أنطون سعادة ودعاة العروبة ـ ساطع الحصري نموذجا

سعادة

ودعاة العروبة – الحصري نموذجًا

في الأسباب والدوافع لهذه الدراسة النقدية:

تمهيد: لماذا الحصري تحديدًا؟

ذلك لأنه الوحيد الذي تنكّب مهمة التسويق للفكرة العروبية، معتمدًا على الأمير الهاشمي الذي أولاه كل عنايته، ووقف في وجه معارضي الحصري، وهو الوحيد الذي تناول الفكر السوري القومي الاجتماعي بالنقد والتحليل الذي شاع من خلاله في العالم العربي، قرأه عبد الناصر وأكرمه بعد أن خرج من عباءته الفرعونية واستظل الفكرة العروبية لتنفيذ سياسته، كما قرأه الكثير من المفكرين العرب، وتابعت نشر كتبه ودراساته الكثير من دور النشر خاصة /مركز دراسات الوحدة العربية/..

والحصري، مشكوك في أصله ومكان ولادته، فهو يدّعي أنه “من سلالة الإمام علي، وأن لقبه (الحصري) يعود لمكان ولادته وهو بلدة في اليمن “يقول الشاعر العراقي الجواهري: ” لقد سألت الكثيرين ممن التقيتهم من أهل اليمن عن هذه البلدة أو القرية، فأنكر الجميع وجودها في اليمن” /ذكرياتي الجزء الأول/، أما الباحث (فيفلاند) فيقول: ”يدّعي الحصري أن والديه استقرا في حلب وأنه من مواليدها عام 1880 ولقد دققت في السجلات العثمانية التي تعود لتلك الفترة، فلم أعثر على ما يدّعيه”، ويستنتج الباحث “أن الحصري على الأغلب قد وُلد في اسطنبول وترعرع فيها وتعلم في مدارسها، ولما تأسست المملكة السورية، خدع السوريين بتغيير موقفه من الثورة الأتاتوركية بعد استقراره في دمشق عام 1920، وكان قد بلغ الأربعين من العمر، حين استظل جماعة الأمير فيصل بن الحسين -شريف مكة- وعُيّن في عهد الأمير فيصل مديرًا للمعارف، ويقال إنه كان يجهل العربية ويجيد لغته الأم التركية والفرنسية كلغة ثانية”، يتابع فيفلاند إن الحصري، قد اعتمده الإنكليز لتنفيذ المخطط البريطاني بالنسبة للعالم العربي باعتباره واحدًا من القائلين بالقومية العربية، وعمل باجتهاد في سبيل توطيد فكرته العروبية؛ فخلق جيشًا من العنصريين الذين مارسوا كل اضطهاد بحق الأقليات العرقية الأخرى باستثنائهم كمواطنين من الدرجة الثانية والثالثة وحتى الرابعة في سلّم المواطنة السورية، ومن نتائج المناهج التي وضعها أوجد جيوشًا من البعثيين والإخوان المسلمين- الوهابيين الذين كادوا أن يقضوا على كل أنواع الحضارة في البلاد السورية..” راجع الملحق رقم (1).

لم نكن مضطرين للمرور على مفاصل حياة ساطع الحصري، لو لم تكن هي التي أطّرت كل ما كتبه وتحدث به، فثقافته ما تعدّت ميوله ورغباته في بلوغ مراتب في العمل السياسي، لم يكن على سبيل المثال رفضه للدين كعامل من عوامل القومية سوى نتيجة لتأثره بثورة كمال أتاتورك على السلطنة العثمانية والانقلاب الخطير في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية التركية، كما لا يمكن فصل اعتباره “الثورة العربية الكبرى” بداية الشعور بالـ”القومية العربية” سوى إعجابه بالشريف حسين وتكريم الأخير له، كما لا يمكننا تجاهل مشاعره الوطنية التي أدّت لقطع صلته بالتتريك -كما يدّعي- الذي كان مؤيدًا له وذلك عبر موقفه من إعدام شهداء السادس من أيار في كل من دمشق وبغداد وبيروت..

لكن أبرز الدوافع لهذه الدراسة النقدية، هي تلك الحرب الباردة بين “القومية العربية” والقومية الاجتماعية، التي يشنّها كلٌّ من دعاتهما، كلٌّ باتجاه تبني مقولات الآخر، كما انتهت إليه الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والغرب الأميركي، حيث تبنّت الماركسية ما نعتت به الغرب الرأسمالي، حيث الدولة “أداة قمع” وفق طروحات ماركس ولينين، بينما تبنّى الغرب مختلف مقولات الاشتراكية من حقوق العمال إلى المساواة بين الجنسين إلى النقابات إلى..، نقول إنها حرب باردة كونها انتهت إلى تبنّي أصحاب الدعوات “للقومية العربية” القومية الاجتماعية بعدما أدركوا ما انتهت إليه من كوارث، خاصة بعد “الربيع العربي” الذي خلف وراءه كوارث لم يعد بالإمكان تجنّب نتائجها على أي صعيد كان، بينما راح دعاة القومية الاجتماعية لتبنّي مقولات القومية العربية؛ في محاولة لرد فشلهم في تحقيق الوحدة السورية لانعزال الأخيرة عن الدعوة العربية، حتى إن بعض كتاب القومية الاجتماعية راح ينعت القومية الاجتماعية “بالقومية الاجتماعية العربية”!!

ساطع الحصري، دون غيره من دعاة “القومية العربية”، كان الوحيد الذي راح ينتقد القومية الاجتماعية، في محاولة منه لترسيخ نظريته التي تقول باللغة والتاريخ دعامتين أساسيتين لدعواه، ومن ثم عدم رد “القومية العربية” لتاريخ الفتح المحمدي لبلاد الشام، أو كما ذهب بعض دعاتها، بردّها لما قبل هذا الفتح، أي إلى تاريخ الهجرات العربية 3500 قبل الميلاد، بل ويعيب على بعض دعاتها أخذهم بكونها حلمًا ليته يتحقق، ساطع الحصري بردّها لثورة الشريف حسين على السلطنة العثمانية عام 1916 التي ابتدأت فيها اليقظة العربية لما يجمع محيطها بخليجها، مع رفضه لبعض من يقول بأن أول دعاتها كان من المسيحيين العرب في “المشرق العربي”، متميزًا عن سواه برفض الدين كعامل من عواملها متأثرًا بهذا الطرح بما سبق وطرحته ثورة كمال أتاتورك في تركية على السلطنة العثمانية أيضًا.

ما يعنينا في هذا المجال، هو أن مختلف الدعوات، أكان منها العروبية أو تعريب القومية الاجتماعية، كانت نتيجة الفشل الذريع الذي ألحقه مجموع العاملين والدعاة بكلتا القوميتين، مما يجعل من مقولة غسان كنفاني: ”إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية فعلينا تغيير الأشخاص لا القضية”، هي المقولة التي تحكم كل ما تقدم..

نحن معنيون في دراستنا هذه بنقد رؤية مؤلف الكتاب لطروحات سعادة في موضوعات عدة، أهمها نظرية سعادة في الأمة والقومية، لكننا سنمر بإيجاز على ما أورده من أمثلة حول مفهوم “الأمة والقومية العربية” و”الأمة اللبنانية” للتأكيد على أنه يصوغ فكرة سعادة عن كليهما في مصطلحات سياسية لا تمتّ لعلم الاجتماع بصلة، بل وأكثر من ذلك، فهو يناقش ويحلّل ما جاء في الصحف أو أحاديث جانبية حول “الأمة والقومية” وبعض الآراء التي لا تعتبر سوى آراء في موضوع علم الاجتماع، قد لا يكون صاحبها قد طالع أو درس حتى مبدئيات علم يحتاج لكثير من البحث والمقارنة والاجتهاد والتحليل والاستنباط.. وكما ساطع الحصري يناقش مقالًا في جريدة بناءً على ما توفر له عبر تجربته السياسية من معلومات، فإن من يناقش طروحاتهم يبقون في ذات المستوى المعلوماتي، فهم كتبة صحف ومجلات وأقاويل لهذا وذاك، كما سيمرّ معنا..

الأمة العربية والبلاد العربية

تحت عنوان “الأمة العربية والبلاد العربية”، يجيب مؤلف الكتاب متسائلًا: “.. إن أهمّ ما لفت نظري في كتابات المعارضين لفكرة الاتحاد هو استرسالهم بنعت الفكرة بالخيالية وإسرافهم في الدعوة للواقعية، إنهم يقولون على الدوام، ضمنًا أو صراحة: هذا وهمٌ، هذا خيال محال، يجب أن نقلع عن السير وراء الخياليات، يجب أن نكون واقعيين… وأنا أودّ أن أسأل هؤلاء المعارضين: ماذا يفهمون من الخيالية؟ وماذا يقصدون بالواقعية؟ ويجيب على تساؤله بعد أن يأتي على مثالين هما النمسا وتركية قائلًا: “ولا أتردد في القول بأن ثمة خيالًا هو أشد حيوية من الواقع لأن “الواقع الحالي” كثيرًا ما يمثّل “الماضي البالي”، في حين أن “الخيال الحالي” يجمع في أحشائه “الاستقبال الحقيقي” ويستطرد قائلًا: ”وأنا أعتقد أن فكرة العروبة والاتحاد العربي إنما هي من أحسن الأمثلة على هذا النوع من “الخيال..”.

يتّضح جليًّا المنهج الذي يتبعه في موضوع شائك لدرجة التعقيد، فهو ينتقد أولئك الذين يقولون بالخيالية ليقر في نهاية المطاف بالخيالية..

وتحت عنوان “قصص ميلاد الدول العربية”، يقول: “لقد لاحظت أن بعض الجرائد حملت حملات شعواء على رأي القائلين بأن قيام دول عديدة في مختلف الأقطار العربية، بعد الحرب العالمية الأولى، إنما نشأ عن مطامع الدول المستعمِرة واتفاقياتها، وقد زعمت تلك الجرائد المذكورة: أولًا، أن سبب قيام هذه الدول هو الاختلاف الموجود بين طبائع أهاليها، وثانيًا أن الدول المذكورة ليست إلا امتدادًا لكيانات قائمة منذ قديم الزمان، فرأيت أن أناقش كل واحد من هذين الزعمين على حدة:

أما بالنسبة للزعم الأول يقول: ”هل يوجد -مثلًا- بين القطر السوري والقطر العراقي من الاختلاف ما يحتم على كل واحد منهما، أن يكوِّن دولة خاصة به؟ إني لا أتردد في الإجابة على هذا السؤال بالنفي الباتّ.. لا شك في أن بغداد تختلف عن دمشق في كثير من الأمور، ولكن هل يوجد في العالم مدينة لا تختلف عن غيرها في قليل من الأمور؟ بل وأشدُّ من ذلك بين بغداد والمنتفك في العراق، وبين دمشق ودير الزور في سورية من جهة أخرى؟! ومما لا شك فيه أبدًا، أن الموصل- قبل ثلاثين عامًا كانت أكثر اتصالًا بحلب منها ببغداد، بل وأشدّ شبهًا بها.. ولذلك أقول جازمًا: بأن الفروق بين القطرين العراقي والسوري ليست بالفروق الجوهرية.. إن كثيرًا من الفروق التي تُشاهَدها بين أحوال سورية والعراق إنما نتجت عن اختلاف نظم الحكم والإدارة والاقتصاد والثقافة، التي قامت بينهما منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى..”.

ما يقدمه لنا من أمثلة هي في حقيقتها اقتباس من سعادة بأسلوب ركيك جدًّا، فسعادة يناقش هذه المسألة مناقشة عالم اجتماع لا مناقشة جرائد ولا مجلات ولا أشخاص، سعادة يناقش هذه الفروقات من منطلق علم الاجتماع، لا من وجهة نظر فردية شاءت أن تكون نظرتها لمثل هذه الوقائع غير مبنية على علم له قواعده الأنثروبولوجية والأثنية، حيث تختلط العلوم بعضها ببعض بشكل لا يترك مجالًا للشك بالخلاصات التي تنتهي إليها يقول: ”أريد أن أجاري هنا ميكور في إيضاحه المتّحد أنّه كلّ مساحة تشتمل على حياة مشتركة وتكون متميّزة عن المساحات الأخرى تميّزًا لا تصحّ بدونه تسمية المتّحد(216). فالقرية متّحد والمدينة متّحد والمنطقة متّحد والقطر متّحد، ولكلّ متّحد خصائص تميّزه عمّا سواه ممّا هو أصغر منه أو أوسع منه، أقلّ منه أو أكثر منه.. إنّ الصّفات ليست أساس المتّحد وإنّ أساس المتّحد والصّفات هو الاشتراك في الحياة الواحدة؟ كلّ متّحد، مهما كثرت صفاته أو قلّت ومهما تعدّدت مصالحه، هو متّحد قائم بنفسه. كلّ قرية متّحد ولا يعكس وكلّ مدينة متّحد ولا يعكس وكلّ منطقة متّحد ولا يعكس وكلّ قطر متّحد ولا يعكس. والقطر الّذي هو متّحد الأمّة أو المتّحد القوميّ هو أكمل وأوفى متّحد..”، ولا يكتفي سعادة بما تقدّم، بل يدرس المتّحد تبعًا لخصائصه وصفاته ومصالحه وثقافته.. وعلى نتائج هذه الدراسة يضع خلاصاته، هكذا يبدو الاختلاف بين بغداد ودمشق وبين الموصل وحلب أكثر وضوحًا بردّه لجذوره التاريخية والاجتماعية والثقافية، إلى مصالحه في الحياة المشتركة والتي هي بالنسبة لسعادة وحدة حياة أو دورة اجتماعية- اقتصادية تامة تمثل الأمة كواقع اجتماعي بحت ومتّحدٍ أتم..

يبدو أن الحصري يكتب بموضوع يشكّل العمود الفقري لعلم الاجتماع كناقد صحفي وليس كعالم اجتماع، أو حتى كدارس في علم شائك معقد كل التعقيد، إذ إننا لم نقع في مختلف كتاباته على تعريف واحد لمصطلح من المصطلحات التي يستخدمها، ذلك أنه في أي علم، كائنٌ ما كان موضوعه، لا بدَّ له -ليكون علمًا- أن يبدأ بتعريف مصطلحاته، لم يبيّن لنا الحصري، مثلًا، ما الفرق بين الواقعية والخيالية أو بين الكيان المطلق والكيان السياسي كما سيلي، من هنا فإننا نعتقد أننا نظلم سعادة كثيرًا عندما نقارن ما استخلصه في مؤلفه الرائع “نشوء الأمم” بما دبّجه الحصري، لكننا إذ نتابع قراءتنا لما جاء به الحصري، فإننا بصورة غير مباشرة، نضع حدًّا لما يدبّجه بعض “عروبيي” القومية الاجتماعية من مقالات؛ ليست بأكثر من آراء أو وجهات نظر خائبة في موضوع لا يمتّون إليه بصلة من أي وجه من الوجوه، منطلقين في عروبيتهم من جهلهم بما جاء به سعادة في هذا الموضوع، ومستندين لجهل شريحة كبرى من قارئيهم بما يكتبون ويستخلصون..

لكن، ومما لا شك فيه، أن الحصري يصيب في ردّه قيام دول في العالم العربي إلى مطامع استعمارية، لكنه لا يبيّن لنا عوامل استمرارية قيامها من جهة ولا النتائج المترتبة على قيامها فيما سُمّيَ في علم الاجتماع بـ(الدول الحديثة) التي جاء قيامها ليحول دون مجرى دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية الطبيعي، والذي كان قادرًا على تجاوز مختلف آثار الاحتلالات بكل ما تعنيه من محاولات الصهر في مجتمعات الإمبراطوريات التي مرّت على الأرض السورية، لقد ظلت وحدة سورية الطبيعية -على سبيل المثال- عبر التاريخ متكاملة من حيث وحدة الحياة التي تشكّلها، على الرغم من تقلب الأوضاع السياسية التي مرّت بها ابتداءً  بقورش الفارسي (400ق.م) إلى إسكندر المقدوني إلى الدولة السلوقية إلى الاحتلال الروماني فالعربي فالعثماني فالفرنسي والإنكليزي (1945م)، على مدى ألفين وخمسمائة عام، بقيت دورة الحياة في مجراها الطبيعي إلى أن وضعت اتفاقية (سايكس- بيكو) حدًّا لها بإقامة كيانات تعاني ما تعانيه من تلك التجزئة التي أودت بكل ما هو طبيعي نتيجة ارتباط حكومات هذه الدول بأجندات الدول التي أوجدتها، وما أدلُّ على ما نحن ذاهبون إليه سوى تنصيب الحسين ملكًا على الشام، ومن ثم على العراق وابنه عبدالله على شرقي الأردن، وبقرارات بريطانية استعمارية تركت للحسين وسلالته الإدارة المحلية الداخلية لكيانات أنشأتها لتوافق مخططاتها الساعية لقيام “دولة إسرائيل” التي -ولا شك في ذلك- أن من نصّبتهم كلٌ من فرنسا وبريطانية كدولتين منتدبتين، كانوا على علم على أقل تعديل إن لم يكن بموافقتهم على قيام هذا السرطان اليهودي في جنوبنا المحتل، لقد تجاهل هؤلاء ومن نصّبهم قضيتنا القومية، في سبيل مصالحهم الفردية ومصالح دولهم الاستعمارية، كما تجاهلوا أن دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية لا يمكن وقفها عبر إقطاعات سياسية تعيق إلى حدّ بعيد نموّها وازدهارها لكنها -الكيانات- لا توقفها، وما أدل على ذلك ما تعانيه هذه الدول من معضلات عرقية ومذهبية، اجتماعية واقتصادية وسياسية، لم تكن في يوم بقادرة على حلّها واحتواء نتائجها، أو تجاوزها إلا بإعادة فاعلية دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية إلى مجراها الطبيعي، لقد أبقت هذه الكيانات، لعلّة في ذاتها، على هذه الفوضى التي تتنقل بشعوبها من كارثة إلى أخرى، لقد كان سعادة واضحًا كل الوضوح في هذا المجال، فهو يتّخذ من لبنان مثالًا لبقية الدول الناشئة لاعتبارات استعمارية، يقول:

”واضح أن المسألة اللبنانية ذات مبررات جزئية. إن أساس المسألة اللبنانية ليس في وجود لبنان مستقلًا، ولا في وجود بلاد لبنانية منفصلة، بل حتى ولا بوجود تاريخ لبناني مستقل. إن أساس المسألة اللبنانية شيء واحد- الحزبيات الدينية، الدولة الدينية، الدولة القائمة على أساس مذهب ديني معين. الدولة القائمة على أساس ديني معين تعني أنها دولة ذلك الدين أو الجماعة المختصة بذلك الدين، فيخرج من عضوية الدولة الصحيحة كل من انتمى إلى دين آخر..

الدولة الدينية لا تشمل إلا المنتمين إليها، المنتمين إلى الجماعة الدينية، فمن خرج عن تلك الجماعة كان موقف الدولة منه موقفًا خاصًّا غير شامل، موقفًا يعبّر عنه باللغة الأجنبية (Exclusive)، أي إنها تخرج عن دائرة حقوقها من كان خارجًا عن الجماعة المنتمية إليها الجماعة الدينية..

في بلادنا سيطرت الدولة الدينية، من الطبيعي، كما سيطرت أيضًا في أنحاء عديدة من العالم المتمدن تقريبًا في بعض الأزمنة. وقد تكلّمت في باب “فصل الدين عن الدولة” عن شؤون كثيرة توضح هذه القضية، فلا أعود ولا أطيل اليوم، ولكن أذكر أن كل مجتمع أوجبت الدولة الدينية فقدانه حرية العمل والسيادة والاتجاه الصحيح القائم بالإرادة الذاتية ابتدأ يبحث عن حلّ لمشاكله..

هكذا نشأ النزاع بين البروتستانت والكاثوليك في ألمانية، وأعيد القول إن بواعث النزاع والحركة البروتستانتية لم يكن كله دينيًّا محضًا. كان في الحركة الدينية دوافع سياسية مهمة، وكذلك كان في الحركات الشيعية في النطاق المحمدي. وقد أوضحت بعض هذه النواحي في كتاب “نشوء الأمم”.

البروتستانت حاربوا، ليس فقط لبعض الاعتقادات الدينية، بل أيضًا ليتحرروا من سلطة رومية. والفرس صاروا في الشيعة، ليس فقط من أجل بعض الاعتقادات الدينية، بل للمحافظة على وحدتهم القومية من الانجرار. فهناك عوامل سياسية أيضًا في هذه الأمور.

وفي لبنان، نزع المسيحيون في حالة الدولة الدينية إلى أن يجدوا مخرجًا لهم من هذه الحالة إلى وجود حالة يشعرون فيها أنهم يقدرون أن يعطوا تحقيقًا عن أنفسهم، عن ذاتيتهم، عن وحدتهم. لأنه في الدولة الدينية لم يكن للمسيحيين حق بل كانوا تحت الحماية -أهل ذمة- والمحمي ليست له حقوق العضوية في الدولة الدينية، نفس الحقوق المدنية السياسية. واستمر هذا الاتجاه إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، فأتى الاحتلال الأجنبي واستغل هذه الحالة وعمل على تنفيذها، فوجدت النزعة إلى الانفصال والاستقلال اللبناني على أساس الحماية الدينية لا على أساس فكري اجتماعي- اقتصادي لجماعة تقطن هذه المنطقة..”.

“ومن ناحية العالم العربي، يرى الحزب سلك طريق المؤتمرات والتحالفات التي هي الطريق العملية الوحيدة لحصول تعاون الأمم العربية وإنشاء جبهة عربية لها وزنها في السياسة الأنترنسيونية“ ولكن السيادة القومية مبدأ يجب المحافظة عليه في جميع التحالفات والعقود”.

هذه النظرة المستمدة من غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي، من تعاليمه، هي التي أصبحت نافذة في العالم العربي عمليًّا. هي الشيء الوحيد الذي أمكن العروبيون تحقيقه.

إن العروبيين في تحقيق الجامعة العربية لم يحققوا إلا النظرة العروبية الحقيقية التي أعلنها الحزب السوري القومي الاجتماعي -عقد المؤتمرات والتحالفات وإنشاء الجبهة- أما جعل الأقطار والمجتمعات في العالم العربي الكبير شيئًا واحدًا، مجتمعًا واحدًا ونظامًا واحدًا فقد بقي العروبيون بعيدين عنه اليوم كما كانوا بعيدين في الماضي.

إن الجامعة العربية كمؤسسة لإيجاد التوافق بين أغراض أمم العالم العربي وإيجاد وسائل التعاون بين أمم العالم العربي، كل أمة من أممه تعطي من ذاتيتها حيوية لقوتها، إن هذه المؤسسة هي التحقيق العملي لنظرة الحزب السوري القومي الاجتماعي، وإن كانت، بطريقة عملها وفعلها، تحقيقًا فاسدًا لهذه النظرة..”

أسطورة الكيانات الواقعية:

تحت عنوان (أسطورة الكيانات الواقعية)، يقدّم لنا الحصري مساهمته في تعليل ذلك يقول: ”لقد سردت إحدى الجرائد نظرية جديدة لتعليل تعدّد الدول العربية، نستطيع تسميتها بنظرية (الكيانات الواقعية) حسب تعبير الجريدة نفسها.. إن الجريدة المذكورة (هو لا يُسمي الجريدة- وهي وفق ما نعتقده جريدة “العمل” الناطقة باسم الكتائب اللبنانية) خلطت خلطًا غريبًا بين الكيان المطلق وبين الكيان السياسي، ولم تميز بين الوحدات الإدارية والوحدات السياسية، ولا ريب في أن لكل شيء كيانًا، لكل قرية لكل واد لكل مدينة لكل مديرية لكل قائمقامية، لكل شيء كيانًا، ولكن بين هذا النوع من الكيان وبين ما يسمى بالكيان السياسي بونًا شاسعًا جدًّا.. وإذا كانت الولايات والسناجق كيانات واقعية، وإذا كان من الطبيعي أن تتدرج هذه الكيانات إلى دول مستقلة -كما تقول الجريدة- يجدر بنا أن نسألها: لما لم تتدرج جميعها إلى الاستقلال؟ ولماذا اندمج بعضها ببعض في كيان سياسي واحد؟ ولماذا تكونت محل ست ولايات ونحو عشرين سنجقًا أربع دول (نعتقد أنه يقصد سورية- لبنان- فلسطين والعراق، أو أنه يستبدل العراق بشرقي الأردن؟!) مع أن جميع تلك الولايات والسناجق كانت من جملة (الكيانات الواقعية) على رأي الجريدة.. ألم يكن كل ذلك دليلًا قاطعًا على بطلان نظرية (الكيانات الواقعية)..

على الرغم من أن الحصري هنا لا يبيّن لنا اسم الجريدة ولا كاتب المقال الذي راح يدلّل عليه، نجده يشير إلى مصطلحات عثمانية (ولاية وسنجق) دون الإشارة لأسباب لجوء السلطنة العثمانية لمثل هذه الإجراءات الإدارية، التي كانت تتبدل وتتغير وفق ما تراه السلطنة متطابقًا ومصالحها التي تتمثل قبل كل شيء بالحيلولة دون إمكانية أيٍّ من هذه الكيانات تحقيق نزوعها للاستقلال عن السلطنة، فهذه الكيانات لم تكن في يوم تمثل إلا مصالح ولاتها المتضَمّنة مصالح السلطنة، فهي ليست (كيانات واقعية) بقدر ما هي كيانات إدارية كالمحافظات في زمننا الراهن.. وعلى الرغم من أنه يقف منها موقفًا معاديًا رافضًا لاعتبارها واقعًا اجتماعيًّا أو ثقافيًّا أو.. فإنه لا يحدثنا عن العوامل والأسباب التي دفعت لإلحاق الموصل بالعراق وحلب بالشام، كان الأجدر بالحصري أن يدلّل على ما تقدّم بالوقائع الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية والثقافية.. والتي لا تخرج عن نطاق تجزئة الأمة من خلال تجزئة وحدتها الطبيعية، فالدوافع لإلحاق الموصل بالعراق هي سياسية لضمان المصالح الاستعمارية التي تقف وراء أي إجراء تتّخذه تلك الدول. وهكذا تكونت الدولة العراقية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية من ضم ثلاث ولايات عثمانية بعضها إلى بعض هي الموصل والبصرة وبغداد، ظلّت ولاية الموصل تمثّل مشكلتين أساسيتين داخل الدولة العراقية الجديدة:

المشكلة الأولى: تتمثل في مطالبة تركيا الحديثة بهذه الولاية على أساس أنها جزء لا يتجزأ من تركيا، والسبب الحقيقي لهذه المطالبة هو احتواء الولاية على مخزون نفطي كبير.

المشكلة الثانية: تتمثل في احتواء الولاية على مجموع المناطق الكردية العراقية الرئيسية: السليمانية وأربيل ودهوك، حيث طالب الأكراد الساكنون في هذه المناطق بكيان مستقل أسوة بالدول الجديدة التي أنشئت في المنطقة. وفي الحقيقة فإن الطموحات الكردية كانت قد انتعشت عام 1920 عندما وقعت معاهدة “سيفر” بين الحلفاء التي جاء في موادها (62 و63 و64) النص على حق الأكراد في إنشاء دولة كردية في منطقة كردستان تركيا تتمتع بالحكم الذاتي أولًا ثم الاستقلال. إلا أن رفض تركيا لهذه المعاهدة ورغبة بريطانيا في وضع العراق بأكمله تحت الانتداب أبقيا هذه المعاهدة حبرًا على ورق. ثم جاءت معاهدة لوزان عام 1923 لتقضي على الآمال الكردية، حيث تم تقسيم المنطقة وحسب الحدود المتعارف عليها الآن. وبالتالي فقد تم تقسيم منطقة كردستان بين تركيا وإيران والعراق مع بعض التدخلات في كل من أذربيجان (من أجزاء الاتحاد السوفييتي السابق) وسوريا.

ففي بداية العهد الملكي العراقي، اتّهمت السلطات العراقية بريطانيا بتحريض الأكراد وتشجيعهم على عدم الاندماج في الدولة العراقية الجديدة، ولم يكن ذلك حبًّا في الأكراد أو إيمانًا بمطالبهم، ولكن بريطانيا أرادت من وراء ذلك إجبار الحكومة العراقية على توقيع معاهدة طويلة الأمد مع بريطانيا، في الوقت الذي كانت فيه الحكومة العراقية تطمح إلى الحصول على الاستقلال. بل والأكثر من ذلك فإن بريطانيا هدّدت الحكومة العراقية بالقول إن الامتناع عن توقيع مثل هذه المعاهدة ومعاداة بريطانيا سيعني ليس فقط امتناع الأكراد عن الانضمام إلى الدولة العراقية، بل إنه سيؤدي إلى خسران ولاية الموصل القديمة بأكملها إلى تركيا التي ظلّت تطالب بها.

وهكذا اضطرت الحكومة العراقية للقبول بالمعاهدة مقابل دعم بريطانيا لمطالب العراق بولاية الموصل، وبالفعل فقد تحقق للعراق ذلك، حيث أُنهيت مشكلة الموصل لصالح العراق بعد توقيع المعاهدة العراقية- البريطانية عام 1922، وتم إلحاق المحافظات الكردية بالدولة العراقية.

الحصري، الذي ابتدأ حياته السياسية بتولية الشريف حسين ملكًا على سورية، واستمر على صلته الوثيقة بالحسين، أكان في سورية أم في العراق، لا شك -وهو اللصيق بالحسين- أنه كان على علم بخفايا الأمور وخفايا السياسة البريطانية في المنطقة، وكيفية إلحاق الموصل بالعراق دون الشام، وكان من الأفضل أن يبيّن ذلك لا أن يكتفي بالسؤال الذي يعرف إجابته..

الشواهد التاريخية:

تحت عنوان آخر، ”الشواهد التاريخية” وفي دفاعه عن العروبة، يقول:

“يحاول خصوم فكرة الوحدة والاتحاد أن يدعموا آراءهم بحجج تاريخية ويزعموا أن انقسام البلاد العربية إلى دول عديدة، عند انفصالها عن السلطنة العثمانية، كان من الأمور الطبيعية، بدليل أن إمبراطوريات أخرى ولّدت دولًا عديدة..”.

بداية، لم يبيّن لنا الحصري الفرق بين مفهوم “الوحدة والاتحاد”، فمن وجهة نظر علم الاجتماع، تبقى “الوحدة” أشدّ صلة من حيث المفهوم بالخاصة الطبيعية، بمعنى آخر، إن مفهوم “الوحدة” مصطلح يدلُّ على خاصية لا تقبل ولا يمكن تجزئتها ولو نظريًّا لما بين أجزاء هذه “الوحدة” من ترابط يحول دون عمل أي منها بمجرد سلخه عن الأجزاء الأخرى، أو عمل أي جزء دون ارتباطه بالآخر، لهذا نرى أن مؤلف سعادة “نشوء الأمم” يشدّد على مفهوم “الوحدة” حيث الترابط أقوى وأشدّ من أي من العوامل الأخرى، ولا نكاد نقع على صفحة واحدة من هذا المؤلف الرائع، دون أن نقع على مصطلح ”وحدة”، لهذا كان مصطلح “وحدة الحياة” هو المعيار أو المقياس الوحيد عند سعادة لفهم معنى المجتمع، حتى نكاد نلمح أن هذا المصطلح هو المصطلح الوحيد الذي يقيِّم سعادة من خلاله أي مفهوم له علاقة بالمجتمع أو الحياة الاجتماعية..

هذا لجهة “الوحدة”، أما لجهة “الاتحاد” فعلى العكس من الأولى فهو مصطلح يدل على اتحاد عنصرين يختلفان بعضهما عن بعض في الخصائص والصفات كأي عنصرين ماديين، كاتحاد الكربون والأكسجين، فهما عنصران يُبقي كلٌ منهما على خصائصه حتى باتحاده مع الآخر، بمعنى أنه يمكن إعادة تفكيكهما، وهذا ما دعا سعادة للقول باتحاد عربي وليس بوحدة عربية، ولنلاحظ الفرق بين الوحدة والاتحاد عند سعادة ليتضح ما تقدم، يقول:

”إنّ استيقاظ الشّعور بالوحدة الحيويّة والمصلحة الواحدة والرّابطة الواحدة بالحياة في أشكالها وأسبابها واتّجاهها جعل الجماعة تدرك وجودها وجهّزها بوسائل التّعبير عن إرادتها فكان ذلك بدء نشوء القوميّة.. المتّحد القوميّ أو متّحد الأمّة أو متّحد القطر، أسماء لمسمى واحد. وهي في مجموعها تشكّل وحدة يعمّ في أفرادها التّجانس العقليّ والتّجانس في الهيئة والمظهر.. أكرّر أنّ الأصل الإنسانيّ الوحيد للأمّة هو وحدة الحياة على تعاقب الأجيال وهي الوحدة الّتي تتمّ دورتها ضمن القطر.. القوميّة هي الرّوحيّة الواحدة أو الشّعور الواحد المنبثق من الأمّة، من وحدة الحياة في مجرى الزّمان..”، بينما يأتي مصطلح الاتحاد على نحوٍ آخر يقول:

”.. ويسكن في كلّ منزل من منازلها عائلة اتّحاديّة لا تقتصر على الآباء وأبنائهم، بل تتناول الجدود والآباء والأبناء والأحفاد مجتمعين والمُلك أو البستان مشترك بينهم. فالعائلة الاتّحاديّة من هذا النّوع المؤلّفة من نحو اثني عشر شخصًا.. نجد نقطة الاتّصال بين الدّولة والمجتمع في الطّوطميّة ((انظر الطّوطميّة والتناسخ))، ففي تقارب الطّواطم بعضها من بعض واتّحاد عشائرها في الزّواج وإنشاء الطّوطم المكانيّ الّذي يجمع الكلّ في متّحد اجتماعيّ.. بيد أنّ هذا الاتّحاد لا يكفي للدّلالة على واقع الدّولة. فقد تجتمع العشائر وليس لها في تنظيم أحوالها من الوسائل سوى المناقبيّة منها(136). وهي العادة والعرف والتّسليم للأوهام.. ومعظم ما تنتهي إليه هذه الدّولة هو اتّحاد بعض القبائل المشتركة في القرابة الدّمويّة، ولا تحتاج هذه الدّولة إلى أكثر من العادة والعرف نظامًا، نظرًا للنّمط الواحد الّذي تسير عليه حياتها الفطريّة البعيدة عن الأخذ بالعلم والفلسفة..”.

والأمثلة التي يقدمها سعادة كثيرة وكثيرة جدًّا على الاختلاف بين مصطلحي وحدة واتحاد، لغويًّا يمكن تعريف الوحدة بأنها ”اتِّفاق وتطابُق تامَّيْن، تشابُه كامِل” بينما يأتي الاتحاد على نحوٍ من “اجْتِماع واتِّفاق وتوحيد، أَو ائْتِلاف”.. وهكذا، كان على الحصري أن يميّز بين هذين المصطلحين، وهو القائل باللغة العنصر الأول في القومية..

في الشواهد التاريخية التي يقدّمها لنا الحصري، نقع على مصطلح الاتحاد وليس على مصطلح الوحدة، ففي المثال اليوغوسلافي يقول:

“.. ولإظهار هذه الحقيقة إلى العيان بوضوح تام، أرى أن أتوسع قليلًا في بيان كيفية تكوين دولة من الدول التي (انبثقت عن الإمبراطورية النمساوية) حسب تعبير الجريدة نفسها: كان في النمسا ثلاثة شعوب تتكلم بلغة سلافية خاصة تعرف باسم (السلافية الجنوبية).. ومع هذا نجد أن هذه الأيالات (الولايات) لم تؤلف عند انفصالها عن النمسا ثلاث دول.. بل اتحدت فيما بينها من ناحية ومع مملكتين.. هما مملكة الصرب ومملكة الجبل الأسود وتكونت بذلك دولة واحدة.. هي يوغوسلافيا.. وأصبحت الآن من الدول القوية التي يحسب جميع الدول حسابها.. وإذا استطاعت أن تقوم بدور خطير بين الكتلتين الغربية والشرقية، فالفضل في ذلك يعود -بالدرجة الأولى- إلى أنها دولة موحدة جمعت أبناء اللغة الواحدة، ووجهت أعمالها وأعمالهم نحو غاية واحدة.. يتبين من كل ذلك، بكل وضوح وجلاء: إن مثال (الدول المنبثقة عن الإمبراطورية النمساوية) بعيد كل البعد عن تأييد رأي القائلين بأن انقسام البلاد العربية إلى دول عديدة، عقب انفصالها عن السلطنة العثمانية- كان من الأمور الطبيعية..”، يضيف قائلًا: ”إن من يقصر النظر أمام هذه الوقائع التاريخية.. على صفحاتها الانفصالية دون أن يلاحظ الصفحات الاتحادية.. يعرّض نفسه لأخطاء فادحة.. كما أن من لا يلاحظ الدور الخطير الذي قامت به اللغات في التاريخ الحديث لا يستطيع أن يفهم سير هذا التاريخ على وجهه الصحيح.. ليس في استطاعة أي باحث كان أن يعلّل نشأة الدول المذكورة دون أن يرجع إلى أطماع الدول الاستعمارية واتفاقاتها السياسية..”.

مع تأكيدنا على صحة ما جاء في ختام المثال الأول، نؤكد أن ما ذهب إليه في تشكيل دولة يوغوسلافيا وإلى الأثر الخطير الذي أوجبته وحدة اللغة، فقد أثبتت الأحداث اللاحقة أنه لم يكن كما أشار إليه الحصري، فليست اللغة هي التي قامت على أكتافها وحدة يوغوسلافيا، بل وهذا ما عايشه الحصري وتجاهله، هو أن يوغوسلافيا قامت على أكتاف جوزيف بروز تيتو المؤسس الفعلي لدولة يوغوسلافيا وليس اللغة، بدليل أن ما انتهت إليه يوغوسلافيا بعد موت تيتو وانهيار الاتحاد السوفييتي أعاد يوغوسلافيا إلى سابق عهدها، أي إلى دولٍ خمس، ولم تقف اللغة حائلًا دون ذلك!!

المثال الثاني الذي يطرحه الحصري هو ألمانيا، يقول: ”.. متى كان الشعب الألماني موحّدًا عنصرًا وتاريخًا وإرادة ومصلحة.. والإرادة الموحدة التي يشيرون إليها، متى تكوّنت.. والمصلحة الموحدة.. متى أصبحت من الأمور المسلّم بها.. هل كان ذلك كله، قبل 1870؟” (شهد عقد 1870 ظهور الإمبراطوريات الجديدة والاستعمارية والعسكرية في أوروبا وآسيا. وكانت الولايات المتحدة تتعافى من الحرب الأهلية. وتوحّدت ألمانيا عام 1871 وبدأ عهد الرايخ الثاني. وحدثت إضرابات عمالية في جميع أنحاء العالم في الجزء الأخير من العقد، واستمرت حتى الحرب العالمية الأولى..)، يتابع قائلًا: ”إن ألمانيا كانت منقسمة إلى دول ودويلات.. وكان عددها يزيد على الثلاثمائة.. وكانت شعوب هذه الدول أيضًا بعيدة كل البعد عن الشعور بالوحدة القومية.. وخلاصة القول: إن وحدة الأمة ووحدة الوطن، بل كل ضروب الوحدة كانت بعيدة عن الأذهان وعن النفوس..”.

سعادة في جملة أبحاثه في الدولة وتطورها حتى بلوغها مرتبة الدولة القومية، لا ينهج هذا النهج المجزوء، والذي يقتصر على الوصف الشكلي التاريخي، أو السرد التاريخي دون إخضاعه للنقد والتحليل ومن ثم تركيب النتائج وفق صيرورة الحياة الاجتماعية التي انتهى إليها عصر الظلمة الأوروبية، سعادة يغوص في أعماق التجربة التاريخية للشعوب والمجتمعات في مختلف أجزاء العالم ليبني بعد ذلك مقولاته في الوحدة والاتحاد والأمة والقومية، وإن كنا مضطرين لطرح بعض الأمثلة على ما تقدم، فما ذلك إلا للتدليل على الاختلاف بين دراسة الواقعة التاريخية من وجهة نظر عالم اجتماع ووجهة ناقد صحفي..

فسعادة يبتدئ بحثه من العصر الحجري يقول: (وممّا لا شكّ فيه أنّه بينما كانت أوروبة في إبّان العصر الحجريّ المتأخّر وكان بعض مناطقها الشّماليّة (إسكندنافية) لا يزال في بدء هذا العصر، إذا بالعصر المعدنيّ ينبثق في سورية -(بلاد الكلدان- بابل وأرض كنعان)- وفي مصر..”، لينتقل لصيرورة التطور الاجتماعي عبر أدواته (المحراث، سلك البحار، اختراع اللغة، التجارة..) ليصل في نهاية المطاف إلى عصر الثورة الصناعية في أوروبا التي غيرت معالم الحياة الاجتماعية كليّةً، يقول: ”ظلّت العائلة محتفظة بمركزها أساسًا للتّنظيم الاجتماعيّ، ولكنّها لم تعد وحدة اقتصاديّة قائمة بأودها، بل أصبحت تعتمد على الإنتاج التّجاريّ المنظّم بالرّسمال، الأمر الّذي أدّى إلى ما عرف بالعمل البيتيّ للصّناعات اليدويّة.. كان هذا التّطور بداءة عودة الاقتصاد الاجتماعيّ بدلًا من الاقتصاد الفرديّ العائليّ.. احتفظت (العائلة) بكثير من خصائصها الاقتصاديّة حتى مجيء عصر الآلة المعروف بعصر الثّورة الصّناعيّة فأخرج الصّناعات اليدويّة الباقية من بيوتها وأخرج الصّناع من المصانع بالمئات والألوف، وأوجد هذا العصر، فيما أوجد، الآلة المنزليّة الّتي أخذت معظم عمل المرأة في بيتها وزال توزيع العمل بين الجنسين ولم يعد الزّواج مبدأ اقتصاديًّا يقوم على تقسيم العمل، الرّجل لأعمال التّحصيل والمرأة لأعمال التّدبير. فاضطرّت المرأة إلى إيجاد عمل لها خارج المنزل بدافع الحاجة إلى إيجاد عمل يشغلها وبدافع الحاجة المعاشيّة في نظام توزيع العمل والثرّوة الرّسماليّ الحاضر. ومن هذه الحالة نشأ تمييز العمل بين الإناث أيضًا وظهرت الحركة النّسائيّة الحديثة. وهذه الظّاهرة الاجتماعيّة الحديثة هي السّبب في حياة المرأة العصريّة، الغربيّة خصوصًا، الّتي يريد الكتّاب الّذين لم يعنوا بدرس سنن الاجتماع، أن يفضّلوا المرأة الشّرقيّة عليها، لحشمة هذه وحيائها ولسفور تلك وإقدامها وتطرّفها.. إنّ الثّورة الصّناعيّة وضعت الاجتماع على أساس جديد. فهي لم تقتصر على سلب العائلة صناعاتها وصاحب الحرفة الفرديّة حرفته، بل هي أوجدت المعامل والمصانع الكبيرة الّتي تضمّ مئات وألوفًا من العمّال في كلّ معمل أو مصنع. فنشأت في المدن والمناطق الصّناعيّة هذه الطّبقة من العمّال، الّتي عرفت في التّعابير العصريّة بلفظة [بروليتارية] (Proletariat)، والّتي أصبحت في العقود الأخيرة قوة سياسيّة هائلة، لأنّها تختلف عن الطّبقة الزّراعيّة المتّصفة بالجمود (109) الّتي، لبعدها عن مراكز الثّقافة المتمدّنة وانتشارها على أبعاد شاسعة، لم تتسنّ لها وسائل الاتحاد وتنظيم صفوفها وتكوين قوّة سياسيّة متحرّكة..”.

وكما هو واضح الفرق بين ما يقدّمه الحصري كناقد، وما يبني عليه سعادة مقولاته في الاجتماع..

 والحال، نعيد ونكرر أننا نظلم سعادة كثيرًا في مقارنته بالحصري، لكننا في سياق نقد ما جاء به الحصري، مضطرون لظلم سعادة، آملين أن يغفر لنا سعادة هذا الذنب..

نعيد هنا ما كنا قد ذكرناه آنفًا من أن الحصري يُقحم نفسه في مضمار لا يمتّ إليه بصلة، وأننا نظلم سعادة كثيرًا عندما نأتي على بعض الخلاصات التي انتهى إليها في مؤلفه نشوء الأمم، وفيما ألقاه من خطب ومحاضرات ورسائل ومقارنتها بأقاويل ما جاء على لسان الحصري، إذ كيف يمكننا مقارنة عالم اجتماع بأقوال ناقد صحفي، ذلك أن الحصري يقدّم لنا جملة من وجهات نظره فيما كتبته هذه الصحيفة أو تلك في موضوع شائك ومعقد كل التعقيد، كما أشرنا آنفًا أيضًا، قد لا يكون كاتب المقال على اطلاع بأسس ما يكتبه، كما الحصري الذي ينتقد في علم لم يفقه منه حتى اسمه، وهو الأقرب لكونه سياسيًّا من كونه دارسًا في علم اجتماع.. لذا فإننا نكتفي بما سبق أن سقناه من أمثلة للتدليل على الفارق بين سعادة والحصري والمنهج الذي يتّبعه كلاهما في فهم الظاهرة الاجتماعية، وكيف أن سعادة يتّبع منهجًا تحليليًّا وتركيبيًّا وفق منهج وصفيّ أحيانًا ومعياريّ في أحيان أخرى ليصل من خلاله لخلاصة تشكّل جانبًا من جوانب مقولته الرائدة في /أن المادة تعيّن الشكل/، لكن وبعد أن نكون قد أوجزنا مختلف وجهات نظر الحصري في العروبة وفي دفاعه عنها:

مقتطفات من مقالات تضمّنها كتاب

/العروبة بين دعاتها ومعارضيها/:

العنصرية

نستعرض فيما يلي بعضًا من رؤى ساطع الحصري، لنصل بعد ذلك لنقده فكر سعادة، فتحتَ عنوان (العنصرية) يصل، بعد نقده لهذه النظرية للنتيجة التالية:

”إن جميع الأمم مختلطة ومتداخلة من حيث الأصل والدم.. إنني أشبّه الأمم من هذه الناحية بالأنهر العظيمة، فمن المعلوم أن كل نهر من الأنهر، تجري فيه المياه أتت من منابع ومصادر مختلفة، والأنهر الكبيرة كثيرة المنابع وعديدة الروافد بوجه عام.. فيجدر بنا نحن العرب أن نحذو حذو هؤلاء، قد لا نعرف ما إذا كان بربطنا شيء من أواصر القرابة والنسب بسعد بن أبي وقاص، أو خالد بن الوليد، أو ابن الهيثم، أو أبي العلاء المعري، ولكننا مع ذلك يجب أن ننتسب إلى هؤلاء وإلى أمثالهم، ونعتبرهم أجدادنا المعنويين، ونفتخر بهم أكثر مما نفتخر بأبناء أسرنا الحقيقيين..”.

عندما نقول إننا نظلم سعادة كثيرًا بمقارنته بساطع الحصري، فإننا في واقع الحال نرفع من قيمة الأخير، لكننا مرغمون على ذلك، لبيان ما نحن ذاهبون إليه، ففي هذا النص نجد أن ساطع الحصري يقدّم حقيقة علمية مجزوءة، ولجزئيتها يعود وينقلب عليها بقوله /يجب أن ننتسب لهؤلاء../ فهذه الـ(يجب) لا وجود لها في علم الاجتماع كما هي في علم الصحافة، هذه الـ(يجب) تأتي كحكم لا علاقة له بما سبقه من إقرار بالخليط والتداخل، لم يقدّم لنا الحصري أي دعائم تقوم عليها هذه الـ(يجب)، لم يقدّم لنا الدليل العلمي لهذه الحقيقة العلمية، ومثال الأنهر الذي يقدمه، لهو من الهشاشة بمكان؛ يؤكد أن صاحبنا لا علاقة له بما هو ماضٍ لبيانه..

سعادة، يقدم لنا دراسة معمقة للتأكيد على أن المزيج السلالي هو الأصل الوحيد اللازم والكافي للأمة، من مدلول السلالة العلمي إلى نقيضها العامي، إلى الخلاصة التي تقول إن السلالات هي -من وجهة نظر سعادة وسعادة فقط- هي نتيجة سلسلة من التطورات التي كانت استجابة لتطورات البيئة قبل استقرارها على الحال الذي نعرفه بها الآن، ويضيف، إنه بعامل الترحال طلبًا للرزق- مهما تكن دوافعه من جفاف أو أخطار أو ما شاكل ذلك، دفع تحت جملة العوامل والظروف لامتزاج بشري بشكل أدى بالضرورة الطبيعية لظهور مزيج هنا وآخر هناك، لعبت فيه البيئة الطبيعية دورًا حاسمًا في تقرير مراتبه الثقافية، مما أدى بطبيعة الحال لظهور مزيج يرقى باستجابته لمحرضات بيئته، وآخر ينحطّ لانغلاقه على ذاته استجابةً لمحرضات بيئة لم تسعفه إمكانياتها على التطور، كالصحارى الرملية أو الثلجية على حدٍّ سواء، ويقدّم لنا مثالًا على أن نوعية المزيج السلالي غير الراقي كيف يكون غير قادر على استغلال بيئات زاخرة في الإمكانيات، فيبقى على حالة انحطاطه، ويضرب لنا مثالًا حياتيًّا على ذلك (الهنود الحمر) الذين بقوا عصورًا على ما هم عليه من البدائية حتى جاءهم المستعمر الأوروبي، الذي استجاب لمحرضات البيئة، فأقام حضارته الأميركية على تلك الإمكانيات التي زخرت بها البيئة الطبيعية الجديدة، سعادة لم يتعاطَ بالأنهر والروافد والينابيع، سعادة قدّم دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية والتي هي شخصية الأمة التي تكوّنت عبر الأجيال.. فالدورة تعني أن أجيال الأمة متصلة بعضها ببعض من خلال استجابتها لمحرضات ذات البيئة، وهذه الاستجابة هي التي تشكّلَ من خلالها المزيج السلالي المادي (الدموي) والنفسي (الإبداع والخلق)..

تعدد الدول بتعدّد اللهجات:

في سياق آخر، وتحت عنوان /تعدد الدول بتعدد اللهجات/ يقول ردًّا على جريدة العمل الناطقة باسم حزب الكتائب ونظريتها التي تتلخص في /حدود كل لهجة هي ذاتها حدود كل دولة/، يقول في دحضه لهذه النظرية: “أنا لا أسلّم بوجود لهجة عراقية (متجانسة ضمن حدود العراق) و(مختلفة عن لهجات الجيران والإخوان).. إن ما يسمى (باللهجة العراقية) ليس -في حقيقة الأمر- إلا لهجة بغداد- وما يتصل بها من أواسط بغداد.. هذا، وإني أستطيع أن أقول نفس الشيء، بكل تأكيد عن سورية ومصر.. وأستطيع أن أؤكد بأن اللهجات في البلاد العربية كثيرة ومتنوعة جدًّا: فلو كان (عدد الدول وحدودها) من الأمور التي تُعيَّن وتُقرَّر بعدد اللهجات وحدودها، لوجب أن تنقسم كل واحدة من الدول العربية القائمة الآن أيضًا إلى دول..”.

هذا التقرير غير المستند لمعطيات علمية أو تاريخية أو ثقافية لا يقدم ولا يؤخر في إثبات صحة أو خطأ نظرية، فأي كان يستطيع أن يقرر ما شاء له التقرير، لكننا حيال الحقائق العلمية لا يمكننا التقرير إلا إذا توفرت لنا تلك الأدلة التي يمكن اعتمادها كقواعد لما نستخلصه من تقاطعاتها وديمومة تأثيرها وتاليًا تكراريتها، للخلوص لقانون تجد لها به مكانًا وتكون إحدى مبررات الأخذ به.. إن المقولة أو الناموس عند سعادة وسعادة فقط، هو ”إنّ النّاموس اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة، نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب أن لا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة، فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها..”.

فاللهجات بالنسبة لسعادة، نتيجة لخاصية الاشتراك في الحياة وتاليًا، فسعادة يعتبر أن اللهجة هي صفة ونتيجة للاشتراك في الحياة لا سببًا من أسبابه، وعليه يكون ”إنّ هنالك صفات عامّة تسري على جميع البشر من غير أن تجعل منهم متّحدًا. فالمتّحد هو دائمًا أمر واقع اجتماعيّ. وإنّ من الصّفات ما قد يميّز جماعات من النّاس عن جماعات أخرى من غير أن يعني ذلك وجود متّحد منها. فإنّ الصّفات تتبع المتّحد لا المتّحد الصّفات.. (هذا) التّخبّط الّذي يجرّنا إليه حسبان صفات مشتركة أساسًا للمتّحد. إذا سلّمنا بهذه النّظريّة، سلّمنا بأنّ الصّفات من عادات وتقاليد ومناقب هي صفات ثابتة لا تتغيّر ولا تتحوّل ولا تنتقل ولا تكتسب، حيث يتحتّم على المشتركين في مجموعة معيّنة منها أن يُكوّنوا متّحدًا خاصًا محدّدًا بهذه الصّفات كلّ التّحديد أو يمتنع عليهم الدّخول في متّحد تسري عليه صفات تتميّز عن صفاتهم، ويكون الاختلاف في الصّفات بمثابة اختلاف طبيعيّ وراثيّ. وهذا يعني ألاّ يؤمّل السوريون والإنكليز والطليان والألمان إنشاء متّحد في نيويورك أو في الولايات المتّحدة عامة، أو الدّخول في المتّحد الأميركاني، لأنهم أقوام لكلّ منها صفات خاصّة تميّزه عن القوم الآخر، أو تختلف عن الصّفات السّارية على محيط المتّحد الأميركاني، ولكنّنا كلّنا نعلم أنّ السّوريّ الّذي يهاجر إلى أميركا لا يلبث، إذا أقام، أن تتبدّل صفاته الخاصّة ويكتسب صفات المتّحد الأميركاني الخاصّة. فكيف زالت صفاته الأولى الثّابتة الّتي كانت تميّزه عن الأميركان، ومن أين جاءته الصّفات الأميركانية الّتي أصبحت تميّزه عن السّوريّين؟ أليس في هذا الواقع برهان مفحم على أنّ الصّفات ليست أساس المتّحد وأنّ أساس المتّحد والصّفات هو الاشتراك في الحياة الواحدة؟ بلى. فحيثما اجتمع جمهور كبير من السّوريّين في أميركا وقلّ اختلاطهم مع الأميركان وظلّوا محافظين على اشتراكهم في حياتهم، في متحدهم، فهم يكتسبون كثيرًا من طابع البيئة ولكنّهم يظلّون متّحدًا متميّزًا عن الأميركان بنسبة إقلالهم من الاشتراك في الحياة الأميركانية وعكفهم على حياتهم السّوريّة. وكلّما قلّ تعاشرهم فيما بينهم وازداد اشتراكهم في الحياة الأميركانية ازداد تخلّقهم بأخلاق الأميركان واكتسابهم صفاتهم. وإذا كانت أميركا بعيدة على القارئ في سورية فلنأخذ مصر مثلًا. ألسنا نرى اشتراك السّوريّين المقيمين في مصر في الحياة المصريّة يكسبهم، تدريجًا، صفات مصريّة فيعود واحدهم إلى سورية يخاطبك بلهجة [ازيّك] بدلًا من [كيف حالك] و[خبر إيه؟] بدلًا من [شو صار] الخ. أو ليس عدم حصول هذه الصّفات لهم إلاّ بعد إقامتهم في مصر دليل على أنّ صفات المتّحد قائمة على أساس الاشتراك في الحياة، لا أنّ الاشتراك في الحياة قائم على أساس الصّفات؟ (يضيف موضحًا بالأمثلة الملموسة) ”.. إذا أخذنا الشّوير مثلًا وجدنا أنّ للشّويريّين لهجة خاصّة في النّطق، واشتراكًا في صفات نفسيّة أو خلقيّة خاصّة كاشتهارهم بالصّلابة والعناد، وعادات ومظاهر خاصّة في نوع معيشتهم والحرف الّتي يحترفونها، ناتجة عن اختباراتهم الخاصّة. ولا بدّ لمن هو غير شويريّ من ملاحظة بعض مظاهر خاصّة من حياة الشّويريّين اليوميّة. ومع أنّ عادات ومظاهر أهل بكفيّا تقرب كثيرًا من عادات ومظاهر أهل الشّوير فإنّ لكلّ واحدة من هاتين البلدتين بعض الصّفات الخاصّة الّتي لا بدّ أن يظهر أثرها وفرقها في المعاشرة، لتدلّ على أنّ ابن الشّوير وابن بكفيّا من متّحدين لا من متّحد واحد. فهل يعني ذلك أنّهما من متّحدين، لأنّهما متميّزان الواحد عن الآخر، أو أنهما متميزان، لأنهما من متحدين اثنين؟ ولا شكّ أنّ الوجه الثّاني هو الصّواب في بحثنا عن السّبب، في حين أنّ الوجه الأوّل صواب في الاستدلال، لأنّنا نرى الشّويريّ والبكفييّ يفقدان خصائصهما المميّزة إذا تركا متّحديهما وسكنا بيروت، مثلًا، مدة طويلة تسمح للبيئة الاجتماعيّة بالتّأثير عليهما أو إذا جيء بهما إلى بيروت طفلين وربيا فيها. وليس من ينكر الفوارق بين متّحدي بيروت ودمشق، مثلًا، فلهجة البيروتيّ ومظهره الخارجيّ ونوع حياته، من الوجهة الخاصّة، وبعض اتّجاهاته النّفسيّة، كلّ هذه تميّزه عن الدّمشقيّ. ولكنّ جميع هذه المتّحدات الصّغيرة وألوفًا مثلها تؤلّف متّحدًا واحدًا هو المتّحد القوميّ أو متّحد الأمّة أو متّحد القطر، أسماء لمسمى واحد. وهي في مجموعها تشكّل وحدة يعمّ في أفرادها التّجانس العقليّ والتّجانس في الهيئة والمظهر، التّجانس الّذي هو أكثر وأقوى من الفوارق الجزئيّة. وشرط كلّ متّحد يصحّ أن نسمّيه متّحدًا أن يكون تجانسه أقوى وأكثر من تباينه..”.

