الكوتا النسائية

 

 

 

على الرغم من كل ما قيل وما يقال في موضوع المرأة، يبقى هذا الموضوع بالذات، مراوحاً في مكانه دون أي تقدم، إن لم نقل أنه الموضوع الأكثر تراجعاً من الموضوعات الأخرى المطروحة للحوار، وهو كذلك لأنه الموضوع الأكثر صلة بعميق اقتناعاتنا، نساءً ورجالاً، على حدٍ سواء، وهي الاقتناعات التي رسختها ركائز النشأة الاجتماعية ـ الدينية والثقافية ـ السياسية. وكما لا يمكن مناقشة المرء في فكرته عن نفسه، كذا موضوع المرأة، لأنه الأكثر حساسية على أي وجه أخذ به. لذا كان لابد من تناول موضوع الكوتا النسائية، ليس لجهة كونه قضية مساهمة المرأة في الحياة السياسية، وإنما في كونه قضية رؤية المرأة لذاتها أولاً وللمجتمع ثانياً وللحياة ثالثاً، وإن كنا نحصر هذه الرؤية في المرأة فلأنها في واقع الحال رؤية الرجل بالذات لذاته أولاً وللذوات الأخرى ثانياً، أكانت هذه الذوات نساءً أو رجالاً.

إن طرح الكوتا النسائية مسألة تفترض أول ما تفترضه أنه لابد للمرأة من أن تعيد صياغة رؤيتها لنفسها، لذاتها، لا لجهة كونها كائن إنساني ، وحسب بل، لجهة كونها كائن منفعل أو فاعل أو متفاعل، وفي هذا السياق لابد من طرح المسألة على نحوٍ أخر، هل تمتلك المرأة، أياً كانت، قدرة على اتخاذ القرار؟ ليس في المجلس النيابي، تحديداً، حتى، ولا في أية سوية رسمية تخولها ذلك، فهي والحال ناطقة ليس إلاَّ باسم السنن والشرائع التي تخولها، كما تخولُّ الرجل، صلاحية ومسؤولية اتخاذ القرار، إنما في الواقع قدرة وإمكانية اتخاذ القرار على الصعيد الشخصي، أي في كل ما يتعلق بوضعيتها كامرأة في المجتمع، زوجة كانت أم أختاً أو أماً وابنة. هل في قدرة المرأة المفاضلة العملية بين كونها ربة أسرة أو كونها عاملاً سياسياً أو حتى اجتماعياً إذ ما تعارض هذا مع ماهية ما تحاول التوفيق بينه؟ هل بإمكان المرأة أن تستمر في حياة، كائنة ما كانت، اجتماعية، سياسية، ثقافية.. إذا ما اعترض على ذلك الرجل ـ المجتمع؟ هل بإمكان المرأة أن تتحمل مسؤولية اتخاذ قرار من القرارات على صعيدها الشخصي دون الرجوع فيه للرجل والمجتمع؟ وهل هي بقادرة على اتخاذ قرار الطلاق من الرجل إذ ما ثَبُتَ أنه غير جدير بها على أي صعيد من الأصعدة وأن تتحمل كافة النتائج؟ وما هي مدى قدرتها على اتخاذ قرار بالترشيح أو العمل السياسي إذ ما اقتضى ذلك انفصالاً بينها وبين الرجل أو الأسرة أو العائلة أو الطائفة أو..؟ هل بإمكان المرأة أن تتخذ قراراً بالاقتراع لنائب لم يوافق عليه الزوج، والزوج بالتحديد، وهل يمكنها إذ ما استتبع ذلك، من قرارات، تتلمسها كل يوم، أن تستمر في موقفها ضاربةً بعرض الحائط كل مستتبعات الموقف..؟

هل يمكن للمرأة أن لا تظهر على الدوام بمظهر الضحية والمغدورة، الضعيفة المستضعفة، الصاغرة، القاصرة، الراضية، القانعة بل والخانعة والمستسلمة، وأنها أبداً المفعول فيه والمفعول به؟!.

