حَوَلْ فكري

 

 

بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، واستسلمت دول الكتلة الشرقية لصقيع الفقر وراحت تستجدي من عدو الأمس قوتها اليومي، خرجت الولايات المتحدة حاملة للعالم تنبؤاتها عمَّا يواجهه من تحديات في قرن ما بعد الحرب، وهي تدرك جيداً أنها أضحت محطَّ أنظاره، وأن كل ما قد تطرحه، سينكبُّ عليه هذا العالم في محاولة منه لتحديد ما قد يصبه من تشظَّات هذه التحديات. وهكذا كان، فإذ بهذا العالم يلهج صبح مساء بعنواني القرن الجديد، قرن العولمة الأمريكية وقرن صراع الأديان والإثنيَّات وهما في المبدأ، عنوانان متناقضان، فالأول يوحي بالوحدة والتلاحم وتجاوز الحدود السياسية والتاريخية ـ الثقافية عبر شبكة الاتصالات التي جعلت من كرتنا قرية صغيرة في هذا اللامتناهي الكوني، فلم تعد أي من المحظورات  التي كانت تتبعها الدول لحماية كياناتها السياسية بقادرة على فعل شيء أمام شبكة أخرى من الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات وأمام الاتفاقيات الأخرى على نحوِ الغات والنافتا واسيان والوحدة الأوربية.. بات العالم في متناول اليد بما يسمح بتخطي الأنظمة والحدود الجغرافية والقفز فوق التاريخ والثقافة وفوق كل ما يمت لهما بصلة، وذا واقع الحال!؟.

العنوان الثاني فقد جاء ليؤكد أنَّ عالم ما بعد الحرب، عالم تصطرع فيه الأعراق والأديان والثقافات، على نحوٍ من الحروب والثورات والاقتتالات التي لا تبقى ولاتذر، فغدا العالم بالفعل، على هذا النحو، في شرقه كما في غربه. أعراق مزجها وأديان وأثينات التاريخ مزجاً مع بعضها البعض، تعود جاهدة لاستخلاص ما يميزها بهدف إعلان صحوتها ومحاولة توضيع ما يمكن توضيعه منها على الأرض،

 فإذا بدول تنهار وبشعوب تتقاسم كيلومترات تضيق بها وتحاول الاستفراد بها على حساب الأخرى. وبالطبع، فإن ما نشهده، يؤكد أنَّ: ذا واقع الحال أيضاً!؟.

نحن إذاً أمام تناقضين، ليس في أيٍ منهما ما يمت للأخر، فأيٌ منهما هو الأصح؟ طالما أنهما يتوضعان على أرض الواقع، وطالما أن محور العالَم العارف بعالمه مطلقهما، وطالما أننا نلهج صبح مساء في ما يطرح، وما نسطره، لا يخرج عن هذه القاعدة، فلسنا براء في مقالتنا، مما نقول.

لعالم ما بعد الحرب، وجهان، هما في الحقيقة وجها عملة واحدة يصب كلٌ منهما في هدف الأخر في محاولة تأكيده وتوطيده بعد تأطيره نظرياً، وكما عالم ما بعد الحرب، كذا كتبته من «الفرِّيسيين» فهؤلاء لا يتورعون عن الظهور في كل يوم بأحد وجهَيْهِ، دون إدراك منهم أنهم لا يعبرون في ظهوراتهم هذه إلاَّ عن حالة من التناقض الذي يطرحه عنوانا القرن الأمريكي، فنحن نعيش حالة تناقض حادٍ لا نكاد نستقرُّ بها على حالٍ يوفر لنا في الحدِّ الأدنى فسحة من التأمل بما يجري بهدف الخلوص إلى ما يطمئنُّ ويستقرُّ إليه الفكر ويدفع بالطاقة لتصبَّ في المتجه الحقيقي لحركة العالم ومن جملتها، بل وفي خضمها وزخمها حركتنا نحن كمعنين مباشرين بالذي صيغ، وبالذي نلهج فيه صبح مساء!.

في التضاد أو بالأحرى في التناقض المنوه عنه، نوع من محاولة أمريكية لتزويغ الحقيقة، بل ومحاولة للرؤية في ضباب مصطنع، يحجب، نظرياً فقط، أفق المستقبل، هي محاولة للتضليل ودعوة لتلمس متجهٍ غيرُ متجه النجاة، حيث الكثيرون منَّا قد ضلوا السبيل، وساروا في مركب التزويغ، ويحاولون جاهدين، وهم يتنطحون لتحليل عوامل ودوافع العقل الإنساني مستقبلاً، جرَّنا لما هم ماضون في عبابه، مقدمين لنا النصيحة تلوَ الأخرى لنهج ما انتهجوه. والمسألة تبقى ها هنا، مسألة حياة أو موت، يبدو الأخر الكفة الراجحة فيها دون أدنى شك، ذلك أن ما جرى ويجري، وفي ظلِّ التناقض المزوِّغ للحقيقة، يعمل الكثيرون على تصويره على غير النحو الذي هو عليه في الواقع.