– ولكنّ البيئة الواحدة جعلت الوحدة السّياسيّة أمرًا لا مفرّ منه، فكانت هذه الوحدة السّياسيّة الشّرط الأوّل لتوّلد الوحدة الشّعبية الّتي نشأت فيما بعد بعامل الاشتراك في الحقوق الدوليّة.

– فلم تعد العامّة تبعًا للأمير تخدم مصلحته وتحتمي في ظلّه، وهو سيّدها الأوحد، وعلاقة الملك بأبناء الدّولة هي علاقته بالأمير فقط. كلاّ. بل أصبحت العامّة لها رأي وإرادة، وهذه الإرادة شرعت تميل نحو الملك، لأنّ الملك كان يمثّل وحدة الدّولة ووحدة السّلطة ووحدة المصلحة ووحدة الشّعب. إنّ مصلحة الشّعب ومصلحة الملك كانتا، بطبيعتهما، ضدّ مصلحة الأرستقراطيّة الإقطاعيّة الاستثماريّة المتسلّطة المستعبدة الّتي كانت حائلًا قويًّا دون ظهور الإرادة..

– إنّ استيقاظ الشّعور بالوحدة الحيويّة والمصلحة الواحدة والرّابطة الواحدة بالحياة في أشكالها وأسبابها واتّجاهها جعل الجماعة تدرك وجودها وجهّزها بوسائل التّعبير عن إرادتها، فكان ذلك بدء نشوء القوميّة..

نعود ونكرّر، إننا نظلم سعادة كثيرًا عندما نعمل على مقارنته بناقد صحفي، لكننا مضطرون إلى ذلك نظرًا لكون هذا الناقد الصحفي (ساطع الحصري) كان الأبرز في دفاعه عن العروبة من جهة، ولأنه قام بنقد فكر سعادة، وتحديدًا لمفهوم الأمة والقومية من جهة أخرى.

نقد آراء أنطون سعادة:

 تحت عنوان /نقد آراء أنطون سعادة- مؤسس الحزب السوري القومي/ يقدّم لنقده (آراء) سعادة أنه “لم يظهر في العالم العربي، إلى الآن، حزبٌ يضاهي الحزب السوري القومي في الاهتمام بالدعاية المنظمة التي تخاطب العقل وفي التنظيم الحزبي الذي يعمل في السر والعلن بلا انقطاع.. فيجدر بنا أن نتساءل: ما هو حظ هذا التيار القوي من الصواب والصلاح؟ ويجيب على تساؤله بالقول: ”أسّس سعادة حزبه لمحاربة روح الطائفية والنزعة الانعزالية اللتين لاحظهما في لبنان، في الوقت الذي ما كان يعرف بعد، شيئًا يذكر عن أحوال سائر البلاد العربية، لذلك أخذ يدعو إلى فكرة (القومية السورية) مندّدًا بالانعزالية اللبنانية الضيقة من ناحية، وبالقومية العربية من ناحية أخرى..”.

سبق لنا أن أشرنا، من خلال التعريف بساطع الحصري ومناقشة بعض آرائه في العروبة ونقده لما جاء في جريدة (العمل) الناطقة باسم حزب الكتائب اللبناني، أنه يفتقر لتحديد مدلولات المصطلحات التي يستخدمها، وهذا ما يضفي عليه صفة (ناقد صحفي) لأن عالم اجتماع أو دارس في علم الاجتماع لا بدَّ له من تحديد للمصطلحات التي يستخدمها لتعطي المدلول الذي يقصده من استخدامها، فلا تبقى مشرّعة المعنى والهدف، فقوله: ”لم يظهر في العالم العربي..” يفيد أنه يستخدم مصطلح ”العالم العربي” بمعنى ”الأمة العربية”، وهذا يدل على أنه يخلط بين مفهوم مصطلح الأمة والعالم، والبون شاسع بين مفهومي المصطلحين، بينما، وعلى سبيل المثال لا الحصر، سعادة يستخدم مصطلح ناموس معرّفًا ما يقصده بهذا المصطلح، يقول: ”النّاموس اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب أن لا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة، فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها. فكوننا اكتشفنا ناموسًا أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب أن لا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى، فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع. وإذا كنّا قد اكتشفنا سنّة التّطوّر فيجب أن لا نتّخذ من هذه السنّة أقيسة وهميّة تذهب بنا إلى تصّورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة.” وعندما يأتي على ذكر السلالة، لا يتركها دون تعريف بها، يقول: ”إذا وضعت تحت البحث قبيلة من القبائل أو شعبًا من الشّعوب وأخذت تعود القهقرى بأنسابه حتّى تردّها إلى أب واحد، ثمّ تردّ هذا الأب إلى عائلة متفرّعة من أبناء نوح، وتستمرّ في ذلك حتّى تبلغ إلى آدم، وقسّمت بعد ذلك الأقوام البشريّة على هذه القاعدة إلى فروع آدم وهميّ وقلت إنّ معنى السّلالة مشتقّ من هذا التقسيم، فإنّك قد اختلط عليك علم السّلائل وعلم الأنساب، فلا تميّز بين الواحد والآخر..”.

“.. بيد أنّه على مثل هذا جرى الأوائل في العصور المتمدّنة الأولى، فكان النّسب عندهم أصل الأجناس وعليل حدوثها، لأنّ ما استندوا إليه في معرفة ذلك كان حكاية الخلق الخياليّة الّتي تنوّعت رواياتها في متعدّد الأديان. ومن غريب هذه الرّوايات ما نقله المسعوديّ(6) مستندًا إلى [ما جاءت به الشّريعة ورواه الخلف عن السّلف والباقي عن الماضي]، وهو أنّ السّبب في اختلاف ألوان البشر يعود إلى أنّ ملك الموت الّذي أرسله اللّه أخيرًا ليأتيه بطينٍ من الأرض يخلق منه آدم أتاه بتربة سوداء وحمراء وبيضاء فلذلك اختلفت ألوان ذرّيّته. وعلى هذا لا يكون البشر إلاّ ذرّيّة تربطها الأنساب، وبدهيّ أنّ مثل هذا القول لا يوصلنا إلى حقيقة مدلول السّلالة أو ماهيّتها..”.

“.. إذا تركنا وجهة التّخمين والتّقديرات التّخيّليّة في الفوارق الظاهرة في جماعات النّوع البشريّ وبحثنا عن مدلول كلمة [السّلالة] العلميّ، وجدنا أنّ هذه اللّفظة هي من مصطلحات العلم الطّبيعيّ. والغرض منها تقسيم النّوع الواحد إلى فروع (أجناس) تتوارث صفاتها ومزاياها الخاصّة(7)، أمّا النّوع فيقصد منه تحديد الكائنات الحيّة الّتي ينتج تزاوجها نتاجًا ناجحًا يكون له ذات المقدرة بلا حدود(8). فالأجناس تقبل الاختلاط والتّزاوج والإنتاج ويمتنع ذلك في الأنواع إلاّ شذوذًا نادرًا..”.

وعندما يأتي أيضًا على مفهوم مصطلح الحقيقة، نراه يحدّ مفهوم هذا المصطلح من جوانب عدة، يقول: ”التعيين هو شرط الوضوح، والوضوح هو الحالة الطبيعية للذات المدركة الواعية الفاهمة. كل مطلق ليس واضحًا هو نسبي مهما قيل إنه مطلق غير نسبي. كل مطلق مبهم هو لا شيء. المطلق الذي هو شيء هو المطلق الواضح. فإذا وجدنا أمامنا مطلقًا غير واضح، إذا افترضنا أي مطلق افتراضًا وابتدأنا نحوم حول فهم هذا المطلق ومعرفته، فإننا قد عيَّنا مبهمًا للخروج من جدل لم نصل فيه إلى الحقيقة. فكل لا وضوح لا يمكن أن يكون أساسًا لإيمان صحيح، وكل لا وضوح لا يمكن أن يكون قاعدة لأي حقيقة من جمال أو حق أو خير. فالوضوح -معرفة الأمور والأشياء معرفة صحيحة- هو قاعدة لا بد من اتّباعها في أية قضية للفكر الإنساني وللحياة الإنسانية.. ففي العقائد التي تمتّ إلى الإنسان الحر بصلة لا يمكن الاستناد إلى أي قول استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية لها علاقة بالإنسان المجتمع. فلا بد لقيام الحقيقة من شرطين أساسيين: الأول الوجود بذاته أي أن يكون الشيء موجودًا. والثاني أن تقوم المعرفة لهذا الوجود. والمعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن أن تكون له بدونها..”.

“.. والذين يستغنون عن المعرفة الإنسانية لتقرير الحقيقة ولقيامها يفترضون معرفة أخرى لهذه الحقيقة. لكن لا يكفي تحديد الوجود لقيام الحقيقة، فالوجود يجب أن يصير معرفة ليكون حقيقة، أي إنه يجب أن يعرف إما من قبل الإنسان وإما من قبل الله…”.

“.. لا يمكننا أن نتصور وجودًا بلا معرفة. فلا يمكننا أن نقول إن لأي وجود مفترض، غير مدرك بالمعرفة، قيمة الحقيقة، لأن الحقيقة قيمة إنسانية نفسية، والإنسان هو وحده الذي يميّز بين الحقيقة والباطل بالمعرفة.”.

هكذا، فسعادة لا يترك مجالًا للشك فيما يعنيه بأي من المصطلحات التي يستخدمها، على العكس من الحصري الذي يستخدم المصطلحات متداخلة بعضها ببعض، فعندما يقول: ”لم يظهر في العالم العربي..” فهو يستخدم مصطلح ”عالم عربي” بمعنى الأمة، بينما يأتي سعادة على ذكر العالم العربي بمعنى عالم لغوي كما في “العالم الفرانكوفوني”، أي الأمم أو الدول الناطقة باللغة الفرنسية..

سعادة يقول بعالم عربي ينتفي فيه مصطلحا الأمة والقومية، يقول: ”ماذا نعني بكون الأمة السورية إحدى أمم العالم العربي أو إحدى الأمم العربية؟ هل نعني أن السوريين هم جزء متمم للعرب (أهل العربة أو الصحراء) يشكلون معهم شعبًا واحدًا خاصًا يجب أن يرجع إلى الأصل؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف نوفق بين أن سورية أمة تامة ولها “قضية مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى.. يوجد عالم يدعى العالم العربي. والسبب في دعوة هذا العالم كذلك هو سبب لغوي ديني في الأساس. فهنالك عالم عربي باللسان، ويمكن أن نتدرج ونقول عالم عربي بالدين الذي يحمل كثيرًا من بيئة العرب وحاجاتها ونفسيتها والذي هو أهم عامل يصل بين أمم العالم العربي اللسان. أما من حيث وحدة الحياة التي هي حقيقة وجود الأمة، فلا يوجد لهذا العالم وحدة يمكن أن تجعل من مجموع الكتل الموجودة ضمنه كتلة واحدة أو شعبًا واحدًا أو أمة واحدة أو دولة واحدة قائمة على الإرادة العامة..”.

“.. فنحن حين نقول العالم العربي، نعني هذا العالم الذي يتكلم اللسان العربي ونحن منه. وهذا التفسير يوضح كيف أن سورية يمكن أن تكون إحدى الأمم العربية وتبقى أمة متميزة بمجتمعها وتركيبها الأثني ونفسيتها وثقافتها ونظرتها إلى الحياة والكون والفن. ويجب منطقًا وعلمًا، قبول هذا الواقع كما يجب قبول أن الأرجنتين هي إحدى الأمم الإسبانية في أميركا الجنوبية وكما أن كندا هي إحدى الأمم الإنقليزية أو الأنقلوسكسونية باعتبار امتداد اللسان. وأن بين الأرجنتين وإسبانية وبقية الأمم الإسبانية من روابط اللسان والدم والثقافة والنفسية، وبين كندا وأسترالية أو أميركانية وبقية الأمم البريطانية أو الأنقلوسكسونية من الروابط المذكورة، أكثر مما بين سورية وبقية أمم العالم العربي أو مثلما بينها، على الأقل..”.

“.. بهذا المعنى إذًا وبدون أي تعريض لمبدأ القومية السورية يمكننا أن نسمي سورية إحدى أمم العالم العربي، على أنها أمة مستقلة تتكلم اللسان العربي العزيز عليها، ليس لأنه اللسان الذي فرض عليها بعامل الفتح الديني، بل لأنها أنتجت من نفسيتها وعقلها وغذّته بإنتاجها وثقافتها فهو عزيز عليها بما يشتمل عليه من فكر ونفسية وأدب سوري..”.

أما قوله: ”.. في الوقت الذي ما كان لا يعرف بعد، شيئًا يذكر عن أحوال سائر البلاد العربية..”، فينبئ عن نقص مريع في دراسة ما تركه سعادة من دراسات حول العالم العربي، فإذا تجاوزنا مرغمين ما أورده في مؤلفه نشوء الأمم ومن كتابات وخطب ومقالات بعد تأسيسه الحزب السوري القومي الاجتماعي، وعُدنا إلى ما خطّه من مقالات حول هذا العالم العربي، ما قبل التأسيس، نجد أن ما يقوله الحصري، ليس الإجحاف بحق سعادة، بل إنه الحكم على نفسه بأنه لم يقرأ سعادة بما فيه الكفاية ليصدر حكمًا اعتباطيًّا في قوله آنف الذكر..

إن اشتغال سعادة محرّرًا في صحيفة والده الدكتور خليل سعادة، دفعه لتتبع الحدث السياسي والاجتماعي والثقافي وغير ذلك من قضايا الفن والموسيقى والشعر..، تاليًا شكّل مجال عمله دافعًا له للبحث والتدقيق في كل ما استدعى تساؤله عن شأنٍ ما أو قضية بعينها، وهذا ما وسَّعَ من أفقه البحثي، ولأنه اهتم بقضيته السورية منذ نعومة أظفاره، فهذا لا يعني أنه لم يولِ قضايا أخرى متصلة بقضيته الرئيس بشكل ما من الأشكال، حتى تلك القضايا التي لم تكن تتطلب منه سوى تقييمها كحدث عالمي، متعلق بصورة ما برؤيته لعالم تُمحى به الصراعات والتنافس على الموارد التي كانت تشكل بالنسبة إليه صراعًا محمومًا عليها من أجل البقاء، فنراه يبحث في قضايا السياسة الفرنسية أو الإنكليزية أو الأميركية وقضايا أخرى أوروبية، وهكذا نجد أنه في مجمل اهتماماته لم يكن العالم العربي بمعزل عنها، فيكتب في كيفية استيلاء عبد العزيز بن سعود على السلطة في شبه الجزيرة العربية تحت عنوان /الفاتح العربي الجديد/ بتاريخ 1/10/1924 و(استقلال مراكش الإسبانية) بتاريخ 1/3/ 1925, وتحت عنوان /مباحث تاريخية- الخلافة في الإسلام/ بتاريخ 1/4/1924، تحت عنوان /لجنة التمثال تهين شعور العالمين المسيحي والإسلامي/ بتاريخ 8/7/1922، وبتاريخ 1/2/1924 يكتب حول المؤتمر السوري الفلسطيني، معالجًا به القضية السورية وعلاقتها بالعالم العربي الذي لم يكن قد تشكّل بعد، لا في الواقع أو كما رسمه في مخيلته الحصري، ولا كما نادى به البعث:

فتحت عنوان ”القضية الوطنية -العودة إلى محجَّة الصواب- خطوة جديدة نحو الفلاح بتاريخ 1/2/1924، يقول:

“.. فمن هذه النظريات نظرية الأحزاب التي خلطت بين القضية الوطنية السورية وبين القضية العربية العامة، ذاهبة إلى أنّ سورية جزء متمم لبلاد العرب وولاية من ولايات المملكة العربية. ومنها نظرية الأحزاب التي، لتخوُّفات دينية وغير دينية، ذهبت إلى أنّ لبنان منفصل عن سورية وكذلك فلسطين وغيرها من أقسام سورية، إلى غير ذلك من النظريات الأخرى. بيد أنّ هذه النظريات التي لم يكن بحسب أصحابها أنها متطرفة، ابتدأت في التحوُّر والتحوُّل. بل قد تحورت وتحولت إلى نظرية واحدة معقولة يمكن تنفيذها وإخراجها إلى حيّز الفعل، كما تتحور وتتحول بعد الامتحان كل النظريات غير المبنية على التّروّي والإمعان والدرس والاختبار. والنظرية التي قلت إنّ النظريات المتطرفة في قضيتنا الوطنية قد تحوّلت إليها هي التي جاءت في البيان الآتي، الذي وردنا من اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني بمصر:

«مصر في 10 يناير سنة 1924

«بيان من اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري- الفلسطيني

«عُقد اجتماع في مركز اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني بمصر في 45 شارع عابدين مساء يوم الثلاثاء الواقع في 8 يناير الجاري، ضم عددًا كبيرًا من ذوي الفضل والمكانة من السوريين المقيمين في مصر. وتبادلوا الآراء في ما يجب إجراؤه تجاه زيارة جلالة الملك حسين لعمّان، فأجمعت آراؤهم على اختيار وفد مؤلف من نسيم أفندي صيبعه ونجيب بك شقير وسليم أفندي سركيس للذهاب إلى عمّان للترحيب بجلالته. وعيّنت مهمة الوفد في البيان الآتي الذي تقرر وضعه ونشره بالإجماع وهو:                       

«إنّ السوريين، وأمامهم بولندا التي اقتسمها الألمان والروس والنمساويون، ما زالوا ولن يبرحوا يعدّون سورية بحدودها الطبيعية وحدة لا تتجزأ مهما طرأ عليها من التقلبات الوقتية. ولذلك فهم يعتبرون زيارة جلالة الملك حسين لنجله الأمير عبد الله في عمّان زيارة لسورية في نفس الوقت. وبالنظر إلى تصريحات جلالته الشفهية والخطية في أوقات متعددة، وقوله حفظه الله أنه لا يرمي من وراء السعي إلى استقلال سورية أي غرض عائلي بعيد أو إلى مصلحة شخصية قريبة ولكن إلى إعلاء شأن الجنس العربي الذي يعتزّ به ومحبّة القريب، والعمل بما جاء في الكتاب العزيز من حفظ الجوار ومناصرة الجار، رأى السوريون المجتمعون للنظر في هذا الأمر في مصر إرسال وفد للترحيب بجلالته والتأكيد لذاته الملوكية، إذا اقتضت الحال وصحّت إشاعات الجرائد والشركات البرقية، أنّ السوريين لا يتحولون عن مطلبهم الجوهري الذي اتّفقت عليه برامج أحزابهم المختلفة، وهو استقلال سورية التام بحدودها الطبيعية. ولا يحق لهذا الوفد أن يدخل في مفاوضة في أي سعي يكون مخالفًا لهذا البرنامج. ولكي لا تحوم الظنون والشبهات حول مقاصد هذا الوفد وغاياته، نشرنا محضر جلسة تأليفه هاته على صفحات الجرائد ليطّلع عليها السوريون دانيهم وقاصيهم، ويكونوا على بينة من القصد الحقيقي لإرساله وعلى علم تام بمهمته المحدودة، فلا يلجؤون إلى التأويل والتفسير».

يضيف سعادة معلّقًا على ما ورد في البيان المذكور قائلًا: ”.. لا نريد الآن أن نعود إلى تلك الأيام التي كانت لدى كل وطنيّ مخلص يقدّر عواقب الأمور جحيمًا له على الأرض. ولكننا نريد أن نبحث قليلًا في هذه النظرية المعقولة التي أجمع عليها السوريون والأحزاب السورية، وأذاعتها اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني في بيان صريح هو الأول من نوعه على ما نعلم في تاريخ مؤتمراتنا. ثم نلقي نظرة على تأثير هذه النظرية في نهضتنا الوطنية، وما هو شأنها في حاضرنا ومستقبلنا من حيث كوننا أمة تريد أن تحيا..”

يمكننا الآن أن نقول إنّ كل النظريات المتطرفة التي رافقت سنيّ جهادنا الوطني الماضية، والتي كان لها شأن كبير في عدم إيجاد حركة وطنية منظمة تجري في أعمالها على الضبط والدقَّة المطلوبة لنيل الغاية الشريفة المنشودة، قد ابتدأت الآن، بعد اختبارات طويلة كلّفتنا أثمانًا باهظة، تتحوّر تحوُّرًا يضمن انطباقها فلسفيًّا ومنطقيًّا على الطور العملي الذي نرجو بواسطته أن نبلغ الغرض المقدس الذي نتوق ونسعى إليه، لأنه يرفعنا من درجة البهائم والدبابات التي يشبُّهنا بها مستعبدو أوطاننا إلى مرتبة نكون فيها بشرًا أحرارًا نعيش في بلادنا بالصورة التي نراها أفضل لسعادتنا وراحتنا، كما تعيش الشعوب الحرة في بلدانها بالصورة التي تراها أضمن لراحتها وسعادتها، ألا وهو الاستقلال..

لا أعني بالنظريات المتطرفة المرامي الحقيرة التي ذهب وراءها المتزلفون وبعض المدّعين الذين اغتنموا الفرصة للظهور، بل أعني بها النظريات التي عمل في سبيلها أحرار مخلصون ذوو نيات حسنة. وهي كلها ترمي في جوهرها إلى الاستقلال، إلا أنّ تطرُّفها كان في كيفية الاستقلال ومبلغه ونوعه ومشتملاته. فمن هذه النظريات نظرية الأحزاب التي خلطت بين القضية الوطنية السورية وبين القضية العربية العامة، ذاهبة إلى أنّ سورية جزء متمم لبلاد العرب وولاية من ولايات المملكة العربية. ومنها نظرية الأحزاب التي، لتخوُّفات دينية وغير دينية، ذهبت إلى أنّ لبنان منفصل عن سورية وكذلك فلسطين وغيرها من أقسام سورية، إلى غير ذلك من النظريات الأخرى. بيد أنّ هذه النظريات التي لم يكن بحسب أصحابها أنها متطرفة، ابتدأت في التحوُّر والتحوُّل. بل قد تحوّرت وتحوّلت إلى نظرية واحدة معقولة يمكن تنفيذها وإخراجها إلى حيّز الفعل، كما تتحور وتتحول بعد الامتحان كل النظريات غير المبنية على التّروّي والإمعان والدرس والاختبار. والنظرية التي قلت إنّ النظريات المتطرفة في قضيتنا الوطنية قد تحولت إليها هي التي جاءت في البيان الآتي الذي وردنا من اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني بمصر:

«مصر في 10 يناير سنة 1924..”

«بيان من اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني

«عُقد اجتماع في مركز اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني بمصر في 45 شارع عابدين مساء يوم الثلاثاء الواقع في 8 يناير الجاري، ضم عددًا كبيرًا من ذوي الفضل والمكانة من السوريين المقيمين في مصر. وتبادلوا الآراء في ما يجب إجراؤه تجاه زيارة جلالة الملك حسين لعمّان، فأجمعت آراؤهم على اختيار وفد مؤلف من نسيم أفندي صيبعه ونجيب بك شقير وسليم أفندي سركيس للذهاب إلى عمّان للترحيب بجلالته. وعيّنت مهمة الوفد في البيان الآتي الذي تقرر وضعه ونشره بالإجماع وهو:

«إنّ السوريين، وأمامهم بولندا التي اقتسمها الألمان والروس والنمساويون، ما زالوا ولن يبرحوا يعدّون سورية بحدودها الطبيعية وحدة لا تتجزأ مهما طرأ عليها من التقلبات الوقتية. ولذلك فهم يعتبرون زيارة جلالة الملك حسين لنجله الأمير عبد الله في عمّان زيارة لسورية في نفس الوقت. وبالنظر إلى تصريحات جلالته الشفهية والخطية في أوقات متعددة، وقوله حفظه الله أنه لا يرمي من وراء السعي إلى استقلال سورية أي غرض عائلي بعيد أو إلى مصلحة شخصية قريبة ولكن إلى إعلاء شأن الجنس العربي الذي يعتز به ومحبة القريب، والعمل بما جاء في الكتاب العزيز من حفظ الجوار ومناصرة الجار، رأى السوريون المجتمعون للنظر في هذا الأمر في مصر إرسال وفد للترحيب بجلالته والتأكيد لذاته الملوكية، إذا اقتضت الحال وصحّت إشاعات الجرائد والشركات البرقية، أنّ السوريين لا يتحولون عن مطلبهم الجوهري الذي اتفقت عليه برامج أحزابهم المختلفة، وهو استقلال سورية التام بحدودها الطبيعية. ولا يحق لهذا الوفد أن يدخل في مفاوضة في أي سعي يكون مخالفًا لهذا البرنامج. ولكي لا تحوم الظنون والشبهات حول مقاصد هذا الوفد وغاياته، نشرنا محضر جلسة تأليفه هاته على صفحات الجرائد ليطّلع عليها السوريون دانيهم وقاصيهم، ويكونوا على بينة من القصد الحقيقي لإرساله وعلى علم تام بمهمته المحدودة فلا يلجؤون إلى التأويل والتفسير».

«المؤتمر السوري الفلسطيني»- «اللجنة التنفيذية»

إنّ البيان المثبوت آنفًا يفيد بصورة لا تترك مجالًا لغموض «إنّ السوريين… ما زالوا ولن يبرحوا يعدّون سورية بحدودها الطبيعية وحدة لا تتجزأ مهما طرأ عليها من التقلبات الوقتية…»، وأيضًا «إنّ السوريين لا يتحولون عن مطلبهم الجوهري الذي اتفقت عليه برامج أحزابهم المختلفة وهو استقلال سورية التام بحدودها الطبيعية…» فهذه هي النظرية المعقولة، وهنا محجّة الصواب التي يخفق لها قلبنا اغتباطًا وفرحًا. فلقد كانت الأيام الماضية التي كانت تذهب فيها المحاولات إثر المحاولات على غير طائل للإثبات بالعلوم التاريخية والفلسفية والمنطقية أنّ سورية بحدودها الطبيعية وحدة لا تتجزأ، والتي كانت فيها برامج الأحزاب السورية مختلفة اختلافًا كبيرًا ومتضاربة بعضها مع بعض تضاربًا عظيمًا لا تؤثر فيها نصائح أهل العلم ولا تعمل فيها إرشادات أهل الدرس والاختبار، أيامًا مُرّة تبعث على اليأس والانسحاق حزنًا. أما الآن فإننا لا يسعنا إلا أن نُسرّ لأن السوريين قد تعلّموا، بعد خراب البصرة، من اختبارهم الذي كلفهم كثيرًا ما لم يريدوا أن يتعلموه من اختبارات غيرهم ونصائح وإرشادات وطنييهم الخبيرين المخلصين الذين أذابوا أدمغتهم ومهجهم في سبيل إيقاف السوريين بعضهم إلى بعض كالبناء المرصوص وجمع كلمة الأحزاب السورية على طلب الاستقلال التام، يوم كان الطلب يجدي بعض النفع إن لم يكن كله.

لا نريد الآن أن نعود إلى تلك الأيام التي كانت لدى كل وطنيّ مخلص يقدّر عواقب الأمور جحيمًا له على الأرض. ولكننا نريد أن نبحث قليلًا في هذه النظرية المعقولة التي أجمع عليها السوريون والأحزاب السورية، وأذاعتها اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني في بيان صريح هو الأول من نوعه على ما نعلم في تاريخ مؤتمراتنا. ثم نلقي نظرة على تأثير هذه النظرية في نهضتنا الوطنية، وما هو شأنها في حاضرنا ومستقبلنا من حيث كوننا أمة تريد أن تحيا حياة تفيدها في راحتها وسعادتها وتفيد الإنسانية في تقدمها وارتقائها، وما تضعه أمامنا من الممكنات وما تجعله فينا من القوى التي تُمكّنا من السعي المتواصل والعمل المنتظم وانتهاز الفرص السانحة لنيل الاستقلال والحرية، اللذين بهما وحدهما يمكننا أن نكون أمة حية لها حريتها وحقوقها في عالم الحياة وعليها فروضها وواجباتها نحو الإنسانية جمعاء التي تحتاج إلى الأمم الصغيرة الناهضة العاملة في بناء الحق أكثر كثيرًا مما تحتاج إلى الأمم الكبيرة العاملة في بناء الباطل..

النظرية المتقدمة هي التي قال بها كبار كتّابنا ومفكرينا وانتمى إليها كل المتنورين منا، لأنها النظرية الوحيدة التي يمكن تطبيقها على الحقائق الفلسفية والاجتماعية والتاريخية التي تتناول حياتنا نحن السوريين، جاعلة منا مجموعًا لا يمكن بعضه، مهما كانت حجته، أن يتنصل من البعض الآخر. وهذه النظرية يمكن إثباتها بدون الاضطرار إلى الالتجاء إلى العلوم الاختصاصية، بل بالدروس الفلسفية وبعض الاجتماعيات والتاريخ التي لا تجعلنا نتدرج من بحث ضيق محدود إلى بحث واسع غير متناهٍ قد لا تقف فيه تأملات المفكر عند قرار بات. فنحن هنا نريد أن ننظر في مجموعنا المنفصل عن سائر المجاميع الأخرى كما يجب أن يُنظر فيه على هذه الكيفية، لا على الكيفية السابقة لوجوده فيها، كما كان ذلك ممكنًا على عهد الفتح العربي أو على عهد الفتح التركي. وهنا يجب علينا التنبيه إلى أنّ قضيتنا الوطنية التي تكلم عنها الغير كأنها قضيتهم الخاصة، قضية خاصة بنا نحن، ليس لأحد غيرنا أن يتصرف بها كما يريد، وذلك باعتبارنا منفصلين عن غيرنا انفصالًا تامًّا كما هو الواقع. لذلك يجدر بنا أن نتكلم عنها بالحرية اللازمة في مثل هذا الموقف. ولكن لا بدّ لنا قبل ذلك من أن نثبت انفصال مجموعنا ووحدته التي تكلم عنها بعض السطحيين كأنها شيء غير موجود، ثم توصلوا بعد تفكير مُمل كان أشبه بحساب «خمس وخمس ستة»، إلى القول إنها شيء لا يمكن وجوده.

ليس أمامنا في طول التاريخ وعرضه شهادة تاريخية واحدة ثابتة تدلنا على أننا ألّفنا في الماضي البعيد أو القريب وحدة عنصرية كاملة أو وحدة مدنية ثابتة أو وحدة سياسية راسخة مع أمة أخرى. بل كل ما كان هنالك من فتوحات وغزوات عديدة من كل حدب وصوب، كان لبعضها تأثير في البلاد السورية أكثر من غيرها مثل الفتح الروماني والفتح العربي. أما الفتح التركي فلم يؤثر في البلاد إلا من الوجهة السياسية البحتة. ومع أننا لم نكن في زمن من أزماننا الماضية مستقلين استقلال أمة كاملة، فإننا رغمًا من كل الفتوحات والغزوات التي أدخلت فينا عناصر وجنسيات غريبة، بقينا أمة واحدة كاملة كيّفت من مختلف عناصرها وجنسياتها عوائد وتقاليد ومدنية امتازت هي دون غيرها بها. ومع أنّ الإسلام هو القوة الوحيدة التي أثّرت بنوع خاص على المدنية السورية، فإن الإسلام أصبح بعد دخوله سورية وبقائه فيها ديانة ومدنية تخص سورية كما تخص سائر العالم. لأن الإسلام، وإن يكن قد ابتدأ على هيئة حركة وطنية عربية، فقد أصبح أخيرًا قوة روحية عالمية لا تخص العرب أكثر مما تخص سواهم..

وإذا أضفت إلى ما تقدم الأدلة الجغرافية التي تفصل بلادنا بخطوط طبيعية واضحة عن البلدان الأخرى، ظهر لك جليًّا أننا مجموع بحقٍّ يدعى أمة وأنّ لنا بلادًا بحقٍّ تُسمى وطنًا كاملًا لا يمكن تجزئته، كما سنبيّنه في الكلام على وحدتنا. فوحدتنا، من حيث أننا مجموع واحد يعيش في بلاد واحدة، أمر موجود لأنه طبيعي. والذي يزيد وحدتنا حتمية كوننا منفصلين عن غيرنا انفصالًا تامًّا، وشعورنا بهذا الانفراد. فنحن رغم تنابذنا في أمور كثيرة ترانا كتلة واحدة تتأثر بالعوامل تأثرًا واحدًا لا نقدر أن ننكره بصورة ما. وهو ذا جاليتنا في البرازيل وجوالينا الباقية في البلدان الأخرى شواهد حية تدلّك على أننا كنا ولا نزال نعمل ونعيش مجموعًا واحدًا، سواء كنا في وطننا أو خارجه..

إذا بقي عند أحد شك في أننا مجموع متّحد، فليذهب إلى أي فرد من أفرادنا المتنورين ويباحثه فيزول شكّه. أو إذا كان يريد برهانًا من غير المتنورين، فليذهب إلى الفلاحين وسائر العامة وليراقب أعمالهم متنقلًا من بلد إلى بلد، يرى من ترابطهم بعضهم ببعض، بصرف النظر عن الوجهة الدينية التي لا تزال سلطتها الزمنية ذات صولة قوية في سورية، برهانًا يفحمه. ومن الأمور التاريخية العجيبة التي يحق لنا الافتخار بها، هي أننا رغمًا من كل الأمم التي قَدِمت من أربعة أقطار المسكونة لابتلاعنا وجعلنا جزءًا منها، بقينا سوريين وأدغمنا عناصر تلك الأمم الغازية فينا على كيفية أصبحت معها من صميمنا تعيش عيشتنا وتشعر شعورنا وتتأثر تأثرنا، وأصبحنا وإياها أمة واحدة..

يجدر بنا الآن، بعد أن توصلنا إلى النتيجة المتقدمة، أن نأتي على تعليل النظريتين المتطرفتين اللتين كانتا أكبر العوائق التي قامت في سبيل سير قضيتنا الوطنية سيرًا منظمًا محمودًا، وهما نظرية الأحزاب والأفراد القائلة بأننا عرب وأنّ بلادنا تؤلف جزءًا من إمبراطورية عربية، والنظرية الأخرى المعاكسة لها تمامًا وهي نظرية الأحزاب والأفراد القائلة إننا أجزاء متعددة كل جزء منا أمة ودولة مستقلة. أما النظرية الأولى، فدعامتها الكبرى التي استند إليها القائلون بها، الإسلام الذي هو العلاقة الوحيدة التي بقيت لبلاد العرب بنا بعد علاقتي العنصر واللغة اللتين اضمحلتا الآن اضمحلالًا تامًا من حيث إنهما علاقتان تؤثران في كون سورية أمة تأثيرًا يفيد عكس ذلك. فالسوريون الذين يعودون في الأصل إلى عنصر عربي لم يعد فيهم من ذلك العنصر ما يميزهم به إلا الاسم، وهذا أيضًا لم يعد يعوّل عليه الآن بعد الامتزاج الغريب الذي حدث بين العناصر المختلفة التي وجدت في سورية على كيفية مدهشة. ومع أنّ السوريين إجمالًا لهم تعلّق بالصفات التي اشتهرت بها العرب كالمروءة والشهامة والعفّة والكرم وما شاكل، فإنك إذا أدخلت فريقًا من السوريين بطريقة ما إلى داخلية بلاد العرب لوجدوا من الفوارق المتعددة بينهم وبين العرب ما يجعلهم لا يطيلون الإقامة معهم إلا مضطرين. أما الإسلام فقد توهم كثيرون أنه يكفي لتجريدنا من سوريتنا وإدغامنا في العرب إدغامًا لا يعود يفرّقنا عنهم في شيء، وهو غلط فاضح لا يشفع في مرتكبيه إلا حسن القصد وعدم التعمق في نظرياتهم تعمقًا يدركون معه الحقيقة. ذلك لأن الإسلام خرج عن السيطرة العربية منذ ابتدأ أن يدين به غير العرب. فهو في سورية ديانة سورية، كما أنه في الهند ديانة هندية، وفي تركية ديانة تركية. إنه أصبح دينًا للعالم كله وقوة روحية عالمية، كما أصبح الدين المسيحي كذلك بعد أن كان دينًا وُجد لليهود أولًا. وأظن أنّ ما تقدم كافٍ لتعليل هذه النظرية وتبيين خلوّها من الحقائق الحيوية التي لا بدّ من الاستناد إليها في مثل هذه الأبحاث والنظريات.

أما النظرية الثانية القائلة بوجوب تفكيك عرى وحدتنا وقسّمتنا إلى أمم ودويلات تكون أضحوكة الأضاحيك التاريخية، فمن الأمور المعيبة التي قام بها ضيقو الصدور وضعيفو المدارك. وإذا كان لا بدّ من إيجاد تعليل معقول لها يمكن البحث فيه بصورة جدية، فهذا التعليل منحصر في أمرين: الأول منهما الخوف من الإجحاف الذي قد يلحق الأقلية عند نيل الاستقلال، وهو ما حدا بمسيحيّي لبنان إلى اعتبار لبنان أمة ودولة منفصلة عن جسم سورية وقاموا يدعون إلى هذه العقيدة لا بين المسيحيين فقط بل بين المسلمين والدروز أيضًا، محاولين أن يقنعوهم بأنهم هم في لبنان يؤلفون جزءًا من «الأمة اللبنانية» لا من الأمة السورية. والأمر الثاني، هو التزلّف وحب الأثَرة والظهور اللذان يدفعان أصحابهما إلى متابعة هذه النظرية، لأنها تدر عليهم مالًا ووظائف وأوسمة تُنعم بها عليهم دولة أجنبية..

أما البحث في الأمر الأول، فيكفي أن نبيّن أنه ليس في وسع أحد من الذين يعتقدون ويقولون بصحته أن يأتوا ببرهان واحد يشفع فيما يقولون، لأنه لا براهين هنالك. فليس في استطاعة القائلين بالأمة اللبنانية أن يأتوا بفارق واحد يميّز بين المسيحي المقيم في لبنان والمسيحي المقيم خارجه، أو بين المسلم المقيم في لبنان والمسلم القاطن خارجه، أو بين الدرزي في لبنان والدرزي خارجه. أي إنه ليس في استطاعتهم أن يأتوا بفوارق تميّز بين اللبنانيين وسائر السوريين، اللّهمّ إلا الفوارق السطحية التي تميّز بين سكان أي بلدة في أي بلاد كانت وسكان غيرها من ذات البلاد، كالفرق بين سكان لندن في إنكلترة وسكان بليموث أو مانشستر، أو الفوارق التي تميّز بين أي إنسان على وجه البسيطة وإنسان آخر. وهذه لا يُعوّل عليها في هذا البحث مطلقًا. وهنا يبدو لك سقوط حجة الذاهبين إلى الانقسام بصورة لا تقبل التردد والشك..

والظاهر أنّ السوريين قد أدركوا هذه الحقائق، أو ابتدؤوا يدركونها، كما قلت سابقًا، بالاستناد إلى البيان الذي أذاعه المؤتمر السوري- الفلسطيني. فإذا كان هذا الإدراك حقيقة ثابتة، وهو ما نرجّحه، فإن حاضرنا ومستقبلنا قد تغيّرا تغيّرًا حسنًا جدًّا وأصبحنا أمام عمل حقيقي مقرر. وهذا يعني أننا قد انتقلنا من طور الفوضى والتراكض هنا وهناك وشق الحناجر بالصريخ والصياح إلى طور التفكير والإمعان الذي ينفسح فيه المجال لمفكرينا لإبداء الآراء بصراحة. والخلاصة أننا أصبحنا الآن أمام عمل جدي يجب البحث فيه بصورة جدية..

الفرق بيننا الآن، وما كنا عليه في تلك الأيام التي كان فيها كل مدّعٍ صاحب النظرية الصحيحة، أننا أصبحنا ندرك قضيتنا الوطنية من وجهتها الحقيقية، وصار في إمكاننا أن نبحث ونعمل فيها من هذه الوجهة. فيوم كنا نلتئم لكي ننظر في هل يجوز حسبان لبنان داخلًا في القضية الوطنية السورية أم لا، وهل يمكن أن تكون القضية السورية خارجة عن القضية العربية، قد مضى وانقضى لا أعاده الله. وصرنا الآن في يوم يجب أن نجتمع فيه للنظر في كيف يمكننا أن نعمل ونساعد في إبلاغ قضيتنا الوطنية متمناها.

إذًا، حاضرنا قد تغيّر بتأثير هذه النظرية، وكذلك مستقبلنا فإنه أصبح على طريق واضحة أمامنا. أما الممكنات التي تخوّلنا هذه النظرية استعمالها فأهمها إمكانية إيجاد حركة منظمة مبنية على التفاهم التام تسير في أعمالها بنشاط ودقة. وهنالك فرص كثيرة تعرض لنا كل يوم تقريبًا لم نكن نتمكن من انتهازها في الماضي. أما في الوقت الحاضر والمستقبل فإننا يجب علينا أن لا ندعها تمضي دون أن نستفيد منها. وإننا إذا تابعنا هذه النظرية في أحزابنا ومؤتمرات أحزابنا المقبلة، كانت فائدتها المطلوبة محتمة كالقضاء والقدر..

وهنا أحب أن أوجه كلمة إلى الجالية السورية في البرازيل خصوصًا، وسائر الجوالي السورية الأخرى عمومًا، وهي ما هو موقفها -أيدها الله- تجاه هذه الخطوة الجديدة. ألا يجب عليها أن تسرع إلى الانضمام إلى مفكريها والعمل بإرشاداتهم ونصائحهم لأجل خلاص وطنها الذي ليس هنالك تعاسة ينفطر لها القلب حزنًا أكبر من تعاسته؟

إذا كان أحد يشك في وجود هذه التعاسة، فليذهب إلى ذلك الوطن التعس وهناك يشاهد، ويسمع ما يذيب مهجته ويحرق قلبه- هناك يرى الفتيات يبكين وينُحْنَ على أهلهن وأنفسهن وليس هنالك من يشفق ويعزي، وليس سرور في مكان ما- هناك اليتامى تعول والثكالى تنوح ومصائب الفحش والموبقات تربي على ويلات الحروب والنكبات- هناك يرى الناظر من بقي من الأمهات تحضنّ من بقي من الأطفال ويجلسن الليل كله ساهرات منقبضات القلوب مرتجفات الأعضاء، يتوقعن في كل دقيقة من دقائق الليل قدوم طارق يريد انتزاع الولد من أمه أو انتزاع الأم من ولدها- هناك يرى أمورًا كثيرة، آلام النزع لا تحسب شيئًا مذكورًا بالنسبة إلى آلامها- هذه هي تعاسة الوطن الذي ننتسب نحن إليه، ولا يمكننا أن ننكر أننا تحت سمائه رأينا للمرة الأولى في حياتنا نور الحياة!

فماذا تريد الجوالي السورية في المهاجر كلها أن تعمل في سبيل وطنها؟

هي ذي أبواب القبور قد انفتحت على مصاريعها وخرج منها الأموات يطلبون الحياة والحرية، أفيرى الأحياء هذه العجائب التي تحدث أمامهم دون أن يتأثروا هم؟

من أراد أن يضحك فهنالك أوقات كثيرة للضحك، أما الآن فإن الموقف مهيب لأننا أمام الوطن والتاريخ وجهًا لوجه!

فمن لا يستحي من نفسه فيجب على الأقل أن يستحي منهما!

أنطون سعاده.”

– الامبراطورية الإفرنسية الشرقية 15/10/1921.

     الحرية وأم الحرية- تأملات في الثورة الفرنسية 14/7/1923.

     السياسة الأوروبية- وجهة المسألة الألمانية 1/10/1923.

     السياسة الأوروبية- بونكاريه 1/12/1923.

     السياسة الأوروبية- ألمانية دولة وأمة 1/1/1924.

     سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانية الأدبي 1/5/1924.

السياسة الأوروبية- الانقلابات الجديدة 1/7/1924.

وغيرها الكثير من تلك القضايا التي انشغل بها العالم في حينه..

بادئ ذي بدء، لا بدَّ من التنويه، لاعتبار ساطع الحصري، من أبرز دعاة “القومية” العربية، فقد وجد ضالته في هذه الدعوة، التي مكّنته من بلوغ المرتبة التي وصل إليها كأهم داعية للعروبة، فقد تأثر بطروحاته الكثير من رجال السياسة وأخصهم بالذكر، جمال عبد الناصر الذي كان خارجًا للتو من عباءة الإخوان المسلمين، فوجد هو الآخر ضالته في هذه الدعوة، ولم يكن له من دليل سوى الحصري بالذات، الذي أقام عروبته على ركنين أساسيين -التاريخ واللغة- على عكس بقية الدعوات التي قالت بالإضافة لهذين الركنين بالدين بما ينتجه من عادات وتقاليد كذلك بالآلام والآمال والأصل والأرض بتنوعها.. الخ، لكنه لم يختلف عن البقية المنادية بالعروبة من حيث النهج والقرائن التي يسوقها دعاة العروبة على العموم..

في هذه الدراسة النقدية، سنتبع النهج الذي انتهجه الحصري في /نقده لآراء أنطون سعادة/ متتبعين طروحاته فقرة فقرة، فلن نستثني أية إشارة إلى ما يستنتجه في نقده لأفكار سعادة..

يقول: ”إن هذه الدراسة أيّدت الرأي الذي كنت قد توصلتُ إليه قبلًا.. (وهو) السبب الأصلي الذي كان يدفع زعيم الحزب إلى التحامل على “فكرة العروبة”، ودعوة “القومية العربية” تحاملًا عنيفًا.. (فسعادة قد أساء) فهم المعنى المقصود من كلمة “العروبة” ومن تعبير ”القومية العربية”.. إن فكرة العروبة كانت تختلط في ذهن أنطون سعادة مع معاني البداوة الصحراوية من ناحية، ومع الحزبية المحمدية من ناحية أخرى فقد توهم الرجل، أن فكرة “الوحدة العربية” ما هي إلا قناع يتقنع به دعاة الطائفية الإسلامية ولذلك أخذ يحمل عليها.. وأميل إلى الظنّ بأن أول من صادفهم وخالطهم من دعاة العروبة وحملة الفكرة العربية كانوا من المسلمين وربما كانوا من الرجعيين والمذبذبين.. هذه هي خميرة الضلال.. وهذا هو الخطأ الأساسي الذي جعله ينحرف عن جادة الصواب انحرافًا كبيرًا ويخالف كثيرًا من الحقائق العلمية مخالفة صريحة، حتى يناقض نفسه بنفسه أحيانًا..”.

كان على الحصري أن يبيّن لنا قبل أن يصدر أحكامه آنفة الذكر مرتكزات هذه الأحكام ومن ثم يصدرها كحكم على سعادة، فسعادة لم يتحامل ولم يسئ ولم يختلط ولم يتوهم ولم يخالف ولم ينحرف ولم يتناقض مع نفسه بنفسه، طالما أن الحصري نفسه يميل إلى الظن بأن من صادفهم سعادة وخالطهم كانوا ممن يقرنون مفهوم العروبة بالدين وأن بعضهم كان من الرجعيين والمتذبذبين، وطالما أنه لم يوجد غيرهم أمام سعادة، كان على الحصري أن يحدّد لنا من هم المتنورون من دعاة العروبة الذين لم يقرنوها بالدين واللغة والأصل والعادات والتقاليد والآلام والآمال وغيرها من صفات لا علاقة لها بمفهوم مصطلح الأمة كما يقول به سعادة وكما ينحو إليه الحصري بذاته، من قابلهم سعادة وخالطهم كانوا فعلًا من الذين قنّعوا “القومية العربية” بالدين بكل ما يعنيه الأخير من عادات وتقاليد ولغة أيضًا (إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ..) لم يلتقِ سعادة قبل أن تتكون لديه القناعة بأن فكرة العروبة ليست أكثر من عصبية دينية لغوية بأي من المتنورين -أمثال الحصري- الذي يقول بالتاريخ واللغة ركنين من أركان فكرة العروبة، والذي لم يوافقه أحد ”المتنورين” عليها، بل كان يواجهه بما ادّعى أن سعادة خالطهم وصادفهم وتحامل عليهم، وخير مثال نقدمه على ما تقدم ما واجهه من تحديات في العراق أيام حكم الملك الهاشمي الذي لولاه لما كان للحصري ما كان له بفضله..  

سعادة واجه ما دعاهم الحصري “بالرجعيين والمتذبذبين والمقنعين لهذه الفكرة بالدين“، كواقع عايشه سعادة وحاربه وسفّه مرتكزاته وأركانه، وهذه مسألة لا يحاسب عليها سعادة، كان عليه مواجهتها ومجابهتها بشتى الطرق والوسائل، ذلك أن أبرز من تنطحوا لهذه الفكرة كان رشيد سليم الخوري ومحمد عبدو وجمال الدين الأفغاني، وقبل أن تتشكل فكرة العروبة التي نادى بها الأرسوزي وتبناها البعث والقوميون العرب والاشتراكيون والناصريون في نهاية الأمر.. بل وقبل أن يتنطح الحصري للدفاع عن العروبة وفق مذهب لا يُقرُّ به مختلف القائلين بالعروبة.

 لم يتناول سعادة العروبة قبل أن يعرفها، ما العروبة ومن أين جاءت هذه اللفظة أو هذا المصطلح الذي تشدّق به الكثيرون دون تعريفه ودون معرفة مصدره بعدما اتفق جميع المنادين بالعروبة على أنه تيمّنًا بـ(يعرب بن قحطان) الشخصية الأسطورية التي أولاها الكثيرون اهتمامًا خاصًّا وكأنها حقيقة ثابتة لا نقاش فيها من حيث التسلسل السلالي ومفهوم السلالة السائد عند العروبيين أولًا كما مختلف الأوساط غير العلمية ثانيًا، سعادة يعيد مصطلح عرب إلى “العربة” بمعنى الصحراء، والصحراء مقترنة بالبداوة والتأخر، وهكذا وسط بيئي ينتج عنه تلقائيًّا وسط اجتماعي يسود فيه الاعتقاد بالغيبيات، أو كما يقول ابن خلدون ويستشهد به سعادة: ”في أنّ العرب لا يحصل لهم الملك إلاّ بصبغة دينيّة من نبوءة أو ولاية أو أثر عظيم من الدّين على الجملة..”، لذلك كان اقتران مفهوم العروبة بالدين لدى القائلين بالعروبة دون تعريفها، لكن ما هي العروبة مصطلحًا ومفهومًا؟ قد يصح القول بأن مفهوم (عرب) يشمل معنى العزل أو الاستقلال أو التميز، فمصطلح (إعراب) يدلُّ على التمايز بين الاسم والفعل والحرف، بمعنى آخر إن هذا المصطلح إنما يدلُّ على الفصل أو العزل أو الاستقلال أو التمايز، فالعرب بناء عليه هم قوم متميزون عن الآخرين، أو هم معزولون عن الآخرين، أو هم مُعْرَبُون إعرابًا عن مجمل ما حولهم، من العالم العمراني أو المدني أو المتحضر، هذا وقد اتفقت مختلف معاجم اللغة العربية على أن /العرب أمة من الناس سامية الأصل كان منشؤها شبه جزيرة العرب/، وهناك معاجم قالت بمفهوم /عَرَب، عروبة، اسم يُراد به خصائص الجنس العربيّ ومزاياه/، وأضافت أخرى مفهومًا آخر /عاربة من العرب الصرحاء الخلص، عاربة من العرب: قبائل زالت. وتعرف بـ«العرب البائدة»/، وتفرّدت بعض هذه المعاجم بتعريف العربي من حيث هو /كل من تكلّم العربية/، وعرّفت معاجم أخرى العربي /عَرَبَ: (فعل) عَرَبْتُ، أَعْرِبُ، اِعْرِبْ، مصدر عَرْب، عَرَبَ الطَّعَامَ: أَكَلَهُ عَرُبَ: (فعل) عَرُبَ عَرُبَ عُرُوبًا، وعُرُوبةً، وعَرَابةً، وعُرُوبيَّة، عَرُبَ الرَّجُلُ: فَصُحَ…/… وهكذا، فالعرب والعروبة والعربي، هو جنس أو سلالة أو لغة أو دين، فبأي معنى أو مفهوم يريد الحصري أن نأخذ بمفهوم العروبة التي ينادي بها؟ دون تعريفها، كعادته في الخلط بين المصطلح والمفهوم، جميع الذين قالوا بالعروبة، زمن سعادة، كانوا أحد أمرين، إما أنهم قائلين بالعروبة دينا (ِإنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ..) أو لغةً أسبغت على المجتمعات التي أخذت باعتقاد المحمدية، خاصة وأن الفقهاء أشاروا لعدم إمكانية ترجمة القرآن إلى لغات غير عربية لأنه كما ذكرنا آنفًا (قرآنًا عربيًّا..)، هكذا اقترنت فكرة العروبة بأذهان معتنقيها بالدين واللغة، وبالعنصر أو الجنس وليس هناك من مفهوم آخر لهذا المصطلح، فاستثنى هذا المفهوم لمصطلح عرب مختلف الشرائح الاجتماعية الأخرى وتحديدًا في سورية الطبيعية التي تضمّ مختلف شرائح التاريخ الموغل في القدم من آشوريين وكلدان وأكراد.. وحتى الذين هاجروا حديثًا من الأرمن والتركمان والشركس وسواهم من الشعوب التي وجدت في سورية الدفء والأمان، فاندمجت في مجتمعها مشكّلةً مزيجًا سلاليًّا جديدًا.. 

نقد الآراء العلمية:

تحت عنوان /نقد الآراء العلمية- نظرات في كتاب نشوء الأمم/ يقول ساطع الحصري: ”لقد لاحظت في أبحاث الكتاب بعض النقائص الأساسية التي لا تتفق مع (مكتسبات علم الاجتماع) في الحالة الحاضرة، ولاح لي أنّ المصدر الأصلي لهذه النقائص يعود إلى الأمور التالية:

– إن المؤلف لا يقدّر التقدير الكافي أهمية البيئة المعنوية والاجتماعية ويغالي بتأثير البيئة الطبيعية..

– إنه لا يميز تمييزًا صريحًا بين الوراثة الطبيعية والوراثة الاجتماعية، ولا يلاحظ أن امتياز الإنسان عن الحيوان -واستمرار تقدمه الفكري والحضاري على الدوام- إنما يستند إلى هذا النوع الأخير من الوراثة، إلى ما يسمّونه (الوراثة الاجتماعية).

– إنه لا ينتبه الانتباه اللازم إلى الفرق بين الأمة والدولة، وكثيرًا ما يخلط بينهما في أبحاثه المختلفة”.

ويضيف بناء على ما تقدم قوله: ”ولا حاجة بنا إلى القول: إن هذه النقائص الأساسية كثيرًا ما تشوّش الأبحاث، وتولّد أخطاءً كثيرة، وتؤدي أحيانًا إلى مخالفة أثبت الحقائق الاجتماعية.. إني لن أتوسع هنا في شرح هذه النقائص، وتعداد الأخطاء كلها بل سأحصر بحثي في القضيتين التاليتين..”     

قبل أن ننتقل إلى تلك “القضيتين” اللتين سيحصر الحصري بحثه بهما، لا بدَّ لنا وأن نقف على جملة من “القضايا” الأساسية التي يسطرها الحصري كعادته في إطلاق الأحكام دون أي مستندات لها، فهو يقول دون أن يقدم لنا الدليل على صحة ما يذهب إليه!! لكننا سنضيف إلى أقواله الدليل الذي يسفّهها ويثبت أنه لم يقرأ سعادة ولم يتفهم ما يأتي به من حقائق تتفق و(أثبت الحقائق العلمية).