هل يمكن للمرأة أن تتخلص من فكرتها عن نفسها بأنها المستهدفة دوماً؟ وهل يمكنها، أن تفصح عن رأيها، ليس السياسي أو الاجتماعي العام، بل عن رأيها الشخصي، عن تجربتها الشخصية، عن علاقاتها عن توجهاتها، عن رغباتها، عن تمنياتها، عن كل ما يحيط بها وتشعر به وتحس به، دون أن تأخذ بعين الاعتبار الآراء الأخرى، المناهضة والرافضة والمستكبرة والمضادة والمتناقضة..؟.

وفي الإجابة على ذي التساؤلات المختصرة والمحتشمة وحتى الخجولة وحتى القاصرة عن طرحٍ أكثر فجاجة وأكثر وقاحة وصفاقة، في الإجابة عن التساؤلات المطروحة، نقول، أن ثمة نساءٌ كثيرات أجَبْنَ عليها عملياً وتحملن مسؤولياتهن، مسؤوليات الإجابة الفعلية عليها، لكنهن كن وحيدات، مستفردات، منبوذات وحتى من أولئك اللاتي ما أولن يتنطحن لقيادة الحركة النسائية، في مختلف أنحاء العالم الذي سبق تسميته بالعالم الثالث والذي ما يزال اليوم يبحث عن تسمية جديدة له بعد سقوط العالم الثاني، هذه الحركة، التي هي على نمط هذا العالم الذي يبقى لا ثالثاً ولا ثانياً ولا حتى أولاً، إذ أن الواقع يدل على أنه العالم الأخير، فهناك فعلاً عالماً أول وهناك فعلاً عالماً أخيراً، وما عدا ذلك هراء بهراء، وكذا الحركة النسائية، عالم أخير لعالم أول هو: الرجل، الذكورة، الفحولة وقد نسيتْ /الفحولة/ هذه سمتها في طفولتها؟!!.

في المحصلة، تبقى المرأة ممتهنة أولاً وأخيراً من قبل المرأة، وتبقى المرأة عدو المرأة، وتبقى المرأة في مواجهة المرأة في حقيقة الأمر وليس في مواجهة الرجل، هذا الأخير، هو أبداً لاهث وراءها، مهما أدعى، ومهما تكبر، ومهما تجبر، فما من سمة أو صفة أو وصمة، وُصِمَ بها، إلاَّ وكانت المرأة حجر الأساس التي تحركه وتديره، والذي قامت عليه، والأمثلة على ذلك كثيرة، بل والأنكى من ذلك أنها متكاثرة هي  دوماً في مقولة الرجل عكس ذلك، وكأنه ينفي عن نفسه خطأ قد ارتكبه.

والرجل برئ كل البراءة من كل ما يسم المرأة أو يصفها أو يصمها، ذلك أنه /باحث عن المرأة التي وراءاه/ بل /ومفتش عن المرأة/ التي دفعت لخذلانه وانكساره..

والواقع الذي لابد من الاعتراف به هو أن الرجل يخشى المرأة ويخافها، إن أطلق لها العنان وأفلتت من طوق ربقته وما عاد بقادر على كبح جماحها، ليس فقط لأنها تطغى عليه وإنما أيضاً لأنها تصدمه في واقع الحال بالذي هو عليه، وهو الواقع الذي يعرفه جيداً، ويتلمسه في كل هنيهة من حياته، ويأبى تحت مختلف الظروف والأحوال، أن يفصح عنه،أو أن يدل عليه، إنما أبداً في السرِّ تعلن الحقائق، وقبل ذلك تتكشف، فيبدو الكبير صغيراً والأخير كبيراً..

قال لي والدي مرةً: كثيرون ترَيْنهم عن بعدٍ كباراً، وأكثرهم عندما تقتربين منهم، صغاراً، والعكس صحيح والدي..

