السؤال: عن أي قانون انتخاب تتحدثون؟

 

 

المباريات الاجتهادية التي مازلنا في أولمبياتيها على الساحة اللبنانية، لم تصل بعد إلى الدور النهائي كما ولم تجر فيها أيٌ من التصفيات مما يسمح بتنبؤ أيُ الفرق هي الفائزة، طالما أن الجميع مازال يجتهد بما يُقال أو يُقترح أو يُعترض عليه، وطالما أن الأصوات المتعالية من مدرجات الصحافة لا تسمح أو بالأخرى يختلط فيها الصراخ بشكل لا يفهم من المؤيد ومن المعترض، كما ولا يسمع في صخبها صوت الحكم الرائي لما يجري والمعترض تارة على هذا الفريق وأخرى على ذاك، فاللعب في أوْجهْ والحماسُ «منقطع النظير» فالجميع يضحى في زحمة «اللعب» مهللاً دون أن يفهم لمن يهلل ولمن يصرخ. فالمباريات بكليتيها أقرب ما تكون «للحيص بيص» لا ندري من الفائز ومن الخاسر، لكنَّ في الأفق بصيص نور ينبئ بأن الفجر لاح، إذ قد تبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض. فالكل مقتنع بأن «الطائف» هو قانون اللعبة وأن الطائفية ما تزال هي المرمى وأن اللاعبين قد اختُبر كلٌ منهم قبل الطائف وبعده، وما يزال يؤكد أن لا غنى عنه في لعبة الديمقراطية التي احترفها.

في مباريات من هذا النوع، ثمة سؤال يسبق الطائف والطائفية واللاعبين وحتى جماهير المهللين والمتفرجين: مَنْ ينتخب مَنْ؟ ومماذا يُنتخب هذا؟ وبصيغة أخرى، ما هو معيار الناخب كي يكون ناخباً والمنتَخَبُ كي يكون منتَخَباً وتالياً، عضواً في الندوة البرلمانية، المناط بها حلَّ إشكالات المرحلة المقبلة، إن على الصعيد اللبناني أو المنطقي مما يتطلب تقاطعاً معلوماتياً لا شك أن الكثير الكثير من الناخبين والمنتخَبين بغنى عنه في لجة المطروح والمتداول حتى الآن!! وأن التقاطع المعلوماتي الذي تجري في ضوئه السجالات يبقى إلى كم من الدوائر يُقسَّمُ لبنان وإلى أي مدى يتوافق هذا مع إمكانيات الفوز، لجهة الوعود وبدائلها والمعادلات السياسية التي تسمح لأي منها تبوء مركز الصدارة، وطالما أن الجميع قد أتقن هذه اللعبة تقنيِّاً ومصلحياً وسياسياً دون أن يكون لديه تقاطع معلوماتي في ما يعنيه وصوله للندوة البرلمانية، التي لن تكون بعد هذا «القانون» بأفضل من سابقاتها حيث العائلية والعشائرية والطائفية والإقطاعية السياسية والمحسوبية والاستزلام كفيل بوصول البعض دون البعض.

لن نتجنى على أحد إذا قلنا أن سمة الديمقراطية هي كذلك، بعض ما ترغب وبعض ما لا ترغب، لكننا نتساءل ها هنا عن نسبة هذا إلى ذاك داخلياً وخارجياً، لبنانياً ومناطقياً، ذلك أن «المكتوب بينقرا من عنوانو» وها نحن نقراء العنوان:

 

1 ـ الطائف:

 

 

مهما يكن من أمر الطائف، ظروفاً وأوضاع ومشاركين لبنانياً وإقليمياً ومناطقياً وعالمياً، فإنه في المحصلة، يعلن انتهاء مرحلة حرب أهلية، أدرك الجميع أن لا مخرج منها إلاَّ بالتوافق دون الاتفاق، إذ بقيت المنطلقات، وسائلاً وأهداف هي ذاتها التي قادت للكارثة التي تتطلب، بعد عقد من السنين، نفياً قاطعاً لكل ما قاد إليها.

