفقه سوى درجة دنيا متخلفة من مصلحته الفردية تقوده في ذلك عادات وتقاليد ومفاهيم ليس لها علاقة بكيفية تطوير إقطاعيته على الأقل، كان وارثًا لمختلف مفاهيم السلطنة العثمانية (الرجل المريض وفي هذا التوصيف، دلالة على الحالة التي كانت عليها حال الأمة) ولم تكن الآلة قد دخلت مجالات الإنتاج بشكل فعلي، حيث كانت ما تزال آلة بدائية على نحو “النول والمحراث..” وعلى نحو ما كانت مفاهيم الإقطاعي وآلته، كانت العلاقات التجارية مجرد علاقات مقايضة لم تدخل بعد سوق التعاملات، حتى النقد كان ما يزال على حاله المتخلفة، “النقد الذهبي- الليرة العثمنلي” ولم تكن قد دخلت بعد العملة الورقية، ولم تكن المصارف سوى رأس مال أجنبي يُوظف للاستثمار..
في مجمل ما كتبه سعادة أو قاله أو نقل عنه، لم يكن سوى مُقَيّم لما هو مطروح من نظريات، لم يرَ فيها مخرجًا للمأزق الذي وجد عليه أمته السورية، بمعنى آخر، يبدي سعادة اهتمامه بما يتعلق بالاقتصاد من وجهة نظر معيارية، أما القول بأنه صاحب نظرية في الاقتصاد، فمحض افتراء من قبل من يدّعون فهم ما تناوله سعادة في هذا الشأن..
سعادة، تناول الاقتصاد من وجهة نظر قومية اجتماعية، وبما يُخْرِجُ أمته مما هي عليه من فساد وتخلف على مختلف الأصعدة، معتبرًا أن “الاقتصاد مفتاح القضية كلها”، لذا، فنحن لا نطالع فيما طرحه سعادة سوى مبادئ وأهداف، أما الوسائل والعلاقات الإنتاجية على اختلافها (وهي موضوع علم الاقتصاد) فبقيت بمخزونه الفكري، ريثما تتحقق وحدة أمته القومية والاجتماعية، وهو مُحقٌ في ذلك، لأنه لم يَشأ أن يسحب ما تعانيه أمته في عام 1948 على مستقبلها، على نحو ما ذهب إليه كارل ماركس، حيث مقاربات الحال الاقتصادي الذي عايشه دفعت به لتصور ما يمكن أن يقود إليه مستقبلًا، وإن كان ماركس قد أصاب في كثير من رؤاه المستقبلية، فإنه لم يأخذ بعين الاعتبار أن من يأتي بعده قادر على الخروج من المأزق الاقتصادي الذي نبّه إليه ماركس، خير مثال على ما تقدم هو المخرج الذي قدمه (كينز) لما سُميَ بـ(الكساد الكبير) الذي عانت منه الولايات المتحدة الأميركية عام 1929، وتاليًا العالم، والذي صبّ في مصلحتها أخيرًا، وفيما تلا من أعوام، كان النظام الرأسمالي أقدر على الصمود في مواجهة أزماته الدورية والمتكررة والمتلاحقة من الاتحاد السوفييتي الذي انهار؛ مخلّفًا وراءه كوارث منتجه “ديكتاتورية البروليتاريا” وكانت قد سبقته إلى ذلك الاشتراكية النازية في دكتاتورية الدولة..