بعض الذين آلو على أنفسهم تزويغ الحقيقة، راحوا يؤولون ما يجري على نحوٍ من صراع إثني تمخض عن الحرب الباردة، فإذا بالمواقف المتخذة تجاه واحدة من القضايا، مواقف تعمل في ظل العنوان الأمريكي الأول، بينما تدخل الأخرى في نطاق العنوان الثاني، مما يدفع للتساؤل: هل حقاً أن المتخذ من المواقف إزاء الحدث الشيشاني مثلاً، هو بعض من المراهنة على ما قد ينهض من الانهيار السوفيتي؟ ليأتي بعضه الأخر على نحوٍ  خوف من الاتهام بالإرهاب؟! هل صحيح أن ما جرى في بداية الألفية الثالثة في لبنان بعضٌ من مسؤوليات الحكومة اللبنانية بشكل لا تخلو مسئوليتها هذه عن الدفع لما جرى أو التهيئة له بعدم أنصافها مناطق لبنانية، كما هي الحال في مناطق أخرى؟ هل صحيح أنه حيث اللاعدالة واللاحرية واللامساواة والفقر والجوع والمرض يكون المبدأ الأمريكي الثاني هو الفاعل، المثير للفتن والاضطراب وعدم الاستقرار والطمأنينة والأمان؟.

والسؤال الأكثر حرجاً هو: هل في التساؤلات المطروحة بعضٌ من تبرير ما جرى ومقدمة لما يجري، خاصة ونحن، في التبرير، للخطأ، نقدم كل ما من شأنه أن يدفع للخطأ؟!.

عندما لا تزوغ الحقيقة، وينهض العقل مقيماً لما يجري، وعندما نعي جيداً الاستهدافات من عنواني القرن الأمريكي، نتلمس لمس اليد، أن المواقف التي لا تبرر لمسخادوف ما آل إليه الشيشانيون، هي المواقف التي ترى أن القرن القادم ليس على نحو ما أرادته أمريكا له، إذ ليس الصراع في ظل العولمة الأمريكية صراع اثني ديني، لأن هذا يصب في ذاك بعد أن يكون قد قدم له مسخادوف، كائنة ما كانت الدوافع لما أقدم إليه، يبقى المتهم الأول والأخير في العمل وفق مخطط أمريكي يستنـزف الشعوب ويجزء الوحدات الكبرى ويحيلها /لغيتويات/ تبقى تعيش على فتات موائد الاستهلاك الأمريكي لطاقات وإمكانيات الشعوب في مسعى الأخيرة تحقيق بعضاً من أسطورتها السياسية التي باتت، في إطار العولمة في متحف التاريخ.

في العولمة الأمريكية، تجاوزت الشعوب حدودها الجغرافية وما أفرزته من نتائج تاريخية ـ اجتماعية ـ ثقافية، بات العالم قرية صغيرة، وبات الانخراط في الوحدات الكبرى مسالة مصير. في العولمة الأمريكية لا حياة لشعوب، كالشعب الشيشاني، لا يتجاوز تعدادها المليونان، إلاَّ حياة مستنـزفة، مستهلكة في الحاجة اليومية، إن لم تكن الساعيَّة.

في العولمة الأمريكية للعالم، تنهار الدول التي نشأت في النصف الثاني من القرن المنصرم، وتتداخل شعوب وشعوب بحيث يختلط الحابل بالنابل، فكأننا والحال أمام دولٍ ناشئة جديدة على شاكلة باكستان الشرقية وباكستان الغربية، دولٌ مشتتة بعيدة في تواجداتها على الأرض، على نحو من الكيبوك الفرنسي في كندا أو الأفريقي في الولايات المتحدة الأمريكية.. دولٌ لا تلبث أن تنهار ذاتياً، هي على نحو من دولة الباسك الإسبانية في إسبانيا والايرلندية في ايرلندا..