الطائف، بما قاد إليه، إما أن يكون قد تخطى مبررات انعقاده أو لا يكون، وذا بطبيعة الحال، معيار نجاحه أو فشله، بل ومعيار مصداقية الذين وقعوه وأيدوه وما زالوا يرفعون شعاراته، وبهذا بالذات التأكيد على أن الطائف إن حال دون استمرارية الكارثة الوطنية، فإنه يؤسس لها، بقصد أو بدون قصد، ذلك أن المتداول بصدد قانون الانتخاب يبقى، بشكل أو بأخر، تهديداً بأنه ـ قانون الانتخاب ـ إذ لم يأتي في سياق ما، فهو دون شك يعيد البلاد لما حاولت الخروج منه خائبة، وهذا يعني في مطلق الأحوال، أن الطائف يتجسد، بطريقة أو بأخرى في قانون الانتخاب، لا يقدم البرهان على إخراج الوطن من محنته وإنما يثبت أن في لبنان يبقى التوافق بديلاً، أبداً، عن الاتفاق فلهذا الأخير مواصفات تتعدى مواصفات الأول، ولبنان، الذي نعتز بتجربته الديمقراطية، يبقى على الرغم من هذا الاعتزاز مكتنهاً مواصفات الأول حتى اللحظة وبعيداً عن الثاني بُعد الأسطورة (بمعناها السياسي) عن العقل، ذلك أن المستخلص من كارثة السبعينيات لم يبرح التفكير فيها، والتهديد بمسوِّغاتها، ذلك أن البعض، ناخباً ومنتخباً، يعتقد أن ذلك من الممكنات طالما أن الطائفية هي المرمى وطالما لبنان هو لبنان المتلبننين، والطائف ما يزال الطائف باللبنانين في شتى زواريب الكارثة، ونقصد لبنان المتقوقع، المنغلق، المنعزل عن محيط، ومداه، هنا لا شك أن تقاطع المعلومات يسفر عن وجه أخر للبنان، وجه ما تزال خطوط ملامح وجهه الأولى تنبئ أنه غير ذاك الذي توهمه هذا البعض، إذ أن لبنان المحيط والمدى والزواج المدني وحقوق المرأة والطفل.. وقانون الانتخاب ليس ذاك اللبنان المتوهَّم، لبنان اليوم هو لبنان المقاومة أيضاً، لبنان المسار اللبناني ـ السوري في مواجهة المسار العبري، نقول ذلك، على الرغم مما سبق قوله ولأنه لابد من الزمن كشرط أساسي بل وجوهري، للانتصار، ففي المدى الزمني هو ذا لبنان القادم من دهاليز العتمة الطائفية والإقطاعية السياسية والعشائرية والمصلحية والفردية، ذلك أن القضايا المطروحة اليوم على الندوة البرلمانية المقبلة، هي قضايا تتجاوز بنوعيتها تلك التي طرحت قبلاً، إن قبل الطائف أو بعده.. فهل يأتي قانون الانتخاب في مستوى المعوَّل عليه أم أنه يأتي على قياس وتفصيل الطائف؟ هل يكون القانون الانتخابي في مستوى قضايا لبنان المصيرية أم أنه يأتي على مستوى قضاياه المسوِّغة كارثة أخرى يلحق من خلالها لبنان بركب المصلحة الشخصية التي لم تتفق حتى الآن مع المصلحة الوطنية؟ هل يكون قانون الانتخاب في مستوى تغيير في النخب السياسية التي تتقاطع لديها معلومات تستشرف المستقبل بقضاياه؟

 

2 ـ الطائفية:

 

التساؤلات المطروحة أعلاه تنبئ بأجوبة تؤكد أن هناك انفصاماً في الشخصية التي يؤول إليها لبنان، فما ينتظر لبنان غداً هو غير المتداول فيه اليوم، مستقبلاً قد يكون لبنان في امتحان من أقسى وأعسر امتحانات تاريخه، إنه امتحان في مدى انسجامه مع نفسه وتطلعاته بعيداً عن المرحلة وظروفها وملابساتها وقواها، لبنان الغد لبنان القرار الذي يدرك أين مصلحة لبنان ومحيطه ومداه، القرار الذي يؤكد أن لبنان لن يكون لبنان إلا بمقدار ما يكون في محيطه ومداه الحيوي، وأن لبنان الأمس، لبنان الانعزال قد ولى عهده إلى غير رجعة، لبنان المطروح اليوم ليس لبنان الغد، لأن قرار الغد، هو القرار الذي يأتي على صيغة لبنان المقاومة وحقوق الإنسان، لبنان الغد هو لبنان الذي لا تأتي فيه القرارات توافقية بل قرارات اتفاقية قاعدتها الأولى والأخيرة هي وحدة الرؤية، وحدة المفاهيم، وحدة المنطلقات المبدئية، لا منطلقات الطائفية المصاغة على قياس المرحلة وظروفها وإشكالياتها وتسللاتها، لبنان الغد لبنان الجرأة والوضوح والقرار النابع من انسجام ذاتي بين الممكن والتطلع.