من هنا نجد سعادة يُنهي مبادئه وأهدافه بالقول: “إن ما أعطي الآن هو قواعد عامة ومعلومات أساسية لا غنى عنها للتقدم بعد إلى النظر في أمور اختصاصية”، وعليه، فسعادة، يحدد في مجمل ما يقدمه في الشأن الاقتصادي، جملة من المبادئ التي لا غنى عنها لبلوغ الأهداف التي حددتها رؤيته لما تعانيه أمته، يقول: “العملية الاقتصادية، الاقتصاد كموضوع لأمة ولشعب لا يمكن أن ينظر إليه إلا بالمنظار القومي بمنظار المجتمع الموحد، الأمة التي هي وحدة جماعة ووحدة أرض، وحدة اقتصاد..”، وعليه يمكننا القول إن ما قدّمه سعادة في هذا الشأن يمكن تصنيفه تحت عنوان /الاقتصاد القومي الاجتماعي/ دون أي تفصيلات أو توضيحات من قبله، أو كتابات في هذا الشأن وملحقاته، وإن شئنا وضْع سعادة في مجال علم الاقتصاد يمكننا القول بأنه صاحب نظرية “الاقتصاد القومي الاجتماعي” دون أي تفصيلات، أو يمكننا القول، إن سعادة دعا إلى اقتصاد عالمي محوره الشأن القومي بما يفيد الشأن الاجتماعي في السياسات الاقتصادية الداخلية والخارجية للدول، أيضًا، كعنوان، دون أي تفصيلات، قد تُقحم سعادة فيما التبس على البعض فهمه..
سعادة كباحث في علم الاجتماع، قدّم مقولة (الدورة الاجتماعية- الاقتصادية) منطلقًا من مفهومه للقومية، القائمة على الوحدة الطبيعية لأمته (البيئة) من حيث أن مواصفات وخصائص البيئة، وفق سعادة، تنعكس على نفسية الشعب فيضحى على صورتها ومثالها، وهو هنا، يعارض كارل ماركس في مقولته (التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية) من حيث هي المجتمع في مرحلة ما من مراحل تطوره، مقدّمًا الاجتماع على الاقتصاد باعتبار أن الأول سابق للثاني وأنه بوتقته التي لا قيام له بدونها..
يُقدم سعادة، مقولة أخرى، هي الوجه المعياري لمقولته الأولى، ونقصد (الإنسان- المجتمع) والتي هي أعلى مراتب الوحدة الاجتماعية، مقابل الطبقة التي قدمها ماركس على نحو ديكتاتورية البروليتاريا، مقاربًا -سعادة- في ذلك “جان جاك روسو” في كتابه (العقد الاجتماعي) مع بعض التمايز الذي يعود لتخصيص سعادة مقولته بالمجتمع القومي، بينما يتحدث روسو عن (الدولة المجتمع) من الوجهة السياسية في كتابه آنف الذكر.
بين النظرية الاجتماعية (دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية) والنظرية السياسية (القومية الاجتماعية) والفلسفة السياسية (الإنسان- المجتمع)- (الدولة) تراوح رؤى سعادة الاقتصادية، مبادئ وأهداف.
فالاقتصاد عند سعادة، من حيث أنه قومي، يعني أنه اقتصاد يقوم بداية على مبدأ إلغاء التجزئة، حيث تتكامل دورة “الحياة الاجتماعية- الاقتصادية” وتعود لسياقها التاريخي، مما يعني، أيضًا، أنه لا يمكن قيام اقتصاد قومي اجتماعي في كيانٍ بمعزل عن الكيانات الأخرى التي تتشكل منها أمته، فواقع التجزئة يلغي التكامل بين جزئيات الاقتصاد ويحول دون استقلاليته مما يحول بالتالي دون إشباع احتياجات الأمة، وتاليًا أيضًا دون كونه اقتصادًا اجتماعيًّا مستقلًا.