مأساة المرأة أنها تطلب، أو تستغيث، وفي أغلب الأحيان تستجير، والمسألة إذا بقيت على ذي الحال، هي مراوحةٌ في المكان، بل ومتراجعة.

ما تقدم، كان لابد منه لتحديد محاور البحث في «الكوتا النسائية» وحتى لا تكون هذه مجرد دعوة، ومجرد اقتراح أو استقصاء للرأي أو حتى سبر لاقتناعات ولا حتى بيان لمدى الانسجام بين المنطلق والغاية في الوسيلة، إذ لا يمكن فهم موضوع «الكوتا النسائية» بمعزل عن قضية المرأة ككل، المسألة ليست على نحوٍ من: هل يمكن للمرأة أن تُمَثِلَ سياسياً فئة معينة في مطالبها واهتماماتها؟ وهي ـ المرأة ـ صوت، في الاقتراع، يُمَثَّلُ في البرلمان، والإجابة الموضوعية هي أن المرأة القادرة على الاختيار جديرة بأن تُختار. ففي الاقتراع، كما في الترشيح، كما في التمثيل، يكون الأهم في الموضوع، ليس اتخاذ القرار، إنما في الواقع، صحة وسلامة وصوابية ومصداقية وجرأة وشجاعة ووضوح وجلاء القرار، وإلاَّ على أي أساس تم اختيارُ رجلٍ معين لهذا المنصب دون غيره، وهل الرجل في هذا المكان أقدر من المرأة على رؤية صوابية الأمور، فإن تمعَّنا في كل ما تقدم، في كل ما يعنيه اتخاذ القرار، أدركنا، في الواقع العملي أن ما من قرار قد اتخذ حتى الآن إلاَّ وكانت فيه من المقومات ما يكفي لأن لا يكون مُتَّخِذُهُ في موقع اتخاذه ولا حتى في مستوى مسؤولية نتائجه، فذي هي سياستنا واضحة للعيان وذي هي الاعتراضات عليها وذي هي أيضاً مقترحات تعديلها وتصوبيها,, والمسالة في هكذا مجال ليست، قراراً واعتراضاً واقتراحاً، إنها في كل من هذه الاتجاهات، مسألة توافق أو بالأحرى تقاطع معلوماتي، نعتقد جازمين أن كثيراً وكثيراً من سياسيينا يفتقرون إليه؟! فإن كانت هي ذي الحال، فما هي حال المرأة في موضوعٍ يدخل في صلب تساؤلنا الأخير، إذ نكاد نتبين أن تقاطع المعلومات هذا، بعيد كل البعد عن معتركنا السياسي، فإن تركنا السياسة الدولية، والتي غالباً ما يكون لسياسيينا، في تقاطع معلوماتهم، موقف يأتي على نحوٍ من أقوال الصحف أو نحوٍ من نشرة أخبار، بمعنى أن القلة، والقلة القليلة جداً جداً جداً، يكون لها مصادرها الموثوقة في مدِّها بالخبر اليقين الذي تعمل ـ القلة ـ على صياغة تقاطعاته مع الأخرى الموثوقة في صيغة قرار،نقول، إن تركنا السياسة، وولجنا معترك موضوع المرأة، فإن الموضوع من حيث هو تقاطعات، يقين واختيار وممارسة، فإن المعلومات، الموثوقة، عن المرأة، تكاد تكون ابعد ما تكون عن الحقيقة. وذي هي الحقيقة الوحيدة التي تقف وراء كل ما هو مطروح بشأن المرأة «نصف المجتمع».