وعلى الرغم من أن الحصري يشير إلى (نقائص) دون تعليلها بنقيضها الصحيح من وجهة نظره، مبيّنًا مرتكزاته العلمية لهذا الحكم، فإنه بذلك يرتكب أولى مغالطاته المنهجية التي تلزمه: ببيان لما هي كذلك!، إذ لا يكفي القول بأن هناك نقائص ثم نطلق أحكامنا دون تعليل منطقي يدفعنا لاعتبارها كذلك، فكأننا والحال نقول للمتّهم أنت مجرم وحكمك السجن المؤبد أو الإعدام لسبب أنك خالفت القانون والأنظمة المرعية وخرجت على إرادة المجتمع.. دون أن تكون لدى الحاكم بهكذا حكم أي قوانين أو أنظمة أو حتى مفهوم لمعنى الإرادة الاجتماعية، إن حكمًا كهذا يبقى حكم سلطة لا تفقه القانون ولا الأنظمة المرعية ولا حتى ماهية معنى إرادة المجتمع، وهذا هو حال الحصري الذي يحاول خلع جلباب بائعٍ جوال ولبس جلباب محامٍ لا يفقه من القانون شيئًا!؟؟.

وحتى لا يكون كلامنا ملقى جزافًا، نتساءل: هل كان سعادة لا يقدّر تقديرًا كافيًا أهمية “البيئة الاجتماعية”؟ وهل لم ينتبه فعلًا إلى الفرق بين “المناطق التاريخية” و“المناطق الجغرافية” أو بين “الوراثة الطبيعية” والوراثة الاجتماعية” أو أنه لم ينتبه إلى الفرق بين “الأمة والدولة”!؟

 وعلى الرغم، أيضًا. من أن الحصري لم يحدّد لنا المفهوم من أيٍ من تلك المصطلحات التي يتناولها، فإننا ملزمون والحال، ببيان مفاهيم تلك المصطلحات وفق سعادة دون سواه، ومن ثم بيان أن ما يتّهم به الحصري سعادة، يتّهم به نفسه دون سواه، ونعني سعادة:

ماذا يعني سعادة بالبيئة الاجتماعية عندما يقول: (وهي -البيئة الطبيعية- الّتي توجد الإمكانيات لنشوء المراكز العمرانيّة الّتي تتألّب عليها قوّات المجتمع ويحتشد فيها نتاجه الثّقافيّ، فتتكوّن البيئة الاجتماعيّة الّتي تصبح ذات مناعة تكمّل ما نقص من الحدود الطّبيعيّة. والحقيقة أنّ البيئة من حيث هي مركز الاجتماع والتّكتّل هي أهمّ من الحدود لتكوّن البيئة الاجتماعيّة..).

البيئة الاجتماعية وفق سعادة، هي المؤسسات التي تتكون في المجتمع لتفعيل طاقاته في إطار من التفاعل الاجتماعي بينها، والذي يحدّد بالتالي المرتبة الثقافية التي بلغها المجتمع بذاته، فقوله (..لنشوء المراكز العمرانية التي تتألب عليها قوّات المجتمع ويحتشد فيها نتاجه الثقافي..) يعني أن المجتمع في تطوره إنما يكون على شاكلة إمكانات البيئة الطبيعية التي هي بوتقة تفاعله، فعلى القدر الذي تمدّ البيئة الطبيعة المجتمع بمصادر الطاقة المتنوعة ومدى قدرته على الاستفادة منها في تطوره تكون مرتبته الثقافية، والتي هي بطبيعة الحال البيئة الاجتماعية التي تتمثل بقوة المجتمع وتحدّد له صيرورته، لذلك نجد أنه في البيئات الطبيعية التي تنعدم فيها مصادر الطاقة ويقلّ فيها تنوّع هذه المصادر، يبقى المجتمع على حالته البدائية التي تكتفي بالحدود الدنيا من الهيئات والمؤسسات الثقافية والتي بدورها تعبّر بل وتمثل المرتبة الثقافية لهذا المجتمع أو ذاك. من هنا يأتي قول سعادة (والحقيقة أن البيئة من حيث هي مركز الاجتماع والتكتل هي أهم من الحدود الطبيعية، هي أهم من الحدود لتكوين البيئة الاجتماعية..)، فأهمية البيئة الاجتماعية عند سعادة تتجاوز أهمية الحدود الطبيعية في حال نشوئها في بيئة تكسبها من القوة والمناعة بحيث يستحيل على هذه الهيئة الاجتماعية الذوبان في أي تغيير يطرأ تاريخيًّا عليها نتيجة “رخاوة” وطلاقة حدودها الطبيعية..

فهل في قول الحصري شيء من الصحة عندما يقول إن سعادة “لم يقدّر التقدير الكافي أهمية البيئة المعنوية والاجتماعية ويغالي في أهمية البيئة الطبيعية”، وسعادة نفسه قد أولى البيئة الاجتماعية أهمية تفوق الحدود الطبيعية، وكيف يغالي في تأثير البيئة الطبيعية عندما يضع سعادة أهمية البيئة الاجتماعية فوق أهمية البيئة الطبيعية التي انصهرت وتبلورت وانصقلت فيها، ذلك أن أهمية نتاج البيئة الطبيعية يفوق أهمية منشئها، خاصة إذا ما امتلكت عنصريها الأساسيين، الإمكانات والمزيج السلالي..

لكن ماذا يعني الحصري بـ”المناطق التاريخية”؟ كذلك بـ“المناطق الجغرافية” التي يتهم سعادة بعدم الانتباه للفروق بينهما؟

في واقع الحال، إن الفرق بين ما يسميه “المناطق التاريخية” و”المناطق الجغرافية” والذي تنبّه له سعادة قبل غيره من القائلين بـ“الأمة العربية”، هو الذي دفع به للتمييز بين العالم العربي والأمة السورية، فالعالم العربي هو، وفق رؤية سعادة، منطقة تاريخية، كما كان العالم الروماني وعلى مدى يزيد على خمسة قرون، عالمًا يجمع أممًا متعددة، لغتها هي الرومانية ودينها هو الوثنية ومن ثم المسيحية، فالشعوب على دين ملوكها، هكذا أصبح الإسلام المسيحي دينًا للأمة السورية في العهد الروماني، وأضحى الإسلام المحمدي دينًا لها بُعيد الفتح العربي، البيئة الاجتماعية التي أولاها سعادة أهمية تفوق الحدود الطبيعية هي التي أثبتت جدارتها في كيفية تأثير البيئة الاجتماعية السورية على غزاة أرضها، لجهة حكم سبعة أباطرة من السوريين للإمبراطورية الرومانية الغازية، وكيف أضحت دمشق ومن ثم بغداد مركزًا للخلافة الأموية والعباسية، أو الإمبراطورية العربية الفاتحة، وما نعتقده أنه لولا تمسّك الفتح العربي بأصولية الخلافة، لكان مجمل “الخلفاء” الذين حكموا هذه الخلافة من السوريين، من هنا يأتي قول سعادة ”الأمة السورية هي أمة عربية” بمعنى أنها تدين بالإسلام المحمدي وتتكلم لغته، دون أي مساس بكونها سورية في الجوهر والمظهر، على الرغم من أنها هي التي أوجدت فكرة العروبة ونشرتها في مختلف بقاع العالم العربي، مما يدلُّ دلالة واضحة على مدى تأثير البيئة الاجتماعية السورية عبر التاريخ.. فالعروبة بقيت بالنسبة لها دينًا ولغة استعمرت من خلالها الفكر في العالم العربي على مدى يزيد على نصف قرن، وما يزال تأثيرها قائمًا حتى اللحظة رغم الكوارث والمآسي التي جرَّه عليها ما أشاعته في عالمها..

أما أن سعادة لا يميز بين الوراثتين الطبيعية والاجتماعية، فهذا هو عين الخطأ الذي يرتكبه الحصري بحق سعادة، الذي بنى فلسفته الاجتماعية على هذا التمييز، وحتى لا تبقى الأمور سائبة على عواهنها، لا بدّ لنا من تعيين مفهوم مصطلح الوراثة الطبيعية وكذا الوراثة الاجتماعية، التي بقيت كذلك دون تعيين وتوضيح فيما سطّره الحصري، وينتقد به سعادة..

إذا كان القصد من الوراثة الطبيعية هو انتقال جينات من جيل إلى آخر، من أبٍ وأمٍ لأبنائهما، بما يعني مفهومًا سلاليًّا، فسعادة يقول بهذا الانتقال في حدود معينة، فمما لا شك فيه أن علم الوراثة الذي ابتدأه “ماندل” وتطور بعده بأشواط، يبقى من الوجهة العلمية حقيقة لا جدال فيها، لكن سعادة لا يحصره ضمن مفهوم تشكيله لسلالة معينة تتمايز عن سلالة أخرى تمايزًا يصح به القول بوجود أصل واحد لمجتمع ما أو أمة معينة، وهذا واضح في انتقاده لجملة النظريات التي قالت بالسلالة كأصل لمجتمع وأمة، أصل واحد يعود بها إلى فردٍ بعينه كما المفهوم العربي لهذا المصطلح، يقول (إن): ”.. مدلول كلمة [السّلالة] العلميّ (هو) من مصطلحات العلم الطّبيعيّ. والغرض منها تقسيم النّوع الواحد إلى فروع (أجناس) تتوارث صفاتها ومزاياها الخاصّة(7)، أمّا النّوع فيقصد منه تحديد الكائنات الحيّة الّتي ينتج تزاوجها نتاجًا ناجحًا يكون له ذات المقدرة بلا حدود(8). فالأجناس تقبل الاختلاط والتّزاوج والإنتاج ويمتنع ذلك في الأنواع إلاّ شذوذًا نادرًا.. والّذي نرجّحه أنّ السّلالات البشريّة هي عدّة تطوّرات أو سلسلة تطورّات حدثت في ظروف وبيئات تطوريّة، أي قبل استقرار البيئة الطّبيعيّة على حالتها المعروفة الآن، وقبل أن يكون الارتقاء قد مكّن الإنسان من التّحوّط ضدّ اختلاف البيئات.. وأمّا تحوّل السّلالات بالامتزاج فليس ثابتًا ولا دليل عليه..”، ويجب التنبّه للقول الأخير من أنه لا يتناقض مع مفهومه للمزيج السلالي، فالمقصود من القول هو أن اختلاط سلالتين لا ينتج سلالة واحدة، لذا اقتضى التنويه، حتى لا نقع فيما وقع به الحصري، هذا باختصار شديد ما يؤكده سعادة حول الوراثة الطبيعية، أما إذا كان القصد من مفهوم مصطلح الوراثة الطبيعية مدى تأثير البيئة الطبيعية على الإنسان فسعادة يقول: ”أما أنّ الإنسان نشأ بالتّطوّر فما لا جدال فيه وأمّا كيفيّة حدوث التّطوّر، أكان بتجمّع تغيّرات بطيئة تحت تأثير البيئة المتطوّرة أم بالتّغير الفجائيّ استعدادًا للدّخول في بيئة جديدة، فممّا لم يتّفق عليه العلماء لحاجتهم إلى استكمال اختباراتهم. وقد كانت النّظريّة الأولى القائلة بالتّغير البطيء وفاقًا للانتخاب هي السّائدة. ولكنّ نفرًا من العلماء الحديثين يعتقدون بسبق التّطوّر لموافقة البيئة وبحدوثه دفعة واحدة..”، لكنه يمضي بإسباغ نظرته الخاصة في هذا الموضوع الشائك فيقول: ”.. ومع أنّ لون البشرة هو من الفوارق الظّاهرة بين الجماعات البشريّة فهو ليس فارقًا سلاليًّا أصليًّا، بل مكتسبًا من تأثير البيئة الطّبيعيّة.. فالسّلالات الحاليّة لا تتغيّر (تغيّرًا سلاليًّا) بانتقالها من الجبال إلى السّهول أو بالعكس، لأنّ تأثير البيئة ليس قويًّا في ظروف الاستقرار الحاليّ ولتوفّر وسائل التّحوّط. ولكن إذا حدثت تغيّرات جيولوجيّة وفلكيّة قويّة فقد تضطرّ الأحياء والسّلائل البشريّة إلى التّطوّر أو الانقراض..”. هذا بعض ما يقول به سعادة في موضوع الوراثة الطبيعة ومدى تأثير البيئة على الإنسان..

أما في موضوع الوراثة الاجتماعية، إذا ما قُصِدَ به انتقال خبرات الجيل الواحد إلى الجيل الثاني، فيكفي للرد على الحصري بمقولة سعادة الرئيس (دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية) التي تعتبر فتحا خلّاقًا في علم الاجتماع، حيث تشير وتعني تكرارية تأثير البيئة الطبيعية على المجتمع بأجياله وتدفع لتشكيله وحدة اجتماعية لها من الميزات ما تختلف به عن الجماعات الأخرى، فتكرارية تأثير البيئة الواحدة على مختلف أجيال المجتمع، يدفع بهذه الأجيال للردّ على محرّضات بيئتها ردودًا تتفق وردود فعل الأجيال التي سبقتها مع بعض ما يبتكره الجيل التالي من تحسين شروط وكيفية ونتاج ردوده، وتاليًا انتقال ما خلّفه السلف إلى الخلف، الذي يعكف عليه تحسينًا وتطويرًا وصيرورة، محدّدًا بذلك المرتبة الثقافية التي وصل إليها، يقول: ”.. شرط المجتمع، ليكون مجتمعًا طبيعيًّا أن يكون خاضعًا للاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة تشمل المجموع كلّه وتنبّه فيه الوجدان الاجتماعيّ، أي الشّعور بوحدة الحياة ووحدة المصير فتتكوّن من هذا الشّعور الشّخصيّة الاجتماعيّة بمصالحها وإرادتها وحقوقها.. كلّ ميزة من ميزات الأمّة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتّحاد في الحياة الّذي منه تنشأ التّقاليد والعادات واللّغة والأدب والدّين والتّاريخ..“، هكذا يشرح سعادة مفهوم الوراثة الاجتماعية مترابطًا ترابطًا تامًّا مع مفهوم الوراثة الطبيعية، فكلتاهما في وحدة لا تنفصم عراها، كل تؤثر بالأخرى على نحو أن “.. الأرض تكيّف الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل ويكيّفها. وإلى هذه العلاقة المتينة يعود تفوّق الإنسان على بقيّة الحيوانات في تنازع البقاء. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة. وفي الوقت الّذي يسعى هو لتكييف الأرض لتوافق حاجاته الحيويّة يجد نفسه مضطرًّا لتكييف حاجاته حسب خصائص الأرض النّازل فيها..”، هكذا يقيم سعادة نظريته في الوراثة الطبيعية بكلا المفهومين وكذلك مفهوم الوراثة الاجتماعية التي هي انتقال خبرات جيل من أجيال الأمة إلى الجيل الذي يليه.

يقول الحصري في بيان مقدمة انتقاداته لسعادة و((نقائص نظريته)) إن سعادة “لا ينتبه الانتباه اللازم إلى الفرق بين الأمة والدولة وكثيرًا ما يخلط بينهما..”، لن نبيّن بالتفصيل كيف أن الحصري لم يفهم سعادة بتصفّحه لمؤلف نشوء الأمم، الذي يقول إنه أخضعه لدراسة مطوّلة ووجد به من (نقائص) تقلّل إلى هذا الحدّ أو ذاك من قيمته أو أهميته، بل سوف نكتفي ببيان كيف أن سعادة لا يخلط بين مفهومي المصطلحين، بقدر ما يميز بينهما من حيث الوظيفة التي يؤديانها ومدى تأثير كلٍّ منهما على الآخر، في علاقة لا يمكن الفصل فيها بينهما أيضًا، على الرغم من تمييزه بينهما بقوله: ”إذا كانت الدّولة مظهرًا سياسيًّا من مظاهر الاجتماع البشريّ فالأمّة واقع اجتماعيّ بحت..” هكذا يفرِّق سعادة بين الدولة والأمة من منطلق أن “.. درس الأمم ونشوئها هو درس اجتماعيّ، لا درس سياسيّ..” بين السياسي والاجتماعي فارق وإن كان ”.. لا غنى للعلم السّياسيّ عن درس الأمّة والقوميّة، لأهمّيّتها في النّظريّات السّياسيّة وفعلهما في تغيير مجرى الشّؤون السّياسيّة وإصلاح المعتقدات والمبادئ السّياسيّة..”، هذا الفارق يوضحه سعادة بقوله: ”.. إنّ الدولة شأن ثقافيّ بحت، لأنّ وظيفتها، من وجهة النّظر العصريّة، العناية بسياسة المجتمع وترتيب علاقات أجزائه في شكل نظام يعيّن الحقوق والواجبات إمّا بالعرف والعادة -في الأصل- وإمّا بالغلبة والاستبداد. فهي إذن شأن من شؤون المجتمع المركّب، لا وجود لها إلا في المجتمع كذلك السّياسة لا وجود لها بدون الاجتماع..” هكذا يتضح الفارق بين الدولة والأمة بأجلى مظاهره، فالأمة “واقع اجتماعي” أما الدولة “فشأن ثقافي” أما أن سعادة (يخلط) بينهما، كما يقول الحصري، فما ذلك إلا لكون الحصري، كما يقول سعادة في وصفه ووصف أمثاله: ”ليس عالمًا اجتماعيًّا ولا خبيرًا بالاجتماع من درس موادّ علوم اجتماعية مدرسيّة منظّمة تنظيمًا خاصًّا في جامعة معيّنة وأدّى عن دروسه امتحانًا نال به لقب متخرّج أو دكتور أو غير ذلك..”.

يظهر لنا واضحًا، كيف يرى سعادة كلا المؤسستين، فالأولى مظهرٌ من مظاهر المجتمع وشأنٌ من شؤونه، تنتظم فيه المؤسسات الاعتبارية التي تمثّل مصلحة المجتمع ككل، بينما الأمة بما هي واقع اجتماعي، تبقى رحم الدولة، تكوّنت به ونشأت وترعرعت في أحضانه، وكانت الابن العاق الذي تمكّن من والديه فراح يتحكم بمصيرهما بالسلطة التي منحاه إياها طوعًا، (ذلك أننا لا) “..نجد واقع الدّولة إلاّ حيث نجد في المجتمع قوّة فيزيائيّة تخضع أو ترهب..”، ولعل أبرز تصديق لما نحن ذاهبون إليه، المبدأ الإصلاحي الرابع الذي يُفَرِّق بينهما حيث يقول بـ:”.. صيانة مصلحة الأمة والدولة..” الذي يفصل بين الأمة والدولة من حيث أن مصلحة كليهما، وإن كانت في واقع الحال مصلحة واحدة، لكنها تقتضي من الدولة، لكي تكون دولة المجتمع لا دولة فئة أو طبقة أو عرق.. الخ، أن تكون راعية لمصالح المجتمع التي وجدت لخدمته، فالدولة بهذا التمييز تبقى وظيفتها، بأي حال وجدت به، خدمة للمجتمع، دون أن يكون ذلك على حساب استمراريتها وكونها كما يقول سعادة: ”هي شخصيّة المجتمع وصورته” في صيانتها لمصلحة المجتمع الذي يراه سعادة في صيرورته، الأمة بعينها، لكن الفارق الرئيس بينهما هو أن: ”.. الدّولة مظهرًا سياسيًّا من مظاهر الاجتماع البشريّ.. (بينما) الأمّة واقع اجتماعيّ بحت..” فإذا كانت الدولة هي مظهرًا فإن المجتمع هو الجوهر، وحيث إن الجوهر والمظهر في وحدة لا تنفصم عراها، كانت الدولة في صيرورتها، دولة المجتمع ككل أي دولة قومية، والدولة القومية هي “.. دولة ديمقراطية حتمًا”، والدولة القومية هي الدولة التي تشمل “دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية” الواحدة بكاملها لا جزءًا منها أو كيانًا من كيانات الأمة المجزَّأة، بمعنى شموليتها المجتمع بمختلف شرائحه، كمجتمع قومي، والدولة القومية من حيث هي ديمقراطية، تبقى مرتبتها الثقافية على قدر الحقوق التي توليها للمجتمع، إذ “.. ليست الدّولة في ذاتها مقياسًا للثّقافة العقليّة، بل بما تنطوي عليه من حقوق..” كما يقول سعادة… إذًا، بالنسبة لسعادة، تبقى الحقوق هي مقياس المرتبة الثقافية التي بلغتها الدولة، لقاء قيام المجتمع بواجباته تجاهها، وهكذا تستحيل العلاقة بين الدولة والمجتمع إلى علاقة الحقوق بالواجبات، علاقة تحكمها المرتبة الثقافية التي تحكم طرفي المعادلة، أي نسبة الحقوق إلى الواجبات أو العكس، بمعنى آخر، تتحدد المرتبة الثقافية للدولة والمجتمع على النحو التالي: الواجبات أكثر بكثير من الحقوق، الدولة استبدادية، الواجبات تساوي الحقوق، الدولة ليبرالية، الحقوق أكثر من الواجبات الدولة قومية، وعلى الدولة القومية أن تعمل وفق معادلة الإنتاج التي تحكم الحالة الاقتصادية أيضًا، أي، تناهي الواجبات إلى أقل ما يمكن مع تنامي الحقوق إلى أقصى ما يمكن، بالطبع وفق الحالة التي يكون عليها المجتمع، ففي حالة الحربٍ -على سبيل المثال- تكون فيها الواجبات أكثر من الحقوق لما تقتضيه من تضحيات على مختلف المستويات، أما في حالة الاستقرار فتكون فيها الحقوق أكثر بكثير من الواجبات..

يمكننا الاستفاضة في بيان، كيف أن الحصري لم يدرس سعادة رغم تأييده لمجمل ما جاء به سعادة في مبادئه الإصلاحية ولم يفقه ما يقدمه سعادة في علم الاجتماع وما يميّزه عن سواه من العلماء، وتحديدًا في معنى الأمة والدولة..

عندما يحدّد سعادة الدولة كمظهر من مظاهر المجتمع، فهو بهذا التحديد يضع الدولة في مصاف المُنْتَجْ الاجتماعي كغيرها من المظاهر الاجتماعية، اللغة، الدين، التقاليد، العادات،.. الخ، فرحم هذه المظاهر- الصفات، يبقى المجتمع، الدولة تحديدًا كمظهر تعتبر إحدى تجليات المجتمع- الجوهر، فلسفيًّا، لا يمكن الفصل بين الجوهر والمظهر، مدرحيًّا يبقى التصنيف، التمييز، واحدًا من تشظيات المعرفة الإنسانية، فالعقل، ليفهم، ليدرك، ما أمامه من موجودات طبيعية أو اجتماعية أو تحديات نفسية، يلجأ إلى إضفاء تصنيفات معيّنة على ما أمامه، فيصنّف العلاقات وفق منهجية تتوافق وكيفية فهمه لموجودات وجوده، فيصنّف بعض العلاقات على أنها كيميائية وأخرى على أنها فيزيائية وثالثة على أنها نفسية، وهكذا تتحدد مختلف العلوم التي تغوص في عمق أعماق المنحى الذي تنحوه، فالمادة ذرّات وهذه إلكترونات ونيترونات وبيزوترونات.. الخ، لكن ذلك بما أنه شكل من أشكال تجليات المادة، لا يعني أن المادة بتجلياتها تنفصل عمّا هي عليه من وحدة، كذلك في العلوم الاجتماعية، التي تختلف فيها التصنيفات على مستوى المعلومات المتوفرة لدى الباحث، فالمجتمع من حيث هو جوهر الوجود الاجتماعي، يبقى مدرحيًّا هو الإنسان الكامل، الإنسان- المجتمع، لذا كانت التصنيفات العرقية أو الطبقية أو الدينية- الثقافية.. إلى ما هنالك من تصنيفات، لا تعني بأي حال من الأحوال أن المجتمع هو حينًا طبقة وحينًا آخر عرقًا وحينًا ثالثًا دينًا أو لغة أو ما شاكل، ذلك أن الجوهر والمظهر هما في وحدة لا تتجزأ كما المضمون والشكل وكما الباطن والظاهر، فإذا كانت المادة تعيّن الشكل، فالمادة- البيئة- الجوهر- المضمون- الباطن، هي التي تحدد الشكل- الدولة، وعليه فسعادة لا يخلط بين مفهومي مصطلحي الأمة والدولة، بقدر ما يبيّن وحدتهما، وكونهما شيئًا واحدًا، اقتضى لفهم آلية عمله تصنيفه على هذا النحو أو ذاك. فعلى سبيل المثال، سعادة لا يُقرُّ بالطبقة كمفهوم للمجتمع، بمعنى أن المجتمع ليس طبقة كادحة وليس طبقة مستغلين، لكنه لا ينفي كونهما وجودًا معاشًا اجتماعيًّا، كذلك الدين كفلسفة اجتماعية، لا ينفي وجود جماعات دينية مختلفة الطوائف والمذاهب في المجتمع، لكنه لا يقصر مفهوم المجتمع على فئة دينية أو طائفة دون سواها، وإذا كانت الأمة التي يقول بها مزيجًا سلاليًّا، فهذا لا يعني أنه يُقِرُّ بالعرق أو بالسلالة، وإن كان يُقِرُّ بعالم عربيّ الدين واللسان، فلا يعني ذلك أنه يعترف بالعروبة أمة وقومية، سعادة لا يرى المجتمع مرحلة من مراحل تطوره كما في التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية ماركسيًّا، ولا جيلًا محدّدًا، كما في نظرية دوركهايم الوظيفية، ولا فردًا كما يراه ماكس فيبر، لكنّما يراه تعاقب الأجيال في بقعة محددة طبيعية خاضعة مختلف أجياله لدورة اجتماعية- اقتصادية مُشَكِّلَةً وحدة حياة، واقعًا اجتماعيًّا. يقول (إذا كان) “.. الاجتماع صفة ملازمة للإنسان في جميع أجناسه، إذ إنّنا حيثما وجدنا الإنسان وفي أيّة درجة من الانحطاط أو الارتقاء، وجدناه في حالة اجتماعيّة.. (فإذا) كان الاجتماع صفة عامّة في الإنسانيّة فهذا لا يعني أنّ الإنسانيّة مجتمع واحد يسري فيه الاجتماع بمجرّد الإنسانيّة..” فالصفات- التجليات- الشكل- الظاهر- المظهر، تتبع المتحد- المادة- الجوهر- المضمون- الباطن، لا المتّحد يتبع الصفات..

——————————–

(*) – يقول الحصري في تلخيصه لسعادة وحزبه: ”لا يسعني إلا أن أعلن إعجابي بنشاط الرجل واندفاعه وتحبيذي لمعظم المبادئ الإصلاحية التي يذكرها في تعاليمه..”، ولسنا ندري كيف يبدي إعجابه وتحبيذه “لمعظم المبادئ الإصلاحية”، ولم يتبيّن كيف يميّز سعادة بين مصلحة الأمة والدولة في رابع هذه المبادئ..

———————

بانتقالنا إلى القضيتين اللتين سيحصر بحثه بهما، نجد أنه يحدّدهما لما لهما من أهمية في “السياسة التي يدعو إليها المؤلف في تعاليم الحزب الذي أسسه، (ويتعلّق بهما) تعلّقًا شديدًا”.

أولى هاتين القضيتين، “تأثير الطبيعة في سير التاريخ ونشوء الأمم”، أما القضية الثانية فهي “دور اللغة في حياة الأمم ونشأة الدول”..

تأثير الطبيعة في سير التاريخ ونشوء الأمم

وتحت عنوان القضية الأولى يقول: ”يغالي المؤلف (سعادة) في أمر تأثير البيئة الجغرافية في حياة الأمم، ودور الأرض في توجيه الوقائع التاريخية مغالاة شديدة.. إنه يتكلم عن ذلك في فصل خاص.. ويتبنّى كثيرًا من الآراء التي ثبت بطلانها، بالأبحاث العلمية..” يضيف قائلًا: ”.. ويسجل في كتابه الحقائق التالية.. ولكنه يذكر هذه الحقائق ذكرًا عابرًا.. دون أن يقدّر النتائج المنطقية التي تترتب على التسليم بها، بل يبقى متمسكًا بالآراء والنظريات التي كانت شائعة.. كما أنه عندما يُقدم على تعريف الأمة، ينسى هذه الحقائق تمامًا، ويندفع وراء مخالفة صريحة، حتى إنه ينزلق إلى أودية التناقض أيضًا..”.

لكن  الحصري لا يغفل -كعادته- في إطلاق الأحكام دون مستندات لهذه الأحكام، فيقدّم لنا ذلك قائلًا: ”في الفصل المعنون /الأرض وجغرافيتها/ (.. يتكلّم المؤلف عن تأثير العوامل الجغرافية في الأحوال البشرية ويستشهد على ذلك بتأثير جبال الألب في سير الحروب البونية الرومانية، حيث يقول: (لولا جبال الألب الفاصلة بين بلاد الجلالقة /فرنسا/ لما كان أصاب جيش هاني بعل، أعظم نابغة حربي في كل العصور والأمم، ما أصابه من التشتت والضعف، حين زحف على رومة، ولولا هذه الجبال نفسها لما وجد أخوه الباسل “حسدور بعل” نفسه في ذلك المأزق الحرج الذي انتهى بقتله وتقرير مصير قرطاجة..”، ويضيف معلّقًا: ”يُفهم من هذه العبارات أن المؤلف يعلّل انتهاء الحروب البونية الثانية بالفشل لوجود جبال الألب القائمة بين فرنسا وإيطاليا..”، وينتهي (الحصري) للقول: ”إن تعليل فشل هاني بعل في القضاء على الإمبراطورية الرومانية بتأثير جبال الألب، لا يمكن أن يكون تعليلًا معقولًا بوجه من الوجوه..”.

نلاحظ، أن الحصري، في كل ما تقدم، يسعى لربط فشل هاني بعل بما يخالف ما سبق وساقه سعادة من تأثير البيئة وتاليًا الحدود الطبيعية على سير “الوقائع التاريخية..”، ويعزو فشل الحملة التي قادها هاني بعل، عبر تلك الجبال، حسبما يدّعي بأن سعادة يقول ذلك، لينتهي للقول بأن ذلك: ”لا يعتبر تعليلًا معقولًا بوجه من الوجوه..” على الرغم من أنه -الحصري- يشير إلى أن سعادة “قد اهتدى إلى الأسباب الحقيقية وذكرها بموضع آخر من كتابه..”.

يُقَوِّلُ الحصري سعادة ما لم يقله، وهذه مسألة تدين الحصري نفسه، في تأويله المغلوط للعبارة “ولولا هذه الجبال نفسها لما وجد أخوه الباسل، حسدور بعل نفسه في ذلك المأزق الحرج الذي انتهى بقتله وتقرير مصير قرطاجة”، فمن حيث المبدأ، سعادة لم يقل إن جبال الألب وتاليًا مقتل أخيه كانت السبب في فشل الحرب، بل ”النّزاع الشّديد الصّامت بين الطّبقة القابضة على زمام السّلطة وإمبراطور الجيش. والحقيقة أنّ هذا النّزاع كان السّبب الرئيسيّ في خسارة الحرب الفينيقيّة الثّانية مع رومة..”، فالاجتزاء والتأويل المغلوط، لا يتّفق ونزاهة الحصري وموضوعيته التي يدّعيها، فسعادة، لم يقل إن الحدود الطبيعية تحول دون غزوات الجماعات بعضها لبعض، وإلا فكيف كان على سعادة أن يفسّر لنا اجتياز حمورابي لجبال طوروس وبلوغ إمبراطوريته حدود موسكو الحالية، كذلك اجتياز قورش الفارسي لجبال زاغروس واحتلاله بابل؟! وكيف اجتاز المقدوني، ذات الجبال وبلغ بلاد الهند؟!، سعادة لا يقول إن تلك الجبال كانت السبب في خسارة الحرب، بل وأيضًا، كيف سلك” مجلس قرطاضة خطة غريبة تجاه هذا القائد القرطاضيّ العظيم، فقد اهتمّ هذا المجلس بإرسال المدد إلى الميدان الإسبانيّ ولم يتّخذ أيّ تدبير حاسم لإيصال المدد الضّروريّ إلى الميدان الإيطاليّ..”، إذًا، سعادة يعتبر أن خسارة الحرب كانت سوء إدارة مقصود من “مجلس قرطاجة” حيث كان على حسدور بعل نقل الإمدادات من إسبانيا إلى إيطاليا عبر تلك الجبال التي أوقعته في كمين انتهى بمقتله وضياع الإمداد الذي كان ينتظره هاني بعل،.. فقوله: ”وأما ما حدث بعد ذلك، فلا يجوز -والحالة هذه- أن يُعزى إلى تلك الجبال..” لا يتفق مع ما يعزو إليه سعادة فشل الحملة على رومة، فالحملة انتهت باحتلال هاني بعل لبلاد الرومان على مدى تسعة عشر عامًا بعد مقتل أخيه، فهي في حقيقة الواقعة التاريخية بنظر سعادة قد نجحت بتحقيق أهدافها رغم ما كان يخطط له “مجلس قرطاجة”.

سعادة يقول بما يتعلق بالحدود الطبيعية إنها ”تضمن وحدة الجماعة، لأنّها تجمعها ضمنها، وتكون العامل الأوّل في المحافظة عليها، لأنّها الحصون الطّبيعيّة في وجه غزوات الجماعات الأخرى..” ولم يقل إنها تحول دون تلك الغزوات، فليست الحدود الطبيعية، من وجهة نظر سعادة، سوى إطار يسمح بتوثيق عرى التفاعل بين الجماعات النازلة بالبيئة المعنية، ولا يحول هذا الإطار من فاعلية الأمة مع ما وراءها، فقوله: ”فالحدود الجغرافيّة تضمن وحدة الجماعة، لأنّها تجمعها ضمنها، وتكون العامل الأوّل في المحافظة عليها، لأنّها الحصون الطّبيعيّة في وجه غزوات الجماعات الأخرى..”، لا يعني سوى أن هذه الحدود تشكّل عقبة أمام الغزوات الخارجية لأن هذا المعنى يتّفق اتفاقًا مطلقًا مع قول سعادة: ”وإذا أعدنا النّظر في البيئة الجغرافيّة، في القطر وما يتعلّق به، وجدنا أنّ الحدود ليست من التّمام بحيث تفصل فصلًا تامًا بين أيّ قطر وكلّ قطر، بين أيّ متّحد وكلّ متحد، وإلاّ لوجب أن نسمّي كلّ قطر دنيا قائمة بنفسها. وحيث الفصل تامّ كما في الجزر يلجأ المجتمع إلى إيجاد طرق وأساليب حتّى يجعل الاتّصال على أفضل حالة ممكنة. لأنّ العزلة التّامة منافية ولكنّ الحدود تقلّل الاتّصال، سواء أكان سلميًّا أم حربيًّا، وتصعّب التداخل والاختلاط الاجتماعيّين مع الخارج بقدر ما تسهّل اشتباك الجماعات في الدّاخل واتّحادها..”، هذا هو المعنى المقصود من قول سعادة ”لأنّها الحصون الطّبيعيّة في وجه غزوات الجماعات الأخرى..” الحدود الطبيعية عند سعادة ليست سوى ضامن لوحدة الحياة التي تجري بداخلها أيضًا بشكل نسبي وليس بشكل مطلق، فلا تمنع تفاعل الأمم بعضها مع بعض وانتقال جماعات من بيئة إلى أخرى، لكنه يعزو إلى تلك الحدود توزّع البشر، حيث سبل الحياة أوفر ”الحدود الجغرافيّة الطّبيعيّة جعلت انتشار الإنسان في الأرض موافقًا للبيئات الجغرافيّة.. فمدنيّة الجماعة المستقلّة مستمدّة من بيئتها، لأنّ الاستنباط والتّكييف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص البيئة الطّبيعيّة..”.

ما تقدّم من شواهد، يذكره الحصري معتبرًا أنه يتناقض مع قول سعادة ”ولولا هذه الجبال نفسها لما وجد أخوه الباسل، حسدور بعل نفسه في ذلك المأزق الحرج الذي انتهى بقتله وتقرير مصير قرطاجة..”، هذا التناقض الذي يشير إليه الحصري، ليس سوى فهم مغلوط يشابه فهم مجلس قرطاجة لما كان هاني بعل يقصده من حربه ضد رومة، فسعادة لم يقل إن “.. تقرير مصير قرطاجة..” كان بسبب تلك الجبال لأن خسارة الحرب وفق المجريات التي جرت، كانت بسبب أن القائد الروماني “شيبيو” تنبّه إلى أن إنهاء احتلال هاني بعل لروما لا يمكن أن يكون إلا بنقل المعركة إلى البرّ القرطاجي وتهديد قرطاجة مباشرة، مما دفع بهاني بعل إلى لملمة جيشه من مختلف أنحاء رومة والزحف بحرًا إلى قرطاجة للحيلولة دون احتلالها من قبل شيبيو فكانت معركة ”زاما” التي خسرها هاني بعل بجيشه المنهك بزحفه بحرًا، وليس عبر جبال الألب التي اجتازها بنجاح وانتصر بها انتصارًا ساحقًا وأرسل إلى قرطاجة ستين صندوقًا من خواتم وحليّ الجنود الرومان الذين قُتلوا في معركة سهل البو التي شكلت السفوح الجنوبية لجبال الألب..

ما يسوقه الحصري من اتهامات لسعادة، أبرزها تناقض سعادة مع نفسه، ليست سوى ادعاءات لا تجد لها دليلًا واحدًا إذا ما فُهمَ سعادة فهمًا غير مُجْتَزَئٍ لحقيقة ما يقوله في موضوع الحدود الطبيعية..

يتابع الحصري نقده لسعادة بدافع نقض آرائه العلمية قائلًا: ”في آخر فصل “الأرض وجغرافيتها” يتكلّم المؤلف (سعادة) عن البيئة وشخصية الجماعة، ويقول ”البيئة أهم عامل في تكوين شخصية الجماعة، وإن شخصيات الجماعات، مرتبطة بالأرض التي تملكها ارتباطًا وثيقًا، بل قوام شخصياتها البيئة- الوطن” ويحاول البرهنة على ذلك بتأثير الأملاك في الأشخاص، فيقول ما يلي: ”إن تأثير امتلاك أرض أو عقار جزء من شخصيته، إذ لولاه لكانت طريقة معاشه ومرتبته ونوع حياته على غير ما تكون عليه مع هذا الجزء.. وهكذا الجماعات، شخصياتها مرتبطة بالأرض التي تملكها ارتباطًا وثيقًا”. ويعلّق الحصري على ما يقتطفه من قول سعادة حول أهمية البيئة وتأثيرها على الجماعة مكانة ومرتبة بقوله “وهنا يقع المؤلف في خطأ فاحش جدًّا، إذ يعتبر الملكية بمثابة قضية جغرافية، في حين أنها قضية اجتماعية بحتة، تتبع النظم الاجتماعية، لا الأحوال الطبيعية..”.

عندما قلنا إن الحصري يحاول خلع جلباب بائع جوال ليتلبس جلباب محاميٍّ لا يفقه من القانون شيئًا، فنحن لم نبخس ساطع الحصري حقه، وخير ما يصدق به قولنا هو ما تقدم، حيث يتضح أن الحصري لم يفقه قول سعادة المشار إليه عندما يقول (الحصري): “هذه القطعة من الأرض قد تكون ملكًا لشخص أو لشخص آخر، أو جماعة من الناس، أو لأسرة، قد تكون موقوفة لأمر من الأمور الخيرية، أو ملكًا لمؤسسة من المؤسسات العامة، كالبلدية أو الدولة، وقد تنتقل ملكيتها من شخص لآخر، أو من جماعة إلى جماعة، أو من شخص إلى جماعة، أو من جماعة إلى شخص، عن طريق البيع أو الشراء، أو التوارث، أو من جراء تغيير النظم والقوانين المتعلقة بالملكية، بديهي أن كل ذلك، مما يتعلّق بالأرض نفسها، فمن الخطأ الفادح أن تعتبر قضية الملكية قضية أرض وطبيعة، فإن الملكية من الأوصاف الطارئة على الأرض من جراء الاعتبارات والتشكيلات الاجتماعية.. ولهذه الأسباب كلها أستطيع أن أقول بكل جزم وتأكيد: إن اعتبار الملكية قضية جغرافية، وتشبيه الأملاك بالبيئة الطبيعية، والاستدلال من ذلك على أن شخصية الجماعة مرتبطة بالأرض التي تملكها، والقول بأن قوام شخصية الجماعة، هو البيئة، يخالف أثبت حقائق علم الاجتماع..”.

إن فهمًا قاصرًا عن إدراك المقصود من أن “قوام شخصية الجماعة هو البيئة” على النحو المتقدم، لدليلٌ قاطع على أن الحصري يخوض غمار علم لا يفقه منه شيئًا، فباختصار شديد تبقى الملكية، أيًّا كان شكلها مما يورده الحصري من أمثلة، هي شخصية مالكها، ولسنا بحاجة إلى إثبات أن “غيتس” مالك مايكروسوفت”، هو من الشخصيات المعتبرة في العالم أجمع، ولا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال، بأي شخص آخر لا يملك قوت يومه، وله من المكانة التي يتبوّؤها “غيتس” فعندما يقول سعادة كيف أن الأمراء الروس، بعدما فقدوا ملكيتهم للأرض وما عليها، خرجوا سائقين، فهو لا ينافي (أثبت الحقائق العلمية) أو (أثبت حقائق علم الاجتماع) التي يأخذ بها أكبر علماء الاجتماع وأولهم على الإطلاق ماركس ومن ثم أنغلز في كتابه (أصل العائلة والملكية والدولة) والذي يعيد مختلف أنواع السلطات الحاكمة والناظمة للمجتمع إلى الملكية التي أشار إليها سعادة بمثال يقارب ملكية المجتمع لبيئة طبيعية تختزن مقومات وجوده، فسعادة عندما يقول: ”إن قوام شخصية الجماعة هي البيئة الطبيعية” لا يعني بها تلك الملكية التي اتخذها الحصري لنقض أثر هذه الملكية، إنما يعني أن الملكية -أكانت لشخص أم لهيئة اعتبارية- هي شكل من أشكال القوة المادية في المجتمع التي يمكنها أن تتحكم بمختلف نواحيه الاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية فماذا يعني سعادة حقيقة بقوله المشار إليه؟

في مقولته الرئيس “المادة تعيّن الشكل” يشرح سعادة كيف أن البيئة الطبيعية باحتوائها على إمكانيات متعددة ومتنوعة دفعت إلى قيام أول تجمّع عمراني في العالم، سومر، والتي أقامت أول مدينة في التاريخ، حيث بلغ عدد سكانها ما يقارب الخمسين ألفًا، وهذه بدورها أوجدت نظم وقوانين العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، الإنتاجية منها والتجارية، البيئة الطبيعية، المتميزة في سورية الطبيعية هي التي دفعت لتدجين الحيوان، ولاختراع المحراث والعجلة والأحرف الأبجدية والأرقام وتاليًا علوم الحساب والفلك وسلك البحار وما شاكل من شؤون الحاجات والوسائل التي ننعم بها اليوم، يكفي، على سبيل المثال، كيف أن سومر صنفت أنواع الأسماك التي لم يزد عليها التقدم العلمي الذي نحياه اليوم سوى بضعة أنواع لا يحسب لها حساب أمام التصنيف السومري..

هكذا يمكننا فهم أن “قوام شخصية الجماعة هو البيئة الطبيعية”، فإضافة لما للبيئة الطبيعية من تأثير على الإنسان كعضوية، بيولوجيًّا، على سبيل المثال أيضًا، فإن النضوج الجنسي لدى الذكر والأنثى، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبيئة الطبيعية حتى يومنا هذا، ففي البيئات الحارة ينضج كل من الذكر والأنثى في سنٍّ مبكرة قد تصل إلى نحو تسع سنوات عند الإناث، بينما يتأخر في البيئات المعتدلة إلى أربعة عشر عامًا، وفي البيئات الباردة قد تبلغ الأنثى سن الثامنة عشرة حتى تنضج جنسيًّا، وهذه مسألة بيئية وليست مسألة سلالية، وإن كانت تدخل في نطاق الأخيرة بتأثير البيئة المستمر على الأفراد في هذه البيئات المختلفة، فإن تأثيرها يبقى بما تذخر به من مقومات الحياة، وإمكانية الاستفادة منها، وبديهي أن البيئة التي تفتقر لهكذا مقومات تبقى في حالة متأخرة عمرانيًّا، على نحو ما يقول سعادة: ”إنّ البيئة هامّة لتقدّم الإنسان بقدر ما هي الأرض عمومًا هامّة لحياته.. الحدود الجغرافيّة الطّبيعيّة جعلت انتشار الإنسان في الأرض موافقًا للبيئات الجغرافيّة.. فمدنيّة الجماعة المستقلّة مستمدّة من بيئتها لأنّ الاستنباط والتّكييف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص البيئة الطّبيعيّة..، إنّ المادّة تعيّن الشّكل، فمّما لا شك فيه أنّ لكلّ مادّة خصائص من شكل وحجم وصلابة تعطي صفات معيّنة للأبنية والأدوات المصنوعة منها. ونتيجة ذلك أنّ الموادّ الّتي تستمدّها النّزالات البشريّة من بيئاتها وتستعملها في أغراضها تحمل طابع بيئاتها، فيكون لكلّ بيئة موادّها المتشكّلة بأشكال خاصّة توافق طبيعتها وتزيد في خصائص مظهر برّيّتها كما تزيد منازل اليابان الخشبيّة في خصائص مظهر برّيّتها، وإنّ الذّوق الصّينيّ واليابانيّ في البناء، الّذي يطبع مدنيّة هذين الشعبين بطابع خاصّ في أشكال منازلهم، عائد بالأكثر إلى أنّ اختبارهم في البناء والتزّيين كان في الخشب المستخرج من أشجارهم الكثيرة.. في الأقسام الجديبة من شرق سورية (بلاد الكلدان وشوشان) وسيستان وآسيا الوسطى، فالقرى والمدن أيضًا قد بنيت من الطّين واللّبن فقط(49). وهكذا نرى الجماعات البشريّة قد تأثّرت كلّ جماعة منها بمواد بيئتها وجرت على أساليب توافق طبيعة هذه البيئة، فتنوّعت أساليب الجماعات ومجاري حياتها حسب تنوّع بيئاتها. وهكذا نرى أنّ تاريخ علاقة الجماعة بالأرض، المستمدّ من [الجلالي] المغروسة بأصناف الفاكهة والسّهول المزروعة بأنواع الحبوب هو غير التّاريخ المستمدّ من الصّحراء القاحلة والأراضي الجديبة.. فالبيئة الجغرافيّة المؤلّفة من سهل منبسط فسيح تكسب جماعتها تجانسًا قويًّا يختلف في نوعه عن تجانس أهل البيئة المؤلّفة من جبال. والتّجانس في هاتين البيئتين يختلف اختلافًا قويًّا عن التّجانس الّذي أسمّيه [التّجانس التّنوّعيّ] الناتج عن بيئة جغرافيّة متنوّعة الأديم من سهل وجبل وساحل.. ونزيد هنا أنّ تأثير البيئة الطّبيعيّة في أشكال الهيئة غير السّلاليّة تأثير قويّ جدًّا، فقد ذكر بواس(51) أنّ البيئة تؤثّر، في الغالب، على أشخاص مختلفين تأثيرًا يؤدّي إلى اتجاه واحد بناء على أنّ لكلّ عضو [حدود سلامة] يتكيّف ضمنها تبعًا لمقتضيات البيئة، فيتّخذ الهيئة الّتي تتطلّبها عوامل البيئة دون أن يفقد خصائص وظيفته.. وإنّ من أهمّ مؤثّرات البيئة أو الأرض في تمييز الجماعات أنّها أهمّ عامل في تكوين [شخصيّة الجماعة].. وهكذا الجماعات شخصيّاتها مرتبطة بالأرض الّتي تملكها ارتباطًا وثيقًا، بل قوام شخصيّاتها البيئة. الوطن.. مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة.. وصلاح البيئة واستتباب تهيّؤها للتّفاعل والتّدامج. أمّا حيث لا تتوفّر هذه المقوّمات فالحالة الابتدائيّة تسود ويظلّ الاجتماع قائمًا على أساس الرّابطة الدّمويّة الّتي تقتصر على أنواع من الحياة محدودة ولا أمل لها بالارتقاء في مثل هذا النّظام. وعلى هذا قبائل إفريقية وآسية وأميركا وجزائر المحيط الهادئ.

وبناء على ما تقدّم، نرى أنّ الاجتماع البشريّ يقسم إلى نوعين رئيسيّين: الاجتماع الابتدائيّ ورابطته الاقتصاديّة الاجتماعيّة هي رابطة الدّم، والاجتماع الراقي ورابطته الاقتصاديّة- الاجتماعيّة مستمدّة من حاجات الجماعة الحيويّة للارتقاء والتّقدّم بصرف النّظر عن الدّم ونوع السّلالة.. فالنّظام الاجتماعيّ هو دائمًا حاصل تفاعل الإنسان والطّبيعة أو البيئة بطريقة معيّنة أو منبعث منه وموافق له. ونحن نتتبّع تطوّر الثّقافة العمرانيّة بتتبّع تنظيم الإنسان مجتمعه بناء على هذا التّفاعل، فكما أنّ التّطوّر الإنسانيّ، نشوءًا وارتقاءً، كان وفاقًا لمقتضيات تطوّرات الطّبيعة والبيئة، أي إنّه تطوّر محتّم بالاختيار الطّبيعيّ لا مفضّل بالاختيار العقليّ، كذلك التّطور الاجتماعيّ، نشوءًا وارتقاءً هو وفاق لتطوّر التّفاعل بين الإنسان والبيئة بدافع الحاجة المادّية. فإذا كان العقل نتيجة تطوّرات الدّماغ الفيزيائيّة، فالعقليّة الاجتماعيّة نتيجة تطوّرات التّفاعل الماديّ لتأمين الحياة الاجتماعيّة.. ولكنّ البيئة الواحدة جعلت الوحدة السّياسيّة أمرًا لا مفرّ منه، فكانت هذه الوحدة السّياسيّة الشّرط الأوّل لتولّد الوحدة الشّعبية الّتي نشأت فيما بعد بعامل الاشتراك في الحقوق الدوليّة..

—————————————-

(*) – يذكرني ما يذهب إليه الحصري بصاحب أضخم مكتبة في البقاع من لبنان، عندما سُئلَ عن الهدف من إنشائه مثل هذه المكتبة العملاقة وهو الأميّ الذي لا يستطيع (فكَّ حرف عن آخر من حروف الأبجدية) قال: لأثبت للعالم أجمع أنني الأميّ الذي يمكنه التحكم بأكبر (مخ) في هذا البلد.

——————————————————

أسهبنا فيما تقدم بعرض موقف سعادة من أهمية البيئة الطبيعية في نشوء الأمة وتمايزها عن سواها من الأمم، تبعًا لما تختزنه من إمكانيات تمكّن الجماعة من إبراز مواهبها في كيفية استغلالها لإمكانيات بيئتها، وما ذلك إلا لأن ساطع الحصري يقول: ”إني أجد في مجموع هذه الأقوال مثلًا واضحًا على عدم تمييز المؤلف بين الدولة والأمة، التمييز العلمي الصحيح، فلا شك في أن وجود “قطر معين محدود” ضروري لقيام الدولة، لكنه لم يكن ضروريًّا لوجود الأمة، فالأمة قد تكون مبعثرة على أقطار مختلفة، وقد تعيش مع غيرها من الأمم في بقعة أرضية واحدة، فالقول إنه “لا أمة على الإطلاق دون قطر معين محدود” لا يتفق مع الحقائق الراهنة بوجه من الوجوه..”.

يشير المؤلف في هذا الصدد إلى ما ذهب إليه (إسرائيل زانفيل) عندما قال /إن الشعب اليهودي تمكن من الاحتفاظ بنفسه بدون بلاد/، ولكنه يعتبر هذا القول من الأغلاط الاجتماعية الفاضحة، ويحاول البرهنة على صحة زعمه، بالإيضاحات التالية:   

 “إن اليهود احتفظوا بيهوديتهم الجامدة من حيث هي مذهب ديني، وقد أكسبهم دينهم الشخصي عصبية لا تلتبس بالعصبية القومية إلا على البسطاء المتغرضين، اليهود ليسوا أمة أكثر مما هم سلالة (وهم ليسوا سلالة مطلقًا) إنهم كنيس وثقافة، لا يمكننا أن نسمّي اليهود أمة، أكثر مما يمكننا أن نسمي المسلمين أمة والشيعة أمة والأرثوذوكس والكاثوليك أمة.. الخ، ولجميع هذه المذاهب عصبياتها وتقاليدها التي تتميز بها“.

يعلّق الحصري على ما تقدم قائلًا: “لكن المؤلف يقع في غلط فاحش عندما يقيس الديانة اليهودية بالديانتين الإسلامية والمسيحية، إنه لا ينتبه إلى الفرق العظيم الذي يميز الأديان العالمية عن الأديان القومية..”، فالديانتان الأوليان برأيه (برأي الحصري) أديان عالمية، بينما اليهودية ديانة قومية، ويشير إلى عدم صحة القول “إن لا أمة على الإطلاق دون قطر معين محدود”، ويضرب على ذلك مثال الأرمن في تشتتهم على أقطار عدة وإلى مقدونيا، حيث تتشابك قرى بلغارية مع قرى يونانية وألبانية.. وعلى ما تقدم من أمثلة ينتهي للقول: ”نستطيع أن نؤكد: إن القول /الأمة تجد أساسها قبل كل شيء في وحدة أرضية معينة/ لا ينطبق على حقائق الأمور بوجه من الوجوه..”.

بين الأمة والدولة

يستمر الحصري في تأكيد تخرصاته في علم لم يفقه منه حتى اسمه، ذلك أنه عندما يتّهم سعادة بعدم التمييز بين الأمة والدولة، دون أن يقدّم لنا مفهومًا واحدًا للمصطلحين، ويطلق حكمًا كهذا، لا يترك لنا مجالًا للشك في أنه لا يميز هو بذاته بينهما، إذ، عندما يُعرِّف سعادة الدولة “كشأن ثقافي” والأمة “كواقع اجتماعي” ويبيّن في مواقع كثيرة من مؤلفه (نشوء الأمم) ماهية الشأن الثقافي وماهية الواقع الاجتماعي، لا يبقى هناك أدنى شك في أن الحصري يتحامل على سعادة ويقوِّله ما لم يقله بإصدار حكم كهذا، خاصة وأنه يقول ”إن وجود قطر معين محدود (محدّد بالأحرى) ضروري لقيام الدولة، لكنه لم يكن ضروريًّا لوجود الأمة..” معتبرًا الأمة شأن مجموع من الناس قد تفرّقهم أحداث معينة تاريخيًّا، على أنهم “أمة مبعثرة على أقطار مختلفة” فهو بهذا القول يحكم على نفسه بجهل في ماهية علم الاجتماع، فالأرمن، كمثال يقدمه لنا على صحة ما يذهب إليه، قد دفعت لشتاتهم مجموعة من الأغراض السياسية التي تمّ في ضوئها التعاون بين السلطنة العثمانية وألمانية، على ارتكاب أبشع مجزرة تاريخية تورّط بها الأكراد بدوافع شخصية مادية من شيوخ قبائلهم، لم يكن لشتاتهم أي أثر في محو الأمة الأرمنية التي كانت ما تزال قائمة على أرضها، فالأفراد، كما يقول سعادة، “يأتون ويذهبون، يتساقطون تساقط أوراق الخريف، لكن المجتمع باقٍ” يشير إلى هذه الواقعة التي يتخذها الحصري دليلًا على صحة أقواله وخطأ طروحات سعادة في هذا الأمر، لكن الحصري ينسى أن ألوفًا مؤلفة من السوريين وغيرهم من المصريين على الأخص، كانوا قد هاجروا إلى الأميركيتين أبان الحرب العالمية الأولى، لكن مجتمعهم بقي على أرضه متفاعلًا مع مختلف الأحداث التي دفعت بشبابه للهجرة والتشتت في مختلف بقاع العالم، فانتقال فرد ما، أو جماعة ما، إلى بقاع أخرى من العالم لا يعني بحال من الأحوال انتقال المجتمع معهم أو زواله كهيئة اجتماعية تقاوم وتصارع من أجل البقاء على أرضها بشتى سبل المقاومة، فكثير من السوريين ماتوا جوعًا في الحرب العالمية الأولى وأنهكهم الفقر وقلة الموارد عندما ضربت المجاعة المشهورة باسم (سفر برلك) أرض مجتمعهم، لكنهم قاوموا ذلك بعامل شخصيتهم الاجتماعية التي لم يفتت من عضدها ما تعرضوا له، وقد سبق لنا أن بيّنا أن سعادة يعول على هذه الشخصية الاجتماعية كل الأهمية ويقدمها على الحدود الطبيعية، لأن النسيج الاجتماعي الذي تعبّر عنه هذه الشخصية مستمد من “تاريخ يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي” فتكتنه كل الخبرات التاريخية التي مرّت بها مورِّثة إياها لأجيالها اللاحقة ولأجيال لم تولد بعد.