هذا اللبنان، لا نتعقد أنه الهاجس الذي يقضُّ مضاجع الناخبين والمنتخبين، لأن المتداول، يأتي أبداً على صيغة الطائفة ومدى تسللها في المرحلة لتصل الغد بالأمس الذي ما زلنا نشهد عليه اليوم، من تنصل الكثيرين من تبعاته، إذ أن الجميع ما زال يتناسى ممارساته التي إن صبت شعاراً في مصلحة لبنان، لكنها في التطبيق لم تكن يوماً في هذه المصلحة.

وطالما بقيت الطائفية مرتكزاً لهذا الناخب أو ذاك المنتَخب، فلبنان لن يكون لبنان الغد، وطالما بقي المرشحون المنتخبون وغير المنتخبون يمثلون طوائفهم أو يؤخذون على نحوٍ طائفي، فهم بالإضافة لكونهم ليسوا في مستوى الشعارات التي يطرحون والمنتمون إليها أساساً والتي يدَّعون أنهم بها تجاوزوا طائفيتهم، هم في الواقع والحقيقة التي لا تقبل جدلاً، طائفيون مهما أدعو غير ذلك، بل أنهم الأكثر طائفية والأكثر تشجيعاً لها، ميزة اللا طائفي أنه في دائرة ليست حكراً على طائفته، يرشح نفسه، لأنه يكون على ثقة بأنه يؤخذ لميزاته الشخصية وليس لأنه يمثل الطائفة التي ينتمون إليها، ذلك أن المصالح الحياتية لم تكن في يوم مصالح طائفية وكذلك هي المصالح الوطنية والقومية والإنسانية، والمرشح الذي في غير الدائرة الحكر على طائفته، يؤكد أيضاً أنه ليس ممن يؤثرون غير الكفء من طائفته على الكفء من الطائفة الأخرى، بل ويؤكد للعامة من الناخبين، أن ما من مرشح حتى الآن كان يمثل الطائفة، لأن الأخيرة ليست وحدة بأي معنى كانت بها هذه الوحدة، ففي كل طائفة أغنياء وفقراء متعلمون وجهلة سياسيون من مختلف الاتجاهات بل والأكثر من ذلك إن في الطائفة الواحدة من التناقضات والخلافات والانشقاقات أكثر بكثير مما في غيرها من الطوائف ـ والدين ومن ثم الطائفة، لم يكن في يوم من الأيام قائماً في مصلحته على شخص أو مرحلة، بل على العكس تماماً، كانت الانكسارات الدينية في أغلب الأحيان نتيجة فرد أو ظرف أو وضع، كان يُعتقد أنه حامي الدين أو الطائفة، مما كان يلقي على أولئك العامة من هذا الدين أو الطائفة تبعات ما كانت لتخطر على بال.

مهما يكن من أمر قانون الانتخاب ودوائره، فإن لبنان الغد، هو لبنان الذي يأتي من خلاله للندوة النيابية من ليسوا من دائرة هي حكراً على طائفتهم، فيسقطون وإلى الأبد «مقولة» الطائفة والمرجعيات الدينية التي لا همَّ لها إلاَّ أن تبقى المعبر الوحيد عن طائفيتها وهي في الواقع لا تعبر إلاَّ عن مصالح فردية فالخلافات والتناقضات والانقسامات والانشقاقات التي تعصف في أية مرجعية دينية هي أعمق بكثير مما ظاهر للعيان.

ليس الولاء للطائفة ولاءاً وطنياً، ولا ولاءاً للبنان الغد، إن الولاء الطائفي هو ولاء المصلحة الفردية التي تعجز عن بلوغ أهدافها فتسعى من خلال طائفتها على ذلك، إن الطائفية عمياء لا ترى النقص في إمكانية الطائفي بل إنها، وفي كثير من الأحيان تبرر النقص في الاختلاف الطائفي لتتبوء ما ليست جديرة به فيكون البلاء الطائفي عاماً، بدل أن يقتصر في اللاطائفية على الفرد.