ليس في مجتمعنا تقاطعاً معلوماتياً عن المرأة، لماذا؟ لكل ما تقدم، بل ولأن ما تقدم، يبقى في العمق، في الغور، في الاقتناعات الدفينة في صدر المجتمع، يراها ويتلمسها ويتحسسها، لكنه أبداً يغضُّ النظر عنها، بل وفي أحيان كثيرة حتى الطّرف، ذلك أننا مجتمع، أبعد ما يكون عن الجرأة في مواجهة الذات، وأنه في مجتمع كهذا، يبقى كل شأن مغفلاً، مموهاً، بل ومعَّوماً في مجمل، وليس في أغلب، الأحيان.

في ابرز مبررات ما تطرحه «الكوتا النسائية» هي أنها تطرح موضوع الجرأة الأدبية في مواجهة الذات على المحك، أكثر من ذلك، في إعادة صياغة المفاهيم التي ترسبت وترسخت في تلافيفنا، وما عدنا بقادرين على مواجهتها والإفصاح عنها، وبصراحة مطلقة، أجَبْنَ من أن نعلن أمام أنفسنا وذواتنا: من نحن؟ أجَبْنَ من أن نقنع أنفسنا بأننا هكذا، دون مراء وكذب ودجل، قبل أن يكون أمام الآخرين هو أمام النفس!!!.

ليست «الكوتا النسائية»، حصة سياسية، إنها في حقيقتها، صهراً وبلورة وصقلاً، للذات الفردية أولاً والاجتماعية ثانياً والسياسية ثالثاً والثقافية رابعاً والدينية أخيراً وأخراً، فهذه الأخيرة كانت وما تزال حجر العثرة في أي من خطواتنا والعقبة الكأداء التي تقف أبداً بين ذاتنا وذاتنا.

هناك فرق بيِّنٌ بين ما قيل وما لم يقل، ذلك أن الأول، على الرغم من كثرته، كان تعمية على الثاني، هذا الثاني الذي يبقى أبداً بيت القصيد.

ما لم يقل، هو ما تطرحه «الكوتا النسائية» صراحة، وعلى المرأة قبل الرجل، ذلك أن المبرر الوحيد يبقى أبداً ضرورة تجاوز الكذب والرياء والدجل في كل ما يمت لحياتنا بصلة، لتأتي الضرورة على نحوِ لزوم الصدق والصراحة لحياتنا، في كل ما تعنيه من شؤون، هكذا، لا يكون المطروح لإبداء الرأي، مجرد طرح سياسي، بل يكون طرحاً يمس جوهر السياسة بكل أبعادها، منطلقات ووسائل وأهداف، بل وبما تشمله من اجتماع واقتصاد وثقافة..

«الكوتا النسائية»، على نحوِ ما هو مطروح، تزويغ للحقيقة، وهدر للطاقة وضياع للزمن، الكوتا النسائية، في ما تطرحه هو على نحوٍ من حقوق الإنسان /..في التمتع بكافة الحقوق والحريات.. دون أي تميز.. بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي نوع أخر.. دون تفرقة بين الرجال والنساء.. في الحياة والحرية وسلامة شخصه.. للرجل كما للمرأة.. حق التزوج.. دون قيد بسبب الجنس أو الدين ولهما حقوقاً متساوية.. في تقلد الوظائف العامة.. في العمل.. في أجر متساوٍ.. في التعليم../، وعدم ارتباط الأخلاق بهذا دون غيره، إذ العهر، إذ الرذيلة، إذ الزنى، أن يكذب كلٌ من المرأة والرجل وأن يراوغ كليهما، وأن يمثل كلٌ منهما على أخر، وأن يفتقدا الصدق والصراحة لأي دافع إنساني، فالحياة شؤون ولا يمكن لأي شأن أن يطغى على أخر، على نحوٍ من إشراق الشمس مرة واحدة وإلى الأبد.

لم تمنع الأخلاق الرجل عن ممارساته، كما المرأة، وكما لم تمنع الأخلاق الساسة من كذبهم على شعوبهم، وكما قال جبران «اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم»، وهو بذلك أقرب ما يكون لمن يتقوَّلون بالأخلاق والقيم والفضائل والمثل والمناقب.. كما ذهب سعيد تقي الدين في قولته المشهورة: «أفصح ما تكون القحباء عندما تحاضر في العفاف..».