أما الدولة التي يقول فيها إنها هي التي تكون بحاجة إلى قطر معيّن محدود، كضرورة من ضرورات قيامها، فتلك ليست دولة بالمعنى الاجتماعي، هي كيان سياسي، فالدول الحديثة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية بقرارات محض سياسية متوافقة مع مصالح الدول التي أنشأتها، قد سلختها تلك المصالح وأقامتها لتجزئة وحدتها الطبيعية (دورة حياتها الاجتماعية- الاقتصادية)، أكثر من ذلك، فقد جزّأت المطامع الاستعمارية عائلات وطوائف ومذاهب وأعراق وطبقات هذه الأمم ودفعت بهذه التجزئة إلى تداخلات اجتماعية وثقافية عرقية ومذهبية وطبقية.. بين هذه الدول ودفعت بها لاستعداء كل منها الأخرى بدعوى تدخلها في شؤونها الداخلية والتي هي من طبيعة نتائج التقسيمات الاستعمارية التي أطاحت بالوحدة التاريخية لهذه الأمم، فتداخلت ”في منطقة واحدة قرى بلغارية مبثوثة بين قرى يونانية وأخرى ألبانية” على الرغم من أن تسمية هذه القرى بأسماء مذاهبها الدينية، لا يعني أنها ليست شعبًا واحدًا بالأصل، هذه الدول ليست هي الدول التي ينطبق عليها قول سعادة بأنها شأن ثقافي، والذي يعرفه سعادة كعادته في تعريف المصطلحات التي يستخدمها، على العكس من الحصري الذي يستخدم مصطلحات هي أقرب للمفهوم العامي منها إلى علم الاجتماع، سعادة يعرف الشأن الثقافي بقوله: ”فإذا تكلّمنا عن الثّقافة السّوريّة عنينا بها الدّور الذّي قام به السّوريون في ترقية الثّقافة العامّة، وهو دور الجمع بين الزّرع والغرس وسلك البحار والتّجارة وإنشاء الحروف الهجائيّة والدّولة المدنيّة وخصوصًا العناصر الأربعة الأخيرة، كما تقدّم معنا آنفًا. وإذا تكلّمنا عن الثّقافة الإغريقيّة عنينا بها الفلسفة والفنّ اللّذين أنشأهما الإغريق وأعطوهما للعالم. وإذا تكلّمنا عن الثّقافة العربيّة عنينا بها ترقية العلوم التي اشتركت فيها العناصر الداخلة في نطاق اللغة العربية، كالحساب والهندسة والطّبّ والكيمياء. وإذا تكلّمنا عن الثقافة الحيّة كلّها مع الاحتفاظ بالألوان أو الصبغات القومية لبعض نواحي الثّقافة..” الدولة كشأن ثقافي يعرفها سعادة بقوله: ”ليست الدّولة في ذاتها مقياسًا للثّقافة العقليّة بل بما تنطوي عليه من حقوق..”، إذًا، الدولة كشأن ثقافي تعكس المرتبة الثقافية التي بلغها المجتمع من خلال تفاعله مع بيئته الطبيعية، وبما تذخر به هذه البيئة الطبيعية من ممكنات الارتقاء والتقدم، وعليه تكون الدولة شأنًا ثقافيًّا بقدر ما تكفل قوانينها لمواطنيها من حقوق،  لذلك فالدول الذي يعنيها الحصري هي في الواقع شأن سياسي، لا علاقة له بأيٍّ من مفهومات مصطلح “ثقافي” فكيف يكون قول سعادة، والحال هي هذه غير متّفقٍ (مع الحقائق الراهنة بوجه من الوجوه) خاصة وأن الحصري لا يقدّم لنا مثالًا لهذه (الحقائق) التي يدّعيها سوى تلك الأمثلة الواهية التي لا يمكن اعتبارها أمثلة في علم يدّعي قوننة الحركة التاريخية للشعوب والأمم ونقصد (علم الاجتماع).

وعندما يقول سعادة “إن الدين في أصله لا قومي ومنافٍ للقومية” كيف يمكننا فهم ما يقوله الحصري بهذا الصدد من أن سعادة “يقع في غلط فاحش، عندما يقيس الديانة اليهودية بالديانة الإسلامية والديانة المسيحية.. إنه لا ينتبه إلى الفرق العظيم بين الأديان العالمية والأديان القومية” ذاهبًا للقول بأن الديانتين الإسلامية والمسيحية هي أديان عالمية بينما الديانة اليهودية ديانة قومية!!!

وعلى الرغم من أن الحصري لم يحدّد لنا حتى الآن مفهومه للأمة والقومية، متّهمًا سعادة، بعدم الانتباه للفارق بين البيئة الطبيعية والاجتماعية حينًا وبين الوراثة الطبيعية والوراثة الاجتماعية حينًا آخر وإلى الفارق بين الأمة والدولة، يضيف هنا عدم انتباه سعادة للفارق بين الأديان العالمية والأديان القومية، باستشهاده بقول سعادة ”الدين في أصله لا قومي ومنافٍ للقومية”، مغرقًا في جهله بتصوير الأمة على أنها جماعة من الناس إن أصابها التشتت تبقى أمة، أو هي كذلك رغم تشتتها، فاليهود بناء عليه هم “أمة” رغم تشتّتهم لأن الدين اليهودي هو “دين قومي” ومن دون أن يعي بأن قوله المشار إليه يعطي اليهود الحق في إقامة دولة “أمتهم” على أرض فلسطين رغم تشتتهم..

كان الأجدر بالحصري القول بأن الدين اليهودي دينٌ منغلقٌ على ذاته بينما الأديان الأخرى “سماوية” أو غير سماوية كالسيخ والهندوس والبوذية.. هي أديان منفتحة في دعواها على العالم أجمع بما يعني أن الأديان تبقى من أية وجهة أُخذت بها أديان أممية النزوع، أي أديان عالمية، على الرغم أيضًا، من أن إضفاء سمة “الدين القومي” على الدين اليهوي (نسبة إلى يهوى، إلاه اليهود) ينافي الواقع الاجتماعي التاريخي من وجوه عدة، أبرزها على الإطلاق، إن اليهودية دين أممي يدّعي الانغلاق على ذاته، من منطلق أن اليهود يتبعون بمجموعهم أممًا أخرى، فمنهم الروسي والفرنسي والبريطاني والهندي والإفريقي.. الخ، أي إنهم مجموعة من البشر لم تجمعهم بقعة محددة من الأرض، وأن دعوى تشتّتهم هي في واقع الحال دعوى زائفة، فإذا ادّعوا أن نشأتهم كدين كانت في فلسطين، ومنها إثر تعرضهم للاضطهاد، انتشروا في بقاع العالم، فلا يمكن والحال اعتبار اليهودي الروسي يعود بجذوره السلالية لمن هاجر من اليهود الفلسطينيين إلى روسيا، فهذه مفارقة لا يقرّها علم الاجتماع بالذات، فالارتحال أو التشتت، يحمل معه مبدأ الاختلاط أو التزاوج، وحيث إن اليهود لا يقرّون بنسبة أبنائهم إلى الرجل وإنما يعود المولود بنسبه إلى أمه، فإن أية علاقة تقيمها المرأة مع رجل من غير دينها -كما هو شائع بين اليهود- يعود المولود بنسبه إلى الأم، فهو يهودي وإن لم يكن من أبٍ يهودي، وهذه أيضًا مفارقة لا يُقرُّها علم الوراثة أصلًا، إذ إن هذا العلم يعيد تحديد نوعية المولود ذكرًا كان أم أنثى إلى الرجل وليس إلى الأم، فأي ادّعاء بتناسل اليهود دون اختلاطهم بالتزاوج مع غيرهم من الشعوب هو ادعاء باطل من الوجهتين التاريخية والاجتماعية وثالثهما علم الوراثة، لذا فمعنى الدين هنا يبقى من حيث المبدأ دينًا لا قوميًّا، فالدخول في الدين اليهودي كان وما يزال قائمًا والشواهد عليه كثيرة..

وبناء على ما تقدم، يصح قول سعادة “إن اليهود قد احتفظوا بيهوديتهم الجامدة من حيث هي مذهب ديني، وقد أكسبهم دينهم الشخصي عصبية لا تلتبس بالعصبية القومية إلا على البسطاء المتغرضين، اليهود ليسوا أمة أكثر مما هم سلالة (وهم ليسوا سلالة مطلقًا) أنهم كنيس وثقافة، لا يمكننا أن نسمّي اليهود أمة، أكثر مما يمكننا أن نسمّي المسلمين أمة، والشيعة أمة، والأرثوذوكس والكاثوليك أمة.. الخ، ولجميع هذه المذاهب عصبياتها وتقاليدها التي تتميز بها” يدعم هذا القول قول الحصري نفسه بأن الدين ليس من عوامل قيام الأمة أو أنه أحد عناصر القومية..

أما القضية الثانية فهي “دور اللغة في حياة الأمم ونشأة الدول”..

المجتمع واللغة:

فنظرية الحصري في الأمة والقومية تقوم على عنصرين أساسيين اللغة والتاريخ، فقط، دون سواهما من العناصر التي يقول بها العروبيون، -الدين واللغة والأصل المشترك والتاريخ والآلام والآمال والأرض.. الخ-  وها هو يُقَوّمْ رؤية سعادة لعنصر اللغة في كونها أحد عناصر القومية فيقول: ”بقدر ما يغالي مؤلف كتاب نشوء الأمم بتأثير الأرض في تكوين الأمة، يغالي كذلك في التقليل من شأن اللغة في هذا المضمار.. وأما البراهين التي يسردها على رأيه فهي في غاية الاقتضاب: يقول أولًا: ”إن اللغة وسيلة من وسائل قيام المجتمع لا سبب من أسبابه، إنها أمر حادث بالاجتماع في الأصل، لا أن الاجتماع أمر حادث باللغة..”.

يعلق الحصري على ذلك قائلًا: ”إن هذه المسألة تشبه -في نظري- مسألة “البيضة والدجاجة” وهي من المسائل العقيمة التي لا يمكن أن تنتج حكمًا يستحق الوقوف عنده والاعتماد عليه، ذلك أن اللغة -في حقيقة الأمر- هي من نتائج الحياة الاجتماعية ومن عواملها في وقت واحد: لو لم تكن لما تميّزت الجماعات البشرية عن قطعان الماشية.. وفضلًا عن ذلك، فإن اللغة لم تكن آلة التخاطب فحسب، بل هي آلة التفكير أيضًا، لو لم تكن اللغة، لما تقدّم العقل البشري التقدم الذي يمتاز به عن سائر الحيوانات..”.

لو أن الحصري كان قد دقّق في الكلام الذي يسوقه متّهمًا سعادة في التقليل من أهمية اللغة، لتبين أنه لا يختلف مع سعادة فيما يتّهمه به، ذلك أنه يقول: ”إن اللغة هي من نتائج الحياة الاجتماعية ومن عواملها..”، فبماذا يختلف هذا التقرير عن تقرير سعادة في قوله ”إن اللغة وسيلة من وسائل قيام الاجتماع، لا سببًا من أسبابه..” طالما أنه يُقرُّ هو من أنها نتيجة من نتائج الحياة الاجتماعية ومن عواملها!!؟ فالقول إنها نتيجة، يعني بلا بذل أي مجهود فكري، بأنها ليست سببًا في الاجتماع، بمعنى أن اللغة لم تكن سابقة للاجتماع ولأنها كذلك لم تكن سببًا من أسبابه، فأين يختلف الحصري في هذا الشأن عن سعادة؟، وهو إذ يستشهد بقول سعادة قائلًا: ”والمؤلف نفسه يعترف بأن اللغة تحمل معها التراث ”الأدبي والثقافي” وهو يصرّح بأن الأمة من حيث هي متحد ذو نوع من الحياة خاص به في بيئته، لا بدّ لها من لغة واحدة تسهّل الحياة الواحدة، وتؤمّن انتشار روحية واحدة، وتجمع آدابها وفنونها وعواملها النفسية وأهدافها ومُثلها العليا”، أي إن سعادة يُقرُّ بأن اللغة عامل من عوامل قيام المجتمع، فكيف يغالي سعادة في أمر الأرض ويقلّل من أمر اللغة طالما أن الحصري يُقِرُّ بما يقوله سعادة؟ بما يعني أن الحصري يقلّل هو أيضًا من شأن اللغة إذا أخذنا قوله على محمل الجد..

يضيف إلى ما تقدم، في نقده لموقف سعادة من اللغة قائلًا: ”ومع كل ذلك أنه -أي سعادة- يتحفظ على قول بلنتشيلي المشهور (متى استبدل المرء لغته فقد قوميته) بقوله -أي سعادة- (لا يصح قول بلنتشيلي المشار إليه إلا في الأقوام الغافلة عن نفسها وعن وحدتها الاجتماعية، أما الأقوام المتنبهة، الحية الوجدان القومي الاجتماعي، فيمكنها أن تتقبل لغة جديدة، ولا تفقد خصائصها القومية الأخرى)”، يعلّق على ما تقدم قائلًا -أي الحصري- ”أنا أجد في العبارات سلسلة محاكمات مغلوطة من أساسها، لأني أعتقد “أن الأقوام المتنبهة الحية الوجدان القومي” حسب تعبير سعادة، تتمسك بلغتها تمسكًا شديدًا ولا تفرط بها بلغة أخرى أبدًا، إن تغيّر اللغة في أمة من الأمم، لا يمكن أن يحدث ويتمّ، إلا عندما تكون الأمة غافلة عن نفسها وعن وحدة اجتماعها، وإلا عندما يكون وجدانها القومي متخدّرًا أو نائمًا، وكل التاريخ يشهد أن اللغة القومية -لغة الأمة- لغة الأم والبيت- هي آخر ما يخضع للسيطرة الأجنبية“.

ماذا سيقول الحصري، إذا أنبأناه بأن اللغة العربية مقتبسة بالأساس من اللغة السريانية، التي ما تزال مفرداتها سارية المفعول فيها، فالغزو اللغوي السرياني للغة العربية قد سبق الفتح العربي بقرونٍ طويلة، ثمَّ ماذا يقول إذا أنبأناه أيضًا بأن اللغة العربية خضعت للتطوير بضغط من تأثير اللغة السريانية ابنة الآرامية، فقول الشاعر (صفي الدين الحلي):

إﻧﻤﺎ ﺍﻟﺤﻴﺰﺑﻮﻥ ﻭﺍﻟﺪﺭﺩﺑﻴﺲ           ﻭﺍﻟﻄﺨﺎ ﻭﺍﻟﻨﻘﺎﺥ ﻭﺍﻟﻌﻄﻠﺒﻴﺲ…

ﻟﻐﺔ ﺗﻨﻔﺮ ﺍﻟﻤﺴﺎﻣﻊ ﻣﻨﻬﺎ              ﺣﻴﻦ ﺗﺮﻭﻱ ﻭﺗﺸﻤﺌﺰ ﺍﻟﻨﻔﻮﺱ..

ﻭﻏﺮﻳﺐ أﻥ ﻳﻨﺘﻘﻰ ﺍﻟﻮﺣﺸﻲ          ﻣﻨﻬﺎ ﻭﻳﺘﺮﻙ ﺍﻟﻤﺄﻧﻮﺱ..

ﺇﻥ ﻗﻮﻟﻲ ﻫﺬﺍ ﻛﺜﻴﺐ ﻗﺪﻳﻢ             ﻫﻮ ﻗﻮﻟﻲ ﻋﻘﻨﻘﻞ ﻗﺪﻣﻮﺱ

مثال واضح لهذا التطور في اللغة، وأن اللغة التي ورثناها كلغة “قرآنية” هي لغة قريش وليست لغة سائر العرب في شبه جزيرتهم، وأنه في جملة الاحتلالات الفارسية واليونانية والرومانية لسورية كانت اللغة هي لغة المحتل التي حملت الفكر السوري إلى كل لغة غزت لسانه ولم تغزُ عقله، ومع الأخذ بعين الاعتبار قصر المدة الزمنية لكلا الاحتلالين الفارسي واليوناني، حيث لم تكن اللغة هي اللغة المحكيّة لدى عموم السوريين، لا بدَّ لنا من أن نذكِّره بفيلسوفنا ابن فينيقيا القبرصي “زينون” صاحب المدرسة الرواقية، التي حملت فكر فينيقيا إلى الإغريق وتأثر به جملة من الفلاسفة الإغريق أمثال كليانثس، خريسيبوس، بوسيدونيوس، سنكا، ابكتيتوس، ماركوس أوريليوس..

لكن المدة الزمنية للاحتلال الروماني لسورية والتي دامت قرابة (700 عام) سمحت بأن تكون لغة روما إلى جانب الآرامية والسريانية كلغة محكيّة، وعلى الرغم من ذلك، لم تكن الثقافة السورية هي ثقافة رومانية، بل سورية، حيث نجد في مصادرنا التاريخية الموثوقة تأثيرًا كبيرًا لمتجهات الفكر الروماني، يكفي أن نذكر القانوني السوري الشهير “بابنيان” الذي وضع مجمل القوانين التي قامت عليها القوانين الأوروبية الحديثة، ولا يجب أن يفوتنا إلى جانب بابنيان، كلًّا من “أولبيان” و”ديوجين” كاتب التراجم و”ديوكاشيوس” المؤرخ و”فيلو سترات” السفسطائي إلى جانب الإمبراطورة السورية ”جوليا ميزا” التي كانت أكثر تأثيرًا في السياسة والعقيدة وتحويل المجتمع الروماني نحو الحياة الشرقية ونشر العادات والتقاليد السورية، مما دفع (بشاعر روما) للقول” إني أشتم راحة العاصي من نهر التيبر..”.

هذا بالضبط ما حدث حين فرضت اللغة العربية نفسها كلغة دينية (قرآنية) فقط على مجموع السوريين بمختلف اتجاهاتهم الفكرية، ولم تكن تحمل من الثقافة ما يجعلها محكية سوى الثقافة المحمدية التي حملها الإسلام، ولو لم تكن الخلافة الإسلامية خلافة أصولية لكان السوريون هم الخلفاء في هذه الإمبراطورية العربية التي امتدت إلى إفريقيا وآسيا في العهدين الأموي والعباسي، حيث أصبحت دمشق ومن بعدها بغداد، عاصمة الخلافة بما اختزنته من ثقافة، فهجرت الخلافة المدينة ومكة واستقرت بهما، وهنا يتجلى لنا كيف كان للسوريين أثرهم البالغ الأهمية فيما تركته لهم أصولية الخلافة من شؤون، هذا التأثير كان نتيجة قوة (البيئة الاجتماعية) السورية التي سبق ذكرنا لها آنفًا..

بل وما عساه يقول إن اللغة العربية هي كغيرها من اللغات التي لم تمسّ العقل السوري ولم تغيّر من فاعليته فيها، بل على العكس، فإننا نجد أن الشعراء السوريين والحكماء السوريين هم من عملوا على إغناء اللغة الدخيلة عليهم بغنى العقل السوري والأمثلة على ذلك كثيرة، وعلى الرغم من أن اللغة القرآنية قد غزت آسيا وشمال إفريقيا، فإننا لا نجد أثرًا فيها لأية أمة من أمم العالم العربي، بل إن الأثر الوحيد الذي بقي للغة العربية، هو ذلك الذي تركه السوريون فيها، وإن كنّا نسوق بعضها ردًّا على الحصري، فما ذلك إلا للتأكيد على أن ما يقوله سعادة في هذا المجال، إذ تحول الشعر تحوّلًا جوهريًّا، فمن كونه شعر غزل ووصف وهجاء ومديح، تحوّل إلى فلسفة عند أبي العلاء المعري، الذي سبق في تأملاته نظرية (داروين) في التطور بقرون، عندما قال: ”والذي حارت البرية فيه… حيوان مستحدث من جماد” فلو تعمّقنا في مدلول هذا القول وفيما يعنيه، فإن نظرية التطور قد ابتدأت هنا في سورية؟!! أو كما يقول سعادة: ”فيكون ما ذهب إليه الفيلسوف السّوريّ الكبير أبو العلاء المعريّ من ارتباط الحيوان بالجماد رأيًا يتّفق كلّ الاتّفاق مع نتائج المدرسة العلميّة..” ولا يفوتنا أيضًا في هذا المجال ما قاله أبو النواس: ”وداوها بالتي كانت هي الداء..” فلو دقّقنا وأمعنا النظر في هذا القول للسكّير والماجن السوري الرائع، لتبيّن لنا أن اللقاحات التي اكتشفها “باستور” كانت على نحو ما ذهب إليه شاعرنا الزنديق..

وهكذا فبانتقال الخلافة إلى دمشق، تغيّر طابع الثقافة العربية كليًّا، بدءًا من تطوّر الدولة إداريًّا، حيث ظهرت سمة التنظيم والإدارة، كان طبيب معاوية ووزير ماليته سوريًّا وشاعر بلاطه كذلك، وقد عيّن معاوية (ابن آثال) واليًا على حمص، وهو تعيين منقطع النظير في تاريخ الدول الإسلامية، والى جانب ذلك كان تطور الأدب -الذي لم يكن لعرب شبه الجزيرة سواه من ثقافة- فظهر الشعر السياسي بعدما تنوّعت الأفكار والآراء التي اكتسبتها الحياة توافقًا مع مدنية دمشق، إضافة إلى الفنون الشعرية الأخرى، فاعتبر العصر الأموي من أزهى عصور الثقافة والأدب في التاريخ الإسلامي، حيث فرضت الثقافة السورية نفسها على ضرورة جمع الشعر وتدوينه بعدما كان سائبًا ومتروكًا للحفظ الشفهي والذي يحمل معه الكثير من الادعاءات والتحوير والتزوير، هذا من وجهة مبدئية، أما من وجهة نظر الحصري فلنا من سعادة المعين، حيث يتساءل: ”.. ولكن من أخذ من الآخر أكثر..” إن على الصعيد الدموي أو على صعيد اللغة كوسيلة من وسائل قيام المجتمع، ما تقدّم يدحض ما يقوله الحصري من أن سعادة ينكر بل ويرفض قول بلنتشلي ”متى غيّر المرء لغته فقد قوميته”.. يجب أن يفهم قول بلنتشلي (Bluentschli): [متى استبدل المرء لغة جديدة بلغته خسر قوميّته] أي متى كانت اللّغة الجديدة لغة راقية غنيّة بأدبها الخاصّ؛ حاملة مجاري نفسيّة وفكريّة قويّة تجرف معها النّفسيّات الجديدة الدّاخلية فيها. أمّا حيث تكون النّفسيّات الدّاخلية في لغة جديدة قويّة فإنّها تفعل في اللّغة وتكسبها من نفسيّاتها وتوجّهها في التّعبير عن احتياجاتها ومثلها العليا شأن السّوريّين في اللّغة العربيّة فإنّهم أخذوها من الفاتحين العرب ولكنهم نقلوا إلى هذه اللّغة علومهم وأدبهم ومجاري فكرهم، فأصبحت اللّغة العربيّة لغتهم القوميّة تسيطر نفسيّتهم ومواهبهم فيها في بيئتهم وتجاوزها. وإنّ من الأسئلة الّتي تنبّه الفكر إلى هذه الحقيقة: ماذا كانت تكون الثّقافة العربيّة لولا ما نقله السّوريّون من السّريانيّة واليونانيّة إلى اللّغة العربيّة؟.. لا يصحّ قول بلنتشلّي المشار إليه إلاّ في الأقوام الغافلة عن نفسها ووحدة اجتماعها أمّا الأقوام المتنبّهة الحيّة الوجدان القوميّ أو الاجتماعيّ فيمكنها أن تقبل لغة جديدة ولا تفقد خصائصها القوميّة الأخرى. وهذه إيرلندا يعود إليها تنبّهها القوميّ وعصبيّتّها بعد قرون من سيطرة اللّغة الإنكليزيّة.

إنّ وحدة اللّغة لا تقرّر الأمّة ولكنّها ضروريّة لتماسك الأمّة. وحيث تتّخذ اللّغة أساسًا للقوميّة يكون القصد من ذلك التّعبير عن حاجة التّوسع والامتداد، كما هي الحال في ألمانيا الّتي يلجأ مفكّروها أحيانًا إلى وحدة السّلالة وأحيانًا إلى وحدة اللّغة(236) لسدّ حاجاتها إلى التّوسّع ولضمّ أقليّاتها الدّاخلة في أمم أخرى تعمل على إذابتها.. إنّه ضروريّ أن تتكلّم الأمّة لغة واحدة وليس ضروريًّا أن تنفرد بهذه اللّغة. على أنّ أهمّ ما في اللّغة للأمّة الأدب الّذي تنشئه هذه الأمّة ليعبّر عن روحيّتها ويحفظ روحيّتها ومثلها العليا..

ثمّ إنّ اللّغة متى صارت لغة جماعة أو جماعات معيّنة أصبحت حاملة الميراث الأدبيّ الثّقافيّ لهذه الجماعة أو هذه الجماعات. وفي هذه الحقيقة يكمن سرّ أنّ اللّغة عنصر من عناصر الأمّة. فالأمّة من حيث هي متّحد اجتماعيّ ذو نوع من الحياة خاصّ به في بيئته لا بدّ لها من لغة واحدة تسهّل الحياة الواحدة وتؤمّن انتشار روحيّة واحدة تجمع آدابها وفنونها وعواملها النّفسيّة وأهدافها ومثلها العليا. ولا فرق بين أن تكون اللّغة الواحدة مختصّة بالأمّة الواحدة أو مشتركة بين عدد من الأمم، لأنّ الهامّ للأمّة في اللّغة هو ما تحمله من صور حياتها وحاجاتها النّفسية والماديّة وما هو من خصوصيّاتها، لا أشكال ألفاظها القاموسيّة.. قد مرّ على العالم أدوار ثقافيّة سمّي كلّ دور منها باسم الشّعب الّذي قام به أو اللّغة الّتي كانت واسطته. فإذا تكلّمنا عن الثّقافة السّوريّة عنينا بها الدّور الذّي قام به السّوريون في ترقية الثّقافة العامّة، وهو دور الجمع بين الزّرع والغرس وسلك البحار والتّجارة وإنشاء الحروف الهجائيّة والدّولة المدنيّة وخصوصًا العناصر الأربعة الأخيرة، كما تقدّم معنا آنفًا. وإذا تكلّمنا عن الثّقافة الإغريقيّة عنينا بها الفلسفة والفنّ اللّذين أنشأهما الإغريق وأعطوهما للعالم. وإذا تكلّمنا عن الثّقافة العربيّة عنينا بها ترقية العلوم التي اشتركت فيها العناصر الداخلة في نطاق اللغة العربية.. كلّ ميزة من ميزات الأمّة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتّحاد في الحياة الّذي منه تنشأ التّقاليد والعادات واللّغة والأدب والدّين والتّاريخ..”.

ينتقد الحصري سعادة في مثاله عن إيرلندا كيف أنها تحدثت بلغة المحتل الإنكليزي ولم تفقد خصائصها القومية قائلًا: “.. إن اللغة الإيرلندية كانت باقية في حالة لغة عامية.. يجب أن لا ننسى في هذا المقام أن كل الحركات القومية التي غيّرت خارطة أوروبا السياسية.. قامت على أساس اللغات القومية”، ويضيف معلّقا على منتقديه، قائلًا: يقولون “إذا كانت اللغة هي الأساس الأول في بناء القومية، فلماذا انفصلت الولايات المتحدة عن إنكلترا وشعوب أميركا اللاتينية عن إسبانيا والبرتغال.. (ويجيب على سؤاله قائلًا) إن أميركا مفصولة عن الجزر البريطانية بالبحر، المحيط الأطلسي العظيم.. إن اللغة الإنكليزية لم تصبح اللغة البيتية عند جماعات كبيرة جدًّا من الأميركيين، إلا في وقت حديث نسبيًّا..” ويا ليته لم يضرب لنا مثاله بل أبقى على تقريره دون أمثلة، ذلك أنه لم يفطن لكون المحيط الأطلسي هو حدّ طبيعي بين بريطانيا وأميركا، وأن المهاجرين من مختلف بقاع العالم، وإن لم يتكلموا الإنكليزية، لكنهم باتوا يشكّلون وحدة حياة مستقلة فرضت عليهم تقرير الانفصال عن مستعمريهم، مما لا يدع مجالًا للشك بأن ما يذهب إليه سعادة من أن وحدة الحياة التي تتشكل في مجرياتها الشخصية الاجتماعية، هي من أبرز الأسباب التي تتشكل منها الأمة..

يتابع ساطع الحصري تخرصاته بالقول: “يقول المؤلف -ويقصد سعادة- بصيغة التأكيد أن ”الذي ينتقل من قطره إلى قطر آخر، يدرك أنه قد أصبح في متّحد جديد سواءً أكان يعرف لغته أم لا يعرف، أكان يجهل أخلاقهم أم لا يجهل..” ويعلّق على ذلك بقوله: ”أنا لا أدري ماذا يقصد أنطون سعادة بالضبط من تعبيره (قطره) هل يقصد من ذلك أراضي الدولة التي ينتسب إليها أم يقصد أراضي الأمة التي ينتمي إليها؟ ولكني أجزم، في كلتا الحالتين، أن زعمه هذا يخالف الحقائق الراهنة مخالفة كليّة”. لكن ما هي (الحقائق الراهنة) التي ينبئنا بها الحصري، يقول: ”إن المرء إذا انتقل من أراضي دولته إلى أراضي دولة أخرى، لا يدرك أنه أصبح خارج بلاده إلا إذا عرف ذلك قبلًا، أو إذا شاهد معالم الدولة الأخرى، من علامات حدود وأعلام، وموظفي أمن وجمارك، وإذا انتقل من أراضي أمته إلى أراضي أمة أخرى، لا يدرك هذا الانتقال، إلا إذا عرف ذلك قبلًا، أو سمع لغة الناس..”، لو أن ساطع الحصري قد درس مؤلف سعادة نشوء الأمم كما يزعم، لم يكن له الحق أن يتساءل (عن ماذا يقصد أنطون سعادة بالضبط من تعبيره “قطره”..) فسعادة، يعرِّف مصطلحاته قبل الخوض في تطبيقاتها وتاليًا نتائجها، يقول: ”فالقرية متّحد والمدينة متّحد والمنطقة متّحد والقطر متّحد ولكلّ متّحد خصائص تميّزه عمّا سواه ممّا هو أصغر منه أو أوسع منه، أقلّ منه أو أكثر منه.. فمتّحد المدينة والمنطقة واقع اجتماعيّ وكذلك متّحد القطر.. ولكنّ جميع هذه المتّحدات الصّغيرة وألوفًا مثلها تؤلّف متّحدًا واحدًا هو المتّحد القوميّ أو متّحد الأمّة أو متّحد القطر، أسماء لمسمى واحد. وهي في مجموعها تشكّل وحدة يعمّ في أفرادها التّجانس العقليّ والتّجانس في الهيئة والمظهر، التّجانس الّذي هو أكثر وأقوى من الفوارق الجزئيّة. وشرط كلّ متّحد يصحّ أن نسمّيه متّحدًا أن يكون تجانسه أقوى وأكثر من تباينه.. كلّ متّحد، مهما كثرت صفاته أو قلّت ومهما تعدّدت مصالحه، هو متّحد قائم بنفسه. كلّ قرية متّحد ولا يعكس وكلّ مدينة متّحد ولا يعكس وكلّ منطقة متّحد ولا يعكس وكلّ قطر متّحد ولا يعكس. والقطر الّذي هو متّحد الأمّة أو المتّحد القوميّ هو أكمل وأوفى متّحد..” فهل يحق للحصري التساؤل عما يعنيه سعادة بمصطلح “قطر” هذا من جهة، من جهة أخرى، فالانتقال أيًّا كانت نوعيته ووسائله وأهدافه يبقى انتقالًا مقصودًا، بمعنى أنه يستهدف ميزة من الميزات التي لا يجدها المرء في منطقة سكنه أو نشأته، أو بدافع الأمان والوفرة في الإمكانيات، ومهما يكن من أمر هذا الانتقال، فإنه يبقى بهدف التغيير، فهو مقصود وهادف، حتى في الحيوانات والطيور والأسماك، كالسلمون والسنونو.. ناهيك عن الإنسان الذي يقول به سعادة”.. وهكذا الّذي ينتقل من قطره إلى قطر آخر يدرك أنّه قد أصبح في متّحد جديد، سواء أكان يعرف ما هي لغة أهله أم لا يعرف، سواء أكان يجهل أخلاقهم أم لا يجهل. يميّز الإنسان المتّحد أوّلًا ثمّ يميّز خصائصه فهو يرى البلدة أوّلًا ثمّ يرى أشكال بيوتها وجنائنها وبساتينها ونسبة ترتيبها إلى طبيعة البيئة. وهو في تنقّله من قطر إلى قطر يرى برّيّة ذلك القطر وأماكن إقامة أهله واتصال قراه ومدنه بعضها ببعض ومدنه الكبرى، الّتي هي الكتل المغناطيسيّة الّتي تتوجه إليها الكتل الصّغرى ثمّ يتعرّف إلى جمعيّاته الّتي تمثّل مصالحه ومؤسساته وإلى أخلاق أهله وصفاتهم..”.

مع كل ما تقدم، ينتهي الحصري للقول: ”وعلى كل حال، فإن القول بانتقال المرء من قطر إلى آخر يعلمه بأنه أصبح في قطر جديد.. لا يتفق مع حقائق الأمور واختبارات الحياة بوجه من الوجوه”..

يقول: ”ومع هذا، قبل أن أختم هذا البحث الانتقادي، أود أن أقول كلمة حول عبارتين من العبارات قرأتها في آخر الكتاب:

يقول المؤلف (ويقصد سعادة): ”إن الوطن وبريته، حيث فتح المرء عينيه للنور وورث مزاج الطبيعة وتعلّقت حياته بأسبابها هما أقوى عناصر الظاهرة النفسية الاجتماعية التي هي القومية..” ويعلّق قائلًا: ”ولكن تعريف الوطن وبريته بالمحل الذي فتح المرء عينيه للنور تعريف عامي، بعيد عن الانطباق على المعنى المفهوم من (الوطن) في العصر الحاضر، الوطن لا يعني مسقط الرأس، وهو أوسع بكثير من البقعة الأرضية التي يفتح المرء فيها عينيه إلى النور، إنه يشمل كثيرًا من التي لا تقع على جميعها أعين معظم المواطنين طوال حياتهم..”، كنا نتوقع أن يُعَرّف الحصري الوطن وفق “مفهوم الوطن في العصر الحاضر” أو بغير التعريف الذي قدمه سعادة -وورث مزاج الطبيعة وتعلّقت حياته بأسبابها- لكننا لم نجد ذلك التعريف الذي جهدنا للوصول إليه، فلم نجد سوى (لا يعني.. أوسع بكثير.. إنه يشمل كثيرًا من التي لا تقع على جميعها أعين معظم المواطنين..) أي إن الوطن وفق رؤية الحصري إن لم يكن ليس مسقط الرأس فما هو إذًا؟!! وإن لم يكن البقعة الأرضية، فأي شيء يكون إذًا؟!! وإن كان يشمل كثيرًا من التي لا تقع الأعين عليها، فما هي هذه التي لا تقع عليها أعين المواطنين؟!!..

يضيف قائلًا: ”يقول المؤلف -ويقصد سعادة- القومية هي الروحية الواحدة، أو الشعور الواحد المنبثق من الأمة، من وحدة الحياة في مجرى الزمان”، ويعلّق ”ولكن …اللغة ألم تكن أهم وسيلة وأهم ظاهرة في وحدة الحياة؟ ومجرى الزمان، هل يتجلى في شيء غير التاريخ؟ أفلا يعني ذلك أن أهم عناصر القومية هي: اللغة والتاريخ”.

إن كنّا قد أسهبنا آنفًا في موضوعة أن اللغة هي عامل من جملة عوامل القومية لا أهمها، لأنها تحمل ميراث الأمة الثقافي، وفق سعادة، فالتاريخ بالنسبة لسعادة، أيضًا، ليس مجرد حدث، إنه ديمومة التفاعل بين أجيال الأمة في ظل تأثير “دورة حياةٍ اجتماعية- اقتصادية” واحدة في مجرى الزمان، سعادة والمدقق في كل حرف من حروف مصطلحاته ومفاهيمها، لا يعبث في مفردات هذه المصطلحات، فعندما يقول “مجرى” الزمان يقصد من وراء هذه المفردة الإشارة إلى الاستمرارية أو الديمومة في التأثير، التاريخ ليس له ديمومة التأثير كحدث، فقد تتعاقب أحداثه وتتوالى مؤثراته، لكل منها أهميته وخصائصه التي تختلف عن الأخرى، فتاريخ احتلال قورش الفارسي لسورية له مؤثراته التي تختلف عمّا تلاه بكثير من الخصائص والصفات كما الاحتلال الروماني والفتح العربي، لكل منها خصائصه وميزاته، وتاليًا فردود فعل المجتمع على أي منهما تنبثق من شخصية اجتماعية تشكّلت عبر الزمان، فجاءت فلسفية تارة مع ”زينون الرواقي”، أو قانونية مع “بابنيان”، أو سياسية مع “جوليا ميزا” وحكمة مع “أبو العلاء المعري” وهكذا التاريخ لهو مختلف جذريًّا، كحدث، عن “مجرى الزمان” كدورة حياة اجتماعية- اقتصادية..

نظرات في الخطب والمقالات:

تحت عنوان /نقد الآراء العلمية- نظرات في الخطب والمقالات/ يسطر الحصري تلك الآراء والنظرات فيقول: ”إن انتقاداتي للكتاب المذكور (ويقصد نشوء الأمم) أظهرت أن الآراء المسرودة فيه كانت بعيدة عن “الدقة العلمية”، فيجب ألا نستغرب -والحالة هذه- إذا ظهر لنا المؤلف في بعض الأقسام من كتاباته الأخرى تباعدًا عن مناحي البحث العلمي والدقة العلمية، وسأسرد فيما يلي بعض الأمثلة على هذا التباعد:

في إحدى المحاضرات التي ألقاها أنطون سعادة بغية شرح تعاليم حزبه، قال ما نصّه:

”إمبراطورية الهكسوس، هي دولة سورية، شيّدت الأهرام وأنشأت أبا الهول، فهي آثار سورية والسلطان السوري في مصر”

ويعلّق الحصري على ما تقدم قائلًا: ”في حين أن مراجعة أي كتاب من كتب (تاريخ مصر) تكفي للتأكد من أن الأهرامات شُيّدت في عهد الأسرة الرابعة، والمدّة التي مضت بين حكم أسرة بناة الأهرام وبين دخول الهكسوس مصر، كانت مدة طويلة، توالت خلالها على مصر سبع أسر مالكة، فالقول إن الأهرامات وأبا الهول من آثار الهكسوس، لهو قول ينمّ عن ”خلط تاريخي” فادح، يخالف أثبت وأوضح حقائق التاريخ مخالفة صريحة”.

لكن ماذا يعني الحصري بمصطلح “البحث العلمي والدقة العلمية” فهذه مسألة نتركها لباحث آخر يدقّق في منهجية البحث لدى الحصري، ليبيّن لنا المعنى من هذه المصطلحات التي يستخدمها الحصري خبط عشواء دون تحديد في كلام ملقى على عواهنه.

سنبيّن فيما يلي أن الحصري لم يقرأ التاريخ بالدقة التي قرأه بها سعادة، فسعادة لا يلقي الكلام جزافًا ما لم يكن واثقًا كل الثقة مما لديه من حقائق، وعندما نقول حقائق، نعني أنها وقائع معترفٌ بها وقد قام الدليل على بيان عواملها وأسبابها ونتائجها، ففيما يتعلق بموضوع احتلال الهكسوس (يُطلَق عليهم حينًا الملوك الرعاة وحينًا آخر الحثيون) لمصر، والذي قام عليه الدليل، لا كما هو متداول حول أسطورة يوسف بن يعقوب، والقول إن اليهود دخلوا مصر وسكنوها حتى مجيء شخصيتهم الأسطورية موسى والذي أخرجهم من مصر في متاهة من صحراء سيناء لمدة تزيد على أربعين عامًا.. فلجهة بناء الأهرام، وعلى خلاف ما يورده الحصري من أنها كانت قبل مجيئهم بقرون طويلة، فمن المعلومات التي استقرَّ عليها علماء الآثار أن الأهرامات على اختلافها بُنيت في الفترة الواقعة بين 2585 ق.م و1640 ق.م، فإذا كان دخول الهكسوس إلى مصر قد ابتدأ في عام 1700 ق.م واستمر حتى عام 1650 ق.م لتتم له السيطرة على كامل الأراضي المصرية وحيث إن حكمهم قد امتد على ما يزيد على القرن من الزمن، أي من عام 1650 ق.م وحتى عام 1550 ق.م وحكموا مصر خلاله بثلاثة أسر منهم، هي على التوالي الخامسة والسادسة والسابعة عشرة، فإن الفترة الواقعة بين 1700 و1550 ق.م والتي هي فترة حكم الهكسوس لمصر، تكون من ضمن الفترة الزمنية التي حدّدها علماء الآثار لبناء الأهرامات، حيث كان اللُبن هو المادة الرئيس في البناء، مما يعني أن الهكسوس قد استبدلوا الأحجار باللِّبن أو الطين الممزوج بالقش، لبنائها، مستفيدين من “طمي” دلتا نهر النيل على الأرجح في ذلك على نسق البناء الذي كانت تبنى فيه قصور وبيوت أهل الرافدين، وأبو الهول الذي يرمز إلى العقل والقوة هو على نسق الثور الآشوري المجنّح الذي يرمز إلى القوة والعقل والسمو، ما يتعلق بأبي الهول، وعلى الرغم من أن مسألة من بنى أبو الهول تبقى مسألة مفتوحة على مختلف الاحتمالات حتى اللحظة، فإن المرجّح أن يكون قد بني في فترة الملوك الهكسوس، ذلك أن ذكره لم يرد في التاريخ المصري الذي سبق احتلال الهكسوس لمصر، أما ما بعد خروج الهكسوس من مصر فقد ذُكِر أبو الهول في العديد من المدونات المصرية، إذ يذكر التاريخ المصري أن الملك “تحوتمس” الرابع (1401- 1390) ق.م هو الذي كشف عن أبي الهول بعد أن غمرته الرمال، وقد زاره أكثر من ملك من الفراعنة وترك آثار زيارته ونقش ذلك بمناسبة الزيارة ومنهم (رع-مس) الثاني في القاهرة أو رمسيس الثاني (1279- 1213 ق.م).. والملك توت عنخ آمون أو (أخناتون) (1343- 1334) الذي أقام استراحة بجوار أبي الهول.. هذه المدونات الموثَّقة تدلّ دلالة واضحة على أن أبا الهول قد بُني في فترة حكم الهكسوس لمصر.. فعندما يقول سعادة إن ”إمبراطورية الهكسوس، هي دولة سورية، شيّدت الأهرام وأنشأت أبا الهول، فهي آثار سورية والسلطان السوري في مصر”، فهذا ليس قوله هو فقط، لكنه اعتراف عالمي بذلك، (ملحق- الهكسوس).

يتابع الحصري تخرصاته قائلًا: ”وقال أنطون سعادة في إحدى مقالاته، ما نصه: إن الفتح الحربي وتغيّر لغة القوم ودينهم بواسطة الفتح، لا يلغيان الأمة المغلوبة، فقد افتتح الرومان إنكلترا وسيطروا عليها، وغيّروا لغتها وصيّروها لاتينية وبقيت الأمة الإنكليزية..”.

ويعلّق على ذلك قائلًا: ”إن زعم سعادة بأن اللغة أصبحت لاتينية، لهو من المزاعم الاعتباطية التي لا يستطيع أحد أن يُقرّه عليها أحد وأما قوله (وبقيت الأمة الإنكليزية) فيخالف الواقع التاريخي مخالفة تامة، فإن ما نسميه الآن باسم “الأمة الإنكليزية” ما كانت موجودة عندئذٍ، إنها تكوّنت بعد ذلك، نتيجة لسلسلة طولية من التطورات التاريخية..”.

سبق لنا أن وعدنا قارئنا، بأننا سنتتبع تخرصات الحصري فقرة فقرة، فالحصري عندما لا يجد دليلًا على ما يذهب إليه، يلجأ للتعميم وإطلاق أحكام مختصرة لا يدعمها بأيّ حجج يمكن أن تساهم في تقبُّلها، على العكس من سعادة، المدقق الممعن المستبصر.. في أي حرف وكلمة من حروفه وكلماتها، فعندما يقول: ”وغيّروا لغتها وصيّروها لاتينية وبقيت الأمة الإنكليزية..” فلا يقوله (اعتباطًا) كما يدّعي الحصري، فالتاريخ الإنكليزي، يُقرُّ ما أقرّه سعادة، ففي التاريخ الإنكليزي، نقرأ ما يلي: “.. تُرى إلى أي عمق نفذت الحضارة الرومانية في حياة بريطانيا وروحها في الأربعة القرون التي سيطرت فيها روما على الجزيرة؟ لقد صارت اللغة اللاتينية لغة السياسة، والقانون، والأدب، والأقلية المتعلّمة في البلاد، لكن اللسان الكلتي بقي سائدًا في الريف وبين عمّال المُدن، ولا يزال يقاوم حتى الآن في ويلز وفي جزيرة مان. ونشرت المدارس الرومانية القراءة والكتابة في بريطانيا، وعيّنت الصورة الرومانية لحروف الهجاء الإنكليزية، وغمر اللغة الإنكليزية سيل من الكلمات اللاتينية. وبنيت هياكل للآلهة الرومانية، ولكن الرجل العادي ظل يمجّد الأرباب والأعياد الكلتية، وحتى المُدن الكبرى نفسها لم تمد روما فيها جذورًا باقية؛ وكل ما في الأمر أن الأهلين خضعوا كارهين لحكم استمتعوا في ظلّه بسلم مثمر ورخاء لم تستمتع الجزيرة بمثله إلا أيام الانقلاب الصناعي..”، يدعم ما تقدّم ما يؤرخه “تاستس” راويًا به ما قام به زوج ابنته وحاكم بريطانيا (78- 54م) “اجركولا” قائلًا: ”نشر الحضارة بين “شعب فظ مشتت ذي نزعة حربية” بإنشاء المدارس، وإذاعة استعمال اللغة اللاتينية، وتشجيع المُدن والأغنياء على تشييد المعابد، والباسقات، والحمّامات العامة، ثم يقول ذلك المؤرخ السليط: “واستحوذت مباهج الرذيلة شيئًا فشيئًا على قلوب البريطانيين، فصارت الحمّامات، والحجرات الجميلة، والمآدب الفخمة، محببة إليهم، وأخذ البريطانيون الغافلون يسمّون الآداب الجديدة باسم فنون الإنسانية المهذبة، وإن لم تكن في حقيقة أمرها إلا ستارًا جميلًا للاسترقاق..”، فأي معنى يبقى لما يدّعيه الحصري من ”إن زعم سعادة بأن اللغة أصبحت لاتينية، لهو من المزاعم الاعتباطية التي لا يستطيع أحد أن يُقرّه عليها أحد”، وقد أقرَّ الإنكليز أنفسهم بما (يزعمه) سعادة؟

يقول الحصري: ”وأما قوله (وبقيت الأمة الإنكليزية) فيخالف الواقع التاريخي مخالفة تامة.. يذهب سعادة إلى زعم مماثل لهذا الزعم في أمر فرنسا وإسبانيا وإيطاليا ورومانيا أيضًا فيقول (أي سعادة): لتَّن الفتح الروماني العالم اللاتيني لغة ودينًا، لكنه لم يستطع تلتينه قوميًّا وجعله أمة واحدة، لأنه لا يستطيع توحيد البيئة والمجتمع، فبقيت إسبانيا في طبيعتها وواقعها الاجتماعي، وبقيت كذلك فرنسا وإيطاليا ورومانيا..”.

ويعلّق على قول سعادة (أي الحصري) قائلًا: ”أنا لا أدري ما هو الواقع الاجتماعي الذي استمرَّ -وبقي- في إسبانيا، منذ الفتح الروماني؟ وأما الذي أعرفه جيدًا أن إسبانيا الحالية تختلف عما كانت عليه قبل الفتح الروماني اختلافًا كليًّا، وكذلك عما كانت عليه في عهود الرومان، والقوط والإسلام، إن ما نسميه الآن (بالأمة الإسبانية) ما كانت موجودة قبل الفتح الروماني الذي يشير إليه صاحب المقال، إنها تولّدت بعد ذلك، نتيجة تطورات سياسية واجتماعية كثيرة وعميقة ومعقدة..”.

يعترف الحصري بأنه لا يدري “ما هو الواقع الاجتماعي“ الذي استمر -وبقي- في إسبانيا بعد الفتح الروماني..” وأن إسبانية الحالية مختلفة تمامًا عما كانت عليه، وأن الأمة الإسبانية ما كانت موجودة وأنها تكونت وتولدت بعد ذلك نتيجة تطورات سياسية واجتماعية كثيرة وعميقة ومعقدة..، لكنه لا يبين لنا ماهية هذه (التطورات السياسية والاجتماعية الكثيرة والعميقة والمعقدة).

سبق لنا أن نوّهنا بأن الحصري، لم يقرأ ويتمعن ويتبصر في مختلف ما يأتي عليه سعادة من معلومات وقواعد، تحليلًا واستنباطًا، لما تعنيه وتشير إليه من نتائج على أصعدة مختلفة اجتماعية وتاريخية وسياسية وثقافية.. وإنما اكتفى بتصفح ما تركه سعادة تصفّحًا على عجلة من أمره فاختلطت عليه الأمور ولم يعد يتبين “الخيط الأبيض من الأسود” فعندما يتساءل عن “الواقع الاجتماعي” الذي استمر، أكان في بريطانيا وإسبانيا وكذلك في فرنسا وإيطاليا ورومانيا، فإنه يؤكد ما ذهبنا إليه آنفًا، خاصة وأن نشوء الأمم يذخر بمعاني (ما لا يدريه الحصري) ونقصد الواقع الاجتماعي، وإنه يقول بأن الأمة الإسبانية وغيرها ممن خضعت للسلطان الروماني لغة ودينًا، لم تتغير في بنيتها الاجتماعية، أو “شخصيتها الاجتماعية” وأنها لم تكن موجودة كما هي راهنًا، لأن هذا الراهن قد “تكوَّن وتولّد بعد ذلك، نتيجة تطورات سياسية واجتماعية كثيرة وعميقة ومعقدة..”.

لو أن الحصري كان قد تمعّن وتبصّر فيما يأتي عليه سعادة لكان قد تنبّه إلى أن الواقع الاجتماعي الذي يقول به سعادة هو الأمة، المتحد الأتم، المجتمع في تعاقب أجياله.. دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية، مسميات يطلقها سعادة على الصيرورة الاجتماعية السياسية التي (تكوّنت وتولّدت بعد ذلك، نتيجة تطورات سياسية واجتماعية كثيرة ومعقدة) يحدّدها سعادة قائلًا: ”المتّحد القوميّ أو متّحد الأمّة أو متّحد القطر، أسماء لمسمى واحد. وهي في مجموعها تشكّل وحدة يعمّ في أفرادها التّجانس العقليّ والتّجانس في الهيئة والمظهر، التّجانس الّذي هو أكثر وأقوى من الفوارق الجزئيّة. وشرط كلّ متّحد يصحّ أن نسمّيه متّحدًا أن يكون تجانسه أقوى وأكثر من تباينه.. (هذه الوحدة الحياتية هي ما أريد) (أي سعادة) بعد الآن أنّ أقتصر فيها على الواقع الاجتماعيّ، على الجماعة المشتركة في حياة واحدة تكسبها صفات مشتركة بارزة وتسبغ عليها ما يمكننا أن نسمّيه شخصيّة ووحدة خاصّة… فالمتّحد هو دائمًا أمر واقع اجتماعيّ..” وكان سعادة قد أشار لذلك في مقدمة نشوء الأمم قائلًا: ”ولفقر اللّغة العربيّة في المؤلّفات الاجتماعية نجدها فقيرة في المصطلحات الاجتماعيّة العلميّة. فوضعت في هذا الكتاب مصطلحات جديدة أرجو أن أكون قد توفّقت في اختيارها للدّلالة على الصّفة المعيّنة، كقولي: [الواقع الاجتماعيّ] و[المتّحد الاجتماعيّ] و[المناقب] و[المناقبية] (للمورال)..

فالواقع الاجتماعي الذي لا يدري كيف استمر وهو، الذي “تكوّن وتولّد بعد ذلك نتيجة تطورات سياسية واجتماعية كثيرة وعميقة ومعقدة”، مشكّلًا واقعًا اجتماعيًّا أكسب الجماعة ما يميزها عن سواها من الجماعات الأخرى.

لو أن الحصري تبصّر فيما يسوقه من أمثلة على (مزاعم) سعادة، لكان وجد في هذه (المزاعم) ما يحاول الالتفاف عليه بعبارات مطاطة تحمل فيما تحمل جهلًا مفرطًا في علم الاجتماع، فعندما يسوق -على سبيل المثال- قول سعادة ”لتَّن الفتح الروماني العالم اللاتيني لغة ودينًا، لكنه لم يستطع تلتينه قوميًّا وجعله أمة واحدة، لأنه لا يستطيع توحيد البيئة والمجتمع..” فإنه (الحصري) لا يتساءل لماذا لم يتمكن الفتح الروماني لأوروبا من جعلها رومانية، على الرغم من تلتينها لغويًّا ودينيًّا، وهذه مسألة تمثل حقيقة تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية، راهنًا، كما هي تاريخيًّا حقيقة لا يمكن نكرانها! وهي في ذات الوقت تؤكد ما يذهب إليه سعادة من أن عدم تمكن الفتح لغويًّا ودينيًّا كان نتيجة تصدي الشخصية الاجتماعية له بمختلف السبل والوسائل، وها هو “تاستس” يروي لنا “كيف قاوم الإنكليز الاحتلال الروماني  على الرغم من أن اللغة الرومانية سيطرت على مختلف نشاطات المجتمع البريطاني، لكن اللسان الكلتي بقي سائدًا في الريف وبين عمال المُدن، ولا يزال يقاوم حتى الآن في ويلز وفي جزيرة مان.. لكن الرجل العادي ظل يمجّد الأرباب والأعياد الكلتية، وحتى المُدن الكبرى نفسها لم تمد روما فيها جذورًا باقية؛ وكل ما في الأمر أن الأهلين خضعوا كارهين لحكم استمتعوا في ظلّه بسلم مثمر ورخاء لم تستمتع الجزيرة بمثله إلا أيام الانقلاب الصناعي..

هذه المقاومة الصامتة اليومية، هي ما يسميه سعادة بالـ(شخصية الاجتماعية أو الواقع الاجتماعي)، والتي أفردنا لها بحثًا في فصل سابق، والتي اعتبرها سعادة أهم من الحدود الطبيعية في صيانة وحدة المجتمع وتماسكه وتعاضده في وجه الغزوات. أيًّا كانت عسكرية أم ثقافية..

الحصري في هذا التعليق، يلتف على محور رئيس من قول سعادة الآنف ذكره، هذا المحور هو تعليل الأسباب الكامنة وراء عدم قدرة الغزو، من أي نوع كان: “توحيد البيئة والمجتمع” ذلك أن البيئة الطبيعية، هي (المادة) البوتقة التي تنصهر وتتبلور وتصقل بها مختلف نشاطات حياة الإنسان، الفرد والمجتمع، على حدٍّ سواء، أي إن البيئة الطبيعية من حيث هي (المادة) التي يتعاطى بها القائمون عليها معها ومع بعضهم البعض من خلالها، هي التي تحدد الشكل والذي هو المرتبة الثقافية للمتحد، للمجتمع، للواقع الاجتماعي، للأمة، للإنسان- المجتمع، مسميات لمسمى واحد في رؤية سعادة الاجتماعية.

الحصري، وفي ردّه على سعادة بالقول إن تلك الأمم، الأوروبية منها وغير الأوروبية، لم تكن قد تشكّلت بعد، يُثبت بأنه يفهم التاريخ كحدث وليس استمرارًا، لذا نراه يعارض مختلف الطروحات في “القومية والأمة العربية” التي تقول بالأصل والدين واللغة والتاريخ والعادات والتقاليد والآمال والآلام المشتركة.. الخ، فيقدم اللغة والتاريخ عليها جميعًا معتبرًا أن “الأمة العربية” قد تشكّلت وتولّدت منذ قيام الشريف حسين بـ(ثورته) ضد السلطنة العثمانية، متجاهلًا أن ما يسميه بـ(الثورة العربية الكبرى) لم تكن سوى رغبة استعمارية انتهت إلى اتفاقيات سايكس وبيكو…

يتابع الحصري نقده لأفكار أنطون سعادة العلمية قائلًا: ”إن أمثال هذه الأفكار الاعتباطية كثيرة في كتابات أنطون سعادة، إنها جرّته غير مرة إلى نقض نفسه بنفسه أيضًا، وها إني أذكر فيما يلي، مثالًا بارزًا على التناقض الصريح: إنه يشير، في إحدى المحاضرات التي ألقاها لشرح تعاليم حزبه، إلى الفرق الذي يظهر في التاريخ بين كيفية فتح السوريين الكنعانيين -أي الفينيقيين- لإفريقيا واستعمارهم لها، وكيفية فتح العرب واستعمارهم لها.