الاقتصاد القومي، هو بالضرورة عند سعادة، اجتماعي، بمعنى أن غايته ليست اقتصادية بحتة (الربح)، إنما هي تأمين سد حاجات المجتمع من إمكانيات محدودة لحاجات غير محدودة، وهذه بدورها تخضع لمقاييس قيمية -معيارية- تتحدد من خلالها المرتبة الثقافية التي يجب أن يكون عليها المجتمع أو وفق مصطلحات سعادة، “الإنسان- المجتمع”، مما يعني بالضرورة، أيضًا، وفق تصنيف سعادة للمراتب الثقافية للمجتمعات، تناهي الجهد والزمن إلى الحد الأدنى مقابل الحد الأقصى للإنتاج كمًّا نوعيًّا، مما يوفر لأبناء المجتمع حياةً تليق بهم، وبما يضمن حق وجمال وخير حياتهم دون تمييز في الحقوق والواجبات، والتي تخضع بدورها، أيضًا، لمقاييس الظرف الموضوعي الذي تمر به الأمة، فتضيق الحقوق لحساب الواجبات في الظرف الطارئ لتأخذ سياقها العام في الظرف الاعتيادي، بمعنى آخر، تضيق الواجبات لحساب الحقوق، بما يعني أيضًا تناهي الوجبات لأدنى ما يمكن مقابل تناهي الحقوق لأقصى ما يمكن، وهذه هي الحال المثالية لمقولة سعادة الفلسفية “الإنسان- المجتمع”- “الدولة”.
“الإنسان- المجتمع”- “الدولة” الذي أراد سعادة أن تبلغه أمته، هو المرتبة الثقافية المثلى التي يطمح لخدمتها الاقتصاد، من حيث كونه الرابطة الاجتماعية الأولى التي يقوم عليها الاجتماع، وهي المرتبة التي تلقي على الاقتصاد أعباء عليه القيام بها وتأمينها وفق مبدأ “أقل جهد وزمن مقابل أقصى كمّ نوعي من الإنتاج”، وبما يضمن مصلحة الأمة والدولة في توالد أجيالها، فكما “الإنسان- المجتمع”- “الدولة”، هو المجتمع الذي تنتفي فيه الفوارق الطبقية والطائفية والعنصرية والعرقية والجنسية والثقافية.. الخ، كذلك المجتمع بأجياله، أي عدم تمايز جيل عن آخر، فلا يحق لجيل، مثلًا، من أجيال الأمة أن يحتكر لمصلحته مصالح الأجيال التي لم تولد بعد.
عند سعادة “الدولة وجدت لتبقى” بأي معنى أُخذت به، ومن حيث هي دولة قومية، مصلحة الدولة التي يتحدث عنها سعادة تبقى في استمراريتها في تأمين استمرارية مجتمعها القائمة على خدمته وتقدّمه ورقيّه، دون ذلك أيّ معنى للدولة ليس له من مبرر، الدولة القومية هي حكمًا عند سعادة، دولة ديمقراطية، الديمقراطية ليست ديمقراطية انتخابية، أو صندوق اقتراع، إنها نسق حياة، طريقة وأسلوب وكيفية تفكير، إنها تربية، نفسية، نهج، سلوك، يومي، تجد “الأنا” ذاتها في “النحن” إنها بهذا المعنى تعبيرية، تعبير عن المرتبة الثقافية التي بلغها المجتمع، الأمة، الدولة، ديمقراطية تعبيرية، التعبيرية هنا، هي المسلكية العامة لمجموع الشعب، الشعب هنا أيضًا وأيضًا، ليس مجموعًا عدديًّا، إنه وحدة حياة، بمعنى أنه يعي مهماته في مصلحة المجموع، المصلحة الفردية هي مصلحة عابرة، تتلاشى “كتساقط أوراق الخريف”، يميز سعادة هنا بين المصلحة والمنفعة، المصلحة مركّبة، عامة وفردية، بينما تأتي المنفعة في حدود الفردية فقط، الفردية هنا، هي المنفعة على حساب المجموع القومي، الرأسمال الفردي، هو ملك عام، لا