الرحلة إلى الشرق ـ الغرائبية في الأدب الفرنسي منذ شاتوبريان

 

 

 

ما أن سقطت بابل حتى غدت منطقة الشرق الأوسط عرضة لهجمات الإغريق ومن بعدهم الرومان ،بعد أن تمكنت روما من بسط سيادتها على المتوسط نتيجة حروبها مع قرطاجة،وحتى ظهور الإسلام كان المتوسط بحيرة رومانية، وإن تكن الإمبراطورية الرومانية قد انتهت إلى شرقية وغربية ، سقطت الأولى تحت ضربات “محمد الفاتح” وانتهت الثانية إلى دويلات اجتاحها السلطان سليم القانوني واحدة تلو الأخرى مهددا ما تبقى منها بالزوال ..

لكن المنطقة كانت منذ القرن الحادي عشر، محطَّ اهتمام الغرب، ولسان حاله، ردُّ الاعتبار للأمبراطورية التي أضحت منعزلة في روما ، وهكذا ،ومع ” ماركو بولو” في القرن الثالث عشر،بدأت رحلات الاستشراق لاستكشاف “الشرق”، هذا المجهول المختلف .حتى كان القرن الثامن عشر والتاسع عشر ذروة هذه الرحلات الاستشراقية ،والتي شكلت بدورها معينا لا ينضب للبناء الذهني الأوروبي باتجاه الشرق .

بطبيعة الحال، كان العامل الحاسم في الاتجاه المنوه عنه،وإعطاء فكرة وصورة عن الشرق لم تكن بالصحيحة لقد أدت الرحلات الاستشراقية دورها كاملا في الفكر الأوروبي، أدبا ومعرفة وطموحات  ، بل ومشوهة في كثير من الأحيان ، لينعكس كل ذلك على المواقف الأوروبية ، سلبا ،على قضايانا .

ومهما يكن من أمر ” بير جوردا ” في بحثه [الغرائبية في الأدب الفرنسي منذ شاتوبريان] ومحاولته التدليل على ما ينتاب تراث أولئك الأدباء من تصورات لا تمت للشرق الحقيقي بصلة ، فإن العقل الأوروبي مازال بحاجة ماسة لكثير من هذه الدراسات لجلاء الحقيقة أولاً ، عسى أن تساهم في تصحيح المواقف، ثانيا. والمسألة بحد ذاتها تبقى مسألة وقت ، عسى أيضا، أن يكون في صالح البشرية جمعاء، شرقا وغربا .

يحاول “بير جوردا” جاهدا، أن يقدم الدليل تلو الآخر على أن ما كتبه الأدباء المستشرقون ، عن الشرق ، ليس أكثر من تصورات وأحلام توافقت بشكل  أو بآخر وبناءهم الذهني الذي شبوا عليه ،حيث يبادر في مقدمة بحثه للتأكيد على” أن [الغرائبية الرومانتيكية] هي ما يؤجج فينا الخيال ، إلا باستثناءات قليلة ، أكثر مما يحفز لدينا الملاحظة الصارمة للأشياء ودقة وصف الناس المحيطين بنا والديكورات والسلوك والوقائع ، فنجد الحقيقة بالنسبة لستندال أو مارميه “مُرَمْنَسَة” _ رومانسية _ وفي الحالات القصوى لدى نرفال،وكم لدينا من الصفحات البرّاقة والملونة، يتابع جوردا، والممتعة والمثيرة للاستغراب ، إنها تعبر عن تقليعة أدبية ، بيد أنها [وهنا بيت القصيد] مزيفة وتقليدية دون حدود”ويتابع قائلا:”.. وليس لنا لكي نقتنع بذلك سوى أن نصفح للكتَّاب الذين ولدوا وشبوا في أوج الرومانتيكية ..”   ويضيف “..إن الاشتغال على الشرقيات دون معرفة بالشرق ، كما يقول جوبير إلى مكسيم دوكومب،هو أنك تصنع حساء الأرانب دون أن يكون لديك أرنب .وربما كانت خيبة الأمل تنتظر الرحالة.. لقد عاش جيل بكامله عند أعوام 1840ذلك الحلم [الإكزوتي] الغرائبي ولم يتوقف عنه..”وينتهي للقول : ” يظل الشرق شيئا رسمه لنا الشعراء الرومنتيكيون !إن كان باستسلامهم لخيالهم أو باستحيائه من الواقع ، والرحالة من لامارتين حتى فلوبير كانوا قد تعاقبوا عليه بكتابات مبتذلة بدأت تولد منذ العام 1855 ..”