الكنعانيون (الفينيقيون) استعمروا الشاطئ الشمالي الإفريقي، ولكنهم لم يساووا في الحقوق بينهم وبين شعوب شمال إفريقيا الذين أخضعوهم، وكانوا من سلالة أحطّ من سلالتهم، فاحتفظ السوريون الكنعانيون بسلامة فطرتهم، وبقيت لهم النفسية المتوارثة الموجودة في طريقة عنصرهم دون أي تعديل، واحتفظوا بسيادتهم على الإفريقيين، وبقوتهم، ولذلك أمكن أن ينشئوا إمبراطورية عظيمة، كادت تسحق روما، ولم تسقط تلك الإمبراطورية السورية الغربية- إمبراطورية قرطاجنة، إلا في حرب مع الرومان الذين هم قوم من سلالة نظير السلالة المتفوقة التي ينتمي إليها السوريون الكنعانيون، أما العرب، فعلى عكس السوريين، فإنهم اختلطوا بأقوام من سلالات الزنوج، فدخل في المزيج العربي عرق من سلالات منحطة، ولولا أن العدنانيين منهم، الذين هم من الأرومة الكنعانية، حافظوا -بعامل البداوة- على مجموع عرقيّ جيد الفطرة لما أمكن العرب القيام بنهضة الفتح المحمدي، وقد أجاز العرب، بعامل الشرع الديني الامتزاج الدموي الواسع بلا فرق بين سلالات راقية وسلالات منحطة، فلما افتتحوا شمال إفريقيا الذي كان قد افتتحه السوريون قبلهم، أجازوا الاختلاط الدموي اللامحدود مع الأقوام الإفريقية، فلم يمكن أن ينشأ من المزيج الذي تولّد من اختلاط العرب والبربر وغيرهم من أهل المغرب أية نهضة يمكن أن تُحْدِثْ تمدّنًا أو عظمة سياسية أو فنية من أي وجه أو شكل.. لم يمكن أن تنشأ قرطاجنة ثانية على الشاطئ الإفريقي، لأن امتزاج العرب ومن سار معهم على أساس المساواة المدنية، بعامل المبدأ الديني المحمدي المساوي مساواة مدنية كليّة بين المؤمنين، أفقد العرب حيويتهم وأضاف إلى حيوية الإفريقيين شيئًا، ولكن بين رفع الأدنى وإنزال الأعلى، حصل متوسط أقرب إلى الانحطاط منه إلى الارتقاء..

أنا لا أودّ هنا، أن أنتقد هذه الآراء، وأتحرى مبلغ موافقتها للحقائق الراهنة، ولا أن أناقش، بوجه خاص، القول القائل إن العرب لم يُوجدوا في الساحل الإفريقي، تمدّنًا وعظمة فنية من أي وجه وشكل، إنما أود أن أسجل الآراء المسطورة هنا وأقارنها مع ما جاء عنها في كتاب نشوء الأمم:

في هذه المحاضرة، تكلّم أنطون سعادة عن السلالات الراقية والسلالات المنحطة، وجزم بأن الاختلاط مع السلالات المنحطة بوجه عام ومع الزنوج بوجه خاص، يؤدي إلى انحطاط السلالة ويحول دون قيام نهضة حقيقية وتقدم هام..

في حين أنه في كتاب نشوء الأمم، ادّعى عكس ذلك تمامًا: لقد فنّد هناك نظرية تفاضل السلالات تفنيدًا قويًّا ودحض دعايات نقاوة السلالة صراحة..

وها إني أنقل فيما يلي، ما كتبه حول الموضوع:

”يجب أن لا يستنتج من المميزات النفسية أو العقلية، أن هناك سلالة خاصة مكتسبة من الشكل السلالي، ومتوارثة فيها لأن الواقع قد برهن على غير ذلك: فحيث امتزجت السلالات قديمًا، كانت المدنية أرقى، وأن اسبارطة كانت تمنع الاختلاط مع الأجانب محافظة على نقاوة دمها، ولكنها في المدينة دون أثينا، التي كان يكثر فيها الاختلاط الدموي بمراحل، وأن أرسطو طاليس كان يعدّ المقدونيين المحافظين برابرة، والإسكندر نفسه كان يرى أنه يمكن أن يحسب الهيلينيون أنصاف آلهة، بالنسبة إلى رجاله المقدونيين..

وإن الأدلة على عدم صحة القول بتفوق إحدى السلالات الراقية في المواهب العقلية على أخرى لمتوفرة، فإذا أخذنا الوجهة الفردية، ودرسنا تسلسل بعض النوابغ، وجدنا أن لا عبرة بنقاوة السلالة، فالشاعر الكبير ألكسندر بوشكين، المبدع في الأدب الروسي، كان ذا عرق زنجي، فقد كان لبطرس الأكبر قائد زنجي رفعته درجة ذكائه إلى مرتبة مهندس المدفعية العام، وصيّرته ذا أملاك واسعة وتزوج من سيدة روسية من الأشراف، وحفيد هذا الزنجي، هو بوشكين، أعظم شعراء روسيا، والكاتبان الفرنسيان دوماس الأب والابن كانا ذوي عرق زنجي”.

إن نظرية ضرورة نقاوة السلالة شرطًا للارتقاء العقلي وإنشاء المدنيات واطراد التقدم قد أصبحت واهية جدًّا، إذا لم نقل فاسدة بالمرة، تجد المعلومات العلمية الحديثة، خصوصًا ما يتعلق منها بالمدنيات الأولى، فمدينة بابل التي يعدّها العلماء أو جمهورهم أولى المدنيات التي أثرت على سير التمدن العام نحو الارتقاء لم تكن عمل سلالة واحدة أو قوم أصفياء، كما كان الظن القديم، بل نتيجة احتكاك واختلاط الشمريين بالساميين..”.

يلاحظ أن الآراء المسرودة هنا، تناقض المزاعم المسطورة في المحاضرة التي ذكرتها آنفًا، مناقضة تمامًا. في المحاضرة، تبنّى الرجل نظرية تفاضل السلالات، وقال بضرورة نقاوة السلالة لتقدم الحضارة، في حين أنه -في الكتاب- كان قرّر أن هذه النظرية واهية جدًّا..

إذا كان الحصري لا يودّ ”أنا لا أودّ هنا، أن أنتقد هذه الآراء..” فنحن نودّ أن ننتقد الأحكام الاعتباطية التي أوردها بما سمّاه ”المزاعم الاعتباطية..” أو “تناقض سعادة نفسه بنفسه” فنقول بداية إن الحصري لم يفهم الفارق بين “المزيج السلالي” الذي يقول به سعادة، و”نقاوة السلالة” التي يقول فيها إنها “نظرية واهية جدًّا..” فالمزيج السلالي هو النقيض التام لنقاوة السلالة، فعندما يقول سعادة: ”الكنعانيون (الفينيقيون) استعمروا الشاطئ الشمالي الإفريقي، ولكنهم لم يساووا في الحقوق بينهم وبين شعوب شمال إفريقيا الذين أخضعوهم وكانوا من سلالة أحطّ من سلالتهم، فاحتفظ السوريون الكنعانيون بسلامة فطرتهم، وبقيت لهم النفسية المتوارثة الموجودة في طريقة عنصرهم دون أي تعديل..”، يعني أن عدم المساواة في الحقوق حالت دون الاختلاط بينهم وبين الأفارقة، لكنه لم يعنِ أن القرطاجيين لم يختلطوا بشعوب أخرى كالمصريين والرومانيين اليونانيين، بعامل الاتجار بالحد الأدنى، حيث كان البحر الأبيض المتوسط هو العامل الرئيس في الحروب القرطاجية- الرومانية حول السيطرة على طرق التجارة فيه، وباقي العناصر الأوروبية وتحديدًا الإسبانية، فزوجة هاني بعل كانت إسبانية، على سبيل المثال، لكن العرب بعامل التساوي في الحقوق الدينية كان اختلاطهم بالأفارقة دون حدود مما حال دون نشوء قرطاجة ثانية على الساحل الشمالي لإفريقية، فكما يقول: ”بين خفض الأعلى ورفع الأدنى، حصل متوسط أقرب إلى الانحطاط منه إلى الارتقاء..“، فلماذا يقول سعادة بالمتوسط الذي هو أقرب للانحطاط منه إلى الارتقاء، ذلك أن العرب حين الفتح المحمدي لشمال إفريقيا كانوا قلّة بالنسبة للسكان المحليين، كما يحدث في المحصلة في كل الفتوحات العسكرية على وجه العموم عادة، لذلك كان تأثير الأفارقة في العرب أكثر من تأثير العرب بهم، ولما لم تكن إفريقيا قد ساهمت بشيء في الثقافة العالمية، فهي بمختلف ثقافاتها منحطة..

 هنا لا بد لنا من العودة إلى ما سبق ونوهنا إليه، أي إلى علم الوراثة، مرورًا بما يسميه سعادة بـ”الثقافة” وما يعنيه بـ“السلالة” وما يقصده بـ“المزيج”..

الثقافة عند سعادة هي: ”فإذا تكلّمنا عن الثّقافة السّوريّة عنينا بها الدّور الذّي قام به السّوريون في ترقية الثّقافة العامّة..”، أي الثقافة العالمية بمصطلحات اليوم، فإذا كان الحصري بقوله ”ولا أودّ أن أناقش، بوجه خاص، القول القائل إن العرب لم يوجدوا في الساحل الإفريقي، تمدّنًا وعظمة فنية من أي وجه وشكل..” فهو يتهرّب عن ذكر ما قدمه العرب في شمالي إفريقيا، ذلك أنه لا يجد ما يردّ به على عدم ظهور قرطاجنة ثانية- “عربية” في الشمال الإفريقي.. وسعادة عندما يدحض مرتكزات “نقاء السلالة” بنظرية “المزيج السلالي” فهو لا يعني بأي وجه من الوجوه اعترافه بسلالة ذات صفات وخصائص تميزها عن غيرها، فالسلالة عند سعادة لا معنى لها إلا في العلوم الطبيعية للتمييز بين الأنواع والأجناس وما إلى ذلك، أما في العلوم الاجتماعية فلا معنى لها، بل هي أكثر من خرافة إذا ما دلّت على الأصل الواحد، أو ما يسمى “بعلم” الأنساب، مؤكدًا ما ذهب إليه ابن خلدون في مقدمته بقوله: ”النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر”..

إن التمايز في الخصائص والصفات الإنسانية، كما في عالم الحيوان والنبات، يعود إلى تلك الموروثات التي اكتسبتها العضوية (أيًّا كانت إنسانية، حيوانية، أم نباتية) نتيجة تكيفها مع البيئات الطبيعية، وقبل أن يتمكن الإنسان تحديدًا من التحوّط حيال مؤثرات الطبيعة التي ما كانت قد استقرت على وضعها الراهن، فسعادة يرى أنه ما إن بلغت الطبيعة حالة الاستقرار، التي هي عليها الآن، حتى كانت مؤثراتها قد توضعت مورثات في العضوية التي لها حدود في مقدرتها على ذاك التكيف، لكن وبعامل الارتحال، أيًّا كانت أسبابه وعوامله، قد أدى بطبيعة الحال إلى التمازج بين البشر وتاليًا ظهرت نتائج هذا التمازج على الظاهرة الإنسانية عمومًا على شاكلة ما قاد “ماندل” للقول بنظرية الوراثة عندما وجد أن الورود البيض المزروعة إلى جانب الورود الحمر، تعطي على نسب متفاوتة وردًا أحمر وآخر أبيض، وثالثًا هو الهجين الناتج عن التلاقح بين الأبيض والأحمر، أي ورد وردي اللون.. فإذا ما تلاقح اللون الوردي بعضه مع بعض، ظهرت في الأجيال اللاحقة نسبٌ مختلفة بعضها عن بعض في اللون الأحمر والأبيض والوردي، حيث يؤدي هذا التلاقح إلى اختفاء أحد اللونين الأبيض أو الأحمر نتيجة تنازع البقاء بين الأحمر والأبيض أو الصفة القاهرة والمقهورة، يضاف إلى ما تقدم، أن بعض الطفرات قد تتوضع كمورثات في الأجيال اللاحقة أيضًا، على الرغم من كونها حالات طارئة، لكنها قد تكون مورثات قاهرة فتتوضع على الصبغيات تلك المورثات الضعيفة فتظهر مع مرور الزمن كمورثات تتناقلها الأجيال التي تلي كخصائص وصفات..، فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار تأثير البيئة الطبيعية -بخصائصها التي تتميز بها عن بيئات أخرى- الدائم على العضوية ظهرت لنا نتائج وراثية يمكن أن نطلق عليها ما يسمى اليوم بـ(جغرافيا الدم) والتي تعني أن هناك خصائص (أو مورثات) مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنوعية وصفات العضوية، بمعنى آخر، إن جغرافيا الدم تعني أن هناك أمراضًا -على سبيل المثال لا الحصر- تصيب مزيجًا معيّنًا من البشر دون المزيج الآخر، تبعًا للميزات والخصائص والصفات التي تكتسبها العضوية من تأثير البيئة الطبيعية من جهة ونسبة الاختلاط بين بعضها البعض تارة وبينها وبين الشعوب الأخرى طورًا آخر، وهكذا يتضح لنا ما يعنيه سعادة من مثالي اسبارطة وأثينا، فليس هناك تناقض بين ما يقوله سعادة عن التمازج أو الاختلاط الذي كان في إحدى المدينتين مميزًا لها عن الأخرى، وما أدلّ على صحة ما يذهب إليه سعادة من انقراض الأسرة الرابعة الفرعونية نتيجة التزاوج بين الآباء والإخوة والأخوات، إذ شكّل هذا العرف الفرعوني نوعًا من التمازج المنغلق بتناقله ذات المورثات، مما زاد في تشوهات العضوية وحال دون إمكانية تكيّفها مع مرور الزمن مع بيئتها، متوارثة لصفات قاهرة راحت تضيق وتضيق احتمالات قدرتها على التكيف مع ما يحيط بها من تطورات بيولوجية حتى انقرضت قاهرة ذاتها بذاتها، وعلى ذات السياق الذي أشرنا إليه آنفًا، حيث يختفي أحد اللونين في تلاقح اللون الوردي..

لكن كيف يُناقض سعادة نفسه بنفسه وفق وجهة نظر الحصري الذي يقول: “في هذه المحاضرة تكلّم أنطون سعادة عن السلالات الراقية والسلالات المنحطة وجزم بأن الاختلاط مع السلالات المنحطة بوجه عام ومع الزنوج بوجه خاص، يؤدي إلى انحطاط السلالة ويحول دون قيام نهضة حقيقية وتقدم مهم..

في حين أنه في كتاب نشوء الأمم ادعى عكس ذلك تمامًا: لقد فنّد هناك نظرية تفاضل السلالات تفنيدًا قويًّا ودحض دعايات نقاوة السلالة صراحة..”.

أولًا، لا يأتي سعادة على ذكر الزنوج في تفضيله سلالة على أخرى وتحديدًا بما يتعلق بالفتح العربي لشمال إفريقيا، بل على العكس تمامًا، فإنه قد اعتبر بوشكين ذا الجذور الزنجية من أعظم شعراء روسيا: ”فقد كان لبطرس الأكبر قائد زنجي رفعته درجة ذكائه إلى مرتبة مهندس المدفعية العام، وصيّرته ذا أملاك واسعة وتزوج من سيدة روسية من الأشراف وحفيد هذا الزنجي، هو بوشكين، أعظم شعراء روسيا، والكاتبان الفرنسيان دوماس الأب والابن كانا ذوي عرق زنجي”، هذا المثال يورده الحصري عن لسان سعادة، لكنه يحمّل سعادة ما لم يقله، بل ويحاول أن يظهر سعادة بمظهر المتناقض مع ذاته في رفضه نظرية نقاوة السلالة وعودته لإقرارها فيما يتعلق بالقرطاجيين وعدم اختلاطهم بالبرابرة، وقد نوّهنا في حينه لهذه المسألة التي تدل دلالة واضحة على أن الحصري يخلط بين رؤية سعادة لنقاء السلالة والمزيج السلالي، وقد يكون قد تعمّد ذلك فيما يسوقه من أمثلة لتأكيد وجهة نظره، فسعادة لا يفاضل بين سلالة وأخرى إنما يفاضل بين مزيج سلالي وآخر ليس من منطلق دموي أو سلالي إنما على قدر ما قدمه هذا أو ذاك من إسهامات في اضطراد الثقافة العالمية..

الزنوج ليسوا (عرقًا واحدًا أو سلالة واحدة) إنما هم مزيج من جملة خصائص وصفات توضعت على مدى زمني طويل فأضحت موروثات يتميزون بها عن مزيج آخر، كالبنية القوية والتي تبدع في مختلف النشاطات الرياضية على سبيل المثال، وإن كانت لهم بعض الصفات الخاصة بهم كالأنف الأفطس واللون والشعر المجعد، فما ذلك إلا نتيجة تأثير البيئة المستمر عليهم، فارتفاع درجة الحرارة أدى إلى تمدد الهواء وأصبح عليهم استنشاق أكبر قدر منه لتوفير كميات الأكسجين اللازمة لاستمرار العضوية بنشاطها، فبدت فتحات أنوفهم أوسع وأكبر مما عداهم من شعوب أخرى أو تمازجات أخرى، فالشعوب القاطنة في البيئات الباردة (الأسكيمو) مثلًا، تمتاز بفتحات أنف ضيقة جدًّا نتيجة كثافة الهواء وتاليًا كمية الأكسجين اللازمة لحياة العضوية.

ينهي الحصري نقده للأفكار أو الآراء العلمية عند سعادة بقوله: ”كيف ولماذا انجرف أنطون سعادة إلى مثل هذا التناقض الكبير؟ ويلوّح لي أن السبب في ذلك هو تغلب نزعته السياسية على نزعته العلمية، في الكتاب يقصد (نشوء الأمم) قد سجّل حكم العلم الحديث في هذه النظرية دون أن يهدف -من وراء ذلك- إلى غاية سياسية تكون وراء ذلك، وأما في المحاضرة (المحاضرات العشر) فإنه كان يسير وراء هدف سياسي، فتحيز إلى النظرية التي تساعد على بلوغ الهدف المذكور، دون أن يتذكر بأنه فنّدها تفنيدًا علميًّا وقال عنها إنها واهية جدًّا..”.

هذا التقدير الذي يبرر به (انجراف أنطون سعادة إلى مثل هذا التناقض الكبير..) لم يكن تقديرًا صائبًا، ذلك أن سعادة لم يقع قط في تناقض ذاتي كما يدّعي الحصري، بل هو تقدير ناتج عن خلط الحصري بين مصطلحات ومفاهيم ما يقول به سعادة وما فهمه هو منها، وخير مثال على ما نحن ذاهبون إليه خلطه بين السلالة كمصطلح ومفهوم والمزيج السلالي كمصطلح ومفهوم أيضًا، فقد أشرنا أعلاه إلى أن سعادة لم يُقدم على نفي السلالة إلا من حيث هي النقيض المباشر لمصطلح ومفهوم المزيج السلالي، كما أن سعادة لا يفاضل بين سلالة وأخرى كما فهمها الحصري، إنما يفاضل بين مزيج سلالي وآخر وعلى قاعدة لا علاقة لها بالدم أكان أزرق أم أحمر، وإنما على أساس ما قدّمه هذا المزيج أو ذاك، إلى الحضارة العالمية التي يعتبرها نتاج شعوب دون أخرى، وهي مقياس سعادة في المفاضلة بين مزيج سلالي وآخر، إذ إن السلالة كمصطلح ومفهوم متداول بين العامة والعلماء على حدٍ سواء، لاوجود لها، من وجهة نظر سعادة، إلا في العلوم الطبيعية، وأيضًا كمصطلح ومفهوم، يراد به فرز الكائنات بعضها عن بعض وفق أسسٍ لها وقائعها على أرض الواقع، لكنها (السلالة) لا يمكن الأخذ بها في عالم الإنسان وتحديدًا في علم الاجتماع، الذي له خصائصه وميزاته العقلية على عكس ما هو في عالم الحيوان، حيث الخصائص والميزات غرائزية بشكل مطلق، هذا من جهة، أما من الوجهة الأخرى، فالحصري يخلط -كما تبيّنَا آنفًا- بين الشأن السياسي والشأن الاجتماعي، وإن كان لا يمكننا الفصل بينهما، فيصنف المبادئ بنوعيها على أنها سياسية، بينما هي في واقع الحال شرح وتفصيل لما جاء في نشوء الأمم من منطلقات وقواعد وأسس، كانت لها نتائجها التي رتبها سعادة وفق منهج تحليلي وتركيبي بآن ومنهج وصفي ومعياري في آن آخر، فلا يمكن الفصل بأي حال من الأحوال بين المبادئ وغايتها وبين ما جاء في نشوء الأمم..

ففي محصلة ما انتهى إليه نشوء الأمم من حيث أن الأمة واقع اجتماعي بحت والدولة، من حيث هي شأن ثقافي، هي في آن نسبة الحقوق إلى الواجبات، أو هي شأن ثقافي “بقدر ما تنطوي عليه من حقوق” كما يقول سعادة، تأتي المبادئ كلٌ مشتقٌّ من الآخر، فالمحصلة أو النتيجة النهائية لما جاء في نشوء الأمم تأتي في مقدمة المبادئ وفق منهج تحليلي /سورية للسوريين والسوريون أمة تامة/ ومن ثم يُشتَقّ منها المبدأ التالي، لأنه إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يعنيه؟ فإذا كان السوريون أمة تامة فما يترتب على ذلك من قضايا أو مسائل أو حقائق، تجيب المبادئ بأن القضية التي تعني السوريين والسوريون فقط، هي /أن القضية السورية هي قضية قومية قائمة بنفسها ومستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى/، فإذا كان الأمر كذلك أيضًا، فما هي هذه القضية التي تعني السوريين دون سواهم؟ هي /قضية الأمة السورية والوطن السوري/ لكن ماذا تعني هذه الثنائية، الأمة والوطن؟ /الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي/ أما الوطن فهو /البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية../ ووفق منهج تركيبي، يبني سعادة المبدأ السادس /الأمة السورية مجتمع واحد/ وعلى هذا المبدأ، يقوم مبدأ الاستقلال النفسي فلا تتداخل القضايا بعضها ببعض لذا /تستمد النهضة القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي/ وعليه تأتي في قمة المبادئ /مصلحة سورية فوق كل مصلحة/، حيث يجمع هذا المبدأ كل ما تقدم من مبادئ، كما وتأتي المبادئ الإصلاحية متممة وقائمة على هذا المبدأ، ومحورها المبدأ السادس والقائل /الأمة السورية مجتمع واحد/ وحتى تكون مصلحة سورية فوق كل مصلحة، يجب -وفق منهج معياري- أن تكون مجتمعًا موحد المصير موحد الاتجاه موحد الحياة، وكل ما هو متعارض مع كون مصلحة سورية فوق كل مصلحة، يجب /معياريًّا/ إزالة كل عوائق تطبيق هذا المبدأ، وأبرز هذه العوائق كان الدين الذي يجب فصل مقتضياته في دولة مدنية ديمقراطية علمانية يقول بها سعادة، وتاليًا منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين، بما يعني إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب، أي رفض تجزئة المجتمع إلى طوائف ومذاهب تحول دون كونه مجتمعًا واحدًا، وحتى يكون كذلك، لا بدَّ من تنظيم الاقتصاد على أساس الإنتاج، بمعنى أن على المجتمع بكليته أن يدخل في عملية الإنتاج، بمعنى آخر، أن تنتفي البطالة من أي نوع كانت، مع الأخذ بعين الاعتبار إنصاف العمل، بمختلف جوانبه، ففي الاقتصاد القومي الاجتماعي نمايز بين المساواة في الحقوق وبين العدالة في توزيع المنتج القومي الذي يأخذ بعين الاعتبار أيضًا مصلحة الأمة والدولة، فصيانة مصلحتهما تأتي في صلب المبادئ، بناء على أن مصلحة الدولة في استمرارية قيامها بوظيفتها المدنية الديمقراطية العلمانية، وبحث لا يجير الإنتاج بكليّته لهذه المصالح، بل للأمة الحق في أخذ نصيبها من الإنتاج بما يكفل الرخاء والرفاه لمختلف أبناء الأمة دون تمييز أو تفريق، بمعنى أخر، إن صيانة مصلحة الأمة تتضح أكثر فأكثر بمتوسط عمر أعضائها أفرادًا وجماعات.. وللحفاظ على مختلف جوانب ما تقدم، ومن منطلق مبدأ تنازع البقاء، يأتي مبدأ إنشاء جيش قوي يكون قادرًا على الحفاظ على مختلف ما تقدم من إنجازات.

قبل الولوج إلى نقد ساطع الحصري لأفكار سعادة السياسية، لا بدَّ لنا من تحديد مفاهيم المصطلحات التي نتناولها في ردّنا على مختلف انتقادات ساطع الحصري، تبعًا لمنهجية سعادة في أن /التعيين شرط الوضوح/..

على خلاف النظريات التي تتناول علم السياسة بالتعريف، يقدّم سعادة تعريفًا مقتضبًا لهذا العلم، يقول: ”السياسة فن بلوغ الأغراض القومية وتحقيق الغايات القومية التي يجب على كل فرد أن يرتبط فيها لأنها رابطة المجتمع. السياسة عندنا وسيلة لا غاية، وسيلة لبلوغ الأغراض القومية بأقرب الطرق وأقل التكاليف”. الغرض والغاية منه، هو ميدان علم السياسة عند سعادة، فلا بدَّ إذًا من تحديد أو تعيين الغرض القومي أولًا وتاليًا تحديد الغاية القومية المتوخاة منه، ومن ثم تحديد الوسيلة أو الكيفية التي يجب أن تضمن تحقيق الغاية من الغرض وبأقل التكاليف، على أن يتوفر في كل ما تقدم العنصر المتاح من الممكنات والوسائل، وكيفية توظيف هذه وتلك بما يضمن تحقيق الغاية من الغرض وليس الغرض بذاته، ذلك ما يعنيه سعادة بقوله: ”التي يجب على كل فرد أن يرتبط فيها لأنها رابطة المجتمع..” أي ألا يقتصر الغرض وغايته على فئة دون أخرى، بل كل ما في المجتمع من فئات وشرائح ومؤسسات.. الخ، بمعنى أن الغاية من الغرض هي فائدة المجموع المجتمعي، وبما يعني أنه ليس غرضًا قوميًّا ما يقتصر نفعه على شريحة دون أخرى.

1 – الأسطورة السياسية:

ونبدأ فيما يقوم عليه علم السياسة /الأسطورة السياسية/ والتي هي بالتعريف: ”سردية مختومة أيديولوجيًا بغرض خلق سردية متماسكة لتفسير مجموعة من الأحداث السياسية الماضية، أو الحالية، أو المتوقعة، والتي يتم قبولها باعتبارها حقيقية في جوهرها من قبل مجموعة اجتماعية”. وفق ما ذهب إليه (كريستوفر جي) في تعريفه العلمي لماهية الأسطورة السياسية، ومن أبرز الأساطير السياسية كتاب /صراع الحضارات/ “لصموئيل هنتنغتون” ومختلف ما بنيت عليه الأساطير القومية، ومثالنا في هذا الموضوع ما قيل في “القومية العربية” أو “القومية اللبنانية” أو القومية السورية، كما ويمكننا أن نضيف لهذه الأساطير “الأممية الإسلامية” (العالم الإسلامي) أو “الأممية المشاعية” لمختلف كتابات ماركس وأنغلز في الماركسية..

ما يهمنا هو الأسطورة السياسية لسعادة، فكيف بنى سعادة على أسطورته السياسية القومية السورية ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا؟

يقول سعادة في شرحه لأسطورته السياسية: ”تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي/ يقول: ”يتضح من هذا المبدأ وهذا الكلام أن الاستقلال الروحي شيء واضح جدًا ومبدأ فاعل له فاعلية عظيمة في حركة الحزب السوري القومي الاجتماعي. هو يوجّه الفكر والشعور إلى الحقيقة الداخلية. إلى حقيقة هذه الذات الفاعلة التي هي المجتمع السوري بكل طبيعته بكل مواهبه بكل مثله وأمانيه. وقد قلت في حديث سابق وفي الاجتماع الأخير أيضًا إن النفسية السورية، إن هذه الحركة التي تميز وتعبر عن هذه النفسية هي الناحية الذاتية من هذا الوجود، الناحية الفاعلة فيما هو وضع وفيما هو كون.

نحن نكون الناحية السلبية، والأرض، وهذا الكون الذي أمامها هو الناحية الإيجابية لنا. ومن هذا يقتضي أن يكون لنا استقلال روحي، وفي خطاب قديم عبّرت، أنه استقلال فكري أيضًا.

إنه استقلال روحي فكري، أي إنه استقلال نفسي بكل معنى الكلمة. ولست أدري كيف أن وجود مبدأ مثل هذا المبدأ، المبين في تعاليم الحركة السورية القومية الاجتماعية، لم يكن كافيًا للمفكرين والأدباء في هذه البلاد ليدركوا أن حركة تقول بمبدأ من هذا النوع ليست بالحركة التي يمكن أن تخضع أو تسخر لأغراض غريبة عن ذاتيتها أو مقاصدها في الحياة والفن.

لقد جاء في شرح المبدأ: “الحقيقة أن من أهم عوامل فقدان الوجدان السوري القومي، أو من عوامل ضعفه، إهمال نفسية الأمة السورية، الحقيقية، الظاهرة في إنتاج رجالها الفكري والعملي، وفي مآثرها الثقافية، كاختراع الأحرف الهجائية، التي هي أعظم ثورة فكرية ثقافية حدثت في العالم، وإنشاء الشرائع التمدنية الأولى، ناهيك بآثار الاستعمار والثقافة السورية المادية- الروحية والطابع العمراني، الذي نشرته سورية في البحر السوري المعروف في الجغرافية بالمتوسط، وبما خلّده سوريون عظام كزينون وبار صليبي ويوحنا فم الذهب وأفرام والمعري وديك الجن الحمصي والكواكبي وجبران وطائفة كبيرة من مشاهير الأعلام قديمًا وحديثًا.

أضف إلى ذلك قوّادها ومحاربيها الخالدين من سرجون الكبير إلى أسرحدون وسنحاريب ونبوخذ نصر وأشور باني بال وتقلاط فلاصر إلى حنون الكبير إلى هاني بعل أعظم نابغة حربي في كل العصور وكل الأمم إلى يوسف العظمة الثاوي في ميسلون”.

إذا تأملنا في هذا الشرح، وجدنا منه خصائص ومزايا للنفس السورية، التي قلت إنها ليست شرقية كما يظن وكما لا يزال يتكرر في الصحف والكتب في مجتمعنا.

من النظر في مآثر هذه الأمة، من النظر في أعمالها، من النظر في سيرها، في أدبها، في مكتشفاتها، يتضح جليًا أن هذه الأمة ليست شرقية بالمعنى النفسي. هي ليست ذات نفسية شرقية لأن من خصائص النفسية الشرقية المعروفة والمعرفة بهذا التعريف، إن من خصائص هذه النفسية ليس الاتجاه إلى المستقبل وليس النظر في الكون وطبائعه بقصد معرفته وبقصد تسليط العقل عليه، بل هي نفسية منصرفة إلى الشؤون الخفية من الاتجاهات النفسية. هذه النفسية لها نقطة ارتكاز أساسية هي ما يسمونه باللغات الفرنجية Mysticism إنها تجنح بكليتها إلى الخفاء إلى التعاليل الخفية للوجود وأغراض الوجود وتنتهي في الأخير في الغيب وفي الاعتناق الغيبي للمفترض الغيبي الذي تتجه إليه النفس وتنتهي أخيرًا فيما يسمونه باللغة الهندية “النرفانا”.

نحن لسنا نرفانيين. إن الاتجاه إلى اختراع الحروف الهجائية يدل على أن لنا ناحية عملية قديمة في الحياة. إن الاستعمار وتنظيم المستعمرات وسلك البحار وإنشاء المستعمرات وتنظيم التجارة والمعاملات، درس طبائع الأشياء، والاتجاه إلى الاختراع، والاتجاه نحو الفتوحات الحربية والفكرية، تستر نظرة ذاتية مسيطرة طالبة التفوق وإخضاع المادة لأغراضها وذاتيتها. هذه حقيقة قوية تختلف كل الاختلاف عن حقيقة التجرد الوجودي والاتجاه نحو الغيب وترك محل الكيان الذاتي في الوجود.

في هذا المبدأ يتضح أننا لسنا من الذين يصرفون نظرهم عن شؤون الوجود إلى ما وراء الوجود. لسنا من الذين ينصرفون إلى ما وراء الوجود، بل من الذين يرمون بطبيعة وجودهم إلى تحقيق وجودٍ سامٍ جميل في هذه الحياة وإلى استمرار هذه الحياة سامية جميلة.

إذا قلت إن سورية هي التي نشرت الطابع العمراني في البحر المتوسط الذي صار أساسًا للتمدن الغربي الحديث، فإني أقول ذلك بأدلة وثيقة حتى من التاريخ الذي كتبه مؤرخون هم من تلامذة المدرسة الإقريكية- الرومانية، بعد انقراض المدرسة السورية للتاريخ.

وعندما أقول تلامذة المدرسة الإقريكية- الرومانية للتاريخ، أعني مدرسة التاريخ التي رمت إلى تشنيع كل صفة للشعب السوري بعامل العداوة بين السوريين والإقريك أولًا ثم بين السوريين والرومان أخيرًا.

ففي الصراع العنيف على السيادة البحرية في المتوسط بين السوريين والإقريك أولًا ثم بين السوريين والرومان نشأ صراع قوي جدًا بين أدب الإقريك وأدب السوريين وبين أدب السوريين وأدب الرومانيين. وقد أتيت بلمحة صغيرة في حديثي الماضي عن كيفية تشويه الحقائق التاريخية، مثلًا ما رواه “النبع” المصدر التاريخي للحروب الفينيقية المعروفة بالتسمية (بونِك) تحريف الفينيقية عن الإقريك. فوليبيو هو المصدر الأساس لكل من يريد أن يكتب في تاريخ الحروب الفينيقية الثلاثة التي نشبت بين قرطاضة ورومية. ففي رواية فوليبيو عن كيفية قطع هاني بعل لجبال الألب والبيرانيز قصد تشويه هذه الحملة التي لم يسبق لها مثيل ولم تصل إلى عظمتها أية محاولة شبيهة بها من قبلها أو من بعدها. قال مخطئًا الذين يرون في هذا القطع لأعظم جبال أوروبة عملًا عظيمًا- قال إنه سبق لجماعات بشرية أن قطعت جبال الألب، وعنى بالذين عبروا تلك الجبال جماعات متوحشة من الجلالقة أو غيرهم، وأراد أن يقارن بين انتشار جماعات متوحشة بغير قصد تدفعها في ارتحالها عوامل عمياء أو اضطرار قاهر، وبين حملة عسكرية مرتبة منظمة في الدماغ من قبل، مهيأة بترتيب ومجهّزة بقصد واضح وترتيب للقيام بها مع تقدير لكل خطورتها وبقصد، ليس فقط اجتياز هذه الجبال، بل إخضاع العدو.

إن تصميمًا عظيمًا من هذا النوع لا يمكن أن يمثل بجماعات متوحشة يمكن أن تصعد وتنزل في الجبال. إن فرقًا عظيمًا بين هذين. مع ذلك فلم يجد فوليبيو أي فرق ولم يرد أن يجد أي فرق لأنه قصد في روايته لها أن يحقّر كل عمل قام من الناحية السورية.

هذا مثل واحد، هنالك أمثال عديدة من هذا النوع تدل على كيفية رمي المدرسة الإقريكية- الرومانية التاريخية إلى تشويه الحقيقة السورية وعدم الاعتراف بأي فضل لها أو بأية قيمة. ولما كان لم يسلم، لا من حريق صور بعد فتح الإسكندر ولا من حريق قرطاضة بعد فتح سيبيو، كتب عن التاريخ السوري، أصبح التاريخ السوري وتأويل التاريخ ورواية التاريخ وقفًا على اتجاه المدرسة الإقريكية- الرومانية التي بخست السوريين حقهم في الإنشاء والإبداع والعمران.

أعود إلى الشرح: “إننا نستمد مثلنا العليا من نفسيتنا ونعلن أن في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم… إذا لم تقوَ النفسية السورية وتنزّه عن العوامل الخارجية وسيطرة النفسيات الغريبة فإن سورية تبقى فاقدة عنصر الاستقلال الحقيقي، فاقدة المثل العليا لحياتها”.

في حديث سابق ذكرت لكم شيئًا، مع شيء من التعليق عن طبيعة الشعب السوري وعن مزيجه السلالي الممتاز، وعن نوعية هذا المزيج وأهميته وعن أهمية الانتباه إليه لمعرفة الحقيقة السورية. وما أقصد بالقول: “في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم” ليس أي شيء منساق مع فكرة تصل إلى نفي العقل تقريبًا. وليس شيئًا مجاريًا لبعض نظريات برقسون تقريبًا، أو للمنطق الذي صار في الأخير، من جملة دعائم الحركات التي لها المزايا العمياء من الناحية النفسية، كحركات النقابات التي تقوم على ناحية ليست فلسفية من الـ Intuition ولا في الانسياق مع استنتاجات من هذا النوع، تقوم أيضًا وتنتقل في الاتجاهات الروحية القائلة باستقلال الروح عن المادة واستقلال مصدرها المطلق واستمرار العوامل الخفية في كل المقاصد الروحية والتسليم إليها بتنزه عن العقل والقوى العقلية والمنطق العقلي. ولا شيء يذهب مع بعض المدارس الناشئة حديثًا، أي إنه مع الإقرار بوجود العقل والفكر يجب أن يظل الفرد شاعرًا بحرية عن العقل والفكر، بل قصدت أن العقل والشعور، أن عمل الإحساس والفكر، هو كل نفسي لا يمكن أن يزال العقل منه، وقصدت أن النفسية السورية قد برهنت وتبرهن اليوم بالبرهان التشريحي والعملي على أنها عظيمة المقدرة مستكملة شروط الوعي الصحيح والإدراك الصحيح وأن لها مقدرة على إدراك واستيعاب كل ما يمكن أن تستوعبه النفس وتدركه في هذا الوجود.

إنها نفس تقدر في ذاتها على المعرفة والإدراك وتمييز القصد وتصور أسمى صور الجمال في الحياة. إنها نفسٌ بوعي ولها كل مؤهلات الإدراك الشامل العام لشؤون الحياة والكون والفن”.

2 – الفكرة السياسية:

هي بالتعريف “منظومة فكرية تؤسس عليها مجمل العلاقات السياسية” بين الفرد والمجتمع وبالعكس بين المجتمع والدولة وبالعكس وبين الدولة والدول الأخرى وبالعكس، أوهي الإجابة على سؤال: ما العوامل والأسباب التي بلغنا من خلالها الواقع السياسي الحالي وما هي العوامل والأسباب الواجب توفرها للتغير في مختلف العلاقات السياسية إلى ما يجب أن يكون.

يقدّم سعادة لفكرته السياسية قائلًا: ”ما دمنا قد بلغنا حدّ الوجدان القوميّ الّذي هو أبرز الظّواهر الاجتماعيّة العامّة العصريّة فقد بلغنا هذا الدّين الاجتماعيّ الخصوصيّ الّذي أعطى الكنعانيّون فكرته الأساسيّة للعالم ونعت في بعض الظّروف بالخديعة الكنعانيّة(238) أو الإثم الكنعانيّ.

ومن المهمّ جدًا للعلم الاجتماعيّ أن نستقصي سبب نسبة الرّابطة القوميّة المؤسّسة على فكرة الوطن إلى السّوريّين الكنعانيّين، لأنّ هذا الاستقصاء يساعدنا على فهم هذه الرّابطة الرّوحيّة المتينة. ولا بدّ لنا من الاعتراف بأنّنا لم نقف فيما طالعناه من كتب التّاريخ والاجتماع على سوى هذه الإشارة السّريعة إلى أصل الوطنيّة الكنعانيّ ومع ذلك فلن يصعب علينا اكتشاف السّبب بدرس أحوال الكنعانيّين الاجتماعيّة والسّياسيّة.

إنّ الكنعانيّين، من بين جميع شعوب التّاريخ القديم، كانوا أوّل شعب تمشّى على قاعدة محبّة الوطن والارتباط الاجتماعيّ وفاقًا للوجدان القوميّ، للشّعور بوحدة الحياة ووحدة المصير، فارتحلت جماعة منهم من حوالي البحر الميت إلى الشّمال الغربيّ ونزلت على السّاحل أمام لبنان وعرفت في التّاريخ باسم الفينيقيّين(239) الذي أصبح أشهر من اسم كنعان، ولكنّها ظلّت محافظة على نسبها الكنعانيّ فظلّ الفينيقيّون يسمّون أنفسهم كنعانيّين.

أنشأ الفينيقيّون (الكنعانيّون) الدّولة المدنيّة، فكانت طرازًا جرى عليه الإغريق والرّومان. ومع ما نشأ عندهم من الدّول فإنّهم لم يتحاربوا وظلّوا محافظين على صفة الشّعب الواحد المتضامن في الحياة وكانت زعامة فينيقية تنتقل من مدينة إلى مدينة، من دولة إلى دولة بعامل التّقدّم والكبر وازدياد المصالح والنّفوذ كانتقال الزّعامة من مدينة صيدا إلى مدينة صور الّتي أسّست أوّل إمبراطورية بحريّة في التّاريخ.

وباكرًا أسّس الفينيقيّون الملكيّة الانتخابيّة وجعلوا الملك منتخبًا لمدّة الحياة، فسبقوا كلّ الشّعوب والدّول التاريخيّة إلى تأسيس الدّولة الدّيمقراطيّة. وما الدّولة الدّيمقراطيّة سوى دولة الشّعب أو دولة الأمّة. هي الدّولة القوميّة المنبثقة من إرادة المجتمع الشّاعر بوجوده وكيانه.

وإنّ المحافظة على الرّباط الوطنيّ القوميّ عند الفينيقيّين ظلّ ملازمًا لهم في انتشارهم في طول البحر السّوريّ وعرضه وفي المستعمرات والإمبراطوريات الّتي أنشؤوها فظلّت الحقوق المدنيّة في الزّواج والاختلاط وجميع المظاهر الاجتماعيّة والثّقافيّة واحدة لهم جميعًا ولم يكن هنالك استثناء إلاّ في الحقوق السّياسيّة.

ومع أنّ الفينيقيّين (الكنعانيّين) أنشؤوا الإمبراطورية البحريّة، فإنّ انتشارهم كان انتشارًا قوميًّا بإنشاء جاليات استعماريّة تظلّ مرتبطة بالأرض الأمّ وتتضامن معها في السّرّاء والضّرّاء. كان انتشارهم انتشار قوم أكثر منه اتّساع دولة. وإنّ هذا الانتشار مع بقاء الاشتراك في الحياة بالرّوابط الوطنيّة والدّمويّة والاجتماعيّة كان الظّاهرة القوميّة الأولى في العالم الّتي إليها يعود الفضل في نشر المدنيّة في البحر السّوريّ والّتي خبت نارها قبل أن تكتمل بما هبّ عليها من حملات البرابرة الإغريق والرومان. ومن دلائل هذه الظاهرة الّتي امتاز بها الكنعانيّون أنّهم لم يُدخلوا الأقوام الغريبة الّتي أخضعوها بالفتح كاللّيبيين والإسبان القدماء (الأيبريين) في نظام حقوقهم المدنيّة والسّياسيّة. ومع أنّ ذلك كان من مصادر ضعفهم تجاه تقدّم رومة فإنّه كان دليلًا على روحهم القوميّة ومحافظتهم على وحدة مجتمعهم.

القوميّة، إذًا، هي يقظة الأمّة وتنبّهها لوحدة حياتها ولشخصيّتها ومميّزاتها ولوحدة مصيرها. إنّها عصبيّة الأمّة. وقد تلتبس أحيانًا بالوطنيّة الّتي هي محبّة الوطن، لأنّ الوطنيّة من القوميّة ولأن الوطن أقوى عامل من عوامل نشوء الأمّة وأهمّ عنصر من عناصرها. إنّها الوجدان العميق الحيّ الفاهم الخير العامّ، المولّد محبّة الوطن والتّعاون الدّاخليّ بالنّظر لدفع الأخطار الّتي قد تحدق بالأمّة ولتوسيع مواردها، الموجد الشّعور بوحدة المصالح الحيويّة والنّفسيّة، المريد استمرار الحياة واستجادة الحياة بالتّعصّب لهذه الحياة الجامعة الّتي يعني فلاحها فلاح المجموع وخذلانها خذلانه.

القوميّة هي الرّوحيّة الواحدة أو الشّعور الواحد المنبثق من الأمّة، من وحدة الحياة في مجرى الزّمان. ليست القوميّة مجرّد عصبيّة هوجاء أو نعرة متولّدة من اعتقادات أوّليّة أو دينيّة. إنّها ليست نوعًا من الطّوطميّة، أو نعرة دمويّة سلاليّة، بل شعور خفيّ صادق وعواطف حيّة وحنوّ وثيق على الحياة التي عهدها الإنسان. إنّها عوامل نفسيّة منبثقة من روابط الحياة الاجتماعيّة الموروثة والمعهودة، قد تطغى عليها، في ضعف تنبّهها، زعازع الدّعاوات والاعتقادات السّياسيّة، ولكنّها لا تلبث أن تستيقظ في سكون اللّيل وساعات التّأمل والنّجوى أو في خطرات الإنسان في بريّة وطنه أو متى تذكّر برّيّة وطنه.

وإنّ الوطن وبريّته، حيث فتح المرء عينيه للنّور وورث مزاج الطّبيعة وتعلّقت حياته بأسبابها، هما أقوى عناصر هذه الظّاهرة النّفسيّة الاجتماعيّة الّتي هي القوميّة. ماذا تعني القوميّة للسّويسريّ إذا أزيلت جبال الألب وبحيراتها؟ وماذا تعني القوميّة للفرنسيّ إذا اختفت سهول فرنسا وتحوّلت أنهرها عن مجاريها؟.

والسّوريّ هل يخفق قلبه لجبال الألب أو لصحارى بلاد العرب على ما فيها من مشاهد جميلة؟ أليست سورية هي الّتي ترتاح إليها نفسه ويحنّ إليها فؤاده إذا غاب عنها؟.

إنّ شاعرًا سوريًا مهاجرًا ظنّ أنّه قد وجد قوميّته في الدّعوة السّياسيّة- الدّينيّة إلى الإمبراطورية العربيّة أو الوحدة العربيّة أو إعادة مجد العرب. ولكنّه، في ساعة سعيدة من ساعات يقظته النّفسيّة، تنبّه شعوره الدّاخليّ المجرّد عن العوامل السّياسيّة فأدركه الحنين إلى الوطن. على أنّ هذا الحنين لم يكن إلى وطنًا لا عهد له به، إلى الصّحراء أو مصر أو المغرب، بل إلى سورية. هو الشّاعر الياس فرحات، فانظر كيف تتدفّق عواطفه الصّادقة وشعوره السّليم الفطريّ:

عُدْ بي إلى حمص ولو حشو الكفن… واصرخ أتيت بعاثر مرود.. واجعلْ ضريحي من حجار سود.

إنّ الإثم الكنعانيّ لا يزال فاعلًا فينا وقد أصبح فاعلًا في العالم كلّه”.

ويضيف قائلًا: ”إنّ الوجدان القوميّ هو أعظم ظاهرة اجتماعيّة في عصرنا، وهي الظّاهرة الّتي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدّرجة العالية من التّمدن. ولقد كان ظهور شخصيّة الفرد حادثًا عظيمًا في ارتقاء النّفسية البشريّة وتطوّر الاجتماع الإنسانيّ. أمّا ظهور شخصيّة الجماعة فأعظم حوادث التّطوّر البشريّ شأنًا وأبعدها نتيجة وأكثرها دقة ولطافة وأشدّها تعقّدًا، إذ إنّ هذه الشّخصيّة مركّب اجتماعي- اقتصاديّ- نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه.

كلّ جماعة ترتقي إلى مرتبة الوجدان القوميّ، الشّعور بشخصيّة الجماعة، لا بدّ لإفرادها من فهم الواقع الاجتماعيّ وظروفه وطبيعة العلاقات النّاتجة عنه. وهي هذه العلاقات الّتي تعيّن مقدار حيويّة الجماعة ومؤهّلاتها للبقاء والارتقاء، فبقاؤها غامضة يوجد صعوبات كثيرة تؤدّي إلى إساءة الفهم وتقوية عوامل التّصادم في المجتمع فيعرقل بعضه بعضًا ويضيّع جزءًا غير يسير من فاعليّة وحدته الحيويّة ويضعف فيه التّنّبه لمصالحه وما يحيط بها من أخطار من الخارج”.

إذًا، الفكرة السياسية عند سعادة تتلخص بالقومية التي تؤسس عليها مختلف العلاقات السياسية، ففي أي مجال من مجالات الحياة المجتمعية، يجب ألا تغيب عن أذهاننا القاعدة التي ننشئ عليها مختلف علاقاتنا السياسية والتي هي بالضرورة اجتماعية بحتة، كما سيلي في بحثنا للنظرية السياسية عند سعادة، لا يجب أن يغرب عن وعينا أن كل ما نسعى إليه هو قومي اجتماعي بالضرورة، بالقوة والفعل، يقول: ”إن حزبنا في سيره، في عمله، في نضاله، يمثل ويعمل ويصارع في سبيل أساس أفضل لحياة الإنسان- المجتمع.

إن هذه الحقيقة التي لأجلها نجابه كل الأخطار من كل نوع هي حقيقة أن قضيتنا فيها كل الخير وكل الحق وكل الجمال وكل الحقيقة وكل العدل للمجتمع الإنساني. من أجل هذا الإيمان يذهب مئات وألوف إلى السجون ويتعرضون لشتى صنوف الويلات وتذوب جسومهم يومًا فيومًا ولا يئنون ولا يستنجدون.

هذا الحزب يشكّل قضية خطيرة جدًا ومهمة، هي قضية الآفاق للمجتمع الإنساني الذي نحن منه والذي نكون مجموعه.

بديهي إذًا ألا نتمكن من فهم قضية الحزب السوري القومي الاجتماعي كلها بكامل أجزائها وفروعها وما تتكشف عنه من مناقب وأهداف سامية.. إلا بالدرس والتأمل الطويل..، ويستمر الفكر يتغذى منها ويتفتح على شؤون العالم مطلقًا، ويظل مجتمعنا يجد في هذا التفتح وهذا الاستمرار مراقي إلى ذروة الحياة الجيدة التي تليق بالإنسان الراقي ويليق الإنسان الراقي بها..

نحن مستعدون كلنا للتضحية لكن الذين يسقطون يظلون جزءًا من الكل يسقط في سبيل الكل، حتى إذا تحقق خير الكل وجد الكل في هذا التحقيق ما يرضي القيم الإنسانية العليا التي يفيض خيرها على مجموع الشعب تحقيقًا لما يتمنى المرء في نفسه لأمته أولًا ولنفسه ثانيًا، وليس لنفسه أولًا ولأمته ثانيًا… قال الدكتور خليل سعاده: “ليست الحياة وسيلة لتشريف الدين، بل الدين وسيلة لتشريف الحياة”. فقيمة المبادئ للأمة هي بمقدار ما تعني وتعمل لحياة الإنسان الجيدة لا بقدر ما هي خيالات جيدة في أدمغة بعض المفكرين.

إن نظامنا يرمي إلى صهر التقاليد المنافية لوحدة الأمة. والتقاليد كما أوضحت في “نشوء الأمم” ليست شكلية، سطحية، بل لها مساس بالاقتناعات العميقة في نفس الإنسان، وهي تختلف عن العادات، فالعادات هي التي يمكن أن تتغير بسهولة لأنها تتعلق بسطحيات الحياة أما التقاليد فلها علاقة بالاقتناعات النفسية العميقة.

كل هذا يعني أن قواعد الفكر التي نشأت عليها هذه النهضة القومية وينمو بها الحزب السوري القومي الاجتماعي هي قواعد فلسفة عميقة تتناول المسائل الأساسية غير التي ترتبط بوقت معيّن تمضي بمضيّه أو بشكل من الأشكال الجزئية، بل هي عامة ثابتة، أو بالمعنى الفلسفي المطلق، ليست منسوبة إلى وقت أو حالة معينة وقتية تزول بزوال تلك الحالة”.

3 – النظرية السياسية عند سعادة:

يختلف علماء الاجتماع على تعريف النظرية السياسية، فالبعض يقول إنها /بناء تصوري يبنيه الفكر ليربط بين مبادئ ونتائج معينة/، بينما يعرّف آخرون النظرية السياسية بأنها /مجموعة من الحقائق العلمية التي يبنى عليها نسق علمي مترابط/، أو أنها /تفسير لظاهرة معينة من خلال نسق استنباطي/، أو هي /عبارة عن مجموعة مرتبطة من المفاهيم والتعريفات والقضايا والتي تكوّن رؤية منظمة للظواهر عن طريق تحديدها للعلاقات بين المتغيرات بهدف تفسير الظواهر والتنبؤ بها/، أما “أرنولد روس” فيعرفها على أنها /بناء متكامل يضم مجموعة تعريفات وافتراضات وقضايا عامة تتعلق بظاهرة معينة بحيث يمكن أن يستنبط منها منطقيًّا مجموعة من الفروض القابلة للاختبار/.

لكن وعلى الرغم من كثرة التعريفات للنظرية السياسية، فإن سعادة يعيد نظريته السياسية إلى جذورها، فيربط بين ما تقدّمه الأسطورة السياسية والفكرة السياسية لتشكيل نظريته السياسية، القائلة بـ(القومية الاجتماعية)، إذ لا يمكننا الحديث عن أي شأن إنساني ما لم يكن المجتمع مصدره وتاليًا غايته، فمجمل ما يتوق إليه الإنسان يبقى المجتمع مصدره بل وغايته أيضًا، كذلك القومية بحد ذاتها إن لم تنصب بكليتها على رحمها الذي تكونت ونشأت به- المجتمع، تبقى مجرد عاطفة لا تقدم ولا تؤخر في مسيرة من تمثّلهم أو من يشعرون بأن ما من مصلحة سوى مصلحتهم وليس من خطر يهددهم إلا ما يهدد مجتمعهم بالزوال، من هنا نجد سعادة يشدّد على وحدة الحياة التي يمثلها المجتمع دون سواه، فالأمة التي ينادي بها هي /وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي/، لذا كانت الأمة في النظرية السياسية لديه هي /مجتمع واحد/، يقول:

”الأمة السورية مجتمع واحد” فلنتتبع نص الشرح:

“إلى هذا المبدأ الأساسي تعود بعض المبادئ الإصلاحية التي سيرد ذكرها وتفصيلها. عن الدولة، إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب- وهذا المبدأ هو من أهم المبادئ التي يجب أن تبقى حاضرة في ذهن كل سوري. فهو أساس الوحدة القومية الحقيقي ودليل الوجدان القومي. والضمان لحياة الشخصية السورية واستمرارها. أمة واحدة- مجتمع واحد. فوحدة المجتمع هي قاعدة وحدة المصالح ووحدة المصالح هي وحدة الحياة. وعدم الوحدة الاجتماعية ينفي المصلحة العامة الواحدة التي لا يمكن التعويض عنها بأية ترضيات وقتية”.

إن قاعدة الأمة الواحدة في المجتمع الواحد هي القاعدة الصحيحة للوجود القومي. لا يمكن أن تكون أمة واحدة إذا لم يكن هنالك مجتمع واحد، أي إذا لم تكن الهيئة الاجتماعية واحدة. فإذا حصلت تجزئة في المجتمع تعرضت الأمة لخطر الانحلال النهائي والاضمحلال. فصحة الأمة وتقدمها لا يكونان إلا في مجتمع واحد. فالحركة القومية الاجتماعية تقيم بهذا المبدأ وما يتعلق به حربًا عنيفة مميتة على عوامل تجزئة المجتمع إلى مجتمعات والأمة إلى أمم- هذه العوامل التي تجعل من كل طائفة دينية ومن كل عشيرة أو طبقة مجتمعًا قائمًا بنفسه وأمة منفصلة عن الطوائف والعشائر أو الطبقات الأخرى.