يجوز التصرف به بما لا يتوافق والمصلحة العامة، ذلك أن الأفراد مؤتمنون عليه لا أكثر ولا أقل، عند سعادة، ما من إنتاج إلاّ وهو إنتاج جمعي، مجتمعي، من هنا كان على “كل عضو في الدولة أن يكون منتجًا بطريقة من الطرق” بما يفيد انتفاء البطالة من المجتمع الذي أراد سعادة قيامه، بمعنى آخر، على الدولة مهمة توليد فرص عمل مكافئة لقوى الإنتاج المنخرطة حديثًا في سوق العمل، “أن يكون منتجًا”.. تعني انتفاء أي مبررات تقدمها الدولة أو حكومتها لتحييد، لتجميد، لإبعاد، لإهمال، للتغاضي، عن جزء ما، كائن ما كان، من الطاقة الإنتاجية تحت أيّ مُسمى أو مبرر، بما يعني، في الحال المعاكسة، تقصيرًا من الدولة تحاسب عليه، قيمة الدولة، عند سعادة، بمدى قيامها بالموكل لها من مهام، بالواجبات الملقاة على عاتقها، ذلك أن مسؤولياتها ليست وظيفية بمعنى ما من المعاني، هي إنتاجية ويقاس نجاحها بمدى ما تنتجه وفق المقولة العامة للإنتاج، أقل جهد وزمن، الدولة عند سعادة مؤسسة إنتاجية، لا وظيفية استهلاكية، لا يمكن للدولة أن تكون عبئًا على المجتمع الأمة، تشاركه بما ينتجه، عليها أن تنتج مقومات استمراريتها من حيث أنها وجدت لتبقى، الدولة هي الابن العاق للمجتمع، لم تكن لتكون بدونه، ولدت في رحمه، وتطورت في سياقه، وتنكرت له عندما احتاج إليها في تدبر أموره، سخَّرَتْهُ لخدمتها وتطاولت عليه وتحولت لأداة قمع لكل ما من شأنه النيل من سلطتها وطغيانها، هنا سعادة، في مقولته “الإنسان- المجتمع” “الدولة” يعيدها لبيت الطاعة، لخدمة مَنْ أوجدها، ونمت وكبرت في أحضانه، في “صيانة مصلحة الأمة والدولة”، يضع سعادة حجر الأساس لماهية الدولة والأمة، المصطلح “صيانة” يحمل توجهات عدة، من حيث معناه، تأمين، حماية، الحفاظ على مصلحة الأمة والدولة، هنا، يقدم سعادة الأمة على الدولة، ويؤكد على ضرورة إصلاح (الوجه الآخر لمصطلح صيانة) ما هي عليه في سياق عملية الإنتاج، الهدف حماية، حفظ، استمرارية الدولة في قيامها بمهامها، ومن الوجهة الأخرى تعديل، تكييف، تغيير، تبديل، تطوير تشريعاتها بما يتناسب والمهام الموكلة لها، على مبدأ “الدين لتشريف الحياة وليست الحياة لتشريف الدين” القانون في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمة القانون، في الدولة، عند سعادة، لا تشريعات سرمدية، مقدسة، إلهية، لم تهبط التشريعات والدساتير والقوانين بأنظمتها، من السماء، هي من صنع الإنسان لخدمته وتأمين مصالحه، يقول: /في المبادئ التي تمت للإنسان الحر بصلة، لا يمكن الاستناد لأي قول استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية أو لها علاقة بالإنسان- المجتمع./ بما يعني أيضًا، أنه لا يمكن، فيما يتعلق بالإنسان- المجتمع- “الدولة” إخضاعه لجملة مبررات تراها الدولة محقة ويراها المجتمع غير ذلك لكونها تمسُّ بشكل أو بآخر بحقوقه التي اكتسبها في عمليته الإنتاجية، كل ما تراه الدولة محِقًّا ليس بالضرورة أن يكون كذلك بالنسبة للمجتمع، ذلك