اشكالية الاختلاف والوحدة بين الحركات الاسلامية

لم يكن في مقدور الإنسان أن يبلغ ما بلغه، لو لم تكن الاجتماعية ومن ثم المجتمعية حاضنته أولاً وبوتقته ثانياً، ولأن الإنسان كائن اجتماعي أولاً وقبل أي شأن أخر، برزت لديه فكرة «الأنا» في خضم فكرة الـ «نحن» بحيث صيغت العلاقة بين «الأنا» و «الأخر» صياغات عدة عبر التاريخ وانتهت إلى أن الحالة الأسمى لهذه العلاقة هي الاعتراف جوهراً، كلّ منهما بالأخر في إطار الـ «نحن» وبحيث تغدو اعترافاً لهذه النحن بالـ «النحن» الأخرى أيضاً.

هكذا جاء هذا الاعتراف بصيغة نتداولها يومياً متفقين على أنها «الديمقراطية» على الرغم من أن مفهوم الديمقراطية مفهوم نسبي، مكاناً وزماناً، ولهذا الحديث…

ومع ذلك فإنه يبقى لنسبيتها «نسق الحياة» الذي يختلف بين الأنا والأنا (الأخر) وبين النحن والنحن (الأخر أيضاً) ولأنها «نسق حياة» لم تكن في يوم من الأيام «قراراً»، لأنها لا تقوم به كما لا تنتهي به، ولأنها نسق حياة ينمو ويترعرع ويورق ويزهر ويثمر فهي، بهذا المعنى، شأن تربوي، ولأنها كذلك كانت أداءً تربوياً نمارسه آباء وأمهات في الأسرة ومعلماً ومدرساً وأستاذاً في الجامعة ومجتمعاً ودولة في المؤسسات كافة، لهذا كانت إرثاً حضارياً أو بالأحرى ثقافياً، هي إرث حضاري تاريخياً وثقافي حاضراً وموضوعي مستقبلاً هي الأنا في خضم النحن، ولأنها قيمة نفسية اجتماعية، فهي ذات جذر اجتماعي في تربة مجتمعية وفضاء اجتماعي وهي لذلك نظرة للحياة والكون والعمل لا يمتثل فيها «الأنت» أمام «الأنا» كما في السلطة لأنها اعتراف «للأنت» في «الأنا» في جوهر «الأنا» في معنى «الأنا»، هي قيام «الأنا» في «الأنت» في «النحن» التي هي جذر «الأنا» وتربيتها وفضاؤها، فلولا «النحن» لما كانت «الأنا» فالاجتماعية، كما النحن، أسبق على التشكل من «الأنا».

مع ذلك، فإن «الأنا» غالباً ما تطغى على «النحن» التي وإن كانت تمثل الوعاء والتربة والفضاء، فإنها هي التي تمد «الأنا» بكل عناصرها لتعلو هذه على تلك ولتغدو الأخيرة مرتعاً لا مربعاً لظلال «الأنا»، فإذا كانت الوعاء والتربة والفضاء، فهي التي تمد «أنواتها» بعناصر نموهَّا وترعرعها وإزهارها وثمارها وكانت هذه «الأنواة» إلى جانب بعضها بعضاً ومع بعضها البعض كانت هي الأخرى في «الأنا» التي تتطلع إليه وتصبو إليه بل أكثر من ذلك تهفو وتتوق وتآلف ذلك الأخر، فتغدو «المجتمعية» مربعاً لظلال لا مرتعاً لظل واحدٍ أحد.

الديمقراطية، وفق ما تقدم، هي اعتراف بالأخر وجوداً وقيمة، منطلقاً ومسلكاً وغاية، وهي لذلك تضحى، لا نسق حياة وحسب بل أكثر من ذلك أيضاً، «نسغ حياة» ولأنها نسق ونسغ حياةٍ، بات لزاماً علينا الاعتراف بأن أي شذوذ أو انحراف تربوي (أسرة وجامعة ومؤسسة) له أثره الواضح على الديمقراطية وغدا السؤال لا يقتصر على النتائج المترتبة على هذا الشذوذ والانحراف بل أيضاً سؤالاً عن أسبابه ومكوناته وعوامله وطرقه وكيفياته ووسائله ونزوعاته ونزواته واستهدافاته وغاياته.