لا يمكن للأمة الواحدة أن تتجه في التاريخ اتجاهًا واحدًا بعقليات متعددة. متباينة أو متنافرة. هذا أمر مستحيل. وجميع البهلوانيين السياسيين الذين يقومون بضروب كثيرة من البهلوانية في شؤون التاريخ والسياسة والاجتماع ويحاولون التوفيق بين تناقض المجتمع في كيانه والوحدة القومية يمكنهم أن ينجحوا في إنشاء الأحزاب التي تفيدهم هم شخصيًا أو في اكتساب مكانة ومنفعة عن طريق استغلال الحالة الراهنة ولكنهم لن يستطيعوا النجاح في إنقاذ المجتمع من مصير الفناء الذي يصير إليه أو من إكسابه قوة الوحدة والانطلاق. الأمة في أساسها الحقيقي هي وحدة حياة فإذا لم تكن وحدة لم تكن أمة حقيقية.

متى كانت المصالح مصالح محمديين ومصالح مسيحيين ومصالح دروز، أو مصالح سنيين ومصالح شيعيين ومصالح علويين ومصالح إسماعيليين، أو مصالح موارنة ومصالح روم كاثوليك ومصالح أرثوذكس ومصالح أفروتسطنت… الخ، لم تكن هنالك مصالح قومية واحدة. ولا يمكن توحيد شعور الشعب واندفاعه وراء أية حملة باسم الأمة أو الوطن تقوم بها طائفة واحدة، مهما كانت كبيرة، فلم يمكن قط تحويل أية حركة استقلالية قامت بها طائفة معينة إلى حركة شعبية في طول البلاد وعرضها. الثورة الدرزية سنة 1925 التي سميت “الثورة السورية الكبرى” لم يمكن أن تتحول إلى ثورة سورية عامة، لأنها لم تنشأ بإرادة عامة موحدة. وكم من الناس قالوا: “خلّي الدروز يتفزروا مع الفرنسيين”! وليس بالإمكان جعل مجموعة مصالح الطوائف مصالح عامة واحدة، لأن ذلك يكون مخالفًا لطبيعتها.

النص: “في الوحدة الاجتماعية تضمحل العصبيات المتنافرة والعلاقات السلبية وتنشأ العصبية القومية الصحيحة، التي تتكفل بإنهاض الأمة.

وفي الوحدة الاجتماعية تزول الحزبيات الدينية وآثارها السيئة وتضمحل الأحقاد وتحلّ المحبة والتسامح القوميان محلها ويفسح المجال للتعاون الاقتصادي والشعور القومي الموحد وتنتفي مسهلات دخول الإرادات الأجنبية في شؤون أمتنا الداخلية.

إن الاستقلال الصحيح والسيادة الحقيقية لا يتمّان ويستمران إلا على أساس وحدة اجتماعية صحيحة. وعلى أساس هذه الوحدة فقط يمكن إنشاء دولة قومية صحيحة وتشريع قومي اجتماعي مدني صحيح، ففيه أساس عضوية الدولة الصحيحة وفيه يؤمن تساوي الحقوق لأبناء الأمة”.

إن التساوي في الحقوق والتوحيد القضائي هما أمران ضروريان لنفسية صحيحة موحدة. فدون هذا التساوي تظل العقليات المختلفة التي كوّنتها الشرائع المختلفة معضلة تمنع الأمة من الاضطلاع بقضاياها. فالمجتمعات المتعددة المستقلة بشرائعها وأنظمتها الحقوقية تجزّئ الأمة الواحدة وتمنعها من التقدم.

وإن لنا اختبارًا عمليًا مهمًّا في تطبيق الحكم الوطني في لبنان والشام بموجب المعاهدة سنة 1936 بين هاتين الدولتين والدولة الفرنسية. فما كاد الوطنيون يتسلّمون الحكم في دمشق حتى طُبّق نظام جعل مناطق عديدة كجبل حوران (جبل الدروز) ومنطقة اللاذقية ومنطقة الجزيرة تتحرك طالبة الانفصال عن المركز. ونزاع المجتمعات الدينية في لبنان ليس أقل منه في الدول الأخرى.

لا إنقاذ للأمة من مصير التضعضع والهلاك إلا بحركة أصلية تقيم مجتمعًا جديدًا واحدًا وعقلية جديدة وشعورًا واحدًا. وإن هذه الحركة قد وجدت وإن عملية الإنقاذ تجري ولكنها عملية طويلة شاقة. فلا نكون لجوجين بل لنعمل مؤمنين بقوة الحركة القومية الاجتماعية ومقدرتها على التغلب على كل صعوبة.

4 – الفلسفة السياسية:

يمكن تعريف الفلسفة السياسية على أنها البحث في أسس الاجتماع والسلوك السياسي لدى البشر، والمبادئ العامة لتنظيم المجتمعات وتوزيع السلطة داخلها، وتبرير أو نقد أشكال الحكومة والمؤسسات المُختلفة بناء على إجابات تُقدّمها الفلسفة (ويختلف الفلاسفة حولها) بشأن ما هو حق، وعادل، وخيّر.

تتضمن تلك الإجابات عادة افتراضات حول الطبيعة البشرية، وطبيعة السلطة، ونوعية الحياة الجيدة، وأفضل شكل مُمكن لعلاقة الإنسان بالآخرين.

في مجمل ما كتب في علم السياسة، لم نجد ذاك التكامل الذي نجده عند سعادة، من حيث أركان علم السياسة، فمجمل ما كتب كان أعرج تغافل عن قصد أو غير قصد واحدة أو اثنتين مما يقوم عليه هذا العلم، عند سعادة تستغرق الأسطورة السياسية بالفكرة السياسية وكلتاهما في النظرية السياسية، حيث نجد مجمل هذه الأركان مجتمعة في فلسفته السياسية، ذلك أن سعادة في مختلف ما كتب وتحدث به كان المجتمع هو البؤرة أو النواة أو البوتقة التي ينصهر بها كل ما هو إنساني، فالمجتمع عند سعادة هو الرحم الذي تتكون به وتنشأ مختلف نشاطات الإنسان، لذا نجد أن فلسفته السياسية تتمحور حول فكرة المجتمع من حيث هو الوجود الإنساني الكامل الذي تعود إليه مختلف قيم الإنسانية، لذا جاءت فلسفته لتقول بـ/الإنسان- المجتمع/ بقاعدته الذهبية القائلة بـ/إنه في المبادئ التي تمتّ للإنسان الحر بصلة لا يمكن الاستناد إلى أي قولٍ استبداديٍ مطلق لتقرير حقيقة إنسانية أو لها علاقة بالإنسان- المجتمع/ وتاليًا نسبية الحقائق الإنسانية بما تتضمنه من قيم مجتمعية، هذه النسبية يبقى المجتمع مصدرها ومآلها وتاليًا اختلاف المجتمعات بعضها عن بعض من حيث ظروف وعوامل نشأتها وما تعرضت له تاريخيًّا من أحداث جبلتها على مرّ العصور والأزمنة وشكّلت منها مجتمعًا له خصائصه وميزاته ومواصفاته التي وإن تشابهت مع أخرى، تبقى لها رائحتها ونكهتها الخاصة، في فلسفة سعادة السياسية نجد /الإنسان- المجتمع/ والذي هو ديمومة الحياة على أرض (بيئة) واحدة صبغته وطبعته بطابعها الخاص. وعليه جاء تعريفه للأمة بـ”إنها وحدة الحياة” أو هي “وحدة الشعب المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي”، كذلك نجد أن “الوطن هو البيئة التي نشأت فيها الأمة..” وهكذا باستغراق كلٍّ منهما بالآخر، يطالعنا سعادة بمقولته السياسية- الفلسفية /الإنسان- المجتمع/ لكن ما هو هذا الإنسان المجتمع الذي يقول به سعادة؟

للإجابة على السؤال المتقدم، أقتبس ما ورد في دراستنا /فلسفة أنطون سعادة الاجتماعية

“… يُقدّم سعادة، مقولة أخرى، هي الوجه المعياري لمقولته الأولى، ونقصد (الإنسان- المجتمع) والتي هي أعلى مراتب الوحدة الاجتماعية، مقابل الطبقة التي قدّمها ماركس على نحو ديكتاتورية البروليتاريا، مقاربًا -سعادة- في ذلك ”جان جاك روسو” في كتابه (العقد الاجتماعي) مع بعض التمايز الذي يعود لتخصيص سعادة مقولته بالمجتمع القومي، بينما يتحدث روسو عن (الدولة- المجتمع) من الوجهة السياسية في كتابه آنف الذكر..

“الإنسان- المجتمع”- ”الدولة” الذي أراد سعادة أن تبلغه أمته، هو المرتبة الثقافية المثلى التي يطمح لخدمتها الاقتصاد، من حيث كونه الرابطة الاجتماعية الأولى التي يقوم عليها الاجتماع، وهي المرتبة التي تلقي على الاقتصاد أعباء عليه القيام بها وتأمينها وفق مبدأ ”أقل جهد وزمن مقابل أقصى كمّ نوعي من الإنتاج“، وبما يضمن مصلحة الأمة والدولة في توالد أجيالها، فكما “الإنسان- المجتمع”- ”الدولة”، هو المجتمع الذي تنتفي فيه الفوارق الطبقية والطائفية والعنصرية والعرقية والجنسية والثقافية.. الخ، كذلك المجتمع بأجياله، أي عدم تمايز جيل عن آخر، فلا يحق لجيل، مثلًا، من أجيال الأمة أن يحتكر لمصلحته مصالح الأجيال التي لم تولد بعد.

عند سعادة ”ليست الدّولة في ذاتها مقياسًا للثّقافة العقليّة بل بما تنطوي عليه من حقوق”، و”الدولة وجدت لتبقى” بأي معنى أُخذت به، ومن حيث هي دولة قومية، مصلحة الدولة التي يتحدث عنها سعادة تبقى في استمراريتها في تأمين استمرارية مجتمعها القائمة على خدمته وتقدّمه ورقيّه، دون ذلك أيّ معنى للدولة ليس له من مبرر، الدولة القومية هي حكمًا عند سعادة، دولة ديمقراطية، الديمقراطية ليست ديمقراطية انتخابية، أو صندوق اقتراع، إنها نسق حياة، طريقة وأسلوبًا وكيفية تفكير، إنها تربية، نفسية، نهج، سلوك، يومي، تجد “الأنا” ذاتها في ”النحن” كذلك هذه الـ”نحن” في الأنا، إنها بهذا المعنى تعبيرية، تعبير عن المرتبة الثقافية التي بلغها المجتمع، الأمة، الدولة، ديمقراطية تعبيرية، التعبيرية هنا، هي المسلكية العامة لمجموع الشعب، الشعب هنا أيضًا وأيضًا، ليس مجموعًا عدديًّا، إنه وحدة حياة، بمعنى أنه يعي مهماته في مصلحة المجموع، المصلحة الفردية هي مصلحة عابرة، تتلاشى ”كتساقط أوراق الخريف” يميّز سعادة هنا بين المصلحة والمنفعة، المصلحة مركبة، عامة وفردية، بينما تأتي المنفعة في حدود الفردية فقط، الفردية هنا، هي المنفعة على حساب المجموع القومي، الرأسمال الفردي، هو ملك عام، لا يجوز التصرف به بما لا يتوافق والمصلحة العامة، ذلك أن الأفراد مؤتمنون عليه لا أكثر ولا أقل، عند سعادة، ما من إنتاج إلّا وهو إنتاج جمعي، مجتمعي، من هنا كان على ”كل عضو في الدولة أن يكون منتجًا بطريقة من الطرق” بما يفيد انتفاء البطالة من المجتمع الذي أراد سعادة قيامه، بمعنى آخر، على الدولة مهمة توليد فرص عمل مكافئة لقوى الإنتاج المنخرطة حديثًا في سوق العمل ”أن يكون” منتجًا.. تعني انتفاء أي مبررات تقدمها الدولة أو حكومتها لتحييد، لتجميد، لإبعاد، لإهمال، للتغاضي، عن جزء ما، كائنًا ما كان، من الطاقة الإنتاجية تحت أيّ مُسمى أو مبرر، بما يعني، في الحال المعاكسة، تقصيرًا من الدولة تحاسب عليه، قيمة الدولة، عند سعادة، بمدى قيامها بالموكل لها من مهام، بالواجبات الملقاة على عاتقها، ذلك أن مسؤولياتها ليست وظيفية بمعنى ما من المعاني، هي إنتاجية ويقاس نجاحها بمدى ما تنتجه وفق المقولة العامة للإنتاج، أقل جهد وزمن، الدولة عند سعادة مؤسسة إنتاجية، لا وظيفية استهلاكية، لا يمكن للدولة أن تكون عبئًا على المجتمع- الأمة، تشاركه بما ينتجه، عليها أن تنتج مقومات استمراريتها من حيث أنها وجدت لتبقى، الدولة هي الابن العاق للمجتمع، لم تكن لتكون بدونه، ولدت في رحمه، وتطورت في سياقه، وتنكرت له عندما احتاج إليها في تدبّر أموره، سخَّرَتْهُ لخدمتها وتطاولت عليه وتحولت لأداة قمع لكل ما من شأنه النيل من سلطتها وطغيانها، هنا سعادة، في مقولته ”الإنسان- المجتمع”- “الدولة” يعيدها لبيت الطاعة، لخدمة مَنْ أوجدها، ونمت وكبرت في أحضانه، في “صيانة مصلحة الأمة والدولة”، يضع سعادة حجر الأساس لماهية الدولة والأمة، المصطلح ”صيانة” يحمل توجهات عدة، من حيث معناه، تأمين، حماية، الحفاظ على مصلحة الأمة والدولة، هنا، يقدّم سعادة الأمة على الدولة، ويؤكد على ضرورة إصلاح (الوجه الآخر لمصطلح صيانة) ما هي عليه في سياق عملية الإنتاج، الهدف- حماية، حفظ، استمرارية الدولة في قيامها بمهامها، ومن الوجهة الأخرى تعديل، تكييف، تغيير، تبديل، تطوير تشريعاتها بما يتناسب والمهام الموكلة لها، على مبدأ ”الدين لتشريف الحياة وليست الحياة لتشريف الدين” القانون في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمة القانون، في الدولة، عند سعادة، لا تشريعات سرمدية، مقدسة، إلهية، لم تهبط التشريعات والدساتير والقوانين بأنظمتها، من السماء، هي من صنع الإنسان لخدمته وتأمين مصالحه، يقول: /في المبادئ التي تمتّ للإنسان الحرّ بصلة، لا يمكن الاستناد لأي قول استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية أو لها علاقة بالإنسان- المجتمع. /بما يعني أيضًا، أنه لا يمكن، فيما يتعلق بالإنسان- المجتمع- ”الدولة” إخضاعه لجملة مبررات تراها الدولة محقة ويراها المجتمع غير ذلك لكونها تمسُّ بشكل أو بآخر بحقوقه التي اكتسبها في عمليته الإنتاجية، كل ما تراه الدولة محِقًّا ليس بالضرورة أن يكون كذلك بالنسبة للمجتمع، ذلك أن التقرير هنا ليس مجرد قرار إنه مصلحة الأمة والدولة، كل ما له علاقة بالإنسان خاضع لمقولته في كون ”العقل شرع أعلى” لا يعلى عليه، في العقل، لا ارتجال، كل ما يمتّ للعقل بصلة خاضع للدرس، للاختبار والتجريب، على أن يكون مستمدًّا من الخبرة، الخبرة هنا، تراكم معرفي في العمل، كإنتاج، وليست مجرد تراكم زمني على حساب الأمة والدولة، العقل له مواصفات الحقيقة من حيث هي ”وجود ومعرفة” على سبيل المثال لا الحصر، في التشريع، تشريع الحلول للقضايا المطروحة، القانون يأتي كحلٍّ منطقي، عقلي، موضوعي لما هي عليه القضية في صيرورتها آنيًّا ومرحليًّا، العقل أيضًا هنا، وعي، فهم، إدراك، متابعة، ملاحقة لكل كبيرة وصغيرة بكل ما يتعلق بمصلحة الأمة والدولة، وعي مجتمعي، حتى لا يؤخذ المجتمع على حين غرة ويُضلّل من قبل الدولة، وعي القضية في صيرورتها آنيًّا، مرحليًّا، مستقبليًّا، يعني أن على المجتمع تتبع الدولة في طروحات مشروعها حل القضية قانونيًّا، حقوقيًّا، والقانون- الحل، خاضع بدوره للعقل، العقل هنا ليس بمعناه البيولوجي أو الفيزيولوجي أو حتى السيكولوجي، إنه مصلحة الأمة والدولة، في استمرارية قيامها بمهامها، في خدمتها للمجتمع- الأمة والمتمثلة في أكبر إنتاج كمًّا نوعيًّا، في تناهي الجهد والزمن إلى أقل ما يمكن، العقل هنا يكمن في مدى نجاعة الحلول المطروحة، لا في مدى منطقيته أو صوابية حلوله النظرية غير القابلة للتطبيق، في مقدار سدّه الاحتياجات غير المحدودة للمجتمع- الأمة، من الموارد المحدودة، هذه الأخيرة، لا يمكن لها أن تحدد احتياجات الأمة- المجتمع بمحدوديتها، لا يمكن قياس وتفصيل احتياجات الأمة وفق مقاسات موارد الدولة المحدودة، العقل، هنا، هو في ابتداع الطرق والوسائل التي تحقق جمال حياة المجتمع، هنا الجمال ليس صورة، إنه وفق معادلة الإنتاج، مدى تمتّع المواطن بحياته، في إطالة متوسط عمره، في زمن الراحة التي يقضيها في حياته، في نسبة الحريرات المصروفة بالعمل المنتج إلى نسبة الحريرات التي يقدمها الإنتاج لأفراد الأمة، فإذا كان قد صرف، على سبيل المثال، ثلاثين حريرة مقابل ثلاثين أخرى كمردود إنتاجي، فالحالة الثقافية للمجتمع تكون في حالة ركود، ثلاثين حريرة طاقة إنتاجية، تقابلها، مثلًا، ستون أو سبعون أو حتى ثمانون وكلما ازدادت هذه النسبة كانت الدولة ناجحة في إطالة متوسط عمر مواطنيها، أو في استمتاعهم في الحياة، هذا ما يعنيه أقل جهد مقابل أكبر إنتاج، العقل هو معرفة الكيفية والوسيلة لتحقيق الغاية، ولأن ”المجتمع معرفة والمعرفة قوة..” كان الإنتاج ”غلالًا وصناعةً وفكرًا” في حدّه الأعظم، هو المعيار الوحيد للمعرفة، لمصداقية المعرفة، لصحة المعرفة، لسلامتها، والأخيرة تعني خروج المعرفة على مفهوم المنفعة، الفردية، الطبقية، المذهبية، العرقية، العنصرية، الثقافية، السياسية، الجنسية،.. لعموم المجموع المجتمعي، دون ذلك لا يمكن تحقيق المساواة والعدالة في التوزيع للمنتج القومي، أو في المصطلحات الاقتصادية -متوسط دخل الفرد- بين مجموع أعضاء الدولة، المواطنين، مع ضرورة التمييز بين المساواة والعدالة، ليست كل مساواة عدالة وليست كل عدالة مساواة، التمايز بين هذه وتلك، لا يمكن أن يمسّ الحقوق كما لا يعفي من الواجبات، والمعادلة هنا بالغة الصعوبة، على الدولة بما هي تشريع وتنفيذ أن تخضع في مطلق ما تعنيه، للقضاء، حيث القضاء هو ما تقتضيه مصلحة الأمة والدولة، لم يكن سعادة من المؤمنين بـ(إن الأعمال بالنيات) وإنما بـ(إن النيات بالأعمال) بما يعني، أن العمل يفصح من تلقاء ذاته عن ماهيته، دون تبرير لمنتجه، سلبًا أم إيجابًا، إن على الهدف أن يتحقق في المنطلق عبر الوسيلة، ليس هناك من تبرير لأي عمل بالغاية المرجوة منه، العمل هو المقياس، التبرير مرفوض مهما تكن عوامله ومسبباته وما شاكل، يبقى التبرير فكرة ناقصة، لا هي تقنع ولا يقتنع بها أحد، طالما أنها لم تؤدِّ للمرجوِّ منها، والقضاء هنا ليس مجرد مؤسسة قانونية، إنه أيضًا مؤسسة إنتاجية، الواجبات كما الحقوق إحدى مهماته، على القضاء أن ينتج من الحقوق الحدَّ الأعظم مقابل الحد الأدنى من الواجبات، على الحقوق أن تطغى على الواجبات، إنتاجية القضاء تقاس بمدى ما ينتجه من حقوق لكل أفراد الشعب، نعيد ونكرر، القضاء ليس مجرد مؤسسة قانونية، إنه مؤسسة إنتاج حقوقي، ومن حيث هي كذلك، كان عليها أن تنتج من الحقوق كمًّا نوعيًّا، وليس مجرد كمٍّ نظري، بما يعني أن القضاء كمؤسسة إنتاجية يتضمن فيما يتضمنه مؤسسات أخرى، اقتصادية ثقافية، سياسية، اجتماعية.. الخ، كلٌ منها تُعنى باختصاصها، وتقدم مبرراتها لهذا الاقتضاء ومسبباته ووسائله وغاياته، وهذه هي القوة التي تعنيها المعرفة، القوة ليست قوة عسكرية وحسب، هي كذلك في مدى صيانتها لمصلحة الأمة والدولة، داخليًّا وخارجيًّا، داخليًّا من حيث هي تحقيق واستمرارية، ديمومة الحق والخير والجمال الذي تنعم به الأمة- المجتمع، خارجيًّا في مدى تأمينها موارد الدولة المحدودة لتحقيق حاجات المجتمع غير المحدودة، ندخل هنا في سياق السياسة الخارجية التي على الدولة انتهاجها في محاولتها استكمال مواردها المحدودة بما يلبي احتياجات المجتمع غير المحدودة، في السياسة الخارجية، يترك سعادة تقرير ما يمكن أن يكون عليه العالم لكيفية تطوره بتساؤله: ”هل يصبح العالم أمة واحدة؟ يجيب: مَنْ يدري”. وعليه، فهو لا يرى العالم إلاّ على نحو ما هو عليه الآن، تنازع بقاء، ليس بالضرورة انتفاء الآخر بقدر ما هو بقاء الأصلح والأقدر على الحياة بتأمين مقوماتها، يطرح سعادة وفق رؤيته، أن العالم، من حيث هو متعدد البيئات الطبيعية، فهو بطبيعة الحال، متعدد في أممه وتاليًا في إمكاناته، وعليه، في حالٍ كهذه، أن يوجد المخرج لتنازع بقائه مع الآخر، المخرج الذي يقدمه سعادة هو في قيام أمم الأرض على مبدأ وحدة بيئاتها، لا يرى مثلًا في ”عصبة الأمم” حلًا لمشاكل العالم، من منطلق أن الدولة ككيان سياسي لا تشكل أمة، كما يدل عليه مصطلح ”عصبة الأمم” أو فيما بعد ”الأمم المتحدة” هذه الدول التي أوجدتها مطامع استعمارية لا تمثل أمة، الدول ذات “السيادة” هي الدول القومية القائمة على أساس وحدة بيئتها الطبيعية باعتراف العالم بها، الدول المصطنعة (أو وفق مصطلحات علم السياسة، الدول الحديثة)، ليست دولًا بالمعنى الحقيقي للدولة، ذلك أنها نشأت وفق مخططات الدول الاستعمارية لنهب خيراتها، وسيادتها مجرد وهم تعيش به شعوبها، طالما أنها لم تمتلك زمام إنتاج حياتها، الدولة ذات السيادة عند سعادة، هي الدولة القومية، والدولة القومية هي الدولة التي تجتمع في كامل بيئتها، فإذا ما كان العالم على هذا النحو أمكن إيجاد حلول لمشاكله المتعلقة بوجوده، الدول الحديثة أو الدول ككيان سياسي تجزيئي للبيئة الطبيعية تنتج في الغالب مشاكل وجودها، هي في نزاع داخلي أولًا وقبل أي شأن آخر وهي في نزاع مع جوارها، في هذا النزاع المزدوج، تهدر البقية الباقية من عوامل استمرارية الدولة ككيان سياسي لتبقى تتخبط في تبعات هذا الشذوذ التاريخي، يقدم سعادة النموذج اللبناني مثالًا على ذلك، في مشكلاته الداخلية وفي مشكلاته الخارجية وتحديدًا الجمهورية الشامية- والتي نشأت على غراره، والتي لعلّة في ذاتها، أحاطت به من كل جانب فبات مطالبًا بالتوفيق بين حتمية العلاقة مع الشام واستقلاليته غير الممكنة في أي قرارات اقتصادية خارجة أو متعارضة مع الدولة المجاورة له، هذه الحال يمكن تعميمها على مختلف الدول في العالم التي جُزّئت بيئتها فتنازعت بقاءها مع من سلخت عنهم وتاليًا، باتت، كل منها تجد ضالتها في الدول التي أوجدتها، وهذا ما كلّفها استقلاليتها الموهومة وانخراطها في سياسة الأحلاف والتبعية للحفاظ على كيانها السياسي وباتت أيضًا عرضة للانهيار في أي وقت تتعرض فيه لأزمة مصيرية قد تعصف بها.. سعادة يقدّم مشروعه العالمي، كحلٍّ لمشكلات العالم، من الوجهة السياسية والاقتصادية وكذلك الاجتماعية والثقافية، حيث يرى أن الحالة الاستعمارية التي سبقت قيام هذه الدول وجشع الدول الاستعمارية واعتمادها سياسات الهيمنة وتقسيم العالم وفق احتياجات مواردها الاقتصادية، هو الذي يدفع بالعالم نحو الهاوية ويزيد من مشكلاته ويشكّل العامل الأول والأخير لانهيار الدول الحديثة والعظمى معًا ويعرّض العالم للفناء.

نقد أفكار أنطون سعادة السياسية:

يقحم الحصري نفسه في عوالم لا يعرف عنها شيئًا، فكما في علم الاجتماع، كذلك في علم السياسة، وهو ليس بعالم اجتماع ولا بمشتق هذا العلم ونقصد علم السياسة، فتحتَ عنوان “نقد الأفكار السياسية عند سعادة” يدرج المبادئ الأساسية والإصلاحية، معتبرًا أن هذه المبادئ تدخل في علم السياسة، وهي في الأساس مبادئ تلخص فكر سعادة في علم الاجتماع، ذلك أن السياسة هي علم بالوقائع الآنية، الظرفية، المرحلية، علم في المتغيرات على أرض الواقع، علم وفن اقتناص الفرص في الزمان والمكان المناسبين، وهو علم يبحث في وقائع رمال متحركة، متغيرة آنيًّا، لحظيًّا، وفق بيانات تتقاطع المعلومات فيه، حيث يلعب هذا التقاطع دوره كركنٍ أساسيّ من أركان القرار الصائب المحقق للغرض القومي وكيفية تحققه على أرض الواقع بما يضمن تحقيق الغاية منه، رغم الظروف المتموضعة على الأرض، وفق القاعدة الجوهرية في علم السياسة والقائلة ”بقدر ما تمتلك من المعلومات بقدر ما يكون القرار صائبًا في الزمان والمكان”. المبادئ الأساسية هي حقائق تاريخية كما مرَّ معنا في علم السياسة وركائزه، هي خلاصة علم الاجتماع بما يتعلق بالأمة السورية، نجد جذورها في مؤلف سعادة “نشوء الأمم” فهي مبادئ في علم الاجتماع، لا تتغير بتغير الظروف والمناسبات، هي حقائق تموضعت تاريخيًّا كما يتضح من المبدأ: ”الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي”، الأمة عند سعادة هي وحدة الشعب، ليست الشعب، إنها وحدته التي ما انفكت تجبله جبلًا في أي شأن من شؤون حياته، لكن شرطها الجوهري، “الوطن السوري هو البيئة التي نشأت فيها الأمة السورية..” الوطن هو الوجه الإيجابي بينما الأمة هي الوجه السلبي الذي لا يقبل بالأمر المفعول الذي تقدمه البيئة في حدود إمكاناتها، لأنها بطبيعة الحال لا تقدم من حيث الإمكانات سوى المحدود منها، بينما الأمة ذات حاجات غير محدودة، بين المحدود واللامحدود فارق كبير، علم الاجتماع يقدّم الممكن، بينما السياسة تعمل على سد النقص في هذا الممكن، منطلق السياسة في تحديد الغرض والغاية منه وتحققه، هي المبادئ بشقيها الأساسية والإصلاحية التي تبقى هي هي، على مرِّ الزمان، فلا محيد عنها في أي غرض من أغراض الأمة، هي البوصلة التي تحدد الاتجاه (الغرض والغاية وكيفية تحققه) أي غرض ومهما تكن مبرراته، ليس بالغرض القومي إذا ما تغافل هذه المبادئ بشقيها، تحقيق أي غرض، كائنٌ ما كان، وكائنة ما كانت مبرراته لا يمكن أن يكون على حساب هذه المبادئ، كل ما يتعارض والمبادئ الأساسية والإصلاحية، ليس بالغرض القومي، يقول سعادة بصدد الفارق بين العقيدة والسياسة: “لتفعل إدارتكم العليا كل ما تقدر عليه في ميدان السياسة والدبلوماسية فذلك من خصائصها. أما أنتم فإياكم من صرف عقولكم وقلوبكم إلى السياسة والدبلوماسية واحذروا من اختلاط السياسة والدبلوماسية وأغراضهما بعقيدتكم وإيمانكم وعناصر حيويتكم الأساسية لئلا تكون العاقبة وخيمة.. هكذا نرى أن هذه المبادئ ليست أقوالًا جامدة أو كلمات ميتة أو حروفًا متناسقة، بل قوة حية فاعلة تتولد فيها مقررات مبدئية أساسية هامّة وتبنى عليها خطط في السياسة المصلحية وفي السياسة الأخلاقية وفي السياسة الفكرية أيضًا في السياسة النظامية، في السياسة التي تتجه إلى تقرير الاتجاه والاعتناء بالقيم الهامّة، الأساسية الجوهرية، السامية التي هي جوهر القضية السورية القومية الاجتماعية وجوهر النظام القومي الاجتماعي.. السياسة عندنا وسيلة لا غاية، وسيلة لبلوغ الأغراض القومية بأقرب الطرق وأقل التكاليف. وليست السياسة سياسة لنفسها ومهنة خاصة يحترفها بعض الأفراد ويحتكرون بواسطتها النفوذ وتقرير مصير الشعب.. في نظام غير نظامنا نجد حالات أليمة. يتجه الفرد الذكي في بلادنا أول ما يتجه إلى ناحية السياسة. نحن أكثر أمة في العالم اشتغالًا في السياسة. والسياسة هي أساس العقلية الأخلاقية القديمة في هذه البلاد. تكاد لا تخاطب واحدًا ذكيًا في هذه البلاد إلا وتحس أنه يخاطبك بمهارة سياسية فائقة. تحس كأنه دبلوماسي جاء من بلاد الإنكليز، وتحس أن السياسة تبعده عنك بقدر ما هو بعيد الإنكليزي عنك.

مفقود من بيننا التصارح الفكري الخالي من السياسة، مفقود من بيننا الشعور بأنه يجب حين يخاطب واحد منا الآخر أن يضع السياسة في خزانة ويقفل عليها بالمفتاح، لأنه حين نبتدئ نخاطب بعضنا بعضًا بالسياسة فقد قطعنا من بيننا الروابط القومية الصحيحة، لا يجوز في الإخاء القومي الصحيح أن نتكلم في السياسة. السياسة يجب أن تترك للمتخصصين في السياسة أما القومي فيجب أن يكون قوميًّا صحيحًا مجرّدًا من السياسة في كل مجتمع وفي كل حديث مع كل مواطن من أمته..”.

بعد استعراضه لكل من المبادئ الأساسية والإصلاحية، ينتهي الحصري للقول: ”يتبين من تعاليم أنطون سعادة وشروحها أن أُسَّ الأساس الذي قام عليه حزبه، هو الدعوة إلى التمسك بالقومية السورية، واعتبار هذه القومية مستقلة كل الاستقلال عن القومية العربية تمام الاستقلال، مع إدخال العراق في حدود سورية الطبيعية واعتبار العراقيين سوريين.

لا مجال للشك في أن هذه النظرة الغريبة إلى مفهوم تعبير (سورية الطبيعية) نشأت عن ظروف تفكير أنطون سعادة الخاصة ونزعاته السياسية.

كل شيء يدل على أن مبادئ الحزب السوري القومي، كانت تبلورت في ذهن أنطون سعادة، عندما كان في المهجر أو عقب عودته إلى أرض الوطن، ذلك في الوقت الذي ما كان يعرف عن البلاد العربية شيئًا يذكر، غير أحوال سورية ولبنان.

ولهذا أسّس حزبه على أساس محاربة الانعزالية الطائفية في سورية ولبنان والدعوة إلى توحيد هذين القطرين.

لكنه عندما لاحظ الأمور عن قرب وأمعن النظر في حقائق الأحوال، أدرك الوشائج المتينة التي تربط السوريين بالعراقيين وفهم أنه لا محال منطقيًّا لفصل سورية عن العراق، من الوجهة القومية وراح يزعم أن العراق جزء من سورية الطبيعية وأخذ يطبق مبادئ حزبه على العراق دون أن يذكر اسمه.

في الواقع أن أنطون سعادة نفسه ينكر وقوع هذا التطور، لأنه، عندما وجّه إليه أحد الصحفيين سؤالًا في هذا الموضوع، صرَّحَ بأنه كان بهذا الرأي، منذ بداية الأمر.

إلا أني وجدت في طبعتي كتاب نشوء الأمم دلائل قاطعة على أن أنطون سعادة لم يكن مخلصًا في تصريحه هذا، بل كان يخادع مخاطبيه، وربما كان يخادع نفسه أيضًا..”.

يفسّر الحصري الماء بعد الجهد بالماء عندما يقول: ”هذه القومية مستقلة كل الاستقلال عن القومية العربية تمام الاستقلال..”، أما قوله: ”مع إدخال العراق في حدود سورية..”، فبالعودة لمؤلَّف سعادة “نشوء الأمم” يذكر سعادة العراق بمرادفاته، سومر وبابل وأكاد.. الخ ولا يدخله في حدود سورية الطبيعية قسريًّا ودون سابق إنذار، أما ما يتعلق بنشأة (هذه النظرة الغريبة) إلى مفهوم (سورية الطبيعية) فالمسألة لا تتعلق بنزعات سعادة الشخصية إنما بالصيرورة التاريخية التي أوردها في نشوء الأمم مفصلة، مستخلصًا من هذه الصيرورة (الوشائج المتينة التي تربط السوريين بالعراقيين..)، أما أنه أسّس حزبه لمحاربة (الانعزالية الطائفية) ليس في لبنان وسورية، بل في كامل بقاع الأمة، يقول سعادة في هذا السياق: ”ولما كانت دروسي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد أوصلتني إلى تعيين أمتي تعيينًا مضبوطًا بالعلوم المتقدمة وغيرها، وهو حجر الزاوية للبناء القومي، وإلى تعيين مصلحة أمتي الاجتماعية والسياسية من حيث حالاتها الداخلية ومشاكلها الداخلية والخارجية وجدت أن لا بدّ لي من إيجاد وسائل تؤمن حماية النهضة القومية الاجتماعية الجديدة في سيرها. ومن هنا نشأت فيَّ فكرة إنشاء حزب سرّي يجمع في الدرجة الأولى عنصر الشباب النزيه البعيد عن مفاسد السياسة المنحطة. فأسّست الحزب السوري القومي الاجتماعي ووحّدت فيه العقائد القومية في عقيدة واحدة هي “سورية للسوريين والسوريون أمة تامة” ووضعت مبادئ الجهة الإصلاحية كفصل الدين عن الدولة وجعل الإنتاج أساس توزيع الثروة والعمل وإيجاد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن، واتخذت الصفة السرية للحزب صيانة له من هجمات الفئات التي تخشى نشوءه ونموّه ومن السلطات التي قد لا ترغب في وجوده. وجعلت نظامه فرديًّا في الدرجة الأولى مركزيًّا متسلسلًا (Hierarchique) منعًا للفوضى في داخله واتقاء نشوء المنافسات والخصومات والتحزبات والمماحكات وغير ذلك من الأمراض السياسية والاجتماعية، وتسهيلًا لتنمية فضائل النظام والواجب. ولقد وضعت كل ذلك وأسّست الحزب بصرف النظر عن وجود الانتداب أو عدم وجوده. فالحزب لم ينشأ خصيصًا لأن الانتداب موجود، بل لجعل الأمة السورية موحدة وصاحبة السيادة على نفسها والإرادة في تقرير مصيرها. ولمّا كان الانتداب أمرًا عارضًا فإن النظر في موقفه وموقف الحزب منه يأتي في الدرجة الثانية”، أما قوله عن سعادة بأن (أنطون سعادة نفسه ينكر وقوع هذا التطور..) فإن إلقاء نظرة سريعة على ما ورد في نشوء الأمم، نتبين أن سعادة قد أتى على ذكر العراق كما سبق أن أشرنا بمترادفاته (أكاد، بابل، سومر، آشور..) وهكذا، وعلى عكس ما يدّعيه الحصري من أن سعادة (لم يكن مخلصًا في تصريحه هذا، بل كان يخادع مخاطبيه، وربما كان يخادع نفسه أيضًا) فسعادة وبجرأته العلمية لم يكن يخادع نفسه أو غيره، فما قاله: ”بأنه كان بهذا الرأي، منذ بداية الأمر”، فصحيح كل الصحة، وما دليل مصداقية سعادة سوى ما جاء به في مؤلفه الرائع “نشوء الأمم” ولم يكن سعادة يعلم أن الجهل كان قد بلغ بالبعض، ومنهم الحصري، هذا المبلغ الذي لا يستطيع أي قارئ أن يُقرن العراق ببابل أو آكاد أو آشور.

أما قول الحصري إن سعادة: ”ذلك في الوقت الذي ما كان يعرف عن البلاد العربية شيئًا يذكر، غير أحوال سورية ولبنان”، فقولٌ سبق أن نوّهنا إليه فيما كتبه سعادة في بداية عشرينيات القرن الماضي، كفيل بالرد على هذا الادعاء، حول قضايا عدة كمقاله عن عبد العزيز وكيفية استيلائه على بلاد الحجاز، أو عن المؤتمر الفلسطيني المنعقد في القاهرة، أو عن قضية مراكش وغيرها الكثير من المقالات التي تدل دلالة واضحة على أن سعادة كان على دراية بأدق تفاصيل البلاد العربية وقبل أن يتنطح الحصري للدفاع عن أية قضية عربية بعد أن خلع جلبابه العثماني ليتلبس عباءة الأمير الهاشمي المهزوم أمام عبد العزيز بن سعود، ولقد نبّه سعادة في مؤلفه نشوء الأمم من خطورة النزعة الوهابية قبل أي مفكر آخر، في العالم العربي وفي العالم أجمع يقول: ”ونحن نرى في نشوء الدّولة الوهّابيّة العامّة في القرن الماضي وعودتها الآن إلى الوجود بعد أن كانت قد قضت عليها الدّولة العثمانيّة مصداقًا لقول ابن خلدون المذكور آنفًا”.

يتابع الحصري محاولته في “نقد أفكار أنطون سعادة السياسية” فيقول: ”عندما قارنت بين الطبعة الأولى، والطبعة الثانية مقارنة دقيقة علمت أن التنقيحات كانت طفيفة، لا تخرج عن نطاق تبديل بعض الكلمات وبعض العبارات، إلا أن جميع هذه الكلمات والعبارات كانت ذات أهمية خاصة، تدل على تطور هام في تفكير المؤلف عن حدود سورية ومفهوم القومية السورية..”.

من جهة أولى أن يكون هناك /تطور هام في تفكير المؤلف عن حدود سورية ومفهوم القومية السورية/، فهذه مسألة لا تدين سعادة بقدر ما تعلي من مكانته في البحث العلمي، والذي يتطلب بالدرجة الأولى تمتع صاحبه بالجرأة الأدبية- العلمية، هذا على افتراض صحّة ما يدّعيه الحصري، لكن ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من اعتراف الحصري /إن التنقيحات كانت طفيفة.. (لكنها) كانت ذات أهمية خاصة../، فإن سعادة كان قد ألمح إلى أنه قد فرغ ”من تأليف الكتاب الأوّل وأنا في السّجن، بين أوائل شباط وأوائل أيّار 1936 وكنت قد كتبت الفصول الأولى الثلاثة قبل دخول السّجن.

وكنت أودّ أن أعود إلى مراجعة هذا الكتاب في متّسع من الوقت ليجيء أكمل في الشّكل ويكون أكثر إسهابًا في بعض المواضع، ولكنّ تعاقب السّجون والظّروف السّياسيّة الصعبة الّتي وجدتني فيها بعد سجني الأوّل جعلت العودة إلى هذا الموضوع العلميّ أمرًا مستحيلًا. ولمّا كانت حاجة النّهضة القوميّة إلى هذا الأساس العلميّ ماسّة رأيت أن أدفع المخطوطة الوحيدة إلى المطبعة وهي في حالتها الأصليّة، كما خرجت من السّجن..”.

مما يعني أن سعادة على علم بأن مخطوطته بحاجة إلى تنقيح وتصويب في بعض ما جاءت به، لكنه لم يكن لديه متسع من الوقت لمراجعة ما يحتاج إلى تصويب، فهي والحال مجرد مخطوطة، أي إنها غير مكتملة في بعض جوانبها التي يمكن لقارئها أن يستنتج ما يغالط مضمونها، فتأتي النتائج على غير ما هي عليه.

ثم إن التاريخ لم يُقرئنا أن هناك عالم اجتماع قد وضع مؤلفه الأول وهو في السجن، بدءًا من ابن خلدون؛ مرورًا بدوركهايم وماركس وأنغلز وماكس فيبر، وهم من كبار علماء الاجتماع منذ أن وجد هذا العلم، فالظروف التي وضع فيها سعادة مؤلفه كانت ظروفًا استثنائية، السجن والمحاكمات وإدارة حزب من داخل السجن والردّ على مختلف التساؤلات التي كان عليه مواجهتها والرد المباشر عليها، لذا كان تلميحه إلى أنه ارتأى ”دفع المخطوطة الوحيدة إلى المطبعة وهي في حالتها الأصليّة، كما خرجت من السّجن..”، مع تلميحه أيضًا إلى ”وكنت أودّ أن أعود إلى مراجعة هذا الكتاب في متّسع من الوقت ليجيء أكمل في الشّكل ويكون أكثر إسهابًا في بعض المواضع، ولكنّ تعاقب السّجون والظّروف السّياسيّة الصعبة الّتي وجدتني فيها بعد سجني الأوّل جعلت العودة إلى هذا الموضوع العلميّ أمرًا مستحيلًا..”. هذه الاستحالة في العودة لمخطوطة مؤلفه الأولى، كانت السبب المباشر في أنه عندما بوشر في طباعة الطبعة الثانية كان لزامًا على سعادة العودة لمخطوطته لتصويب بعض ما جاء فيها، أكان من الوجهة العلمية أو من وجهة مختلف التساؤلات حول تلك المخطوطة والتي طرحت من قبل رفقائه أو ممن اطلعوا عليها.

وعلى وجه العموم، فإن مختلف المؤلفات كانت تخضع لتصويبات مختلفة في مختلف مناحي العلم، فالتصويب ليس عاهة أو مذمّة، إنه من طبيعة الأمور فيما يتعلق بأي علم، وعلى سبيل المثال، فإن مؤلف كارل ماركس -رأس المال (813ص)- والذي يعتبر من أكبر المؤلفات الاقتصادية وأشهرها في القرن التاسع عشر، قد خضع للكثير من التصويبات التي عرضها في مقدماته الأربع التي طبع بها مؤلفه المذكور وفي مقدماته في اللغة الألمانية والفرنسية والإنكليزية التي صدر بها الكتاب. حيث يأتي في مقدمة الطبعة الثانية ما يلي: ”يجب عليَّ بادئ ذي بدء أن أطلع قراء الطبعة الأولى على التغيّرات التي أجريت في الطبعة الثانية..” وفي مقدمة الطبعة الفرنسية يقول ماركس: ”.. وقد جرى إدخال هذه التعديلات على قدر صدور أجزاء الكتاب وليس بدقة متساوية.. ولكنني إذ شرعت بالعمل في المراجعة، وجدت نفسي مضطرًا لتعميمها على النص الأساسي للأصل أيضًا (الطبعة الألمانية الثانية) بغية تبسيط بعض المواضيع وتوسيع غيرها وإعطاء مواد إضافية تاريخية أو إحصائية وإضافة ملاحظات انتقادية”، وتأتي مقدمة الطبعة الثالثة بقلم أنغلز الذي يقول: ”.. كان ماركس يعتزم في البداية إعادة تحرير القسم الأكبر من نص المجلد الأول، وأن يصوغ على نحو أوضح بعض الأحكام النظرية ويضيف أحكامًا جديدة، ويستكمل المواد التاريخية والإحصائية بمعطيات جديدة لتشمل الوقت الراهن.. وجرى الاقتصار على التعديلات الأكثر ضرورة وإدخال تلك الإضافات.. وبين الكتب التي تركها ماركس، عثرنا على نسخة ألمانية لـ(رأس المال) تتضمن في بعض مواضيعها تعديلات واستشهادات في الطبعة الفرنسية، كما عثرنا على نسخة فرنسية أشير بها بكل دقة إلى جميع المواضع التي كان ماركس يودّ استخدامها في الطبعة الجديدة، وتقتصر بعض هذه التعديلات والإضافات، ما عدا بعض الاستثناءات، على الجزء الأخير من الكتاب.. وأن نصّ هذا القسم لم يتعرض حتى الآن سوى لأقل التعديلات بالمقارنة مع المسودة الأولى للكتاب، بينما جرت بصورة جذرية إعادة تحرير نص الأقسام السابقة له..”، في مقدمة الطبعة الإنكليزية يقول أنغلز: ”.. وكان عليَّ من جانبي، أن أقارن المخطوطة مع الأصل وأن أدخل التعديلات التي أراها ضرورية.. إن الطبعة الألمانية الثالثة، التي اتخذت أساسًا لمجمل عملنا، كنت قد أعددتها في عام 1883 وقد استخدمت عند إعدادها الملاحظات التي تركها المؤلف والتي أشار فيها إلى أجزاء من نص الطبعة الثانية ينبغي استبدالها بمقاطع من النص الفرنسي.. إذًا، إن التعديلات التي اقترحها ماركس نفسه في عدد من تعليماته الكتابية من أجل الترجمة الإنكليزية..”، يضيف أنغلز: ”ولكن ثمة صعوبة لم نستطع تجنيب القارئ إياها، وهي استخدام بعض الاصطلاحات بمعنى يختلف عن المعنى الذي تنطوي عليه، ليس في الحياة اليومية وحسب، بل أيضا في الاقتصاد السياسي العادي، بيد أنه لا مفر من ذلك، ففي العلم تستتبع كل وجهة نظر جديدة ثورة في اصطلاحاته التكتيكية..”، في مقدمة الطبعة الرابعة لكتاب رأس المال، يكتب أنغلز: ”لقد رأيت من أجل الطبعة الرابعة، أنه لا بد من إقرار صياغة نهائية قدر الإمكان، سواء للنص أو الملاحظات، وأبين فيما يلي بإيجاز كيف نفذت هذه الطبعة..”.

عندما قلنا إن الحصري يحاول خلع جلباب بائع متجول ليتلبس ثوب محامٍ لا يفقه من القانون شيئًا، فإن قولنا هذا قد أنصفه كل الإنصاف، ذلك أنه لم يدرس علم يقحم نفسه به دون سابق إنذار، فلو كان كما يدّعي لما عاب على سعادة /بعض التنقيحات الطفيفة/..

فحول موضوعة العراق تحديدًا، يقول سعادة موضحًا لما كان سببًا في ضمه العراق (فقط كسمة تعبّر عن بلاد ما بين النهرين) تمَّ تعريبها عن لغة فارس يقول: ”ومن البحر السوري في الغرب.. إلى قوس الصحراء العربية وخليج العجم (الخليج العربي) في الشرق.”، أما الحدود الشمالية الشرقية فشملت “.. وجبال البختياري في الشمال الشرقي”. هذا التوضيح ألمح إليه سعادة في توطئة الطبعة الرابعة بقوله: ”إنّ هذا التنقيح كان قد جرى من قبل في أحاديث وخطب تعليمية بعضها دوّن وبعضها لم يدوّن، خصوصًا ما تعلّق بالمنطقة الشمالية الشرقية من سورية، منطقة ما بين النهرين (العراق)، التي كانت داخلة من الأول ضمن تحديد الوطن السوري، ولكن حدودها وتخومها لم تكن معيّنة كلها لأن بعضها كان لا يزال تحت التحقيق التاريخي والإتني والجغرافي. ولي في هذا الصدد، تصريح واضح يعود إلى سنة 1936، إذ قلت، جوابًا على سؤال في محل العراق في قضيتنا: “إنّ العراق، أو ما بين النهرين، هو جزء متمم للأمة السورية والوطن السوري، وكان يشكّل جزءًا من الدولة السورية الموحدة في العهد السلوقي ويجب أن يعود إلى الوحدة القومية التي تشمله، حتى ولو اقتضى الأمر تعديل اسم سورية وجعله سوراقية”، فالعراق الذي ذكره سعادة في مؤلفه “نشوء الأمم” بصفته بلاد ما بين النهرين أو بابل وآكاد وسومر كجزء من الأمة السورية، جاء في التعديل أو التنقيح أو التصويب، سمّها ما شئت، باسم العراق وحدوده الطبيعية التي وفق “أنغلز” هي معلومة توضيحية في جوهرها، (ففي العلم تستبع كل وجهة نظر جديدة ثورة في اصطلاحاته التكتيكية).

ومع كل ما تقدم، علينا أن نتساءل ما هي تلك /التنقيحات الطفيفة.. ذات الأهمية الخاصة” التي انتهى إليها الحصري بعد /مقارنته الدقيقة/ يقول: ”قال المؤلف في الطبعة الأولى من كتابه “تمسكت سورية بالسنّة لكي لا تذوب في العراق وبلاد فارس مما يدل دلالة قاطعة على أنه كان يعتبر العراق منفصلًا عن سورية، كما أنه كان يزعم أن سورية كانت معرضة لخطر الذوبان في العراق وبلاد فارس لو لم تتمسك بمذهب السنّة، لكنه -في الطبعة الثانية- بعد أن قطع شوطًا بعيدًا في اعتبار العراق جزءًا من سورية الطبيعية وبعد أن قال بوحدة سورية والعراق من الوجهة القومية- رأى أن يحذف كلمة العراق من هذا النص فقال تمسكت سورية بالسنة لكي لا تخضع للفرس..”.

ينتزع الحصري النصّ أعلاه من سياقه، مما يدل أنه يحاول الاصطياد بالمياه العكرة، ونقصد لمن لم يقرؤوا سعادة، مستغلًا ذلك الجهل بسعادة وعقيدته لترسيخ آرائه في “القومية العربية”، فالبحث هو بحث في الدين وصراعاته وليس في القومية، أو بالأحرى صراع على السلطة السياسية- الروحية المتلبسة للدين مبررًا لها في مختلف مناحي اجتهاداتها لأسطرة الدين ليتوافق وطموحاتها القومية، يقول سعادة: ”إنّ الدّين واحد ولكنّ الأمم متعدّدة. وفي احتكاك الأمم بالأمم تتمسّك كلّ واحدة بكلّ عقيدة أو بأية عقيدة، سواء أكانت دينيّة أو غير دينيّة، لتحافظ على استقلالها الرّوحيّ، فلا تخضع لأمّة أخرى بواسطة السّلطة الرّوحيّة الدّينيّة، ولذلك ظلّت إسكتلندا كاثوليكيّة لكي تحتفظ بشخصيّتها القوميّة فلا تذوب في إنكلترا، وما يقال في إسكتلندا يقال في إيرلندا. وهكذا لجأ الفرس إلى الشيعة ليحدثوا انقسامًا يتخلّصون فيه من سيطرة سورية الأمويّة وليستعيدوا استقلالهم ونفوذهم الرّوحيّين والماديّين، لتصبح السّيطرة فيهم، وتمسّكت سورية بالسّنة لكي لا تخضع للفرس..”.

بداية، ليست السنّة أو الشيعة سوى محصلة صراع على السلطة الروحية، كما أشرنا آنفًا، فمن الوجهة السياسية كانت بلاد فارس وكذلك العراق، من حيث التبعية السياسية، ملحقتين بدمشق كعاصمة للخلافة، ولم يكن هناك انفصال ليتم ضمّ العراق إلى سورية، ولم تكن التبعية المذهبية، (سنّة وشيعة)، قد أخذت أبعادها الحالية، بعد موقعة “صفين” التي كثر فيها اللغط ونسجت حولها الكثير من القصص التي بلغت ما يقارب المئة وثمان وثلاثين رواية، لكن حقيقة الأمر أنها كانت خديعة، خُدع بها أبو موسى الأشعري -الذي لعبت حياديته دورًا سلبيًّا في التحكيم- من قبل عمر بن العاص عندما اتفق الطرفان على إزاحة علي ومعاوية عن الخلافة وانتخاب خليفة آخر، وتاليًا في تحويل الصراع من صراع ديني إلى صراع سياسي على السلطة.

إنَّ اختيار أبي موسى الأشعريِّ أحدث نقلةً نوعيَّةً سلبيةً في الصراع، حيث تم تجاهل القضية الأساسية التي ارتكز عليها صراع عليٍّ ومعاوية، وهي القصاص من قتلة عثمان بن عفان، ويبدو أنَّ معاوية نجح في تحويل المسألة إلى قضيَّةٍ سياسيةٍ بينه وبين عليٍّ في الصراع على السلطة، وعلى هذا النحو تطور التحكيم.

فقوله (سعادة): ”تمسكت سورية بالسنّة لكي لا تذوب في العراق وبلاد فارس..” يأتي على أساس ديني مذهبي مما يتفق وسياق البحث، وقوله آنف الذكر، يأتي تأكيدًا على قوله: ”وفي احتكاك الأمم بالأمم تتمسّك كلّ واحدة بكلّ عقيدة أو بأية عقيدة، سواء أكانت دينيّة أو غير دينيّة، لتحافظ على استقلالها الرّوحيّ فلا تخضع لأمّة أخرى بواسطة السّلطة الرّوحيّة الدّينيّة..”، مما يعني أن الصراع السياسي المتلبس بالدين يدفع بأية أمة للتمسك بجملة من أساطيرها وإدخالها في الدين ليكتسب الدين صفته القومية، هكذا البروتستانتية في ألمانية وهكذا الشيعة في بلاد فارس وهكذا تتولى المرأة في باكستان وبنغلادش أرفع مستويات المسؤولية السياسية، بينما تحول الوهابية دون السماح للمرأة بقيادة السيارة، فإخراج العراق جاء على خلفية أن عليًّا قد اتخذ من الكوفة مقرًّا له بعد موقعة صفين، حيث لم يكن العراق حينها شيعيًّا ولم تكن مشايعة علي قد اتخذت صورتها الحالية، لكن إيران تبنّت ما ثبت أنه خديعة وأبقت على عليٍّ خليفة للمسلمين، أي إنها لم تعترف بمعاوية “أميرًا للمؤمنين” لكي لا تذوب في سورية السنيّة الأموية، فسعادة عندما يلصق صفة “السنية الأموية” في سورية يحدّد الفترة الزمنية التي يصح فيها قوله ”لكي لا تذوب في بلاد فارس الشيعية، بمعنى لكي تنفي عنها اعتراف فارس في خلافة علي، وليس على أي أساس آخر ..