 

3 ـ الدوائر الانتخابية:

 

أكان لبنان دائرة انتخابية أو عدة دوائر، فاللاعبون الديمقراطيون هم نفسهم، كل منهم قد سبق اختباره، بعضهم قبل الطائف وبعضهم الأخر بعده، وما هو قائم اليوم من نتائج لعبهم، كلٌ منهم إن في الهجوم أو في الدفاع أو في المؤازرة حيناً مع هذا وأخر مع ذاك، قد سجل من الأهداف في المرمى الأخر، كما سجل الأخر في مرماه، أهدافاً ما نزال نسمع اليوم مبررات هذا ومسوِّغات ذاك.

في الفشل العام، في الانكسار، في الاختناقات، أبداً تكون التبعة على الأخر الذي ما فتئ يضع العصي في الدواليب، ونادراً، وقد يكون معدوماً، في تاريخنا، أن يؤخذ بعين الاعتبار المبرر الذاتي للفشل والانكسار، إذ ما زلنا أعجز من أن نمتلك الجرأة في أن نعلن عن أن فشلنا أو انكسارنا، كان ذاتياً أكثر مما كان، في مسبباته عاماً، في الأخر.

لم نسمع في تاريخنا أن شخصاً تنحى عن الحياة السياسية، لأنه فشل في بلوغ ما يرجوه أو ما يرجى منه، كانت الأسباب دائماً هي أنه يجب أن نثبت مقدرتنا أبداً على تجاوز ما أدى لهذا الفشل أو ذاك الانكسار، ذلك إن المبرر الذي نقتنع به نحاول أن نقنع به الآخرين، ما زال في أننا لم نمتلك بعد زمام الصراحة والوضوح والمواجهة الحقة مع الذات.

دهقنة سياسية، هي الحديث عن كم من الدوائر يكون لبنان، لأنه كائنة ما كانت عليه هذه الدوائر، فاللاعبون هم هم، وهم الذين بتوافقهم تأتي صيغة الدوائر وهي الدوائر التي تضمن الفوز، فهم المشرعون وهم المنفذون وهم القضاة.

لبنان الغد، إذا لم يكن لبنان اليوم، فهو لبنان الذي تتغير فيه وجوه الأمس واليوم، وما الصراخ والهتاف والتصفيق إلا محاولة جادة ليبقى لبنان الأمس لبنان اليوم لبنان الغد.

 

4 ـ لبنان الشعب:

 

 

لم يتجاوز لبنان الشعبي بعد مرحلة ما قبل الكارثة، بل إنه يعود إليها ببطئ، تسللاً في الظرف غير المواتي، لبنان الشعبي ما زال يراهن على الأشخاص، على الطائفة حتى وعلى الطائف، لم يصل بعد لبنان الشعبي للاعتراف بأن ما هو حاصل اليوم كان في جملته لأسباب عدة ما زالت فاعلة، وهي عدم القدرة على صوغ التاريخ مقولة للمستقبل في ضوء المطروح من الإمكانية، ما زال لبنان على الرغم من كل ما يقال منشداً إلى ما يبرر به لغطه اليوم في مستقبله.

البون الشاسع بين أن يأتي قانون الانتخاب على أسس توافقية تبقي كلٌ في موضعه منغلقاً منعزلاً وبين أن يأتي بصيغة اتفاق على أن لبنان الغد هو لبنان الذي لا انفصام طائفي عشائري سياسي في شخصيته هو بون إما أن يجتازه اللبنانيون اليوم وإما أن يبقوا على عوامل كارثة وطنية ليست بصيغة الحرب الأهلية وإنما بصيغة انسلاخ لبنان عن مداه الحيوي ومحيطه.

هذا البون إما أن نجتازه في الأيام القليلة القادمة وإما أن نبقي على التوافق وهذا الأخير هو ما قد يحصل والمرجح في مختلف الاحتمالات والسيناريوهات المطروحة، مع التأكيد على أن المدخل للقرن القادم باحتمالاته الصعبة لن يكون إلاَّ بالاتفاق بعيداً عن التوافق المصلحي والسياسي، الطائفي والعشائري..

جورج معماري

الثلاثاء 14 ديسمبر 1999 م