والسؤال : ولكن أي شرق هو ذاك الذي يكتبون عنه ؟

يجيب بير جوردا :” الشرق هو أرض التوراة والضياء ، إنه الرومانتيكية أو الواقعية التي حلم بها لامارتين وديديه وغوته وفلوبير وفرومنتان ..” الشرق ، كما عرَّفه تيبوديه قائلاً [إن مصطلح الشرق يعني البلاد الحارة بأجمعها ، التي تمتد من الهند إلى مرَّاكش ، أما العناصر التي تؤلفه سواء أكانت من الخيال أم من الواقع فهي جد معقدة بإثارتها وجاذبيتها ، إنه وجه الطبيعة الذي لا تقدم لنا أوروبا بديلاً عنه ، إنه الصحراء حيث يتقاسم الشعر بعضا من عناصرها مع شعر البحر ، إنه الإسلام وديكور دين يتناسب ومناخ وإنسانية تناسبا تاما ، وفي عصر كانت العبقرية المسيحية تعلم فيه الفرنسيين كيفية النظر إلى الدين ، والنظر إلى دينهم على أنه واقعية جمالية ونظام تزيني ..إنها أبهة الذكريات التاريخية ومشاهد البلاد الحارة التوراتية القديمة ،لكنه الاستشراق الذي كان يشمل ويشتمل على الدوام ما ينقص الألب وأمريكا، ألا وهم الرسامون ..” هذا التعريف يدفع بجوردا للقول عن أولئك الأدباء :”إنهم يستعيدون في سورية وفلسطين ، بواسطة التوراة ، كل العصر القديم..” يصرخ لامارتين ، يكتب جوردا : هكذا هو الشرق كما عرفناه سابقا ،الشرق الممتلىء الذي طالما حلمنا به:الليل تحت الخيمة ، وصهيل الخيول وخوار المواشي، ودخان نيران المساء .”

لعل “فرومنتان” ، يقول “جوردا”هو من ميز بوضوح يشوبه التجريد ، بين الموقف الرومانتيكي المليء  بالخيال ، وموقف الواقعيين المليء بالملاحظة لينقل عنه:” الشرق شيء متفرد للغاية، نحن نراه سبَّة عظيمة ، هذه السبَّة تكمن في كونه مجهولا وجديدا وكونه يوقظ أولا أعظم المشاعر الغريبة التي تتعلق بالفن ، وتلك هي أخطر الأشياء برمتها ، ألا وهو الفضول ..إني لا أتحدث هنا عن شرق خيالي ، إنما أتحدث عن هذا البلد المغبر والمبيَض والساطع شيئا أول ما يكون لونه ، والكامد شيئا ما ، عندما لا يوقظه أي تلوين مشع..” يعلق جوردا : ” إنها إشارة بينة على الفارق بين الشرق المحلوم به ، والشرق الحقيقي ، إذن ، عن ماذا كان كتّابنا يتحدثون .؟”

يجيب ناقلا عن “اندريه بروسولر”:إنني أحترس تمام الاحتراس من الشعر الذي غلَّفنا به الشرقيين ، والذي نميناهم عليه ، وإني أتلهف لتجاهل الدرجة التي كان فيها انطباعي صادقا أو كان خارجا عن الكتب..” ويعلق :إن الأوروبين يحلمون برؤية جنة عدن ، وإن كان ذلك دون مواربة .. وما عدن سوى الحريم والجميلات الغامضات اللواتي طالما تغنى بهنَّ”فكتور هيغو”بروعة! فالشرق هو بلد الحريم الذي لا ينتظر “ازيديك” لكي يصفه، يضاف إلى ذلك ، يقول جوردا،ربما كان تيوفيل غوتيه و جيرار دو نرفال يتفقان كل الاتفاق أن المرء الأوروبي يحمل عن المرأة الشرقية الكثير من الأوهام :”إن نحن أدركنا مدى العفة والكرامة في العلاقات التي تربط الرجل المسلم وزوجته فإننا سنتخلّى عن كل السراب الشهواني الذي خلقه كتاَّبنا في القرن السابع عشر والذي يتعلق بفكرة الحريم كما وصفها لنا مؤلف رسائل فارسية . وهكذا نجد الغرائبية المزيفة قد حوكمت ، ولكن الأفكار الأوربية الفاسدة كانت صعبة المراس وصلبة لأن  أول سؤال نوجهه إلى الرحَّلة الذي يعود من الشرق هو التالي: وماذا عن النساء؟.”وهكذا أيضا نجد جوردا يمضي في نقده للأدباء الفرنسيين الذين طافوا الشرق وحملوا معهم كل ما زودتهم به نشأتهم ويقول : لاشيء يزين بشكل أفضل رحلةً مغامرة إلى الشرق العجوز سوى حلمٌ أوروبي في أن يكون عند منحنى أحد الأزقة المهجورة فتلوح له امرأة تسير خفية ، وتدخله عن طريق باب سري إلى شقة مزينة بكل صور الترف الآسيوي وتنتظره جالسة على أريكة مربعة من قماش البروكار،فهي سلطانة تقطر بالذهب والأحجار الكريمة …