إن التباس مصطلحات سعادة في فهم الحصري لها قاده لمزالق فكرية كثيرة، هذا الالتباس الذي يدلّ دلالة واضحة على أن الحصري لم يكن أكثر من ناقدٍ صحفي، أقحم نفسه بعلوم لم يفقه حتى تلك المصطلحات التي تتداولها تلك العلوم (علم الاجتماع وعلم السياسة) وهذا بالذات ما يظهر واضحًا في قوله: ”أما فداحة الشذوذ الذي أظهره أنطون سعادة باعتبار العراق جزءًا من -سورية الطبيعية- فتظهر بكل وضوح تام لكل من يرجع إلى حقائق الجغرافية الطبيعية..” لكنه لا يبيّن لنا ما هي تلك (الحقائق الجغرافية الطبيعية) حتى نعود إليها لنتبيّن (شذوذ) سعادة الفكري، علمًا أنه كان قد ألمح إلى “الوشائج الوثيقة بين العراق وسورية” والتي كانت من الصعوبة بمكان يصعب فيه الفصل بينهما وفق ما ذهب إليه الحصري، لكنه راح يردّها إلى عاملي اللغة والتاريخ الذي لم ينبئنا بما يعنيه هذا المصطلح (اللغوي التاريخي)، الذي لو أنه اعتُمد في علم الاجتماع، لكان علينا أن نقرَّ بأن الآشوريين أمة، فلهم لغتهم -الأقدم من العربية- التي ما تزال مستخدمة بينهم حتى اليوم، ولهم تاريخهم الذي سطّرته حكاياتهم عن الإمبراطورية الآشورية، وكان علينا أن نقرَّ أيضًا بقومية الأكراد الذين ما زالوا يتداولون لغتهم الشفهية حتى وقت قريب، حيث تمّت كتابتها أو وضع حروفها الأبجدية قبيل نهاية النصف الأول من القرن المنصرم، أضف إلى ذلك أن تاريخهم يثبت بما لا يقبل الجدل صراعهم المرير مع مختلف الدول الإسلامية المتعاقبة، ورفضهم أن يكونوا جزءًا من الدولة المحمدية، أموية كانت أم عباسية أم تلك التي قامت إثر تفكك الدولة العباسية، هذا إذا استثنينا اليهود الذين لهم لغتهم وتاريخهم الطويل في التشرّد بين أمم الأرض، وفق ما يدّعون، وفي مختلف الأمثلة الواردة أعلاه، كان التاريخ واللغة أقدم بكثير من اللغة والتاريخ العربي الذي لا يمتد سوى مئة ونيف من السنين الذي مثلته الإمبراطورية الأموية والعباسية، فما بعدهما لا تاريخ يجمع أيًّا من صراعات الدويلات سوى الدين بلغته العربية.

يتابع نقده “لأفكار سعادة السياسية” قائلًا: ”أقول بكل جزم وتأكيد، ما من ملاحظة جغرافية تستطيع أن تربط اللاذقية -مثلًا- بالبصرة، أو سهول حلب بأهوار العمارة، أو الموصل بنابلس أو يافا.. إن الرابطة التي تربط هذه البلاد التي اعتبرها سعادة نفسه قطرًا واحدًا هي رابطة اللغة والتاريخ، لا رابطة البيئة والمناخ والطبيعة..”.

سبق أن أكدنا مرارًا وتكرارًا، بأن الحصري، ليس أكثر من ناقد صحفي ليس له من الإلمام بما يفي ولوجه لموضوع آخر كعلم الاجتماع وعلم السياسة، ونزيد في توضيح ما سبق أن كررناه، وما يؤكد ذلك، أن الحصري بقوله: ”إن الرابطة التي تربط هذه البلاد.. هي رابطة اللغة والتاريخ، لا رابطة البيئة والمناخ والطبيعة..”.

يبدو أن الحصري ينسى أن النسيج السوري هو تراكم أكثر من تسعة آلاف عام، تحمل في طيّاتها الكثير من الأساطير الدينية منها والتاريخية التي ارتبطت فيها ما يمكن تجاوزًا إطلاق توصيف (أقليات) أثنية عليه، تاليًا فإن اللغة والتاريخ (العربي) هما مصطلحان لا يمكن أن يجمعا هذه الإثنيات التاريخية التي يطلق عليها سعادة مصطلح “المزيج السلالي” الذي يعود وفق تصنيف سعادة “لما قبل الزمن التاريخي الجلي” حتى ولو استثنينا ما تقدم، فإن الحصري يتجاهل “أقليات” حديثة دخلت النسيج السوري ولا يجمعها مع (اللغة والتاريخ العربي) شيء، فقد سبق أن أشرنا إلى الآشوريين والأكراد وغيرهم من الإثنيات التاريخية التي لا تشترك بلغة الحصري وتاريخه الذي يبتدئ حسب زعمه بـ(الثورة العربية الكبرى) نزيد على ذلك الأرمن والشركس والتركمان.. وكل من هذه الهجرات الحديثة إلى سورية لا تتكلم العربية إلا في التعاملات الرسمية، بينما يبقى لها تاريخها الذي تؤطره في حكايات عمّا دفع بها للهجرة، فما هو الرابط الذي يجمع كل ما تقدم إذا كان لا لغة وتاريخًا يدفعها للدخول في النسيج السوري؟ سوى الأرض- البيئة التي تجبلها جبلًا مع غيرها من الإثنيات الأخرى! إن المزيج السلالي السوري في حقيقته وجوهره هو السداة الذي تشكل البيئة الطبيعية لحمته..

 وما تتصف به سورية تتصف به مختلف الدول العربية اللسان والدين! فهل تشمل رابطة الدين بلغته وتاريخه، على سبيل المثال جنوب السودان الذي انتهى إلى الانفصال عن جمهورية السودان بسبب تطبيق الشريعة المحمدية ولغتها العربية عام 2011 أثناء حكم جعفر النميري عام 1983، وما يقال عن الجنوب السوداني يقال عن شماله الغربي (دارفور) التي تعتبر الخلفية السياسية لتشاد.. وما يقال عن السودان يصدق على المغرب، حيث تختلط اللغة الأمازيغية بالعربية على الرغم من أن أكثرية الأمازيغ هم مسلمون لكنهم راحوا يتحولون إلى ديانات أخرى تتفق وميولهم العرقية- الإفريقية بعد أن اعتبروا العروبة لغةً وتاريخًا لا تمتّ لهم بصلة، دون أن يعني ذلك أننا نؤيد مختلف الحركات الانفصالية عن كياناتها الطبيعية، بل إن كل ما نعنيه أن لغة الحصري وتاريخه لم يحولا دون تلك الحركات، بل على العكس كانا سببًا مباشرًا في دفع تلك الحركات إلى بلوغ مستوى من التعاون مع ألدّ الأعداء دعمًا لمقولات انفصاليتهم..

هذا من جهة أولى، من جهة أخرى، يخلط الحصري بين مصطلحات علم الاجتماع، الذي يتطلّب بالدرجة الأولى تحديد مفهوم المصطلحات التي يتناولها، فالبيئة هي غير المناخ، كما أن هذه وتلك ليست الطبيعة، يوضح لنا سعادة من خلال شرطه /التعيين شرط الوضوح/ الفرق بين هذه المصطلحات يقول: ”قلنا إنّ الأرض مقسّمة بحسب تكوّنها إلى أقاليم وبيئات ولكلّ إقليم خصائص تختلف عن خصائص الإقليم الآخر.. تحدّد البيئة الجماعة من عدّة وجوه، أوّلها: حدود الإقليم الجغرافيّة. ثانيها: طبيعة الإقليم من حيث نوع تربته ومعدّل درجة حرارته ورطوبته. ثالثها: شكل الإقليم (طبوغرافيته) من حيث سهوله وجباله وأنهاره.. وطبيعة الإقليم تميّز الجماعة بما تكسبها من لون وشكل وبما تمدّها به من الموادّ الخام لسدّ حاجاتها الحيويّة من غذاء وكساء وبناء وأدوات. فمدنيّة الجماعة المستقلّة مستمدّة من بيئتها لأنّ الاستنباط والتّكييف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص البيئة الطّبيعيّة، موافقين لها. فلا يمكن، مثلًا، أن تكون العجلة التي كان اختراعها خطوة كبيرة في ارتقاء التمدن, قد استنبطت في الصّحراء، لأنّ استنباطها يقتضي وجود أخشاب صلبة كالسّنديان وغيره ممّا لا وجود له في الصّحراء. وهي لا يمكن أن تنتشر بجميع أشكالها في الصّحراء، لأنّها لا توافق خصائص رمالها.. ولشكل الإقليم تأثير عظيم في تمييز الجماعات بخصائص مادّيّة ومعنويّة. فليس المناخ وطبيعة الجوّ فقط العامل الوحيد في تكييف الإنسان، فالتّربة وشكل الإقليم، أشكال الأديم فضلًا عن ترابط اليابسة والماء -هكذا البيئة الّتي تؤثّر على الإنسان(50)، فالبيئة الجغرافيّة المؤلّفة من سهل منبسط فسيح تكسب جماعتها تجانسًا قويًّا يختلف في نوعه عن تجانس أهل البيئة المؤلّفة من جبال. والتّجانس في هاتين البيئتين يختلف اختلافًا قويًّا عن التّجانس الّذي أسميّه [التّجانس التّنوّعيّ] الناتج عن بيئة جغرافيّة متنوّعة الأديم من سهل وجبل وساحل.. تبدو لنا صحة قول فن أيرن [الأرض هي القوم] وقول رنان في كيف تتكوّن الأمّة ((انظر قول رنان)) والفرق الواضح بين المجتمع الطّبيعيّ القوميّ والمجتمع المصطنع السّياسيّ. وويدالد لابلاش الّذي أشرت مرارًا إلى مؤلّفه الهامّ في الجغرافية الإنسانية. يقول(231) [إنّ الظواهر الجغرافية الإنسانيّة (توزيع البشر) تنسب إلى الوحدة الأرضيّة الّتي لا يمكن تعليل تلك الظّواهر بدونها. إنّها (الظّواهر) تعزى، في كلّ مكان، إلى البيئة الّتي هي بدورها وليدة توافق حالات فيزيائيّة] وهو يوافق [لواصور] في أنّ سكّان أيّة بقعة كانت، يتألّفون من عدد معيّن من النّوى المذرورة المحاطة بمناطق مشتركة المركز تقلّ كثافتها في ابتعادها عن مركزها(232). فكلّ متّحد له مراكز تجمّع مشتركة تضعف عوامل الحياة وظواهرها وتقلّ كثافة السّكان كلّما ابتعدت عنها، فهي الكتل المغناطيسيّة الّتي تجذب ما حولها إليها.

ما أصدق هذا القول على سورية فهو يصدق عليها كما يصدق على فرنسا وعلى أيّ بلاد أخرى. خذ النّوى المذرورة في سورية، في التّاريخ القديم، تجد أنّها قد أصبحت كتلًا مغناطيسيّة قويّة كدمشق وبغداد [بابل] وأورفة (اديسه) وحمس وحلب وبيروت والقدس. ألا تقلّ كثافة السّكان ومظاهر الحياة كلّما ابتعدت عن القدس جنوبًا وعن دمشق شرقًا وجنوبًا حتّى تكاد تنعدم، ثمّ ألا تقلّ عن حلب شمالًا وشرقًا وماذا غرب بيروت ونطاق بغداد أليست حوافيه رقيقة؟ أو ليست سورية كلّها تجمّعات صغيرة حول كتل مغناطيسيّة كبيرة؟ ولو كانت القاهرة واقعة بين القدس ودمشق، مثلًا، أو بين القدس وقناة السّويس، وقرى مصر ومزارعها واقعة في شبه جزيرة سيناء وما حولهما بحيث يكون هنالك عمران واحد في بيئة واحدة، هي بيئة القطر السّوريّ، أكان في الإمكان حينئذ التّكلّم عن القطرين سورية ومصر؟ وإنّ جفاف الإقليم بسبب محق الحرجات والغابات، الّذي ساعد الصّحراء على اقتحام التّخوم السّوريّة الجنوبيّة، وتجويف الصّحراء السّوريّة كاد يفصل بين الشّام والعراق أو بين شرق سورية وغربها لولا النّهران السّوريان العظيمان الفرات ودجلة اللّذان حفظا استمرار العمران السّوريّ وإمكانية تكاثره وتوثيق الحياة القوميّة ضمنه..”، ما سبق لسعادة وأكده، أثبتته دراسات كثيرة قام بها علماء اجتماع وطبوغرافيون فيما بعد..

يبرر الحصري خلافه مع سعادة في البيئة والمناخ والجغرافية فيقول: ”لكن مؤسس الحزب السوري القومي، لم يشأ الاعتراف بأهمية رابطة اللغة والتاريخ، لأنه شعر بأن الاعتراف بهذه الرابطة، قد يضطره إلى توسيع نطاق القومية التي يدعو إليها، لذلك راح يحاول أن يخلق روابط جغرافية، ليبرر نزعته السياسية التي ترمي إلى ربط العراق بسورية دون ربطه بسائر الدول العربية، هذا هو بنظري، السبب الأصلي في تخبط أنطون سعادة هذا التخبط الغريب في أمر تقرير حدود سورية الطبيعية وتحديد مفهوم القومية السورية، ولذلك أقول: إن زعيم الحزب السوري القومي، لم يستنبط نظرياته السياسية من الأبحاث العلمية، بل على العكس من ذلك، أراد أن يسخر الأبحاث العلمية لخدمة نزعاته السياسية”.

يطلق الحصري أحكامه اعتباطًا أو كيفما اتفق، بل وخبط عشواء، دون أن تكون له دراية بما يحاول نفيه أو إثباته، فقوله: ”إن مؤسس الحزب السوري القومي لم يشأ الاعتراف بأهمية اللغة والتاريخ..” ينافي واقع الحال، فسعادة لم يعترف بتاريخ الحصري لأنه تاريخ مجزوء من التاريخ العام، خاصة وأن الحصري يعترف بأن تاريخه وتحديدًا تاريخ “القومية العربية” يبتدئ “بالثورة العربية الكبرى”، وعلى افتراض أن التاريخ العربي يبتدئ بالفتح العربي لسورية، فهو أيضًا تاريخ مجزوء لأنه تاريخ مقتطع من تسعة آلاف عام ويزيد من تاريخ سورية الطبيعية، فكيف لمن يدّعي المعرفة اختصار هذا التاريخ بألف وخمسمائة عام، هذا أيضًا إذا اعترفنا بأن هذه الألف وخمسمائة عام هي سلسلة مترابطة الحلقات لا جامع بينها سوى الدين الذي بقي محافظًا على اللغة التي جاء بها؟ فما الذي يجمع الدولة الأموية بالدولة العباسية التي نبشت قبور الأمويين ونثرت عظامهم كي تمحو من التاريخ أي أثر لهم ولم تكتفِ بذلك، بل ارتكبت مجزرة تطهير قبلي بقتل جميع الأمراء الأمويين، حين دعا الخليفة العباسي الأول من تبقى من الأمراء الأمويين وأمر بذبحهم أمام عينيه ثم غطى جثثهم ببساط ودعا بطعام وأخذ يأكل ويشرب بينما لا يزالون يتحركون في النزع الأخير، وهكذا انفصلت عنها كليًّا دولة الأمويين في الأندلس، والتي خرجت على المألوف في التراث الإسلامي بزواجها غير المعلن بثقافة الغرب وخاصة التراث الإسباني، وسرعان ما نشأت الدويلات في شمال إفريقية. كما في بقية أجزاء الدولة، وقد تسببت هذه الدول في ضعف الدولة العباسية وانحلالها؛ ذلك لأنَّ علاقة هذه الدويلات بالدولة العباسية كانت مختلفة اختلافًا كبيرًا، فقد انفصل بعضها عن الدولة انفصالًا تامّا، ونافسها بعضها على تولّي الخلافة نفسها، كما ظلّ قسم آخر على علاقة اسمية بالدولة، فيكفي الخليفة أن يذكر اسمه على المنابر، ويصك اسمه على العملة، وفي حقيقة الأمر أنها دولة مستقلة تمامًا لا تخضع له في شيء. وهناك دويلات ظلّت على صلة متغيرة بالدولة، تقوى حينًا، وتضعف حينًا آخر تبعًا لتغيّر الأحوال، وفيما يلي نذكر هذه الدول والإمارات، التي انفصلت عن دولة الخلافة العباسية، وهي: أولًا: الإمارة الأموية في الأندلس، ثانيًا: الدول في بلاد المغرب وهي: 1- الدولة الرستمية. 2- دولة الأدارسة. 3- دولة الأغالبة، ثالثًا: الدول في بلاد الشرق، وهي: 1- الدولة الطاهرية. 2- الدولة الصفارية. 3- الدولة السامانية. 4- الدولة الغزنوية، رابعًا: الدول في مصر والشام، وهي: 1- الدولة الطولونية. 2- الدولة الإخشيدية. 3- الدولة الحمدانية. 4- الدولة الفاطمية. 5- الدولة الأيوبية. 6- الدولة المملوكية..

أغلب هذه الدويلات لم تكن تتحدث العربية، وتحديدًا في الشرق، كان كل ما يجمعها بالخلافة العباسية الدّين بلغتِه والذي بدوره خضع للكثير من التطورات الأثنية ليتوافق مع أساطير البلد المعني، خير مثال لما ندّعيه، أن البخاري صاحب مؤلف ”صحيح بخاري ومسلم” والذي أورد آلاف الأحاديث عن الرسول العربي، لم يكن يعرف العربية، إضافة لكونه كفيفًا (أعمى)..

فإذا أضفنا تاريخ الاحتلال العثماني، الذي دام أربعة قرون باسم الدين، فما الذي يبقى من تاريخ الفتح العربي لسورية؟ إلا إذا كان الحصري يرى أن تاريخ هذه الدول بما فيها إمبراطورية بني عثمان، هو تاريخ عربي، هذا ما لا يعترف به سعادة كتاريخ، ومع ذلك يبقى هذا التاريخ حلقة من التاريخ السوري ترك آثارًا مدمّرة فيه، ما تزال فاعلة حتى يومنا هذا، وتحديدًا في البعد الديني، حيث جزّأ البنية الاجتماعية السورية إلى فئات وطوائف ومذاهب وملل وأحزاب وطرق..

على الرغم من أننا سبق أن ناقشنا لغة الحصري، التي يقول بها سببًا من أسباب الاجتماع وعاملًا من عوامله، من وجهات عدة مما يدّعيه، فإننا نعود لمناقشتها من حيث أهميتها بالنسبة لسعادة، والتي يدّعي أن سعادة لم يولها الأهمية التي تتطلبها، لأسباب شتى، أهمها برأي الحصري أن سعادة: ”لم يشأ الاعتراف بأهمية رابطة اللغة والتاريخ، لأنه شعر بأن الاعتراف بهذه الرابطة، قد يضطره إلى توسيع نطاق القومية التي يدعو إليها، لذلك راح يحاول أن يخلق روابط جغرافية، ليبرر نزعته السياسية التي ترمي إلى ربط العراق بسورية دون ربطه بسائر الدول العربية..”.

يتجنى هذا الحصري على سعادة كثيرًا، فجهله بسعادة كما جهل الآخرين، قاده لإطلاق أحكام لا تتّصف بالموضوعية التي تتطلبها أبحاث علم الاجتماع والسياسة، فسعادة من الوجهة المسلكية كان من عشاق اللغة العربية، ذلك أن المعروف عن سعادة أنه لم يقرأ مراجعه العلمية إلا في لغاتها الأصلية التي كتبت بها، مما يعني أنه كان يتقن لغات عدة، إضافة لإلمامه بلغات أخرى، لكننا لم نجد في مختلف ما تركه مقالًا واحدًا بلغة غير لغته العربية، ثم أنه في المحكمة المختلطة كان له موقفٌ أربك المحكمة منذ بدايتها، فعندما ناداه القاضي باسم ”أنطوان سعادة” لم يقف ولم يجب، بل بقي ساكنًا لم ينبس ببنت شفة، وعندما ناداه للمرة الثانية والثالثة، بذات الاسم، بقي على وضعه السابق، مما دفع القاضي للسؤال هل المدّعى عليه موجود أم لا؟ أجيب بأنه حاضرٌ! فلمّا سُئِل لماذا لم يجب على نداء القاضي أجاب إنه نادى على ”أنطوان سعادة” وأنا اسمي “أنطون سعادة” مما اضطر القاضي لإعادة ندائه ”أنطون سعادة” فوقف قائلًا: حاضر، هذا الموقف لا يعني سوى أن سعادة لم يكن يقبل إلا مناداته باسمه العربي وليس الفرنسي، ثم إن إحدى بناته -وأعتقد أنها “أليسار”- قالت: لم يكن والدي يحدّثنا إلا باللغة العربية الفصحى، هذه السلوكية لا تعني سوى أن سعادة كان يولي لغته العربية كل الأهمية في حياته العامة والخاصة.

من جهة أخرى، لم يكن سعادة على نقيض ومقولات علم الاجتماع والسياسة، فكان يولي اللغة أهميتها في سياقهما، نقطة الخلاف والمفصل الرئيس في اختلاف سعادة ومختلف علماء الاجتماع الذين تناولوا موضوعة اللغة كان تمييز سعادة بين السبب ونتيجته، بين أيّهما السابق وأيّهما اللاحق، بين الثابت والمتحول والتابع، إضافة لجهل الكثيرين منهم للفارق بين أن يكون هذا سببًا وذاك نتيجة، اللغة بالنسبة لسعادة تبقى وسيلة مهمة وضرورية لأي اجتماع إنساني وحتى الحيواني، فظاهرة الاجتماع أوجدت اللغة، وهكذا تبقى اللغة كغيرها من النتائج الاجتماعية، الفلسفة، العلوم على اختلافها، الدين بعاداته وتقاليده حتى الموسيقى ومختلف الفنون الأخرى، الأدب بأنواعه، اللغة واحدة من هذه النتائج ولا تتعداها لكونها سببًا من أسباب الاجتماع، يقول: ”كلّ ميزة من ميزات الأمّة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتّحاد في الحياة، الّذي منه تنشأ التّقاليد والعادات واللّغة والأدب والدّين والتّاريخ… فالأمّة من حيث هي متّحد اجتماعيّ ذو نوع من الحياة خاصّ به في بيئته لا بدّ لها من لغة واحدة تسهّل الحياة الواحدة وتؤمّن انتشار روحيّة واحدة تجمع آدابها وفنونها وعواملها النّفسيّة وأهدافها ومثلها العليا. ولا فرق بين أن تكون اللّغة الواحدة مختصّة بالأمّة الواحدة أو مشتركة بين عدد من الأمم، لأنّ الهامّ للأمّة في اللّغة هو ما تحمله من صور حياتها وحاجاتها النّفسية والماديّة وما هو من خصوصيّاتها، لا أشكال ألفاظها القاموسيّة.. إنّ اللّغة وسيلة من وسائل قيام الاجتماع لا سببًا من أسبابه، إنّها أمر حادث بالاجتماع في الأصل لا إنّ الاجتماع أمر حادث باللّغة”..

تحت عنوان (مفهوم العروبة) يقول الحصري: ”إن الآراء السياسية التي سردها أنطون سعادة في تعاليمه الأساسية عن البلاد العربية، تبدو للوهلة الأولى كخطة متوسطة بين النزعة الإقليمية الضيقة وبين فكرة القومية الشاملة.. إن فكرة الجبهة العربية.. لا تترك هوّة عميقة بين القائلين بالقومية السورية والقائلين بالقومية العربية.. إني أعتقد أن أسباب ذلك كله تعود إلى “سوء فهم” أنطون سعادة للمعاني من كلمات العرب، العروبة، والقومية العربية.. إن مدلول كلمتي العرب والعروبة في ذهن أنطون سعادة، يرتبط ويختلط على الدوام مع مدلول البدو والبداوة الصحراوية.. يخلط أنطون سعادة في كتاباته بين العروبة وبين الإسلامية ويعتبر فكرة القومية العربية ضربًا من “الحزبية المحمدية”.. إن الأخطاء الفاحشة التي يقع فيها أنطون سعادة، في تحديد مدلول كلمات العرب والعروبة والقومية العربية، لا تحتاج إلى شرح طويل.. إن مدلول كلمة عرب.. يشمل جميع الناطقين بالضاد من بدو وحضر ومن سكان المدن والأرياف والصحارى والجبال..”.

سعادة لا يخلط بين المفاهيم التي تأخذ مدلولاتها مما يفرضه علم الاجتماع، وهو يحدّد على مبدأ ”التعيين شرط الوضوح” مجمل ما يطرحه من مصطلحات لها مفاهيمها ومدلولاتها العلمية، خاصة بما يتعلق بالعروبة والعرب والقومية، ولقد أشرنا لذلك مرارًا، وها نحن على خطا الحصري، نعود إلى مفهوم العروبة كما يطرحه الحصري، لا كما طرحه سعادة، فإذا كان العربي هو الناطق بالضاد وكفى، فهذه مسألة تتعارض كليًّا ومختلف مفاهيم علم الاجتماع، لجهة أن الحصري يستثني من مفهوم عروبته أقوامًا شتّى نزلت في سورية أو غيرها من الأمم، ويقدّم سعادة مثلًا على ذلك سويسرا، التي ليست لها لغة مشتركة بين المنضوين تحت لواء المملكة، ومع ذلك تبدو هذه الدولة الصغيرة متفوقة على غيرها من الأمم الأوروبية، بل ومكتفية ذاتيًّا إلى حدٍّ كبير، لكن ماذا نقول عن بريطانيا وأميركا وأستراليا وكندا ودول الكومنولث، فهي ناطقة بلغة واحدة ولا يجمعها رابط سوى هذه اللغة المتداولة فيها وفي غيرها من الأمم، ما يصدق على بريطانيا يصدق أيضًا على فرنسا والبرتغال وإسبانيا، فإذا ما اعتمدنا تعريف الحصري للعربي، علينا أن نقول إن الإنكليزي هو كل الناطقين باللغة الانكليزية أو الفرنسية أو البرتغالية وهذا ما ينافي واقع الحال، فلكل من هذه الأمم الناطقة بلغة واحدة ما يميزها عن غيرها، فما هو السبب في ذلك يا ترى، إذا كنا ندرس علم الاجتماع ونستخلص من ذلك جملة من القوانين التي تسري على مختلف شعوب الأرض، فأية مقولة في هذا العلم عليها، لتثبت صحتها، أن تكون شاملة المجموع الذي تعنيه، لا أن تقتصر على فئة من المجتمعات دون أخرى، حينها لا يكون العلم هو علم اجتماع، بل على العكس تمامًا، هو نوعٌ من الهراء، بل وأكثر من ذلك، هو علم يحاول أن يصبغ البشرية جمعاء بصبغته، على نحوٍ من مختلف النظريات الشمولية أو تلك التي صنَّفت البشرية تصنيفات ثبت أنها مجرد تهيؤات وتأملات ووهم سيطر فترات متباعدة على البشرية، والأكثر من ذلك أننا بمفهوم العروبة الذي يقدمه لنا الحصري، يمكننا القول بالأمة المسيحية أو المحمدية أو حتى اليهودية والسيخية والهندوسية.. طالما أن هناك عنصرًا محدّدًا في تقارب عادات وتقاليد دينية راسخة في عقول وقلوب الآخذين بهذه الديانة أو تلك، فليس الاشتراك في لغة واحدة أو دين أو طبقة أو حتى ثقافة واحدة، هو ما يجعل بالضرورة والحتم أن تكون الأمة الآخذة بها أو بكليتها أو أحدها، أمة واحدة، اللغة كمنتج اجتماعي، هي كغيرها من تلك المنتجات الاجتماعية، تبقى في حدود كونها وسيلة من وسائل قيام المجتمع وحاجة من حاجاته، هذا إذا افترضنا أن اللغة منتج اجتماعي وليست منتجًا تاريخيًّا واقعًا بضغط من قوة عسكرية (العالم الروماني) أو دينية (العالم الإسلامي) أو ثقافية (العالم السوفييتي- الشيوعي أو المشاعي).

أما أن يكون مؤتمر بيت مري 1947، الذي يستشهد به الحصري، قد انتهى إلى أن “إن العروبة لم تكن في الماضي ولا في الحاضر مقصورة على طائفة من الطوائف أو دين من الأديان، وأن التعاون بين المواطنين العرب -على تفاوت أديانهم- كان قويًّا في الماضي كما كان كذلك في النهضة العربية الحديثة- ولم يفرق اختلاف الأديان بين العرب، إلا في العصور التي سادها الحكم الأجنبي، لهذا ينبغي العناية ببث روح التضامن والتعاون بين مختلف الطوائف، وإشعارهم بأنهم أخوة، وأن من واجبهم أن يضعوا الأهداف القومية فوق الاعتبارات الطائفية”، فهذه مسألة لا تعني سوى أن هذا المؤتمر قد زاد في الطين بلّة عندما يستشهد به الحصري لدحض ما يأتي به سعادة من شواهد تؤكد أن العروبة ليست سوى محض افتراء تاريخي لم يجد أسانيده في أي من الأحداث التاريخية، فالمؤتمر على ما يبدو من استشهاد الحصري بإحدى فقراته جاء ليؤكد على أن العروبة دين ولغة، وإن يكن لم يأتِ على ذكر الأخيرة، وإنما اقتصر على موضوعة الأديان وعلى أن هذه لم تفرق بين العرب إلا في العصور التي سادها الحكم الأجنبي، لكن المؤتمر ولا الحصري جاء على ذكر تلك الفترات التي سادها الحكم الأجنبي، هل هي المرحلة التي تفككت بها الخلافة العباسية أم المرحلة الصليبية أم العثمانية أم مرحلة الانتداب، وفي كلٍّ من هذه المراحل، لم يكن سوى الدين القاسم المشترك بين دويلات انسلخت لعوامل شتى سياسية واجتماعية عن الخلافة، فأتاحت لفترات زمنية قيام دويلات دينية على شاكلة الهجمة الصليبية أو الاحتلال العثماني وحتى الانتدابين الفرنسي والإنكليزي، وفي مختلف هذه المراحل -على افتراض أنها المقصودة في فقرة المؤتمر الذي يستشهد به الحصري- لم يكن الأمد ليطول أكثر من ستمائة عام شغل ثلثاها حكم بني عثمان الذي كان الدين العامل الأساس والمباشر في تثبيت الحكم على مدى أربعمائة عام، هكذا يدحض الحصري ما جاء به سعادة، دون أن يتنبه -الحصري نفسه- لما كان قد أعلنه على الملأ من أن مسيحيي المشرق لم يكن لهم الفضل في بث (الإثم السوري- العروبي) على امتداد العالم العربي، إذ لم يأتِ على ذكر العروبة قبل السوريين أيٌّ من المفكرين في مختلف أنحاء العالم العربي، لكن مفكري العالم العربي بعد أن راح السوريون يبثون إثمهم العربي، تبنّوا هذا الإثم. إضافة لما تقدم، لم يقدم لنا التاريخ الحديث أيًّا من مفكري هذا العالم قد سبق الكواكبي أو ناصيف اليازجي، في توصيف العروبة التي جاءت كرد على الطورانية أو التتريك بشكل مباشر ودون أي تمحيص من قبل القائلين بها آنذاك، حتى إن الحصري لم يُشر إلى أي من تلك الأحزاب الداعية للعروبة بقوميتها الزائفة سوى تلك الأحزاب السورية التي نشأت على التتابع في سورية الطبيعية، وكان الحصري (السوري) أبرز دعاتها.

تحت عنوان (مسألة الهلال الخصيب) يقدم لنا الحصري مزيدًا من النقاط حول عدم إلمامه بما يتنطح للدفاع عنه ونقصد ”القومية العربية” في نقده لأفكار سعادة، حيث يقول: ”ظنّ (سعادة) في بادئ الأمر أنها من وضع العرب، حيث قال: ولقد تنبّه العرب في دقة ملاحظتهم السطحية، إلى وحدة هذه البلاد الجغرافية، فسموها “الهلال الخصيب” وكرر ذلك مرات عديدة في مناسبات متنوعة، إلا أنه اطّلع أخيرًا على حقيقة الأمر في هذه التسمية فقال ”لعل العالم التاريخي -برستد- هو الذي أطلق تعبير “الهلال الخصيب” وعلى كل حال تبنى أنطون سعادة هذه التسمية وثبتها في نصوص تعاليمه.. ولكن.. من الغريب، أن أنطون سعادة بعد أن تبنى بهذه الصورة الصريحة اسم -الهلال الخصيب- للدلالة على ما سمّاه، سورية الطبيعية.. فاجأ قُرَّاءه في أواخر أيام نضاله بمقالة نارية تحت عنوان “نحن سوريون لا هللخصيبيون” حمل فيها على فكرة توحيد بلاد الهلال الخصيب حملة شعواء وتهكم بدعاة هذه الفكرة تهكّمًا لاذعًا.. ثم تذكر أن الهلال يعتبر في أوروبا وفي بعض البلاد الشرقية رمزًا للإسلام، فتوهم أن دعاة اتحاد الهلال الخصيب، إنما مالوا لهذه الفكرة تحت تأثير التعصب الديني والحزبية المحمدية! ولذلك حمل على من سماهم ”الهللخصيبيون”..

يستنسخ الحصري ما انتقد به فايز صايغ سعادة، ويعيد ما سبق وقدّمه فايز صايغ من دلائل على انتقاداته لسعادة ومن بينها تعديل الحدود الطبيعية الواردة في نص التعاليم الأول، فهو يقول ”إن الشخص (ويقصد سعادة) الذي كتب العبارات التهكمية حول كلمات الهلال الخصيب، نسي تمامًا، بأنه كان قد سمّى سورية الطبيعية بهذا الاسم حتى في نصوص تعاليمه الأساسية وشروحها.. وعن أساس هذه المزاعم المسرودة في هذه الفقرات، فأقول (الحصري) أولًا إن الهلال لم يكن رمزًا لٌلإسلام عند العرب في يوم من الأيام، ولم ترتبط فكرة العروبة بالهلال في وقت من الأوقات، والدول العربية التي نشأت بعد الثورة العربية الحديثة، لم ترسم الهلال لا في أعلامها ولا في شعاراتها،.. لذلك نستطيع أن نجزم ونؤكد بأن زعم أنطون سعادة بأن الساسة.. الذين تلقفوا تعبير (الهلال الخصيب) لأن الهلال محبوب من قبل النايورجعية العربية، ما هو إلا من الأوهام الباطلة من أساسها..”.

سوف نبدأ في تسفيه ما جاء به الحصري، مما انتهى إليه في قوله: ”إن الهلال لم يكن رمزا للإسلام عند العرب في يوم من الأيام، ولم ترتبط فكرة العروبة بالهلال في وقت من الأوقات، والدول العربية التي نشأت بعد الثورة العربية الحديثة، لم ترسم الهلال لا في أعلامها ولا في شعاراتها،..”.

يبدو أن ما يتهم به الحصري سعادة، ما هو إلا قراءة ذاتية لذاته، ذلك أنه حين وضع كتابه (العروبة بين دعاتها ومعارضيها) كان الهلال رمزًا لبؤرة الوهابية (إمارة الدرعية) التي نشأت في وسط شبه جزيرة العرب على يد آل سعود عام 1818، كما ينسى أو يتناسى أو يستغبي قرّاءه، أن علم مصر كان هلالًا ونجمات ثلاث، كذلك كان علم تونس والجزائر قد اتخذ من الهلال رمزًا لدولتهما، ومن ثم كل من جزر القمر وموريتانيا كانت قد اتخذت من الهلال شعارًا لدولتها..

أما قوله: ”.. إلا أنه اطّلع أخيرًا على حقيقة الأمر في هذه التسمية فقال ”لعل العالم التاريخي -برستد- هو الذي أطلق تعبير “الهلال الخصيب”..”، فقول لا يدين سعادة بقدر ما يوحي من أن الحصري يحاول أن ينال من سعادة بشتى الطرق والوسائل، ذلك أن بين المحاضرة الرابعة التي قال فيها سعادة: ”عرفت تاريخيًّا باسم سورية وسماها العرب “الهلال الخصيب” لفظًا جغرافيًّا طبيعيًّا محض لا علاقة له بالتاريخ ولا بالأمة وشخصيتها..”  والخامسة التي جاء بها قوله: ”وقد تنبّه العرب، في دقة ملاحظتهم السطحية إلى وحدتها الجغرافية الطبيعية، وسمّى هذه الوحدة أحد العلماء، ولعله بريستد، “الهلال الخصيب”..” خمسة عشر يومًا، فهل كانت هذه الفترة الزمنية كافية ليتبحّر سعادة ويدقّق ويفصل في من أطلق هذه التسمية على سورية التاريخية، هذا إذا لم يكن برستد قد استند إلى التسمية العربية لبلاد الشام والعراق، وهو عالم قد اختص بالمصريات، لكنه أولى بعض اهتمامه لسورية الطبيعية من حيث الصلة التاريخية بين سورية ومصر، وتنبه أيضًا لما تتميز به سورية الطبيعية من ميزات فكان تحديده لها شاملًا العراق،

من جهة أخرى، فإن الحصري يخلط بين مصطلحات “سورية الكبرى” والهلال الخصيب” و”الهلال السوري الخصيب” فهذه المصطلحات ليست مترادفات، إنها مشاريع استعمارية تبناها الاستعمار ليصرف أبناء شعبنا عن وحدته ذات الدورة الاجتماعية- الاقتصادية الواحدة، على نحو ما تنبّه له حافظ الأسد بعد مضي نصف قرن أو أكثر من نشوء فكرة القومية العربية، ففي المؤتمر القومي الثاني عشر لحزب البعث المنعقد في تموز 1975 يقول: ”كان لمشروع الهلال الخصيب مكان في إستراتيجيات الدول العظمى في الخمسينيات وفي وقت آخر خططت لأن تحقق مشروع وحدة تسمى سورية الكبرى، هذه التسمية، بطبيعة الحال ليست اختراعًا، بل إن تحقيق هذا المشروع (قيام وحدة سورية الكبرى) هو عودة الشيء إلى أصله، على الرغم من ذلك عارضنا بشدة هذه المشاريع، لأن للدول الاستعمارية آنذاك مصلحة في تحقيقها، دون النظر إلى مصلحتنا في ذلك.. دعونا نذهب إلى الوراء قليلًا، ونتصور تلك المرحلة، ما الذي كان يمنع أن تقوم وحدة تسمى الهلال الخصيب أو الهلال المجدب؟ تصوروا أيها الرفاق أن الوحدة بيننا وبين العراق قائمة منذ عشرين أو ثلاثين سنة، هل يعقل أن يكون هذا الإنجاز لمصلحة الإنكليز أو الفرنسيين؟ طبعا لا، بل إن الأمر كان سيختلف تمامًا بما يتعلق بإسرائيل، هذا إذا كانت إسرائيل قد قامت أصلًا.. لا يجوز أن ندمّر مصلحة لنا، لاسيما مصلحة أساسية ومصيرية، من أجل أن ندمّر مصلحة صغيرة للأجنبي، هذا ما حدث في الماضي، بعض المشاريع كان للأجنبي مصلحة في تحقيقها، لكنها أصغر بكثير من مصالحنا، ليتنا الآن نعيش في سورية الكبرى، ليتنا الآن نعيش دولة الهلال الخصيب، إذًا لكانت قدراتنا أكبر، واستطعنا أن نواجه الاستعمار وإسرائيل بشكل أفضل، لأنه لا يمكن أن نُعِدَّ قيام دولة تضم فلسطين والأردن وسورية ولبنان، إن صح أن نسميها وحدة، لأن هذه المناطق شكلت دولة واحدة موجودة في الماضي، لا يمكن أن نُعِدَّ ذلك مصلحة بريطانية، بل إنها مصلحة أساسية لنا، إن صراعنا مع إسرائيل هو صراع إلى الأبد، وهو صراع مصيري، ولا بدَّ لأحدنا أن يزول، وبطبيعة الحال لن نزول نحن وستزول إسرائيل..”.

سورية الطبيعية هو المصطلح الذي اعتمده سعادة في التعريف بالأمة السورية، أما ما جاء على ذكره في المحاضرات العشر من مصطلحات، فهذه مسألة تتعلق بشرح المبادئ التي قامت على ما جاء به سعادة في مؤلفه العظيم “نشوء الأمم”، حيث لم يتناول أيًّا من هذه المصطلحات فيه، في مؤلفه المذكور، لا يشير سعادة إلى الهلال أكان خصيبًا أم سوريًّا خصيبًا أو سورية الكبرى، في المبدأ الرابع الذي يشير فيه إلى “.. عرفت تاريخيًّا باسم سوريا وسمّاها العرب الهلال الخصيب..” لا يعني أنه يعترف بالتسمية العربية، وفي المبدأ الخامس الذي يأتي به على ذكر الوطن السوري “.. يعبر عنها بلفظ عام: الهلال السوري الخصيب” فإضافة السوري إلى الهلال الخصيب، هي إضافة من سعادة وليست إضافة من غيره، وفي مختلف الأحوال، فإن مسألة الهلال الخصيب لم تكن معتمدة من سعادة حتى وإن وردت في صلب التوسع في شرح المبادئ، التسمية التي اعتمدها سعادة كانت سورية الطبيعية كما أشرنا أعلاه، وهي التي تشمل كلًّا من سورية بما فيها لواء اسكندرون وسفوح جبال زاغروس ولبنان وفلسطين بما فيها شرقي الأردن وسيناء (فلسطين التاريخية) والعراق بما فيه الكويت وسفوح جبال البختياري وقبرص التي تشملها الخريطة التاريخية لسورية والتي تعود لعام 1794..” وهي أقدم خريطة للساحل السوري..

أما أن يكون سعادة وفق الحصري: ”.. توهّم أن دعاة هذه السياسة، وأخذوا عنه فكرة “اتحاد سورية والعراق” ولكنهم غمطوا حقه، وأنكروا فضله في التفكير بذلك لأول مرة فغضب لذلك غضبة شديدة..”.

أن يكون ”توهّم أن دعاة هذه السياسة..” فسعادة لم يتوهم، لا لشيء، إنما لكونه غير مؤمن بما دعا إليه ”دعاة هذه السياسة..”، فسعادة لم يدعو لوحدة سورية والعراق سياسيًّا، حتى ولا تاريخيًّا ولا لغويًّا ولا أي من تلك “المقومات” التي كانت تجوب مخيلة أولئك الدعاة، سعادة وبناء على مقولته الرائدة في علم الاجتماع “دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية” دعا لوحدة سورية الطبيعية ذات الدورة الاجتماعية- الاقتصادية الواحدة، البعيدة كل البعد عن تقولات القائلين بوحدة سورية والعراق (المؤتمر السوري) أو الذين تبنوا وحدة (سورية الكبرى) أو المنادون بوحدة (الهلال الخصيب) كبديل عن وحدة سورية الطبيعية، والتي كانت تلك الدعوات بطبيعتها مشاريع استعمارية لتأليب الرأي العام على فكرة الوحدة الطبيعية كما جاء في تحليل حافظ الأسد، لقد نجحت السياسة الاستعمارية في ذلك، حيث تبنت بشكل أو بآخر مقولات “القومية العربية” ونجحت في إيصالها للحكم وجنت من ذلك مكاسب جمة، أبرزها هذا الوضع المزري والمخزي الذي نحياه اليوم، حيث انساقت مصر إلى كامب ديفيد والأردن إلى وادي عربة والفلسطينيون إلى أوسلو.. ودول الخليج العربي إلى “صفقة القرن” والحبل على الجرار..

يعود الحصري لموضوع سبق أن تطرقنا إليه في هذه الدراسة النقدية، وهو موضوع اللغة أم البيئة تأتي أولًا؟، فتحت عنوان /اللغة والأرض في تكوين القومية/ يقول: ”نحن لم نقل أبدًا “إن النفسية والفكر لا قيمة لهما توازي قيمة اللغة..” لأننا أولًا نعتقد بجواز فصل اللغة عن النفسية والفكر، وذلك لأننا نعلم أن اللغة هي أداة تفكير، كما أنها أهم وسائل التعبير عن خلجات النفس، ثم إننا نعتقد في الوقت نفسه بأن اللغة واسطة اتصال الأجيال الجديدة بالأجيال القديمة، وواسطة انتقال المكتسبات الفكرية من جيل إلى جيل، ولذلك نقول: إن وحدة اللغة هي أهم وأمتن الروابط التي تربط بين الأفراد بعضهم ببعض، وهي أفعل العوامل التي تؤثر في تكون شخصيات الأمم. إننا لم نقل “إن النفسية والفكر ليس لهما قيمة توازي قيمة اللغة” ولكننا قلنا ولا نزال نقول ”إن الأرض والبيئة ليس لهما قيمة توازي قيمة اللغة“.

إن أبرز وأهم ما يمكن استخلاصه من الفقرة المتقدمة، هو أن الحصري يؤكد على أن اللغة تبقى في مختلف حالاتها “أداة، واسطة، وسيلة،..” وأنه يمكن “فصل اللغة عن النفسية والفكر” بما يعني أنه يمكن الفصل بين الفكر وأداته، حيث تكمن العقدة التي يحاول الحصري فكَّ بعض إشكالاتها في نقده لسعادة..

وحتى لا يكون تعليقنا على ما تقدم، تكرارًا لما سبق أن أفردناه في موضوع اللغة، فإننا سنتناول طرح الحصري من زوايا أربع هي على التوالي:

1- فلسفة اللغة: ”حيث المعنى هو الأهم في مختلف المناحي التي تدرسها هذه الفلسفة، والتي تركز على النحو والدلالة اللغوية وعلم المقامية أو الذرائعية، لكن أهم ما في الفلسفة اللغوية هو المعنى..”.

2- علم اجتماع اللغة: ”وهو العلم الذي يبحث في تأثير المجتمع في اللغة”..

3- علم اللغة الاجتماعي: “وهو العلم الذي يبحث في تأثير اللغة على المجتمع..”.

4- الفصحى والعامية: حيث اللكنة أو اللهجة المحلية تطوّع اللغة لما يتناسب وحاجاتها اليومية.

عندما نقول إن سعادة كان رائدًا في علم الاجتماع، فليس في هذا القول، ما ينافي الواقع، فسعادة قبل ظهور فلسفة اللغة ومشتقيها علم اجتماع اللغة وعلم اللغة الاجتماعي، حدّد لهذه الفلسفة ومشتقاتها ركائزها التي اكتشفها علماء اللغة والاجتماع بعده بثلاثين عامًا، ذلك أن سعادة، وفي مؤلفه الرائع “نشوء الأمم” يبتدئ مع اللغة من نقطة الصفر، يقول: ”ولا شكّ في أنّ النّار قوّت الرّابطة الاجتماعيّة في الإنسان السّابق ومهّدت له كثيرًا إظهار استعداده للارتقاء، فساعدت كثيرًا على نشوء النّطق الّذي يعدّه لتزرس قيقر(83) أبو العقل. ومهما يكن من أمر تقديرنا نشوء النّطق، فلا بدّ لنا من التّسليم بأنّ النّطق وحده كفل تحويل الاكتشافات والاختبارات التّطوريّة الأوّليّة إلى معارف اجتماعيّة وراثيّة (اجتماعيًّا).. وفي مجرى هذين العصرين الحجريّين اللاّحق والمتأخّر تمّ نطق الإنسان وارتقى إلى مرتبة لغة وارتقت أحوال معاشه بتدجين الحيوان والتّنبه لطبائع المادّة ولكنّها ظلّت على مستوى سدّ الحاجة مباشرة، الأخذ ممّا تقدّمه الأرض من حيوان ونبات بريّ، وفوقها قليلًا، إذ نرى ابتداء النّسيج وصناعة الخزف. والرّابطة الاجتماعيّة هي الرّابطة الدّمويّة، رابطة القبيلة”. إذًا، فالنطق، حالة اجتماعية، بمعنى آخر، لو لم يكن الإنسان اجتماعيًّا بالفطرة لما كانت له إمكانية نشوء النطق “اللغة” وإن كان هذا، مجرد أصوات، أو شارات صوتية -يشاركه فيها حتى العالم الحيواني- حيث يمكن للمجتمعين حول النار تناقل بعض من أفكارهم مع الآخرين، هذا بداية، وفي التطور اللاحق للغة، راح الإنسان يرسم على جدران الكهوف، بعضًا من صور حياته اليومية لنقلها إلى الآخرين، فكانت اللغة الهيروغليفية، لغة يمكن أن تنقل برسمٍ موجز بعضًا من هذه الأفكار المتداولة، أيضًا من الحياة اليومية، بعدها تتطور اللغة إلى اللغة المسمارية المقطعية والتي مهّدت لظهور الأبجديات، حيث تمكن الإنسان في هذا العصر، من تدوين مختلف الأفكار ليتم توارثها اجتماعيًّا وتتحول إلى معارف اجتماعية، وحيث إن هذه مواكبة للحالة الاجتماعية التي بلغها الإنسان، كان لا بدَّ من اختراع الأرقام التي ساهمت بشكل أو بآخر في التطور الاقتصادي ذي المنشأ الاجتماعي، أيضًا، فالحالة الاجتماعية، هي البوتقة التي تفاعلت فيها مختلف تطورات الإنسانية على اختلافها.

وعندما نقول إن سعادة قد حدّد لعلوم اللغة ما بلغته في ستينيات القرن العشرين، فلا يأتي قولنا عبثًا، بل لما يقوله سعادة في مؤلفه نشوء الأمم: ”الهامّ للأمّة في اللّغة هو ما تحمله من صور حياتها وحاجاتها النّفسية والماديّة وما هو من خصوصيّاتها، لا أشكال ألفاظها القاموسيّة..”، بما يعني أن فلسفة اللغة عندما تقرُّ مبدأ أن أهم ما في الفلسفة اللغوية هو المعنى، فإن هذا المعنى يأخذ بعدًا قيميًّا يحمل قيم المجتمع المتجلية في صور الحياة اليومية التي تأتي اللغة كوسيلة للتعبير عنها..

وهكذا، فالمشكلة التي يعاني منها أصحاب الدعوات اللغوية مع سعادة، تكمن في العلاقة بين الثابت والمتحول والتابع، عند سعادة يبقى الثابت هو البيئة التي تمدُّ الإنسان بعناصر استمراريته والتي منها صور حياته اليومية والتي تختلف من بيئة طبيعية إلى أخرى، فلا شك، على سبيل المثال، أن حياة العرب، التي فرضتها مقومات البيئة الصحراوية القاسية، لعبت دورًا مهمًّا في مختلف آدابهم شعرًا كانت أم نثرًا، لهذا نجد الشعر العربي -والذي هو الوسيلة الوحيدة التي تداولها العرب حتى تاريخ بدء الدعوة المحمدية، ينقل لنا صورًا من تلك الحياة التي كان يحياها العرب في شبه جزيرتهم، والتي كانت تتمحور حول الغزو والمدح والهجاء والارتحال والحبّ العذري والجمل والخيام والطلول.. الخ، أيضًا على سبيل المثال، كانت مختلف الموضوعات التي تناولها الشعراء العرب، تبتدئ بالوقوف على الأطلال كتمهيد للدخول في موضوع القصيدة، على سبيل المثال أيضًا وأيضًا، أشهر قصائد العرب، “اليتيمة” والتي مطلعها:

 “هل بالطُلول لسائلٍ رَدُّ    أَو هَلْ لها بتكلُّمٍ عَهدُ

دَرَسَ الجديد جديدَ مَعْهدها    فكأنَّما هي رَيْطة ٌ جَرْدُ

من طُولِ ما يبكي الغَمام على    عرَصاتِها ويُقَهْقِه الرَّعْدُ

وتُلثُّ سارية وغادِية ٌ    وَيكُرُّ نَحْسٌ خلْفَه سَعْدُ..”

فالوقوف على الأطلال، في حياة دائمة الارتحال، كان هو مصدر الوحي الشعري الذي لم تعرف شبه جزيرة العرب سواه من الآداب، قبل الدعوة المحمدية، والذي خضع بدوره لكثير من المتغيرات بعد انتشار الدعوة في سورية الطبيعية، وقد سبق أ، نوّهنا لهذا الموضوع في بحثنا للغة آنفًا.

قبل (500– 540م) أول شعراء العرب “امرئ القيس” أو “الملك الضليل” أو “ذو القروح” لم يكن هناك نصٌّ مكتوب بلغة العرب الأولى -وقد ألمحنا لهذا الموضوع سابقًا- ولاحقًا بلغة قريش..

 قبل ذلك بزمن طويل، كان الشعر السومري قد قطع شوطًا بعيدًا في رسم معالم الحياة اليومية، حيث لا أطلال ولا هجو ومدح و.. ففي قصائد “حب سومرية” نقرأ:

“..هوَ التقى بي، هوَ التقى بي.

الرّبّ وضعَ يدهُ في يدي.

 عانقني وضمّني إلى صدرِه (أي دوموزي).

كيفَ أحتالُ بالقولِ على أمّي؟

دعيني أخبركِ بما تسوقهُ البناتُ من معاذيرَ:

قولي لقد صحبتني صديقتي إلى السّاحةِ العامّة،

حيثُ تسلّينا بالرّقصِ والموسيقا،

أنشَدَتْ لي أحلى وأعذبَ الألحانِ،

وفي بهجةٍ غامرةٍ أمضينا الوقتَ هناكَ.

بهذهِ الأكذوبةِ تأتينَ إلى أمّك.

فدعينا نطلقُ العنانَ لأنفسنا في ضوءِ القمرِ.

سأُعدُّ لكِ سريرًا نقيًّا وهنيًّا.

فنقضي الوقتَ في لهوٍ ومتعةٍ..”

وهكذا تعكس اللغة مظاهر مختلفة من الحياة اليومية للمجتمعات الإنسانية..

بين الثابت والمتحول والتابع، تبقى المشكلة بين سعادة والحصري، فإذا كان الثابت هو البيئة، فالمتحول هو المجتمع، وسعادة كعالم اجتماع آخذٌ بعلم “اجتماع اللغة” -قبل وجود هذا العلم، وأخيه علم لغة الاجتماع- حيث يعكس في تناوله لهذا لعلم تغيرات وتطورات اللغة كتابع لمختلف تحولات الحياة المجتمعية، يقول: ”.. كلّ مجتمع يجب أن يكون له وسيلة أو وسائل، لغة أو لغات، لهجة أو لهجات يتخاطب بها أفراده ويتفاهمون ويتفاعل تفكيرهم وتزداد ثروتهم العلميّة. وهكذا نرى أنّ اللّغة وسيلة من وسائل قيام الاجتماع لا سببًا من أسبابه، إنّها أمر حادث بالاجتماع في الأصل لا إنّ الاجتماع أمر حادث باللّغة.. ثمّ إنّ اللّغة متى صارت لغة جماعة أو جماعات معيّنة أصبحت حاملة الميراث الأدبيّ الثّقافيّ لهذه الجماعة أو هذه الجماعات. وفي هذه الحقيقة يكمن سرّ أنّ اللّغة عنصر من عناصر الأمّة. فالأمّة من حيث هي متّحد اجتماعيّ ذو نوع من الحياة خاصّ به في بيئته لا بدّ لها من لغة واحدة تسهّل الحياة الواحدة وتؤمّن انتشار روحيّة واحدة تجمع آدابها وفنونها وعواملها النّفسيّة وأهدافها ومثلها العليا. ولا فرق بين أن تكون اللّغة الواحدة مختصّة بالأمّة الواحدة أو مشتركة بين عدد من الأمم.. وحيث تكون النّفسيّات الدّاخلية في لغة جديدة قويّة فإنّها تفعل في اللّغة وتكسبها من نفسيّاتها وتوجّهها في التّعبير عن احتياجاتها ومثلها العليا شأن السّوريّين في اللّغة العربيّة، فإنّهم أخذوها من الفاتحين العرب ولكنهم نقلوا إلى هذه اللّغة علومهم وأدبهم ومجاري فكرهم فأصبحت اللّغة العربيّة لغتهم القوميّة تسيطر نفسيّتهم ومواهبهم فيها في بيئتهم وتجاوزها. وإنّ من الأسئلة الّتي تنبّه الفكر إلى هذه الحقيقة: ماذا كانت تكون الثّقافة العربيّة لولا ما نقله السّوريّون من السّريانيّة واليونانيّة إلى اللّغة العربيّة؟.

فإذا تكلّمنا عن الثّقافة السّوريّة عنينا بها الدّور الذّي قام به السّوريون في ترقية الثّقافة العامّة، وهو دور الجمع بين الزّرع والغرس وسلك البحار والتّجارة وإنشاء الحروف الهجائيّة والدّولة المدنيّة وخصوصًا العناصر الأربعة الأخيرة، كما تقدّم معنا آنفًا. وإذا تكلّمنا عن الثّقافة الإغريقيّة عنينا بها الفلسفة والفنّ اللّذين أنشأهما الإغريق وأعطوهما للعالم. وإذا تكلّمنا عن الثّقافة العربيّة عنينا بها ترقية العلوم التي اشتركت فيها العناصر الداخلة في نطاق اللغة العربية، كالحساب والهندسة والطّبّ والكيمياء. وإذا تكلمنا عن الثقافة الحيّة كلّها مع الاحتفاظ بالألوان أو الصبغات القومية لبعض نواحي الثّقافة.. إنّ وحدة اللّغة لا تقرّر الأمّة ولكنّها ضروريّة لتماسك الأمّة. وحيث تتّخذ اللّغة أساسًا للقوميّة يكون القصد من ذلك التّعبير عن حاجة التّوسع والامتداد، كما هي الحال في ألمانيا الّتي يلجأ مفكّروها أحيانًا إلى وحدة السّلالة وأحيانًا إلى وحدة اللّغة(236) لسدّ حاجاتها إلى التّوسّع ولضمّ أقليّاتها الدّاخلة في أمم أخرى تعمل على إذابتها.. إنّه ضروريّ أن تتكلّم الأمّة لغة واحدة وليس ضروريًّا أن تنفرد بهذه اللّغة. على أنّ أهمّ ما في اللّغة للأمّة الأدب الّذي تنشئه هذه الأمّة ليعبّر عن روحيّتها ويحفظ روحيّتها ومثلها العليا..”.