فكما علينا رؤية «الأنا» من حيث هي «الأخر» في تألقه وتكامله وانسجامه وتناغمه علينا أيضاً، رؤية ـ الأنا التي هي الأخر ـ في خبوّه وتهافته وتداعيه وانحرافه وشذوذه واضطرابه ونزقه، وأن علينا في شتى الظروف والأوضاع والأحوال أن لا ننتظر من هذا «الأخر» فهمنا واستيعابنا ورؤية الأمور والشؤون كما نراها، بل علينا، ونحن تربته وفضاؤه أن نفهمه ونستوعبه لندرك متى وكيف نحول دون استشراء غلوِّه في انحرافه وشذوذه، والحال تبقى رهناً «بالكيف» الذي نرى فيه الأخر، أهو «كيف» ديمقراطي أم لا، ونحن بذلك لا نرى «الأخر» بقدر ما نرى أنفسنا تحديداً.

في إطار ما تقدم يرى الدكتور «رفعت السيد أحمد» ضرورة بحث إشكالية الاختلاف والوحدة في الحركات الإسلامية» لا من منطلق أنها «الأخر» فقط بل ومن منطلق أننا «الأخر» أيضاً، بمعنى أنه إذا كان علينا واجب تفهم تلك الحركات، فعلينا أيضاً واجب نقل فهمنا هذا إليها وعلينا جميعاً أن نصوغ فهمنا، كلّ منا للأخر، في صراع فكري يسمو ويترعرع في تربة وفضاء كل «الأنواة» فلا يصح علينا ما قيل في الثورة الفرنسية وعلى لسان واحدٍ ممن خاضوها: كنا مهندسي خراب، كنا نقطع الأشجار لنقطف الثمار. بل كما أنهى الدكتور «رفعت سيد أحمد» دراسته «الحوار والحوار والحوار والتجديد».

يمحور الدكتور «رفعت سيد أحمد» دراسته حول إشكالية الاختلاف والوحدة في الحركات الإسلامية في محاور ثلاث هي:

1 ـ مفهومي الأمة والحركة الإسلاميتين.

2 ـ الخلل، مكمناً ومظهراً ونموذجاً.

3 ـ تطويق الخلل.

في محوره الأول يقدم الدكتور «رفعت سيد أحمد» مفهوماً للأمة والحركة الإسلامية، وهو في ذلك يعود لمفهوم الديمقراطية كإرث خضع ويخضع للكثير من التأويلات والاجتهادات والصياغات التي تحاول أن تبلور نزوعات تربوية ـ ثقافية في رؤى تخلط وتمزج وتفاعل الماضي والحاضر والمستقبل دون روية في معنى أي من عناصر هذه الرؤى أو من حيث أن كلاً منها يمثل واقعاً قائماً في ذاته شكلته وتشكله، حاضراً ومستقبلاً، ظروف وأوضاع شتى لا سبيل لحصرها، وأن جُلَّ ما يشوب هذه الرؤى «الماضي» الذي يكتسي، لأسباب شتى أيضاً، حلة المثال المنشود، مع أنه في الغالب لا يقارب هذه الحال، وبشكل يضفي على الحاضر حلة رثة رغم كل ما يزخر فيه من الحيوية والنشاط والحركية في شكل تغييري تستحيل به حلة الحافز لحلة مرقعة لا قيمة لها ولا فائدة منها فيغدو الماضي ـ المثال، المستقبل المفقود!!!.