أن التقرير هنا ليس مجرد قرار إنه مصلحة الأمة والدولة، كل ما له علاقة بالإنسان خاضع لمقولته في كون “العقل شرعًا أعلى” لا يعلى عليه، في العقل، لا ارتجال، كل ما يمتّ للعقل بصلة خاضع للدرس، للاختبار والتجريب، على أن يكون مستمدًا من الخبرة، الخبرة هنا، تراكم معرفي في العمل، كإنتاج، وليست مجرد تراكم زمني على حساب الأمة والدولة، العقل له مواصفات الحقيقة من حيث هي “وجود ومعرفة” على سبيل المثال لا الحصر، في التشريع، تشريع الحلول للقضايا المطروحة، القانون يأتي كحل منطقي، عقلي، موضوعي لما هي عليه القضية في صيرورتها آنيًّا ومرحليًّا، العقل أيضًا هنا، وعي، فهم، إدراك، متابعة، ملاحقة لكل كبيرة وصغيرة بكل ما يتعلق بمصلحة الأمة والدولة، وعي مجتمعي، حتى لا يؤخذ المجتمع على حين غرة ويُضلل من قبل الدولة، وعي القضية في صيرورتها آنيًّا، مرحليًّا، مستقبليًّا، يعني أن على المجتمع تتبع الدولة في طروحات مشروعها حل القضية قانونيًّا، حقوقيًّا، والقانون الحل، خاضع بدوره للعقل، العقل هنا ليس بمعناه البيولوجي أو الفيزيولوجي أو حتى السيكولوجي، إنه مصلحة الأمة والدولة، في استمرارية قيامها بمهامها، في خدمتها للمجتمع- الأمة والمتمثلة في أكبر إنتاج كمًّا نوعيًّا، في تناهي الجهد والزمن إلى أقل ما يمكن، العقل هنا يكمن في مدى نجاعة الحلول المطروحة، لا في مدى منطقيته أو صوابية حلوله النظرية غير القابلة للتطبيق، في مقدار سدّه الاحتياجات غير المحدودة للمجتمع- الأمة، من الموارد المحدودة، هذه الأخيرة، لا يمكن لها أن تحدد احتياجات الأمة المجتمع بمحدوديتها، لا يمكن قياس وتفصيل احتياجات الأمة وفق مقاسات موارد الدولة المحدودة، العقل، هنا، هو في ابتداع الطرق والوسائل التي تحقق جمال حياة المجتمع، هنا الجمال ليس صورة، إنه وفق معادلة الإنتاج، مدى تمتع المواطن بحياته، في إطالة متوسط عمره، في زمن الراحة التي يقضيها في حياته، في نسبة الحريرات المصروفة بالعمل المنتج إلى نسبة الحريرات التي يقدمها الإنتاج لأفراد الأمة، فإذا كان قد صرف، على سبيل المثال، ثلاثين حريرة مقابل ثلاثين أخرى كمردود إنتاجي، فالحالة الثقافية للمجتمع تكون في حالة ركود، ثلاثين حريرة طاقة إنتاجية، تقابلها، مثلًا، ستون أو سبعون أو حتى ثمانون وكلما ازدادت هذه النسبة كانت الدولة ناجحة في إطالة متوسط عمر مواطنيها، أو في استمتاعهم في الحياة، هذا ما يعنيه أقل جهد مقابل أكبر إنتاج، العقل هو معرفة الكيفية والوسيلة لتحقيق الغاية، ولأن “المجتمع معرفة والمعرفة قوة..” كان الإنتاج “غلالًا وصناعةً وفكرًا” في حدّه الأعظم، هو المعيار الوحيد للمعرفة، لمصداقية المعرفة، لصحة المعرفة، لسلامتها، والأخيرة تعني خروج المعرفة على مفهوم المنفعة، الفردية، الطبقية، المذهبية، العرقية، العنصرية، الثقافية، السياسية، الجنسية،.. لعموم المجموع المجتمعي، دون ذلك لا يمكن تحقيق المساواة والعدالة في التوزيع للمنتج القومي، أو في