هكذا هي اللغة، أيًا كانت، عند سعادة، تبقى حاملًا لفكر الأمة، في شتى مجالات الحياة، لكن، وعندما تعجز اللغة عن حمل هذا الفكر، نرى الفكر يجهد لإيجاد ما يفي بمخزونه، لذا نراه يلجأ إلى فنون (لغات) أخرى تحمل ما في دواخله من عواطف ومواقف وتجليات كالموسيقى والرسم والنحت، فالسيمفونية الخامسة لبيتهوفن (ضربة قدر) هي فكر خالص أراد بيتهوفن التعبير بها عن الوضع المادي المزري الذي كان يحياه، حيث صاحب الغرفة التي يقطنها الذي راح يطرق عليه الباب لمطالبته بإيجار الغرفة، وللهرب من وقع طرقات الباب، يلجأ إلى البيانو مردّدًا تلك الطرقات بأجمل ما أبدعه في عالم الموسيقى، كذلك نجد في تمثال (المفكر) “لأوغوست رودان” الذي أراد به التعبير عن مشكلة الفلسفة بأولى أعماله (بوابات الجحيم) حيث الحقيقة العارية تظهر في تمثال المفكر كرجل عارٍ مسندًا ذقنه إلى يده مغرقًا في التفكير.. كذلك لوحة ”الموناليزا” الشهيرة والتي أثارت الكثير من الجدل حول ما ترمز إليه، فهل هي خائفة أم سعيدة أم متشائمة أم حزينة..

واللغة من جهة أخرى “ديمقراطية” تتقبل الآخر، الترجمة والإضافة باعتبارها حاملًا للفكر الذي يصوغها تبعًا لتجلياته، فعندما يجد الفكر نفسه في “قفص الاتهام” بالقصور عن التعبير عن مكنوناته، يبحث عما يمكنه إخراجه من قفص الاتهام هذا، فيأتي بمفردات أو مصطلحات جديدة، كما ويسقط أخرى لأنها لم تعد تفي بأغراضه، مثال ذلك مفردة (عرنين) والتي تعني بلغة العصر (الأنف) تلك المفردة من النادر تداولها حتى في أرقى المدونات اللغوية العصرية، وكما تسقط مفردات، تنهض في اللغة مفردات أخرى، وفي هذه تتجلى “ديمقراطية” اللغة، في تقبّلها للترجمة والإضافة، للآخر، من اللغات، كمفردة (بنطال) فهي غير موجودة في مفردات اللغة العربية (لغة قريش القرآنية) أو(ياقة) “الكرافات” التي لم تعرفها اللغة العربية إلا منذ أمد قصير.

بين الثابت (البيئة) والمتحول (المجتمع) والتابع (اللغة)، هكذا إذًا يكمن الخلاف بين سعادة، ومجموع القائلين إن اللغة سبب وعامل من عوامل قيام المجتمع، ومن بينهم الحصري الذي يحاول دسَّ أنفه في علم لا يفقه منه شيئًا، فسعادة يدقق في طبيعة اللغة الاجتماعية، على صعيد فلسفة علم اللغة، وفي الفرق بين علمي /اجتماع اللغة وبين علم اللغة الاجتماعي/، يقول سعادة بهذا الخصوص: ”ولفقر اللّغة العربيّة في المؤلّفات الاجتماعية نجدها فقيرة في المصطلحات الاجتماعيّة العلميّة. فوضعت في هذا الكتاب مصطلحات جديدة أرجو أن أكون قد توفّقت في اختيارها للدّلالة على الصّفة المعيّنة، كقولي: [الواقع الاجتماعيّ] و[المتّحد الاجتماعيّ] و[المناقب] و[المناقبية] (للمورال)..”.

ولأنّ المعنى في فلسفة اللغة هو موضوع قيمي، تتبع المفردة فيه مفاهيم المجتمع السائدة، المستمدة من حياتها اليومية أو من دورة حياتها الاجتماعية- الاقتصادية عبر تتالي أجيالها، المعنى في سياق الجملة أو البحث، على سبيل المثال، لم نجد في الشعر العربي تعبيرًا أو صورة أو كناية وما إلى هنالك من أدوات شعرية أو أدبية، تعبير مثل (رائحة الدراق) أو (أريج الجوري) أو (روائح الليمون) أو صورة للكرز، على نحو:

” شفتاك عنقودان من كرز… من ذاق غيري طيب طعمهما”

جلّ ما نقله الشعر في شبه جزيرة العرب هو الجمل والترحال والسيف والغزو والواحة والخيام والحب العذري..

اللغة كأداة تعبير عن احتياجات الفرد تجاه الآخر قد تتخذ أنماطًا غير صوتية، أي بلغة الإشارة، كالشارة التي يتداولها الصم والبكم، وقد يكون ذا لغة جسدية، على سبيل المثال إن حركة الرأس يمنة ويسارًا تعني في لغة الشرق الأوسط الرفض أو التشكيك في صحة ما يقال، بينما تعني في لغة الهند القبول، اللغة كأداة أو واسطة أو وسيلة، تختلف من مجتمع للآخر، كما تختلف من مدينة لأخرى، فاللغة الدارجة في حلب هي غيرها في دمشق أو بيروت أو القاهرة، كذلك لا يمكن فهم اللهجة السودانية مثلًا عند السوري، أو اللهجة التونسية والجزائرية عند البيروتي أو البغدادي والعكس صحيح، من هنا يمكننا القول إن اللغة تتكيف اجتماعيًّا، وتاليًا ظرفيًّا أو زمانيًّا وفق الحالة الاجتماعية السائدة، فكثير من مصطلحات اللغة تسقط تاريخيًّا، لتنهض مفردات ومصطلحات أخرى، هكذا تتبع اللغة التطور الاجتماعي..

لم يتح الزمن لسعادة توضيح ما غمض من أفكاره، كما لم يكن التلامذة على مستوى ما قدّمه من أفكار، واكتفوا بترديد ببغائي لتلك الأفكار التي دوّنها في مداه الزمني القصير، لم يدقق أحد علميًّا في مختلف ما طرحه سعادة في مؤلفه “نشوء الأمم” أو في بقية ما تركه من خطب أو مقالات أو دراسات..

سأكتفي، تأكيدًا على أن سعادة كان سابقًا لعصره، بمقدمة رسالة الدكتوراه التي قدمها الدكتور (زيدان علي الجاسم) تحت عنوان /في علم اللغة الاجتماعي/ بحث صوتي لغوي اجتماعي في اللهجات العربية الشامية مقارنة مع الإنكليزية وغيرها، وسأقتطف منها بعضًا مما يتناسب وختام هذا البحث (اللغة أم البيئة).

يقول الدكتور زيدان على الجاسم في مقدمة رسالته لنيل درجة الدكتوراه ما يلي: ”إن الموضوع العام لهذا الكتاب هو من أطرف الموضوعات وأمتعها في علم اللغة الحديث، فهو يقع فيما سُمّي بعلم اللغة الاجتماعي الذي يبحث في الصلات والعلائق التي تربط بين اللغة والمجتمع، وبعبارة أوضح يقوم هذا العلم بدراسة الأسباب والعوامل الاجتماعية التي يؤثر فيها المجتمع على شكل اللغة ووظيفتها، ومن أبرز موضوعات هذا العلم هو اختلاف اللهجات في اللغة الواحدة ومسألة تغيرها وتماسها واختلاطها وموتها وفنائها واندثارها أو تشعبها وتفرعها، فلماذا يختلف كلام الناس فيما بينهم؟ لماذا يتحدث الكبار على نحو يختلف عن الصغار؟ ولماذا يختلف حديث النساء عن الرجال؟ ولماذا يتغير كلام الناس في لندن عن كلامهم في واشنطن أو في الشام عن بيروت أو في القاهرة عن بغداد؟ أو لماذا يختلف كلام الأطفال عن المراهقين وهؤلاء عن الراشدين أو البالغين؟ فما هو دور العمر والجنس والطبقة والقبيلة والطائفة والمنطقة والإقليم في اختلاف اللهجات أو اللغات وتغيرها وتحولها؟ فكل هذه قوانين عامة تنطبق على كافة لغات أهل الأرض وألسنتهم من عرب وعجم وأبيض وأسود وأصفر.. الخ، أي سواء كانت اللغة إنكليزية أم عربية أم ملاوية أم يابانية، الخ

ومما لا شك فيه أن هذه اللغات تتفاوت فيما بينها في استجابتها وتأثيرها بهذه العوامل والأسباب، ولكن هذا التفاوت لا ينفي حقيقة الاختلاف والتغيير، فهي ثابتة وواضحة في كل لغة مهما كانت، ويقوم هذا الكتاب بدراسة ظاهرة الاختلاف قي اللغة وتغيّرها والعوامل التي تتحكم فيها، وذلك من خلال دراسة بعض اللهجات العربية الشامية في دمشق والمناطق المحيطة بها ومقارنتها مع أحوال اللغات الإنكليزية ولهجاتها في أميركا وأستراليا واللغات العالمية الأخرى واللهجات العربية أيضًا.

وعلى الرغم من أن لعلم اللغة الاجتماعي اتجاهات ومدارس متعددة لسنا بصدد الحديث عنها هاهنا، فإن المدرسة التي التزمنا بها أصلًا هي نظرية الاختلاف التي جاء بها العالم اللغوي الأميركي ”وليم لابوف” في أوائل الستينيات ولا تزال هذه النظرية أكثر النظريات اللغوية رواجًا ودرسًا وتطويرًا لدى الدارسين والباحثين في مختلف أنحاء العالم..”

هذا جزء من مقدمة طويلة، يبيّن لنا كيف أن اللغة خاضعة بالتأكيد لجملة عوامل، يوجزها سعادة في ثلاثينيات القرن الماضي محدّدًا عواملها وأسبابها بما كانت تسمح به ظروف سجنه وحزبه، بما يلي:

”ولكنّنا كلّنا نعلم أنّ السّوريّ الّذي يهاجر إلى أميركا لا يلبث، إذا أقام، أن تتبدّل صفاته الخاصّة ويكتسب صفات المتّحد الأميركانيّ الخاصّة. فكيف زالت صفاته الأولى الثّابتة الّتي كانت تميّزه عن الأميركان، ومن أين جاءته الصّفات الأميركانيّة الّتي أصبحت تميّزه عن السّوريّين؟ أليس في هذا الواقع برهان مفحم على أنّ الصّفات ليست أساس المتّحد وأنّ أساس المتّحد والصّفات هو الاشتراك في الحياة الواحدة؟ بلى. فحيثما اجتمع جمهور كبير من السّوريّين في أميركا وقلّ اختلاطهم مع الأميركان وظلّوا محافظين على اشتراكهم في حياتهم، في متّحدهم، فهم يكتسبون كثيرًا من طابع البيئة ولكنّهم يظلّون متّحدًا متميّزًا عن الأميركان بنسبة إقلالهم من الاشتراك في الحياة الأميركانيّة وعكفهم على حياتهم السّوريّة. وكلّما قلّ تعاشرهم فيما بينهم وازداد اشتراكهم في الحياة الأميركانيّة ازداد تخلّقهم بأخلاق الأميركان واكتسابهم صفاتهم. وإذا كانت أميركا بعيدة على القارئ في سورية فلنأخذ مصر مثلًا. ألسنا نرى اشتراك السّوريّين المقيمين في مصر في الحياة المصريّة يكسبهم، تدريجًا، صفات مصريّة فيعود واحدهم إلى سورية يخاطبك بلهجة [ازيّك] بدلًا من [كيف حالك] و[خبر إيه؟] بدلًا من [شو صار] الخ. أو ليس عدم حصول هذه الصّفات لهم إلاّ بعد إقامتهم في مصر دليل على أنّ صفات المتّحد قائمة على أساس الاشتراك في الحياة، لا أنّ الاشتراك في الحياة قائم على أساس الصّفات؟..”.

في ختام نقده /لأفكار سعادة العلمية والسياسية/ وتحت عنوان “غرور الزعامة” يحاول الحصري النيل من شخص سعادة، فيقول: ”من أهم ما يلفت النظر في كتابات أنطون سعادة وأعماله، هو إيمانه العميق بمبادئ حزبه، ونشاطه الكبير في سبيل نشر دعوته وتنظيم حزبه، واعتداده الشديد بنفسه، اعتدادًا يصل به أحيانًا إلى درجة الزهو والخيلاء، إنه يعتبر نفسه صاحب رسالة، وهاديًا للناس، ويزعم أن ظهور حزبه سيغير وجه التاريخ، بل بدأ يغير وجه الشرق.. من المعلوم أن الاعتداد بالنفس، يغذّي العزم، ويحمل على النشاط غير أنه إذا وصل إلى هذا الحدّ من الشدة، تحول إلى الزهو والخيلاء، وأضاع على صاحبه سلامة التفكير وإصابة العمل، في كثير من الأحيان، وأظن أن هذا ما حصل فعلًا، في حياة أنطون سعادة”.

يسهو الحصري عما قدم له في نقده المشار إليه أعلاه، حين قال: ”لم يظهر في العالم العربي حتى الآن، حزب يضاهي الحزب السوري القومي، في الاهتمام في الدعاية المنظمة التي تخاطب العقل والعاطفة معًا، وفي التنظيم الحزبي الذي يعمل بلا انقطاع في السر والعلن..”.

ويسهو عن سؤال يأتي كنتيجة لهذا التقديم، سؤالٌ يقول: ولما هذا الحزب على النحو الذي يصفه به؟ لا أن يطرح سؤالًا تنبّؤيًّا: ”عن حظّه (الحزب) في النجاح والصلاح؟“.

أما عن حظ الحزب في النجاح فيما دعا إليه، فقضيةٌ يأتي تاريخ الحزب ليفكّ بعضًا من إشكالياتها التي تجاهلها الحصري في ردها لـ(غرور الزعامة)!! فكما لم يظهر في العالم العربي حزب يضاهي الحزب السوري القومي الاجتماعي، كذلك لم يتعرض حزب لمثل ما تعرض له هذا الحزب من تآمرٍ عالمي على قضيته؛ رعته بكل جدية الصهيونية العالمية وعملت على تمزيقه وتشتيته والقضاء عليه، تعاونها في مسعاها هذا قوى عالمية لا يستهان بقوتها المادية والمعنوية كأميركا وبريطانيا وفرنسا بأدوات نصّبتها حكامًا على مصر والسعودية ولبنان، قوى بذلت كل ما فيها للحيلولة دون الحزب وقضيته، وتعاونت مع دعاة “القومية العربية” على إجهاض أية محاولة له للنهوض بأمته، فاغتالت بقوانينها زعيمه بعد أن نبّه لخطورة الحركة الصهيونية والهجمة اليهودية على فلسطين ودعا لخطة نظامية تقف في وجه خطة مدعومة عالميًّا تستهدف أمته بكاملها، ولم يميز بين الصهيوني واليهودي، فكل يهودي هو صهيوني بالضرورة لأنه يؤمن بأن فلسطين “أرض ميعاده”، هذا إذا لم يكن الوحيد من بين زعماء (الثورة العربية الكبرى) الذين لم يعنِ لهم (وعد بلفور) شيئَا مهما بقدر ما عنى لسعادة، فكتب رسالة تحذيرية للويد جورج رئيس وزراء بريطانيا في حينه جاء في ختامها قوله: ”فإن أمورًا عظيمة -أمورًا عظيمة جدًا- ستترتب على هذه المحاولة الأثيمة التي لم يعرف التاريخ محاولة أخرى تضاهيها في الإثم. وإني أطمئنكم بأن نتائجها لا تقتصر على فلسطين بل ستتناول العالم أجمع، وإن عظتها البالغة لن تكون لبني إسرائيل فقط بل لجميع بني الإنسان!. ومن يعش يرَ.

دمشق في 18 آذار 1931“.

وكان أول من نبّه لسلاح البترول في مقالته التي حتّمت ضرورة اغتياله وهي المقالة التي جاءت تحت عنوان /البترول سلاح أنترنسيوني لم يستخدم بعد/، في الوقت الذي لم يكن قد تنبّه إليه أيٌّ من دعاة “القومية العربية” لهكذا قضية، واللاهثون وراء استثمارات الغرب الأميركي لذهبهم الأسود، وأتبعت اغتيال زعيمه باغتيال حزبه بأكبر مؤامرة عرفها التاريخ السياسي بإلصاق تهمة اغتيال المالكي به، فاستباحت أعضاءه قتلًا واغتيالًا وتعذيبًا وتشريدًا وتجويعًا وإفقارًا وتهميشًا، حتى إذا ما غادروا الحزب رفعت من شأنهم الاجتماعي دون السياسي، حزب لو تعرضت لما تعرض له أكبر الدول، لكانت قد انهارت واندثرت وعفا عليها الزمن، حزب عصيٌّ على الموت، ولا يرضى له قبرًا تحت الشمس، لذا كان لا بدَّ لهذه القوى التآمرية أن تزرع في جسده الكثير من عملائها الذين عملوا على تفتيته من الداخل، بدءًا من عام 1957 وانتهاء بعام 1985..

وكما يسهو الحصري عن تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، كذلك يسهو عن معنى الزعامة، حيث ينعت سعادة (بالغرور)، فسعادة لم يغتر بنفسه بقدر ما اغترَّ بأمته وبتاريخها الثقافي السياسي القومي، الذي قدّم للعالم أجمع ركائز علومه على اختلافها، على الرغم أنه من حقِّ سعادة في ذلك، فهو الذي أنشأ حزبه مكتمل الأركان عقيدة ودستورًا ونظامًا، منذ اللحظة الأولى لخروجه للعلن، وهو الذي أقام حزبه على مبدأ التعاقد، مبدأ لم يشهد التاريخ لأي حركة سياسية أن قامت عليه، في التاريخ السياسي العالمي، تعاقد بين صاحب الدعوة والمقبلين على دعوته، تعاقد شخصي، بين العضو وزعيمه، تعاقد لا تلغيه مؤسسة حزبية كانت أم غير حزبية، تعاقد لا يحلّه منه سوى الشارع صاحب الدعوة.

وعندما نقول إن من حق سعادة أن يحتل المكانة التي له في صدور معتنقي عقيدته، فلأنه كان الضامن والكافل لحقيقة عقيدته، وهذا ما يغفل عنه الحصري في معنى الزعامة، فالزعيم هو الضامن والكفيل والرئيس في مختلف معاجم اللغة العربية من حيث المعنى والتعريف، الذي كان أولى بالحصري معرفة معناها قبل أن يحاول النيل من سعادة، خاصة وأن الحصري يعتبر اللغة من أهم عوامل قيام الأمة، كان عليه أن يفقه معنى الزعامة قبل أن يتجنى على سعادة بـ(غرور الزعامة).

ليس ما تقدم وحسب، فمن حق سعادة أن يعتز بنفسه كعالم اجتماع وضع لهذا العلم فلسفته وقواعده التي لم يجاريه بها أيٌّ من علماء الاجتماع والسياسة، فهو الذي أوصل الفلسفة إلى ما تبتغيه، وضع مقولة يمكنها تفسير كل ما في الوجود المادي والإنساني، بعد أن حدد أحد أهم قوانينها (الناموس كاصطلاح لمجرى من مجاري الحياة أو الطبيعة..) والذي بنى عليه مقولته التي لم يسبقه إليها أحد، مقولة (إن المادة تعيّن الشكل)، والتي يمكن من خلالها فهم مختلف العلاقات بين الوجود والفكر الإنساني، وفي تطبيق هذه المقولة على الواقع الإنساني، كانت البيئة هي المادة التي عيّنت شكل المجتمع الإنساني بكل مواصفاته وخصائصه، والتي، بدورها قادته لوضع مقولته في الأمة على نحو “دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية” والتي اشتقَّ منها مبادئ حزبه الأساسية والإصلاحية، وهو الذي صاغ لعلم السياسة أسطورته السياسية (الإثم الكنعاني) وفكرته (القومية) ونظريته (القومية الاجتماعية) وفلسفته (الإنسان- المجتمع).

————————————————————

الملاحق

ملحق: (1)

الحصري وفق ما جاء في الموسوعة الحرة (غوغل).

 ولِد  ساطع الحُصري باليمن عام 1879، عندما كان والده يعمل رئيسًا لمحكمة الاستئناف في صنعاء. تنقل مع أبيه في سنوات الطفولة، بين صنعاء وطرابلس الغرب وقونيا وأنقرة، حيث دَرس في المدارس العثمانية الحكومية والتحق بعدها بالمعهد الملكي في اسطنبول، ليتخرج منه عام 1900.

امتهن التدريس وخدم في مدارس الدولة العثمانية في اليونان حتى عام 1906، لينتقل بعدها إلى السلك الحكومي ويتسلّم مناصب إدارية رفيعة في كل من اليونان وبلغاريا. عاد مجددًا إلى التدريس وانضم إلى الهيئة التعليمية في المعهد الملكي الذي تخرج منه في اسطنبول. قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، أسس ساطع الحُصري مدرسة خاصة في عاصمة الدولة العثمانية، سمّاها “المدرسة الحديثة” وأطلق مجلّة عِلمية فصلية بعنوان “أنوار العلوم”. وخلال الحرب العظمى، كان مديرًا لدار المعلمين في اسطنبول، متحالفًا مع جمعية الاتحاد والترقي الحاكمة التي أطاحت بالسلطان عبد الحميد الثاني عام 1909. كانت نزعته تركية بحتة، وقد نشر عدة مقالات في الدعوة إلى التتريك في مجلة “تورك أوجاني” بتوقيع شبه مستعار: م ساطع، أو مصطفى ساطع.

حصل فراق عقائدي بينه وبين الاتحاديين بعد إعدام جمال باشا لمجموعة من أعيان المدن السورية يوم 6 أيار 1916، بتهمة الخيانة العظمى والعمالة لصالح الحكومة الفرنسية. ومع ذلك لم ينفصل عن الدولة العثمانية، ولكنه تعاطف كثيرًا مع الثورة العربية الكبرى التي انطلقت من الصحراء العربية مطلع صيف عام 1916، بقيادة الشريف حسين بن علي وبدعم عسكري من الحكومة البريطانية. في تشرين الأول 1918، شدّ ساطع الحُصري الرحال متجهًا إلى دمشق للمشاركة في أول حكومة عربية أقيمت فيها بعد خروج الجيش العثماني، تحت راية الشريف حسين وبقيادة نجله الأمير فيصل بن الحسين. بايع الحُصري الأمير فيصل حاكمًا عربيًا على البلاد، وتوطدت صداقة مميزة بينهما، استمرت حتى وفاة فيصل عام 1933.

نظرًا لباعه الطويل في التدريس، عيّنه الأمير فيصل مديرًا للمعارف في سورية، مُكلّفًا بتعريب المناهج التربوية كافة في المراحل الابتدائية والثانوية والجامعية. في عهده، أعيد افتتاح معهدي الطب والحقوق في دمشق، بعد إغلاق قسري دام أشهر بسبب ظروف الحرب العالمية، وأشرف الحُصري على إعادة هيكلة المدارس السورية، وعلى تعيين نخبة من المُدرسين الكبار. كما أدخل أول سيدة على القطاع الحكومي في سورية، وهي الأديبة لبيبة هاشم، التي عُيّنت وبأمر مباشر منه مفتشة في مديرية المعارف. وفي 9 آذار 1920، عُيّن ساطع الحُصري أول وزير للمعارف في حكومة الفريق رضا باشا الركابي، وكان ذلك بعد يوم واحد فقط من تتويج الأمير فيصل ملكًا على البلاد. وبعد استقالة حكومة الركابي في 3 أيار 1920، أعيد تكليف الحُصري بحقيبة المعارف في حكومة الرئيس هاشم الأتاسي. كان صديقًا للأتاسي وتشارك معه في إيجار بيت مُشترك في منطقة الروضة بدمشق، ضبطًا للنفقات.

في 14 تموز 1920، وصل إنذار فرنسي إلى القصر الملكي بدمشق، حمل توقيع الجنرال هنري غورو، مندوب فرنسا في سورية ولبنان. جاء هذا الإنذار ردًّا على قرار تتويج الملك فيصل دون التشاور مع حكومة فرنسا أو أخذ موافقتها، بما اعتُبر مخالفًا لاتفاقية سايكس- بيكو الموقعة في زمن الحرب بين حكومتي باريس ولندن. طالبت فرنسا بحل الجيش السوري وبتسليم سكة رياق حلب ومصادرة السلاح من الأهالي، تمهيدًا لتطبيق نظام الانتداب في سورية. أرسل الملك فيصل وزير المعارف إلى بلدة عاليه اللبنانية للتفاوض مع الجنرال الفرنسي، آملًا أن ينجح في تأجيل الانتداب أو بتعديل بعض شروطه. ولكن ساطع الحُصري عاد إلى دمشق خالي الوفاض، وبدأت التحضيرات لمواجهة عسكرية مع الجيش الفرنسي، حصلت في خان ميسلون على طريق دمشق- بيروت يوم 24 تموز 1920 وأدت إلى هزيمة الجيش السوري ومقتل وزير الدفاع يوسف العظمة وخلع الملك فيصل الأول عن عرش سورية.

قبل سقوط دمشق بيد الفرنسيين، توجه فيصل إلى قرية الكسوة وبعدها إلى مدينة حيفا الفلسطينية ومن ثم إلى أوروبا عبر البحر، قاصدًا سويسرا للمثول أمام عصبة الأمم للاحتجاج رسميًا على معاملة فرنسا له. لم يخرج مع فيصل من دمشق إلا قلة قليلة من أعوانه، مثل مستشاره السّياسي نوري السعيد ومرافقه العسكري تحسين قدري وأمين سرّه إحسان الجابري وشقيقه الأمير زيد بن الحسين، إضافة طبعًا للوزير ساطع الحُصري. في كتابه عن تلك المرحلة “يوم ميسلون”، يقول الحُصري: “كثيرًا ما كان الملك فيصل يستعرض حوادث الماضي بنظرة انتقادية ويقلّب وجوه الخطأ والصواب فيها ويظهر ندمه على بعض الوقائع والمواقف ويُصرّح بامتعاضه عن أعمال البعض وكان يوجه اللوم إليَّ مباشرة من حين إلى حين. ولكنه كان يفكر أكثر من ذلك كله، في المستقبل ويتكلم عن الخطط التي يجب السير عليها لتلافي ما فات”. بعد وصولهم إيطاليا، أرسل فيصل ساطع الحُصري إلى تركيا، نظرًا لإتقانه اللغة التركية وعلاقاته المتينة مع زعمائها، في محاولة للحصول على دعم عسكري من كمال أتاتورك لمواجهة فرنسا في سورية.

نجحت مساعي الملك فيصل في أوروبا وتم تعويضه عن عرش الشام بعرش العراق، الذي توّج ملكًا عليه يوم 23 آب 1923. ظلّ ساطع الحُصري إلى جانبه وكُلف بعدة مهام تربوية، منها وضع المنهاج الحكومي لكل مدارس العراق وإدارة مديرية الآثار وتأسيس كلية الحقوق في جامعة بغداد، التي عمل الحُصري عميدًا لها طوال عشر سنوات. ومن مآثر ساطع الحُصري في بغداد أنه رفض مقترح الملك فيصل بإيجاد مدارس خاصة لكل طائفة في العراق، مصرًّا على منهاج قومي واحد، عابر لكل الأديان والطوائف والعرقيات. كما تولى ساطع الحُصري إدارة دار المعلمين العالية في بغداد، وكان ليبراليًّا تقدميًّا حاول فصل درس الدين عن دروس اللغة العربية التي كانت في السابق مشتركة في منهج واحد. وعمل على استحداث مناهج عِلمية معاصرة في اللغة العربية، وكان أشهرها كتابه القراءة الخلدونية للصف الأول الابتدائي، وهو كتاب خاص بتعلم اللغة العربية، لا إشاره فيه إلى النصوص الدينية التي أفرد لها الحُصري كتابًا خاصًّا سُمّي بالتربية الدينية. وفي سنة 1923 احتج المعلمون في بغداد على سلوك الحُصري وقدموا مذكرة للملك فيصل الأول، ثم نشروا كراسًا بعنوان “سر تأخر المعارف”، فيه اتهامات مباشرة للمربي السوري، ولكن الملك كان يلزم وزارة المعارف بأوامر ساطع الحُصري ولم يهتم بآرائهم. ثم اشتدت الخصومة بين الحُصري والكاتب والشاعر العراقي فهمي المدرس عندما وقف الحُصري ضد تأسيس جامعة دينية في العراق، مشدّدًا على ضرورة فصل الدين عن التعليم العالي. عارضه في ذلك فهمي المدرس وكتب عدة مقالات حول مسألة التعليم العالي، فيها انتقاد لاذع لساطع الحُصري. ومع ذلك، بقي الحُصري مسؤولًا عن التعليم في العراق وعلى تطوير مناهج المدارس، وظل يدعو إلى فكرة القومية العربية إلى أن قامت ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، حيث تم إبعاده عن العراق من بعدها، بأمر من السلطات البريطانية الحاكمة يومها. أحب ساطع الحُصري الملك فيصل كثيرًا وخدمه بتفانٍ وإخلاص، كما خدم ابنه الملك غازي وحفيده الملك فيصل الثاني، وعند وفاة الملك المؤسس في إحدى مشافي سويسرا في أيلول 1933، أطلق عليه الحُصري لقب “فيصل العظيم”.

في عام 1943، جرت انتخابات نيابية في سورية، أوصلت رجالات الكتلة الوطنية إلى الحكم، وجميعهم كانوا أصدقاء ساطع الحُصري منذ أن كان وزيرًا في عهد الملك فيصل بدمشق. طَلب منه رئيس الحكومة سعد الله الجابري العودة إلى سورية للعمل على إعادة هيكلة المناهج التربوية، وذلك بصفة مستشار لوزارة المعارف. قبل ساطع الحُصري العرض، وعاد إلى موطنه واستقبل استقبالًا حافلًا في القصر الجمهوري من قبل الرئيس شكري القوتلي، الذي قلّده وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة. اقترح الحُصري على حكام سورية أن يتم إلغاء مادة اللغة الفرنسية من الصفين الرابع والخامس في كل المدارس الحكومية والخاصة، بهدف نزع الهيمنة الفرنسية عن نظام التعليم، وأن يتم تدريسها من الصف السادس فقط. كما طالب بإلغاء نظام البكالوريا الفرنسية، بشقيها الأدبي والعلمي، واستبدالها بالنظام التربوي البريطاني المتّبع بالعراق. عارض عدد من الوزراء مقترح ساطع الحُصري، وكان على رأسهم خالد العظم، الذي اتهم الحُصري بأنه يريد الانتقام من فرنسا التي أقصته عن سورية قبل عقدين من الزمن. جمعت مقترحاته في كتاب نشرته وزارة المعارف السورية عام 1944 حمل عنوان ”تقارير عن حالة المعارف في سورية واقتراحات إصلاحها”.

من سورية توجّه ساطع الحُصري إلى مصر وعمل مُدرّسًا في المعهد العالي للمعلمين، ثم عميدًا لمعهد الدراسات العربية العليا، بتكليف خاص من الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يحترمه كثيرًا. وفي مرحلة الخمسينيات كان الحُصري مستشارًا ثقافيًا لجامعة الدول العربية التي كان يُصر على تسميتها “جامعة للدول العربية” لا “جامعة عربية”، باعتبار أن الأخيرة كانت لا تزال بمثابة “المثل الأعلى الذي تصبو إليه النفوس المدركةُ معنى العروبة”.

عمل الحُصري جاهدًا في الدفاع عن القومية العربية وفي مواجهة دعاة الفكر الإقليمي في مصر، حيث أرجع تجاهل مصر الاستجابة لقضية القومية العربية قبل ثورة الضباط الأحرار إلى عاملين، الأول هو حالة العزلة التي أحدثها الاحتلال البريطاني، والآخر هو ارتباط بعض النخب المصرية بروابط وولاءات تتنافى مع الروح القومية (وهذه إشارة إلى الأصول الألبانية لسلالة محمد علي باشا وآخر ملوكها، الملك فاروق الأول).

وقد اهتم الحُصري بالرد على محاولات بعض المفكرين المصريين صياغة هوية ثقافية مصرية خاصة تستند إلى التراث الفرعوني، حيث اعترض على كتاب الدكتور طه حسين “مستقبل الثقافي في مصر” الذي جاء فيه أن ثقافة مصر كانت فرعونية الجوهر. استنكر الحُصري فكرة فرعونية مصر بشدة، معللًا ذلك بأنه إذا كانت المشاعر الفرعونية تتأصل في وجدان المصريين، فإنه يجب معه أن تستعيد لغة الفراعنة وحضارتهم، وأن مصر لا يمكن أن تنبذ العروبة الحية تحت دعوى الانتماء إلى حضارة ميتة. أما فيما يتعلق بدعوى الانتماء لإنكلترا فقد دحض تلك الدعوى بتأكيده على أن ما يشد ويربط مصر بدول عربية أقوى مما يربطها بدول البحر الأبيض المتوسط. كتب الحُصري سلسلة من المقالات جاء فيها أن اللغة الفرعونية هي ذاتها السريانية وهي من اللغات السامية الشقيقة والقريبة جدًّا من اللغة العربية، وأن الأقباط هم أبناء طائفة دينية وليسوا أبناء قومية منفصلة بذاتها. واستند في كتاباته على مكونات اللغة القبطية التي تتكون من 33 حرفًا، 27 حرفًا منها يوناني مقتبس من اللغة الإغريقية القديمة بعد هيمنة الإمبراطورية الرومانية على مصر في عهد الملكة كليوباترا.

واجه ساطع الحُصري فكر الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه أنطون سعادة الذي كان ينفي وجود رابط قومي بين سورية وغيرها من الأقطار العربية. رفض الحُصري الرباط الجغرافي فقط كأساس للقومية، كما رفض أيضًا التسليم بوجود سمات ومميزات للسوريين، سكان الهلال الخصيب، تختلف عن تلك التي تتسم بها الشعوب الأخرى الناطقة بالعربية. بل إنه كان ينفي تمامًا وجود ما يعرف بالإقليم السوري، أو سورية الكبرى، بمعناه الإداري الحديث.

وكان الحُصْري يقدِّم وحدة اللغة على سائر عوامل الرابطة القومية، ويرى أنَّ الثقافة القائمة على اللغة تؤكد تشابه التكوين النفسي ويعتبره أساس الأمة. فيقول لطه حسين: “اضمنوا لي وحدة الثقافة وأنا أضمن لكم كلَّ ما بقي من ضروب الوحدة”، وفرَّق بين الثقافة التي اعتبرها قومية وبين الحضارة التي اعتبرها أمميَّة. وتكلَّم عمَّا يدعى ويسمى “العبودية الثقافية” و”السيطرة الثقافية” التي تمارسها بلدان الغرب وكان يراها تشكل خطرًا على الثقافة القومية والوجود القومي العربي. وحذَّر من مخلَّفات السيطرة الاستعمارية الغربية التي تروِّج للتيارات والنزعات الإقليمية، وفي المقابل كان يؤكد على شعبية الثقافة ويعتبرها الأساس في تكوين نفوس الشعب ولا يقصد بذلك التقليد بل البعث والنهوض. وهذا ما دعاه إلى رسم سياسة لغوية صحيحة في معركة النضال من أجل الوحدة العربية، فأبرز أهمية إصلاح اللغة والتعمّق في معرفة الفصحى في مدارس البلدان العربية.

ودافع عن قومية الأدب أمام المنادين بإقليمية الأدب، فخاطب عميد كلية دار العلوم المصرية أحمد ضيف قائلًا: “إنَّ الأدب العربي لم يكن أدبًا واحدًا. وإنما هو مجموعة آداب، نشأت في بيئات مختلفة”. وقد استشهد بالمتنبي الذي وُلد في الكوفة ونشأ في البادية وعاش في بغداد وحلب وسافر إلى القاهرة، ومع ذلك حافظ على أصالته وصفته الموحّدة. فيرى الحُصري أن “التنوّع والأصالة شيء وإقليمية الأدب شيء آخر، فلا يوجد أدب مصري وأدب عراقي أو شامي أو تونسيٌّ… وإنما يوجد أدباء مصريون، عراقيون، شاميون، وكلُّهم يسعون لتطوير الأدب وإبراز أصالته”.

أحدثَ ساطع الحُصري إشكالًا كبيرًا عندما قال إن القومية العربية ولدت مع الثورة العربية الكبرى عام 1916، نافيًا أي دور للمفكرين المسيحيين في بثّ الفكر القومي بين شعوب المنطقة في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر.

وفي سنة 1965، عاد ساطع الحُصري إلى العراق وتوفي في بغداد يوم 4 شوال 1388/ 23 كانون الأول 1968. صلى على جنازته الحاج معتوق الأعظمي في جامع أبي حنيفة، ودفن في مقبرة الخيزران في الأعظمية، قرب مرقد الشيخ رضا الواعظ.

“زينون”

هذا الفيلسوف الذي قال يومًا: ”إن الرجل الحكيم يجب أن يتحرر من الانفعال، ولايتأثر بالفرح أو الترح، وأن يخضع من غير تذمر لحكم الضرورة القاهرة”.. وقال “إن السعادة تكمن في ملائمة الإرادة مع العقل الإلهي الذي يحكم الكون”، وتدليلًا على مكانة زينون الرواقي ومعلم الأخلاق الفينيقي السامية في مجال الفكر أن الملك المقدوني أنتيغون دعاه في رسالة وجهها إليه للإقامة عنده ليكون تلميذًا له، فيصبح كل شعبه من تلاميذه نظرًا لتفوقه العقلي والعلمي، فكان جواب زينون له، وكان قد بلغ آنذاك الرابعة والثمانين من عمره: “إني سعيد بكونك تريد تعلّم ما هو حقيقي ومفيد، وليس فقط فن قيادة الشعب والعبث بالأخلاق الطيبة، وإن أي إنسان تجذبه الفلسفة ويحتقر الرغبات الدنيوية إنما لايكون وحسب ذا نبل طبيعي، بل ذا نبل خلقي عظيم، ولو لم أكن كهلًا ويعيقني هرم جسدي لكنت جئت إليك، ولكنني سأرسل إليك بعض تلامذتي الذين يماثلونني بروحهم وهم أكثر فائدة مني”، في هذا العمل يقدّم زينون صورة مجتمع مثالي يكون فيه الإنسان الحكيم هو المواطن بغض النظر عن وطنه، هذا المجتمع تحكمه قوانين مشتركة تتماشى مع قانون الطبيعة. مجتمع شرطه هو التوافق مع الطبيعة، يمتثل فيه المواطنون لرغباتهم الطبيعية. وما جمع من عمل زينون هو قليل وغير مكتمل، ولكن ما عُرف عن هذا العمل هو ما يلي:

انتقد زينون نظام التعليم في عصره ووصفه بالعقم، لأنه قام على ثلاث فقط: الكتابة، الموسيقى، والرياضة، ثم ينتقل إلى مفهوم الصداقة ويرى أن الأصدقاء فقط هم من يملكون الحكمة أما غيرهم فهم في حالة عداء وصراع، سواء بين الأخوة أو بين الأهل والأبناء، ولا يمكنهم التحوّل إلى أصدقاء إلا في حال أصبحوا حكماء. ويرى أن جمهوريته لابد أن تقوم على الصداقة، والحكمة في وجهة نظره ليس لها شروط، بل يمكن لكل إنسان أن يحظى بها. ويرفض زينون فكرة العبودية ويرى أن العبودية هي ما بين السيد والعبد، ويرفض حتى تلك العبودية القائمة على عقود العمل، وتلك العبودية التي تعني تملّكَ إنسان لآخر. ينتقل زينون لاحقًا إلى موضوع النساء، ويؤكد على ضرورة زواج الحكيم والإنجاب ولا يضع شروطًا للزواج، حيث إن جميع مواطني الجمهورية هم الحكماء والممتازون، ويرى أن الزواج والإنجاب ضرورة لحفظ الجنس البشري. كما رفض زينون في جمهوريته بناء المعابد، ما يعتبر إساءة للديانة اليونانية الرسمية، ورأى أن العبادة هي حاجة العابد وليست حاجة الآلهة، حيث يحتاج العابد إلى تذكير نفسه بوجود الآلهة، ويرى أن العبادات لا تؤثر بالآلهة ولكنها تلفت نظر العابد إلى وجود العنصر الإلهي داخله. ورفض زينون أيضًا تعبّد الأوثان، فالآلهة ليست على صورة بشرية، وإن من يفعل هذا هو جهل بالحقيقة الإلهية، لذا فإنه يدعو إلى إزالة الأوثان من الجمهورية، كما دعا إلى إلغاء دور القضاء، حيث قال إن المواطنين نفسهم من يحققون العدالة دون الحاجة للقوانين، وهذه العدالة تعني تطبيق القانون الطبيعي على أساس الفهم الصحيح له، حيث لا يوجد مذنب يستحق العقاب، كما لا حاجة للعملات المالية فجميع الأشياء ملك للجميع ويكون التبادل للأشياء مباشرة بين المواطنين، فهو يرى أن المال سبب كل الشرور، ويرى زينون أيضًا أن النساء لا يختلفن بشيء عن الرجال، وقال بتوحيد الزيّ بين الرجال والنساء، لأن الزيّ كان تعبيرًا عن التمايز بين الغني والفقير، أما في جمهوريته فلابدّ أن يكون الجميع سواء، يعيشون وفقًا للطبيعة..”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منه ابنتان جميلتان هما “جوليا سوميا” التي تزوجت ابن خالتها “كارا كالا”. و”جوليا ماميا” التي تزوجت ابن “كارا كالا” الإمبراطور “إيلاغبال”. ولا شك في أن الإمبراطور “كركالا” والذي لُقّب بهذا اللقب لأنه كان يرتدي اللباس السوري المعروف بـ”كاركال” كان له التأثير الفعلي في تغيير مسار التاريخ ككلّ عندما أقدم على سنّ قانون معدودية الإمبراطورية الرومانية، فأدخل مختلف الشعوب في عداد مواطني الإمبراطورية الرومانية، والذي يمكن اعتباره القانون الذي قدّم مفهوم المواطنة المعمول به اليوم، متجاوزًا في ذلك التاريخ مفهوم الأقلية والأكثرية من أي نوع كانت، عرقية، دينية، طبقية،.. كان الإمبراطور، الذي خلف كركلا بعد مقتله هو “أفتينوس” قد ورث صفة الكاهن الأعظم في معبد حمص، وكان الحجر الأسود الهرمي الذي يرمز إلى الإله “إيلاغبال” الشكل المقدس في العبادة السورية، فنقل الحجر الأسود إلى روما، وأنشأ له معبدًا خاصًا وميّزه على سائر الأشكال المقدسة وبنى قربه مذبحًا، وكان الإمبراطور يمارس الطقوس والشعائر في المعبد على الطريقة السورية، ويتبعه في ذلك جميع رجال الدولة.. والذي قتل هو أيضًا، فخلفه الإمبراطور “ألكسيانوس” ابن “ماميا” ابنتها الثانية، الذي أصبح إمبراطورًا بعد مقتل “إيلاغبال”، واعتلى العرش تحت اسم “إسكندر سيفيروس”. لقد استمر “إسكندر سيفيروس” على علاقته بسورية كسلفه “إيلاغبال”، وكلاهما كانا يشغلان منصب الكاهن الأعظم في حمص، واستمر ذلك حتى أثناء اعتلائهما العرش، وكان إسكندر قد أيّد الديمقراطية وجعل الأمر شورى معتمدًا على مجلس المستشارين. ولعل اعتماده على القانون والعدل وتركيزه على ممارسة الديمقراطية لم يكن يرضي بعض الفئات التي كانت تعيش على المنح والميزات. فقتلوه في خيمته عام 235م مع أمه “ماميا” وكان حكمه قد امتد ثلاثة عشر عامًا..

وحتى لا يفوتنا التذكير بتأثير البيئة الاجتماعية السورية، علينا ألا ننسى الإمبراطور فيليب الملقب بالعربي، والمولود في شهبا- حوران.

هذا التأثير للعقلية الاجتماعية السورية دفعت بالشاعر الروماني (جوفينال) للقول: “إني أشتم رائحة العاصي من مياه نهر التيبر”، وهكذا فالثقافة بالمعنى الذي يقول به سعادة هي هذا الدور الذي كان للعقل السوري في محتل فرض لغته على البيئة الاجتماعية السورية، فحملت عبر لغته إليه فكرها..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

– كثيرون هم شعراء هذا العصر، لكن أبرزهم كان “الطرماح بن حكيم” وهو من فحول الشعر العربي، وُلد في الشام وانتقل إلى الكوفة وعاش بها حتى وفاته، ولا يفوتنا في هذا المقال التذكير بالأخطل الذي ولد في الحيرة.. فإذا أضفنا لما تقدم، أن مختلف شعراء هذا العصر لم تظهر مواهبهم الشعرية ولم يحظوا باعترافٍ بشاعريتهم إلا في دمشق والكوفة والبصرة..

في العصر العباسي، وكانت اللغة العربية قد أضحت لغة محكية، فظهر إلى جانب بغداد، حلب وبخارى وسمرقند مراكز أدبية برَزَ فيها عدد كبير من الشعراء، واشتهروا على أنهم أبرز شعراء العصر العباسي، تمكنوا من إدخال تغييرات عديدة على الشعر، حيث ضعفت مواضيع مقابل قوّة أخرى، وبرزت أغراض شعرية لم تكن موجودة من قبل، صاحبها تغيّر في المعاني والألفاظ والأخيلة، كما ضعف الشعر السياسيّ الحماسيّ، والغزل العذري على يد أبرز شعراء العصر العباسي الأول والثاني، وقوي شعر المدح، وشعر الحكمة، كما بلغ الشعر الفلسفيّ والفكريّ ذروته على يد شاعر من أبرز شعراء العصر العباسي، وهو أبو العلاء المعري، حتى اشتهرت شعرية الفلسفة عند المعري بين الشعراء.. كما شاع المجون وظهر وصف الخمر عند عدد من أبرز شعراء العصر العباسي، ومنهم أبو نواس، وفي مقابله ظهر شعر الزهد والتأمل والإيمان المتمثل في شعر أبي العتاهية، وأيًّا كان من الشعر، ازدهر الشعر في هذا العصر، ودأب شعراؤه على العربية ليتفننوا بها في شعرهم، بأسلوب رفيع يجمع بين الجزالة والرصانة، والرقة والعذوبة. كما ظهر في شعرهم تأثرهم بالثقافات الأخرى، من خلال الأغراض الشعرية التي نظموا فيها، وموضوعاتهم الشعرية.. ومن أبرز شعراء العصر العباسي الأول: بشار بن برد، وأبو نواس، وأبو العتاهية، وأبو تمام، ومسلم بن الوليد.. وجميع هؤلاء سوريو الولادة والمنشأ والثقافة..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان سعادة أول من تنبّه لحقيقة أن اليهود لم يعرفوا مصر أصلًا، فلا هم دخلوها ولا هم خرجوا منها وأن مختلف قصصهم في هذه المسألة مجرد تخيلات لتبرير بعض الأحداث التي ترسخت في تاريخهم، لقد وجد سعادة في هذا الموضوع ما ينفي دخولهم وخروجهم من مصر، يقول: ”لا تشير التوراة إلى شيء واضح عن النظام الذي كان يعمل به اليهود قبل هبوط الوحي على موسى في طور سيناء، وهبوط الوحي والوصايا العشر يدل على أن اليهود لم يكونوا يعرفون أو يعملون بهذه الأوّليات كقاعدة عامة في حياتهم، وهنا يبدأ الشك في أن اليهود كانوا أو عرفوا مصر قبل دخولهم أطراف القسم الجنوبي من سورية، ويأخذ هذا الشك يتأكد في عدم وجود ذكر أو دليل لمأساة البحر الأحمر التي تشير إليها التوراة ويؤيدها القرآن، فلا يوجد فرعون واحد هلك في البحر في تتبّعه شعبًا غريبًا هاربًا من مصر، والمرة الوحيدة التي تتبع فيها المصريون قومًا غرباء كانت حين انتفض المصريون على دولة الهكسوس السورية التي اجتاحت مصر وأخضعت المصريين، إلى أن ثار عليها هؤلاء وتغلبوا عليها، فرجع الهكسوس إلى سورية وتبعهم المصريون وحاربوهم في وادي مجدو وتبعوهم إلى الشمال، وقد حاول بعض مؤرخي العبرانيين أن يوجدوا صلة بين تاريخهم وتاريخ الهكسوس، ولكن الأدلة التاريخية جاءت ضد هذه المحاولة التي لم تكن الأولى من نوعها في انتحال العبرانيين تاريخ الأقوام المجاورة.

والأرجح في هذا الصدد، هو ما ذهب إليه المستشرق المحقق الكبير غيتاني في كتابه (studi di storiaorientale) أو (استديوهات شرقية)، الذي يجزم بأن اليهود أو العبرانيين لم يكونوا قط في مصر، مستندًا إلى تحقيقات تاريخية جيولوجية وجغرافية، فهو يثبت أن العبرانيين لم يكونوا سوى قبائل بدوية موقعها شمال شرق سورية في بقعة كانت تدعى قديمًا (مصرو) وأن اليهود تعمّدوا الخلط بين هذه البقعة ومصر المعروفة اليوم، ليوسّعوا تاريخهم وليتمكنوا من انتحال حكاية يوسف التي نقلوها مما بين النهرين وجعلوا حوادثها تجري بين سورية ومصر، ويؤيّد هذه النظرية ما ورد في المراسلات المكتشفة في تل العمارنة في مصر التي تبُودلت بين أمراء فينيقيين والفرعون وفيها أخبار عن غزو قبائل ”الحييرو” أي البدو لبعض القرى والمدن الجنوبية..” (ص 27 الإسلام في رسالتيه) يؤكد ما تقدم أن أول ذكر لمصطلح “عبيروا” في التراث المصري كان في عام 1300 ق.م، مما يعني أن اللقب الذي أطلق على المهاجرين من “مصرو” كان نتيجة عبورهم لنهري دجلة والفرات، والذي يمكن أن يكون كارثة بالنسبة لهم نتيجة غرق الكثير منهم في مياه النهرين العظيمين حين ذاك وليس لعبورهم البحر الأحمر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهكسوس هم شعوب بدوية من أصول عمورية دخلت مصر من سيناء في فترة ضعف خلال نهاية حكم الدولة الوسطى تقريبًا في نهاية حكم الأسرة الرابعة عشرة. لم يتفق خبراء التاريخ على أصلهم، ولكن الراجح أنهم أصحاب أصول آسيوية متعددة، ومنهم من كان ساميّ الأصل، حيث كانت أسماء ملوكهم سامية عمورية مثل صقير حار و‌خيان وأبوفيس و‌خامودي وأصنام ومعبودات الهكسوس سامية مثل بعل و‌عناة، وانتقلوا من صحراء النقب إلى شبه جزيرة سيناء ثم إلى مصر.

استمر احتلال الهكسوس لمصر حوالي مائة عام, أدخلوا فيها إلى مصر العديد من الصادرات الثقافية كبعض الآلات الموسيقية الجديدة والكلمات الأجنبية. وتضمنت هذه الصادرات وسائل جديدة في صهر البرونز وصناعة الفخار، ومحاصيل زراعية جديدة لم تكن معروفة سابقًا.. قدّم أيضًا الهكسوس لمصر بعضًا من التكنولوجيا الحربية التي كانت تستعملها الشعوب السامية من عربات تجرّها الخيول والأقواس المركبة والفؤوس الخارقة والسيوف المنحنية.

(ابتدأ) غزو الهكسوس لمصر في سنة 1789 ق.م. بدأ استيلاء الهكسوس على الحكم في شمال البلاد تدريجيًّا وعلى مراحل، فقد وطّدوا أقدامھم في برعشة وتل الصحابة عند مخرج وادي الطليمات، وفي بوباستس وأنشاص وفي تل (المعروف اليوم بتل اليهود) على مسافة 20كم شمال ھلیوبولیس، واستغرق هذا الزحف قرابة خمسين عامًا لینتھي عام 1675ق.م في عھد الملك 23 أو 34 في قائمة ملوك الأسرة الثالثة عشرة، وھو الملك (ديدومسیو) الأول، وإذا صح أن ھذا الملك ھو نفسه (توتیمايوس) الذي ذكره مانيتون. يمكن القول إن الهكسوس قد تمت لھم السیطرة على مصر في عهده، وربما كان تطابق الشخصیتین متفقًا مع حقیقة أن ديدومسیو ھو آخر من نعرفھم من ملوك الأسرة الثالثة عشرة من خلال آثار طيبة والدير البحري والجبلين، ومع ذلك لا يمكن القول إن نهاية حكمه قد وضعت نهاية للأسرة الثالثة عشرة، ويبدو أن سلطة خلفائه انحصرت في شكل محلي وسرعان ما اختفت ھي أيضًا عام 1633 ق.م، وكما يرى أستاذنا الدكتور عبد العزيز صالح الملامح الرئیسیة لعھود الأسر الھكسوسیة التي شملت الأسر الخامسة عشرة والسادسة عشرة وجزء من السابعة عشرة، وشغلت مائة عام وثمانية أو ما ھو أقل من ذلك بكثير، وجعلوا بین أسمائھم الأجنبية مثل خیان وإيبوبین أسماء مصرية، وأنھم تشبّهوا بالفراعنة المصريين في ألقابھم وملابسھم وهيئات تماثیلھم وادّعوا التقرب من الأرباب المصريين، حاولوا أن يتمصروا، وكما يرى كثير من الباحثين، ومنهم جون فوركیتهوسید برج، أن بدء تسلّلھم كان في منتصف الأسرة الثانية عشرة ثم ازداد عددھم مع نهاية الأسرة الثانية عشرة ومنتصف الأسرة الثالثة عشرة في عھد كل من (نفر حوتب الأول) و(ساحتحور) و(سوبكحوتب الرابع) و(يع ايب رع -إبي) وقد جرت هذه الأحداث في الفترة 1720 إلى 1700 ق.م، استنادًا للوح الأثري المعروف بـ(لوحة الـ400 عام)، يقال إن المصريين في فترة غزو الهكسوس كانوا قليلي العدد، حیث لم يتعدوا المليون نسمة وبالفعل غزا الهكسوس الدلتا، و تركزوا في مكان أطلق علیه (حت وعزت) ومن المحتمل أن ھذه المدينة تقع في شرق الدلتا فوق تل الیھود حالیًّا بین الزقازيق وقناة السويس وقد حصّنھا الهكسوس لكي تكون عاصمة لهم، مما يجعلھم قريبين من قاعدتهم الآسيوية ويسمح لھم بالتحكم بسھوله في إقليم الدلتا، واندفع الهكسوس بقوتھم حتى منف وما وراءھا بعد ذلك.

إزاحة الهكسوس عن الحكم

في عهد الملك سقنن رع الثاني نحو (1580 ق.م) كانت طيبة قد بلغت من القوة والمكانة السياسية شأنًا جعل الصدام مع الهكسوس أمرًا لا مفر منه. وهذا ما دفع ملك الهكسوس «أبوبي» إلى اختلاق الأعذار لبدء الصراع. وحقق سقنن رع في هذا الصراع بعض النجاح إِلا أنه سقط فيه صريعًا (1575 ق.م)، في معركة خاضها مع الهكسوس، وقد لوحظ وجود جروح وإصابات قاتلة في جمجمته.

خلفه في عرش طيبة ابنه الأكبر كاموس (1560- 1570 ق.م)، وهو آخر ملوك الأسرة السابعة عشرة، وامتد حكمه خمس سنوات فقط، تابع فيها الحرب التي شرعها أبوه فشنّ هجومًا مفاجئًا على معاقل الهكسوس المتاخمة لحدوده بقوات من الجيش وأسطول نيلي كبير، وراح يتقدم شمالًا حتى بلغ عاصمة الهكسوس نفسها. وتتحدث النصوص القديمة التي تعود إلى عهده عن استيلائه على ثلاثمائة مركب مصنوعة من خشب الأرز مشحونة بالأسلحة والذهب والفضة والمؤن، كما تتحدث عن بطشه بالمصريين الذين كانوا يهادنون العدو. وقبض رجاله في تلك الأثناء على رسول بعث به ملك الهكسوس إلى أمير النوبة في كوش السودان يحثّه على مهاجمة أراضي طيبة من الجنوب، فلم يتردد كاموس في إرسال قوة احتلت واحة البحرية محبطًا خطط أعدائه، ثم ارتد عائدًا إلى طيبة بانتهاء موسم الحملات بعد أن قضى على تمرّد قام به أحد أتباعه. وتذكر النصوص اسم كاموس وأخيه أحمس -الذي جاء بعده- عند الشلال الثاني في النوبة، مما يحتمل توغل كاموس في أراضي النوبة حتى ذلك الموقع.

ولم تقتصر جهود أحمس الحربية على مقاتلة الهكسوس، فقد تحوّل بعدها إلى جنوب مصر، فقاد ثلاث حملات كبيرة متوالية، استهدف فيها بلاد النوبة لتأديب أميرها الذي تعاون مع الهكسوس عليه وبذلك أصبحت الحضارة المصرية القديمة تحت حكم ملوك طيبة المصريين..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