1 ـ مفهوم الأمة الإسلامية:

في تحديده مفهوم «الأمة الإسلامية يرى الدكتور سيد أحمد «أن الحركات الإسلامية كافة ـ أعلنت ذلك صراحة أو أسرت به ضمناً ـ تستند في رؤاها على مفهوم مركزي، لا تحيد عنه، هو مفهوم الأمة الإسلامية والذي يعني ـ من حيث هو مفهوم تقليدي أربعة متغيرات في تكاملها تتحقق الظاهرة:

ـ جماعة تؤمن ويسودها الإيمان بالمقومات الأساسية للدين الإسلامي.

ـ جماعة تملك إدراكاً واحداً.. الخضوع واحترام الشريعة الإسلامية كنظام متكامل للسلوك الفردي والجماعي.

ـ علاقة التضامن المطلقة في الجماعة هي الرابط والمؤكد لعناصر الجماعة كافة.

ـ محور الوظيفة الحضارية لتلك الجماعة المتضامنة هو مفهوم الجهاد بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان.

ـ يقول الدكتور سيد أحمد «هذه هي العناصر الأربعة التي يقوم عليها مفهوم الأمة كما ورثناه من تقاليدنا وتراثنا الإسلامي..». ولكن هل توجد أمة إسلامية أم لا؟ يتساءل الدكتور سيد أحمد ويجيب «بغض النظر عن التكامل الوظيفي والبنائي لمفهوم الأمة الإسلامية، فلا يستطيع أحد أن ينكر وجود «خَلْفية إسلامية» تعيش، وفق رؤية الدكتور سيد أحمد، «بين شمال مسيحي غني وجنوب وثني فقير ملون..» فهي خلفية مخضرمة بشكل ما، أو هي خلفية ترى النقيضين معاً وتحاول أن تكون التجمع النظري والعملي لهما، وهذا ما يدفع «لمنحى» نظري يرى أن مفهوم الأمة الإسلامية «يصل إلى حالة من عصمة الأمة الإسلامية وهي حالة يقصد فيها أن الفهم الصحيح لكون الدين والشريعة كلاهما بيد الجماعة الإسلامية، وهذا ما يوصلنا، لحالة عصمة الأمة لتصبح خارجة من سيطرة فئة اجتماعية أو سياسية وبالتالي فإنها ـ أي العصمة ـ لا تكون مهددة بالتحول إلى قانون أو أداة في يد السلعة المركزية أو حتى فئة من العلماء،إن الإسلام،بهذا المعنى،هو الذي أنشأ الأمة أو الجماعة فهو فلسفتها التأسيسية ومقياسها وقانونها الأخلاقي وسلَّم القيم الذي يقوم عليه وجودها والشرعية جانبه المنظور أو المشعور فيه..».

1 ـ 2 مفهوم الحركة الإسلامية:

يوسع الدكتور رفعت سيد أحمد مفهوم الحركة الإسلامية بحيث لا يشمل هذا المفهوم «التنظيمات والحركات السياسية » بل يتسع ليشمل جمعيات العلماء وحركات إصلاح التعليم والجهاد الأفريقي والأعمال الفكربة التي بلورت فكرة الدولة الإسلامية ولمجتمع الإسلامي والجهود الفكرية الاقتصادية والعلمية لبلورة فكر إسلامي اقتصادي والبنوك وشركات الاستثمار..والنقد والشعر والغناء والمسرح والعمارة.. جمعيات الإغاثة.. والدعوة ..والتعليم .. والمستشفيات.. والاتحادات الطلابية إلى جانب تراث الحركة الإسلامية السياسية..»

إن التوسع هذا،كما يقول الدكتور رفعت سيد أحمد يؤدي إلى احتمالية الخلاف الفكري السياسي بين مكونات المفهوم، وهو ما حصل على أرض الواقع الإسلامي خلال العشرين عاماً الماضية.. ». وبحيث لا يقتصر على التوسع الآنف الذكر بل يمتد ليصل إلى «رواج بعض المفاهيم الخاطئة..» والتي يتصدرها «مفهوم أن هذه الظاهرة (أي ظاهرة الحركات الإسلامية ) هي ظاهرة جديدة معاصرة.. والحقيقة أنه كلما يتجدد البحث تاريخياً كانت المقارنة أكثر سلامة ». بحيث يمكن القول أن هذه الظاهرة «تعود إلى ما قبل هذا بكثير .. إلى ما بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه سلم )مباشرة ».