المصطلحات الاقتصادية متوسط دخل الفرد بين مجموع أعضاء الدولة، المواطنين، مع ضرورة التمييز بين المساواة والعدالة، ليست كل مساواة عدالة وليست كل عدالة مساواة، التمايز بين هذه وتلك، لا يمكن أن يمسّ الحقوق كما لا يعفي من الواجبات، والمعادلة هنا بالغة الصعوبة، على الدولة بما هي تشريع وتنفيذ أن تخضع في مطلق ما تعنيه، للقضاء، حيث القضاء هو ما تقتضيه مصلحة الأمة والدولة، لم يكن سعادة من المؤمنين بـ(إن الأعمال بالنيات) وإنما بـ(إن النيات بالأعمال) بما يعني، أن العمل يفصح من تلقاء ذاته عن ماهيته، دون تبرير لمنتجه، سلبًا أو إيجابًا، إن على الهدف أن يتحقق في المنطلق عبر الوسيلة، ليس هناك من تبرير لأي عمل إلا بالغاية المرجوة منه، العمل هو المقياس، التبرير مرفوض مهما تكن عوامله ومسبباته وما شاكل، يبقى التبرير فكرة ناقصة، لا هي تقنع ولا يقتنع بها أحد، طالما أنها لم تؤدِّ للمرجوِّ منها، والقضاء هنا ليس مجرد مؤسسة قانونية، إنه أيضًا مؤسسة إنتاجية، الواجبات كما الحقوق إحدى مهماته، على القضاء أن ينتج من الحقوق الحدَّ الأعظم مقابل الحد الأدنى من الواجبات، على الحقوق أن تطغى على الواجبات، إنتاجية القضاء تقاس بمدى ما ينتجه من حقوق لكل أفراد الشعب، نعيد ونكرر، القضاء ليس مجرد مؤسسة قانونية، إنه مؤسسة إنتاج حقوقي، ومن حيث هي كذلك، كان عليها أن تنتج من الحقوق كمًّا نوعيًّا، وليس مجرد كمٍّ نظري، بما يعني أن القضاء كمؤسسة إنتاجية يتضمن فيما يتضمنه مؤسسات أخرى، اقتصادية ثقافية، سياسية، اجتماعية.. الخ، كلٌ منها تُعنى باختصاصها، وتقدم مبرراتها لهذا الاقتضاء ومسبباته ووسائله وغاياته، وهذه هي القوة التي تعنيها المعرفة، القوة ليست قوة عسكرية وحسب، هي كذلك في مدى صيانتها لمصلحة الأمة والدولة، داخليًّا وخارجيًّا، داخليًّا من حيث هي تحقيق واستمرارية، ديمومة الحق والخير والجمال الذي تنعم به الأمة المجتمع، خارجيًّا في مدى تأمينها موارد الدولة المحدودة لتحقيق حاجات المجتمع غير المحدودة، ندخل هنا في سياق السياسة الخارجية التي على الدولة انتهاجها في محاولتها استكمال مواردها المحدودة بما يلبّي احتياجات المجتمع غير المحدودة، في السياسة الخارجية، يترك سعادة تقرير ما يمكن أن يكون عليه العالم لكيفية تطوره بتساؤله: “هل يصبح العالم أمة واحدة؟ يجيب: مَنْ يدري.” وعليه فهو لا يرى العالم إلاّ على نحو ما هو عليه الآن، تنازع بقاء، ليس بالضرورة انتفاء الآخر بقدر ما هو بقاء الأصلح والأقدر على الحياة بتأمين مقوماتها، يطرح سعادة وفق رؤيته، أن العالم، من حيث هو متعدد البيئات الطبيعية، فهو بطبيعة الحال، متعدد في أممه وتاليًا في إمكاناته، وعليه، في حالٍ كهذه، أن يوجد المخرج لتنازع بقائه مع الآخر، المخرج الذي يقدمه سعادة هو في قيام أمم الأرض على مبدأ وحدة بيئاتها، لا يرى مثلًا في “عصبة الأمم” حلًا لمشاكل العالم، من منطلق أن الدولة ككيان سياسي لا تشكل أمة، كما يدل عليه مصطلح “عصبة الأمم” أو فيما بعد “الأمم المتحدة”، هذه الدول التي أوجدتها مطامع استعمارية لا تمثل أمة، الدول ذات “السيادة” هي الدول القومية القائمة على أساس وحدة بيئتها الطبيعية باعتراف العالم بها، الدول المصطنعة (أو وفق مصطلحات علم السياسة، الدول الحديثة)، ليست دولًا بالمعنى الحقيقي للدولة، ذلك أنها نشأت وفق مخططات الدول الاستعمارية لنهب خيراتها، وسيادتها مجرد وهم تعيش به شعوبها، طالما أنها لم تمتلك زمام إنتاج حياتها، الدولة ذات السيادة عند سعادة، هي الدولة القومية، والدولة القومية هي الدولة التي تجتمع في كامل بيئتها، فإذا ما كان العالم على هذا النحو أمكن إيجاد حلول لمشاكله المتعلقة بوجوده، الدول الحديثة أو الدول ككيان سياسي تجزيئي للبيئة الطبيعية تنتج في الغالب مشاكل وجودها، هي في نزاع داخلي أولًا وقبل أي شأن آخر وهي في نزاع مع جوارها، في هذا النزاع المزدوج، تهدر البقية الباقية من عوامل استمرارية الدولة ككيان سياسي لتبقى تتخبط في تبعات هذا الشذوذ التاريخي، يقدم سعادة النموذج اللبناني مثالًا على ذلك، في مشكلاته الداخلية وفي مشكلاته الخارجية وتحديدًا الجمهورية الشامية- والتي نشأت على غراره، والتي لعلة في ذاتها، أحاطت به من كل جانب فبات مطالبًا بالتوفيق بين حتمية العلاقة مع الشام واستقلاليته غير الممكنة في أي قرارات اقتصادية خارجة أو متعارضة مع الدولة المجاورة له، هذه الحال يمكن تعميمها على مختلف الدول في العالم التي جُزّئت بيئتها فتنازعت بقاءها مع من سلخت عنهم وتاليًا، باتت، كل منها تجد ضالتها في الدول التي أوجدتها، وهذا ما كلّفها استقلاليتها الموهومة وانخراطها في سياسة الأحلاف والتبعية للحفاظ على كيانها السياسي، وباتت أيضًا عرضة للانهيار في أي وقت تتعرض فيه لأزمة مصيرية قد تعصف بها.. سعادة يقدم مشروعه العالمي، كحلٍّ لمشكلات العالم، من الوجهة السياسية والاقتصادية وكذلك الاجتماعية والثقافية، حيث يرى أن الحالة الاستعمارية التي سبقت قيام هذه الدول وجشع الدول الاستعمارية واعتمادها سياسات الهيمنة وتقسيم العالم وفق احتياجات مواردها الاقتصادية، هو الذي يدفع بالعالم نحو الهاوية ويزيد من مشكلاته ويشكل العامل الأول والأخير لانهيار الدول الحديثة والعظمى معًا ويعرض العالم للفناء،… في خضم هذا الصراع، كيف يمكن للدولة استكمال مواردها المحدودة لسد احتياجات غير محدودة؟، لا يقدم سعادة في مشروعه إجابة وافية لهذا السؤال، هناك نتف مما قاله أو كتبه يمكن الاستفادة منه مبدئيًّا فيما يتعلق بالنظرية الاقتصادية الجزئية، ونتف أخرى يمكن لها أن تدخل في سياق النظرية الاقتصادية الكلية، لكن هذه أو تلك لا يمكن الاستناد عليها لبناء إحدى النظريتين، لأسباب عدة، أبرزها الحاجة لدراسات إحصائية استقصائية تتحدد من خلالها الحالة التي عليها أمته وتاليًا كيفية الخروج من هذه الحال، خاصة وأن أمته كما يقول في مؤلفه الرائع “نشوء الأمم”: تعاني ما تعانيه على مختلف الأصعدة.