يضيف “..طالما حلم نرفال بالشرق فقد رحل إلى مصر وسوريا وتركيا ..فنقل عنها كتابا شيقا وجذّابا ، ولم يكن كتاب ذكريات ، إنما حكاية مرمنسة كان قد أعدّها بالرجوع إلى ملاحظات الرحلة وذكرياتها ، ونجد فيها كما يقول ج.م.كاريه من الشعر أكثر مما فيها من الحقيقة وتبقى الأشياء فيه مرتبة وإن الرؤية الشاملة لم تكن كافية وكان الانطباع فيه دون وضوح  ولكن التفاصيل كانت قد نقلت بإخلاص ملون وجذّاب ..”

ويبقى السؤال الذي يثيره كتاب” الرحلة إلى الشرق ” لبير جوردا : ..ولكن ماذا كانوا يكتبون؟ وهذا في الواقع مادفع بكاتبنا للإستغراق في موضوعه وقدم لنا بالنتيجة خلاصة ما قدمه الأدباء عن رحالاتهم إلى الشرق وبالطبع فلسوف نجد كيف كان يقود البناء الذهني المسبق هؤلاء ،وكيف كان يُريهُمُ ما كان أمامهم.

عن لامارتين ، إضافة لكثير من النصوص المختارة ، ينقل :”أما جمال الأرض الموعودة ، فإننا نكتشفه في سوريا ولبنان ، ففي بيروت ودمشق هنالك على الأقل الرجال والنساء والعصافير والحيوانات والأشجار والجبال والبحر والسماء والمناخ وكل شيء جميل ونقي ورائع وديني وليس هناك من مكان على الأرض يذكر بأفضل من هذه الأمكنة بجنائن عدن ، فليس لنابولي ولالسورنت ولا لروما ولا لأثينا أفق بهذا الجمال..”وعن لامارتين ينقل أيضا:”كان الشيخ بانتظارنا لدى مقدمة المنزل بينما كان ولده الأصغر يمسك بيده المجمرة الفضية ويحرق باليد الأخرى أمام جيادنا بالبخور وكان أخوته يلقون على ثيابنا بروائع العطور وكانت بانتظارنا وليمة عظيمة في الصالة المجاورة حيث أشجار بكاملها تتوهج في باحة المنزل ..”وعن فيكتور هيغو ،تغنيه بالضيافة العربية : إن لم تعد تفكر إلاَّ قليلاً ..ببنات الصحراء اللواتي يغنين بصوت عذب ..واللواتي يرقصن بأقدام عارية فوق كثبان الرمل ..وعن “نرفال”قوله:لقد كانوا حقا يملكون هذا الشيء..إنهم يمنحون الضيافة لكل الناس..”ويضيف نرفال قائلاً”في هذه الجبال البكر التي لم تنتهك بعد، وحيث يحيا الناس فيها وجودا قروسطيا،فالأميرات يذهبن إلى الينبوع ، بينما آبائهن وأزواجهن وإخوانهن يصطادون الصقور ..”

“ياله من جمال رائع ، يصرخ فلوبير ،جمال شرقي قديم “، ويعلق جوردا ،إن هذا ليذكر بالترف الضائع والبرانص القانية الموشاة بالذهب..”فليس هناك مما كنت قد شاهدته ،هذا ما يسجله “مكسم دو كومب” يشبه هذه المدن الغريبة المختلطة بالأشجار والمزينة بالمنارات ، حيث يرتل المؤذنون ، وتموج النساء المحجبات ، وعن الرجال وهم يرتدون البذلات ذات الألوان الصارخة والناصعة ويحملون الأسلحة البراقة اللمَّاعة ..”وعن بير لوتي “..سحر مدن الشرق القديمة الراقدة في مناطق ممتنعة ولا يمكن النفاذ إليها وذلك بصمتها وعجائبيتها الممتدة حتى أوروبا ..”

ويصف بيرلوتي ألآذان قائلاً:”..الترتيل ذو اللغز العظيم الذي يراق بد فقات سوداوية عصية على الوصف  ثم تتعاقب سلسلة متتابعة في طبقة صوتية واطئة ، إنه نشيد التذكير لأولئك الذين دوخهم السراب المؤقت للأشياء إنه نشيد الخشوع ، نشيد الموت والحزن العذب واللذيذ في صوتهم الذي ينقل في ساعات محددة بحزن غير متناه اسم الله …الله أكبر ..”