أما ثاني هذه المفاهيم «فهو التعامل مع هذه الحركات على أنها أحزاب وخيارات سياسية .. إنها بالتأكيد مشغولة بالحكم لكنها مع ذلك، تبقى ظاهرة ثقافية اجتماعية ذات نتوء سياسي.. ». وثالث الأخطاء التي يراها الدكتور رفعت سيد أحمد حول مقابلة الحركات والتيارات الإسلامية بالأحزاب أو التجارب الدينية والسياسية في المغرب.. فالقياس في هذا المجال مردود منهجياً.. (ذلك) أن هذه الحركات الإسلامية نشأت وسط أزمة حضارية استُغلت مظاهرها.. فقد توالت على المجتمع العربي والإسلامي منظومة متداخلة من التغيرات الداخلية.. والخارجية… (بدءاً بتوهين) إلغاء نظام الخلافة وانتهاء بتدجين السلطة الوطنية.. فمن الطبيعي أن يكون التعلق بالخلافة رمز للسيادة … فتقوم الدعوة لذلك على حساب الحكومات … ». كل ما تقدم ينتهي بالدكتور رفعت سيد أحمد للقول: «إن الأمة والحركة الإسلامية مفهومان لا زالا رغم هذا التحديد العام بحاجة إلى اجتهادات وإعمال الفكر وللتأهيل النظري، لما لهما من أهمية بالغة على الصعيدين الفكري والسياسي في عالمنا الإسلامي المعاصر.

2 ـ الخلل في الحركات الإسلامية:

إن حاجة مفهومي «الأمة الإسلامية والحركات الإسلامية » إلى إعمال الفكر والتأهيل النظري دفعت لكثير من اللغط والتخبط والخلط فيهما لدى الحركات الإسلامية عموماً، وبشكل أدى لاستغلال سيئ جداً لهما وسمح بالتالي لكثير من العوامل الفردية

والشخصية والانتهازية والمادية والمصلحية والأنانية لتبوء صدارة هذه الحركات عبر اجتهادات وتأويلات عدة دفعت لانحرافات لا علاقة لها بالدين الإسلامي علماً وفهماً وفقهاً لما رافقها من جهل أو تجاهل للواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي للمجتمعات الإسلامية الراهنة كما يقول الدكتور رفعت سيد أحمد «أن الناظر لخريطة العالم الإسلامي اليوم يلحظ بشأن الحركات الإسلامية داخله ما يشبه الفسيفساء السياسية ليس فقط مستوى العالم الإسلامي ككل، بل حتى داخل أقطاره ذاتها … ( فإذا كان) الاختلاف وعدم الاندماج في حركة واحدة على امتداد العالم الإسلامي له ما يبرره …، فهل هناك ما يبرره داخل القطر الواحد … ( وهو ) الأمر الذي يحتاج إلى تفسير وبحث للأسباب … ( أولا ) ماذا تعني هذه الظاهرة السياسية الفسيفسائية …» وهل هي ظاهرة صحية أو غير ذلك ؟ وما هي أسباب تشرذم الحركات وبخاصة داخل القطر الواحد …

2 ـ 1 ـ مكمن الخلل:

مكمن الخلل، كما يتمثله الدكتور رفعت سيد أحمد «يتجلى أساسا في فهم كل حركة، للإسلام، كمرجعية في العمل السياسي، فبعض الحركات ترى الإسلام كمحرض للثورة ولاستخدام العنف وترى وجوب تغيير الفكر ـ الذي سيدته النخب الحاكمة ـ بالقوة وليس بالدعوة وإن السبيل الوحيد لإقامة الدولة الإسلامية …هو الجهاد » بينما يرى البعض الأخر من هذه الحركات «أن الدعوة والتربية السياسية والعمل السياسي أساليب منطقية لتحقيق الدولة الإسلامية … وأن الأساليب الديموقراطية هي الأكثر فاعلية في واقع اجتماعي وسياسي معقد … وان العنف لا يبني كياناً أو دولة إسلامية مستقرة، وأن العنف وسيلة تعكس العجز وفقدان الأمل وعدم الخبرة وأن الإسلام كمرجعية في العمل السياسي يأمر بهذا الجانب ويدعو له … » إن معاينة السبب الذاتي أعلاه لا يلغي السبب الموضوعي المتمثل أولاً وأخيراً في «المؤثرات الخارجية» حيث تمثل الولايات المتحدة ـ الشيطان الأكبر ـ أبرز ما في هذا الجانب، فهي التي تعمل على تكريس اتجاه الانقسام بين المسلمين، وتدفع بأبناء الأمة للعداء المذهبي يضاف إلى ذلك «الانطباعية السيئة عن الأخر بالمعنى المباشر .. أو الديمقراطية الناقصة .. فالقوانين والأطر التنظيمية الحاكمة للعملية الديمقراطية في البلدان الإسلامية تحول دون وحدة هذه القوى ..» ويضيف الدكتور رفعت سيد أحمد متسائلاً: فكيف يطلب من قوى محجوبة عن الشرعية وعن الضوء آن تلتقي وتتحاور …»

2 ـ 2 ـ الخلل مظهرا :

الاختلاف في مفهومي الأمة الحركة يقودان حكماً لما يقوم عليهما وتحديدا في فهم الإسلام كمرجعية في العمل السياسي .. وبشكل يتمظهر في عدة قضايا أساسية وجوهرية كقضية أسلوب بناء الدولة الإسلامية والتعددية السياسية فيها وتاليا العلاقة بين الأصالة والمعاصرة .. ومروراً بتكفير المجتمع السياسي والتربية السياسية وانتهاء بقضية المرأة وحقوق الإنسان والأقليات العرقية والعنف والدينية وأخيراً وليس أخراً غياب الاجتهاد المعاصر.. والاختلاف بين الحركات الإسلامية يتعدى هذه القضايا إلى قضايا فوق المتقدم بكثير إذا ما أحصينا أنه على الساحة الإسلامية حتى الآن (91) حركة لا يجمع بينها سوى التسميات، وحتى هذه كما يقول الدكتور سيد أحمد تستخدم «لتقوية الشرعية الدينية للحركة» إذ أن الأسماء التي تتخذها أي من هذه الحركات، تعكس، دون أدنى شك «أهدافها وتوجهاتها المذهبية والطائفية..» يقول الدكتور رفعت سيد احمد «تتعدد القضايا الفكرية والسياسية التي تختلف حولها الحركات الإسلامية السياسية.. بتعدد هذه الجماعات أو أطرها التنظيمية، وهي في الواقع عديدة إلى حد يصعب معه فرز كل جوانب الاختلاف ومع ذلك فإن تصنيفا مبدئيا لهذه الحركات، بين معتدل ومتشدد، قد يساهم إلى حد ما، في رصد مواقف أي منها بعدد القضايا المطروحة أعلاه.

2 ـ 2 ـ 1 أسلوب بناء «الدولة الإسلامية»

«إن أسلوب بناء الدولة الإسلامية يشطر هذه الحركات بقوة بين معتدل ومتشدد، فالمتشددون في القضية هم أولئك الذين «يئسوا من الوسائل الوسطية على مستوى التعامل مع الحكومات، وعلى السعي لإصلاح المجتمع، من وجهة نظر الحركات . وهي تختلف في هذا أيضاً وتفترق بين متشدد ومعتدل في تشدده ـ بالوعظ والإرشاد، وفريق المعتدلين الذي لازالوا يؤمنون بجدوى الحوار مع الحكومات والقوى السياسية المتخالفة ويثقون بقدرة الإنسان على التعبير وفي كفاءة الشعب لبناء المستقبل » وبديهي أن يقود الاختلاف هذا للاختلاف في «الوسائل الملائمة والمدى الزمني الواجبة لتحقيق بناء الدولة».