لقد انتهى الكنديون إلى أن يبقى الكيوبكيون جزءاً لا يتجزأ من كندا الكبرى، كما انتهى الايرلنديون إلى أن يبقوا جزءاً من التاج البريطاني وإلى ما انتهى إليه الأمريكيون من اتحاد فيدرالي وهم جملة من الشعوب التي لم يكتمل حتى الآن تكونهم الاجتماعي في أمريكا حيث شتات الأرض، ينضوي الجميع في دولة فيدرالية واحدة تهمين على العالم. فلماذا، وذا هو السؤال، لما يبقى الشيشانيون جزءاً من الاتحاد الفيدرالي الروسي، خاصة والناظر لموقعهم يدرك بالبداهة أين هو مداهم الحيوي.. هل يعني هذا، أننا ضد الشيشانين؟ من يرى ذلك، لم يفقه حتى الآن ما قدمنا له وما استتبعه البحث، إذ أننا كما نرى أنفسنا ومصالحنا نرى الآخرين ومصالحهم فلا يمكن بأية حال قبول محاولة مسخادوف ورفض محاولة البربر في المغرب العربي لا يمكن قبول ما يجري في كشمير ورفض ما يجري في الجنوب اللبناني، لا يمكن القبول في ما يجري في يوغوسلافيا ورفض ما يجري في العراق.. أو رفض ما يجري في جزر الباهار (الملوك) والقبول في ما جرى في الكشح، ليس منطقياً القول بأمة تقوم على العرق والدين واللغة والآمال والآلام والتاريخ المشترك ورفض أخرى تدعي ذات المقومات. لا يمكن القبول بأمة إسلامية ورفض أمة مسيحية أو هندوسية أو لا يمكن قبول ما يجري في الشيشان ورفض ما يجري في جنوب السودان.. وتبقى المسألة برمتها بكليتها بمختلف جوانبها، مسألة القبول بتناقض فكري ذاتي أولاً، لا يمكن القبول برؤية ترى الحدث حدثين، حينها نكون حيال حوَّل فكري لا يميز من الحدثين أيهما الخيال وأيهما الجسم.

وصحيح كل الصحة أنه حيث الفقر والجهل والتخلف في أشكاله، تنمو الأصولية وتترع، كما أنه صحيح أيضاً أن الدولة مسؤولة عن كل ما يدخل في إطار ذلك أسباباً ونتائج، ولكن هل الصحيح أن نبرر للأصوليين أعمالهم، التي وإن وجدت بؤرتها في الجهل، فإن تبرير العمل الأصولي بهذا ليس تبريراً مقبولاً خاصة ما وضعت الدولة في موضع الاتهام، بحيث يبدو ذلك وكأنه عملٌ مقصود من الدولة، ذلك أن إيجاد المبرر للعمل الإرهابي دَفْعٌ لهذا الأخير، أو إلماح إلى أن كل أصولي هو معوذٌ فقير يسلك ما يسلك لينال حصته مما يجري توزيعه بشكل غير منصف وعادل وبعيداً عن المساواة التي تجعلها مواطنية المواطنين شاملة لهم دون استثناء.

إن البحث في مثل هكذا مسائل، يبقى بحثٌ مسؤول وبعيد بالتالي عن كل مبرراته ودوافعه، فالكلمة تبقى خير طريق للصحيح والخطأ وقد تكون الكلمة أكثر أصولية من الأصوليين حينما تجد نفسها في موقع تبرير العمل، لأنها تكون بذلك دفعاً له، بل وتحريضاً له.

والمسألة ها هنا أيضاً مسألة تتعلق بكيفية تناول الحدث، بحيث يجد مبررات أو لا يجد، وبحيث ينخرط التحليل واستخلاص العوامل والمقومات وتركيب النتائج في إحدى خانتي عنواني القرن، حيث زوغان الحقيقة.

فإذا ما كان التحليل يستهدف التحريض، أخذ منحى اتهام الدولة بالتقصير أو اتهام الدول التي ترى الحدث الشيشاني من حيث منعكساته على مصالحنا بالذات، وليس على نحوٍ من المراهنة على الروس أو الخوف من الاتهام بالإرهاب لأنها عكفت على التأييد ليس إلاَّ.

إن البعض الذي ما يزال يرى الأحداث بعيني عنواني القرن الأمريكي، عليه أن يدرك أنه في حال حول فكري، لا نجني منه، نحن، سوى ما طالعتنا به الألفية الثالثة وأن ما يكتب، دون تعقُّل ووعي يدغدغ من أمراضنا وعاهاتنا كوامنها.

بعض الحق الذي يراد به باطل، هو مثل هكذا رؤية، تدفع للأصولية وهي في معرض الدفاع عن المقهورين والمظلومين، وأن الدفاع عن هؤلاء لا يتم في هذا المنحى وبهكذا أمثلة. ولأن هكذا أمثلة ـ تبقى مهما بررت لنفسها دوافعها ـ في إطار الضباب المصطنع وفي تداول وجهي العملة الأمريكية.

جورج معماري