ولكن ، وعلى الرغم من كل شيء ، تبقى الصورة على غير ما تقدم !! ذلك أنها صورة الشرق الذي واكب تهافت الدولة العثمانية، وما الصورة المنقولة سوى تلك الحال التي وجدت نفسها بها دولة “آل عثمان”في نهاية المطاف واستمرت ، بتداعياتها ماثلة في الذهن الأوروبي.

هذا ما نجده عند “غوبينو”في إحدى رواياته: ” فالآسيويون المتحضرون لا يرون الحياة الذكية إلا حياة النادي عند الرجال وحياة الغانيات عند النساء ..”ويكتب لامارتين :” المتعة والقدرية ، هما النتيجتان اللازمتان للصراع الذي يتأجج بين محمد علي وإبراهيم باشا ضد السلطان ” من هنا تأتي لامبالاة الأتراك ، يعلق جوردا.  “إن هذا الشعب لا يخلق شيئا ولا يجدد ولا يدمر ..هناك الأشجار ليتفيأوا بها ..ونافورات موَّارة ليحلموا على ضجيجها بصمت وهناك المساجد بمناراتها الرشيقة..إن هذا كل ما يلزم هذا الشعب .

ويكتب بيير لوتي : ” كان كل شيء ينام بعمق ، الخفير عند الباب كان نائما ، وسائسي الحمير الذين ينتظرون السيدات ،كانوا نياما على الأرجح في الأروقة العالية للحمام ، وتجار التمر والرقي الجالسين على مقربة من النافورة ، والقهواتي مع زبائنه في المقهى ، وشياطين الألبان الضخام الذين يشكلون فوج الحرس أمام السراي ، كلهم كانوا نياما ، بنوم البراءة تاركين المدينة للهجران ..”

وعلى الرغم من الخلط بين التركي والعربي وحتى اليهودي في مصطلح “الشرق” المنوه عنه ، فإننا نلاحظ الفارق في كتابات أولئك الأدباء المستشرقين عن كل من سكان الشرق المحلوم به ، عن كتاب لوفيلوس ل”دوما يكتب الأخير :” كلما أكثر العربي من نسائه ازداد ثراؤه ..إنه وصف عام ، يعلق جوردا ، ومألوف في كل البلاد الإسلامية من بيروت حتى العاصمة ، الجزائر ، وما هو أكثر غرابة ، يضيف جوردا ، وإمتاعا هو ملآحظات “دوما “عن العدالة العربية التي كانت أقل شكلية وأكثر عدلا من العدالة الغربية

ويبقى البناء الذهني مسيطرا ، فها هو “دوما “أيضا يصف اليهودي قائلا :” كان الحانوت فرنا مجوفا في الجدار ، حيث يقف البائع اليهودي عند حافته جامدا وعيناه منتشيتان ، وغليونه في فمه ، وكانت إحدى قدميه منتعلة والأخرى عارية ..”يكتب بير لوتي أيضا : “ولا يمكن تصور شيء أكثر دناءة وأكثر نتانة وأكثر قبحا من بلاطة الحي اليهودي ..”ويكتب “موباسان ” عن الحياة في الواحات الجزائرية :إنها الواحات ، ..أو أنهن اليهوديات الجميلات جدا عند الرابعة عشرة ، ومن ثم عندما يكبرن يتحولن إلى بدينات بشناعة حيث تراهنَّ بأجسامهن التي تشبه الحيوانات المنقرضة مثل فرس النهر – كتلة من اللحم الصاخب والمتموج والمنتفخ ..”

في الرحلة إلى الشرق الصادر عن دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع عرض لما كانت علبيه انطباعات الرحالة من الأدباء الفرنسيين حول الحياة السائدة في الشرق وهي ،إن أحسنت قراءتها ، عكست من جهة الحال التي انتهت إليها الدولة العثمانية ، ومن جهة أخرى الوضعية العربية في تلك الحال ، والأكثر من هذا وذاك البناء الذهني الأوروبي الذي يتكون ويقوم على ما خلفه هؤلاء الأدباء ، وفي المحصلة ما انتهى إليه جوردا وغيره من أمثال فرومنتان  في قوله :” أسنفهم أنفسنا ؟ أسنفهم يوما ما ؟ لا أظن ذلك ، ويضيف :فالعرب يخشون حتى من أعمالنا الخيرة ، إننا سنبيدهم أكثر مما نجعلهم يخضعون لنا .” أو كما يعلق جوردا على وصف نرفال قائلا : ألا ينورنا هذا التهكم بالرؤية الصائبة لحالة اجتماعية كنا نقيم حولها أفكارا خاطئة ومنذ أكثر من قرن .”

 

 

 

جورج معماري