2 ـ 2 ـ 2 ـ التعددية السياسية

ويقود ما تقدم للاختلاف في قضية التعددية السياسية في الدولة المرجوة التي بذلت على صعيد الوضع الجزائري.. والمزمع إقامتها، أو بتعبير أوضح الاختلاف حول التداول السلمي للسلطة فنرى بعض هذه الحركات يقر بضرورة هذا للسلطة على قاعدة «الضوابط الإسلامية» مما يعني التداول السلمي للسلطة بين الحركات الإسلامية دون سواها بينما يقف على الطرف الآخر بعض من الحركات الإسلامية متحفظاً من هذه التعددية، سواء في الرؤى الفكرية أو في الأوعية التنظيمية والتنظيمات الحركية، موقف الرفض العدائي أو الريبة الشديدة أو الشك في شرعيتها أو في ضرورتها أو جدواها وهذا الرفض للتعددية ليس نابعاً من مجرد الرغبة في الانفراد في الفعل والقرار والجماهير في الساحة الإسلامية، وإنما هو رفض، كما يقول بعض الإسلاميين ـ من خلل جعل بعض هذه الحركات لا تميز بين الأصول والمبادئ والقواعد الإسلامية التي لا يجوز فيها الاختلاف والتي هي، لخطرها وكليتها وثباتها الضامنة لوحدة الأمة».

2 ـ 2 ـ 3: قضية الأصالة المعاصرة:

«تثير هذه القضية لبساً وتناقضاً في مواقف الحركات الإسلامية المعاصرة، فبعضها يرى بأنه ليس ثمة تعارض بين الموروث والوافد إذا ما فهم الوافد في إطاره الصحيح ووضع داخل المنظومة القيمية الإسلامية..» وبطبيعة الحال فإن المتشدد لا يقف موقف الرافض وحسب بل ويذهب لأبعد من ذلك بكثير إلى حد تكفير أتباعها..».

«إن مراجعة هذه النظرة يكشف الأخطاء القائمة في أسبابها ومنطلقاتها وهي كفيلة (المراجعة) بتصحيح الخطأ السائد في فكر الكثير من الحركات الإسلامية التي تعيش في الماضي دون الحاضر، بل و أكثر منه، في استفتاء الأموات في شؤون الأحياء، مهملة ذلك التمييز في القضايا الفكرية، بين الثوابت والمتغيرات والتي تقدس الموروث على النحو الذي يقلل إلى حد الازدراء من شأن الإبداع، بل والذي يخلط بين البدعة في الدين وبين الإبداع في الحضارة فيرفضهما معاً..».

أما في ما تبقى من قضايا فيمكن القول «إن الحركات الإسلامية المعاصرة تقف على خطين متوازيين لا يلتقيان، تقع على كل منهما مجموعة من هذه الحركات ويحدث الانقسام، خط متشدد يقدم الموقف الرافض تماماً لكل قضية، وخط متسامح يقدم القبول وأقصى درجات التفهم، وبينهما لا يوجد وسط إلا فيما ندر وهذه هي قمة المأساة الإسلامية المعاصرة..».

3 ـ الخلل نموذجاً:

في النموذج المصري، الذي يقدمه الدكتور سيد أحمد، يتضح جلياً التراكم لكل ما ألمحنا إليه بحيث يبدو الاختلاف كواقع موضوعي يحول دون الوحدة بأية حال من الأحوال، وهذه نقطة مهمة جداً إن كان على الصعيد الفكري ـ النظري أو على الصعيد الواقعي ـ العلمي، فإشكالية الاختلاف تنبئ بتحدٍ كارثي يتهدد هذه الحركات على اختلافها.. فالخلفية التاريخية لهذه الحركات كخلفية انشقاقية تُظهر وإلى حد بعيد، النـزوعات الفردية والشخصية التي كانت تُرد إلى عاملي التنشئة والتربية الدينية والمستوى العمري والفكري لهذه الانشقاقات فعلى سبيل المثال لا الحصر، تبين من مراجعة ملفات حركتين إسلاميتين في مصر، كانتا في السابق حركة واحدة، أن هناك «اختلافات متعددة ليست فكرية وإنما شرعية حركية تعود لاختلاف في عقليات قادة كل من الفريقين.. أول قادته طلاب جامعيون من الوجه القبلي.. والثاني قادته عسكريون وسياسيون من الوجه البحري.. وتأتي الأعمار لتؤكد جانباً أخر فالأول دون 35 عام أما الثاني فتتراوح أعمارهم بين 35 و40 عاماً..

يقول الدكتور سيد أحمد «..وهذا يعني تأثير التنشئة البيئية الاجتماعية (الثقافة والسياسة والاقتصاد) على التشكيل العقلي وكذلك مراحل العمر وتأثيرها على طريقة التفكير..» فعلى صعيد الاختلافات التشريعية نرى أن أحد الفريقين يرى أن مسالة العذر بالجهل هي مسألة اعتقادية بينما يراها الآخر مسالة فقهية.. أما بالنسبة للعمل السري فيرى الأول أنه بدعة بينما يرى الأخر أنه «مشروع» والأمثلة كثيرة في هذا المجال ولا سبيل لحصرها إذا ما أضيف لها الخلاف الحركي فلا يقف عند أخذ الأول «بالصلح بالحق» بينما يأخذ الثاني «الإعداد..».

في النماذج الأخرى التي يقدمها الدكتور «رفعت سيد أحمد» تظهر قضية واحدة تتجمع حولها كافة الحركات الإسلامية المصرية «العدو الأكبر.. أمريكا وإسرائيل» ليحدث الشرخ الأعظم في ما تبقى من قضايا مثل العلاقة مع الغرب، الموقف من الحكومات في العالم الإسلامي وعلاقتها بالغرب، الموقف من النظام الدولي المهيمن، وظيفة الجهاد، خصائص منهج التغيير والإصلاح..».

4 ـ تطويق الخلل:

يبقى الحل الذي يقدمه الدكتور «رفعت سيد أحمد» لتطويق الخلل مكمناً ومظهراً ونموذجاً غير قابل للتحقق وسط هذه الاختلافات الفكرية والمنهجية التي قدمها، مع أنه مقبول ولا يتنافى مع منهج الفكر والعقل والنظر..

يرى الدكتور «رفعت سيد أحمد» أن على الحركات الإسلامية إذا ما رغبت في تطويق الخلل الذي يتهددها أن تسعى لتجديد خطابيها الفكري والسياسي وكذلك العملي والواقع.

يقول: «إن نقطة البداية لدرء الخلل وتجاوزه هو الاجتهاد أو السلوك العملي.. فالواقع الإسلامي والعربي معقد ومتشعب في خصائصه وهمومه وأحلامه..

وافتراض المطلق في فهم الواقع خطأ تاريخي منهجي أيضاً والثابت أمام الواقع، أن الفهم وإعادة القراءة ثم إعادة تجديد وبناء الخطاب وترتيب أولوياته على الصعيد النظري والعملي بات مسألة ملِّحة وضرورية».

«لتكن نقطة البداية لهذا التجديد هي الحوار، الحوار مع الذات أولاً ومع الواقع ثانياً ومع الأخر ثالثاً.. الحوار والتجديد هما البداية..».

د. رفعت السيد أحمد

تعليق: جورج معماري