ليست الكوتا النسائية، حصة برلمانية، إنها أبعد من ذلك بكثير، إنها المساواة الفعلية بين الرجل والمرأة، حقوقاً وواجبات، إذ لا يعقل أن يطبق القانون الواحد على طرفين غير متكافئين، ليس قانوناً هو ذاك الذي يمايز بين مواطنيه في الحقوق ضمنياً وفي الواجبات علانية، والمساواة مع الرجل، هي مساواة في ممارسات الرجل، إذ لا يعقل أيضاً أن يقبل المرء لنفسه ما يرفضه بالنسبة للآخرين، فما يسمح به الرجل لنفسه، عليه أن «يسمح» به لأمه وأخته وابنته وزوجته وعليه أن لا ينسى أو يتناسى أو يغضَّ الطرف ويعمى عن أن ما يطلبه من حبيبته وعشيقته وخليلته ليس، مطلوباً أيضاً من أخته وأمه وزوجته، فالمسألة الديمقراطية ليست شأناً دون الأخر، هي كل الشؤون، وعلى الرجل أن يتقبل للأخر، كائناً من كان، ما يتقبله لنفسه، المسالة إذن، الكوتا النسائية، هي هذه، الحقيقة، دون مراوغة أو كذب أو خداع أو تحايل على الألفاظ، إنها بحث لساني في السلوك الاجتماعي والثقافي والسياسي وأخيراً الديني..، إنها كشف لذات البشرية واستئصالٌ للورم من أساسه..

إن مختلف الطروحات، التي انتهت إليها «الكوتا النسائية»، تبقى طروحاً عرجاء، إن لم تكن مشلولة عاجزة عن السير، بل والأكثر من ذلك، هي أعجز من الزحف على البطون، وهي لذلك مشوَّهة بل وقسرية، ومجزوئة، في خجلها، في حيائها واستحيائها.. لأنها بعيدةٌ كل البعد عن لبِّ الحقيقة.

وقد يكون ما تقدم، هو الخلاصة التي تنتهي إليها الحركة النسائية ـ الكوتا النسائية ـ بعد عشرات السنين، ذلك أن ما تقدم هو بحكم سنين التطور، واقع لا محالة، ميزة الكوتا هنا، وفي طرح جرئ كهذا، إنها تختصر الزمن، فلا ترى الجدة ما كانت تتوق إليه في حفيدتها، والحياة بحد ذاتها، فرصة نادرة لن تتكرر!!.

«الكوتا النسائية»، صدمٌ مباشرٌ، للذات بالذات، صفعُ الحقيقة للباطل، تعرية الصدق للكذب..، «الكوتا النسائية»، انتصار للقيم الحقيقية على الزائف والقشور من الحياة.

بهذا المعنى، تكون الكوتا النسائية، انتصار على «إسرائيل» انتصار لقضايانا كافة، القومية منها والاجتماعية وبما هي سياسية وثقافية واقتصادية، كيانية، وطنية، عالمية، إنسانية، وهي انتصار العقل على الخرافة والعلم على الجهل، وأخيراً وليس أخراً، الدين على الزيف الديني..

في فهمٍ «الكوتا النسائية» على هذا النحو، ليس من مصير لها سوى الانحلال والذوبان في سعير النار الموقدة في أنانية مجتمعنا، في نرجسيته، في تخلفه، في جهله، في خرافته، شأنها شأن مختلف القضايا المصيرية منها وغير المصيرية، مصيرها، مصير الأحزاب في تشرذمها والهيئات في شكليتها والقوى السياسية في ضعفها، لكنها ـ الكوتا ـ مع ذلك وضع للإصبع في الجرح وبيان الخيط الأبيض من الأسود، بل وفوق كل ذلك، غرز المخرز في العين لا لشيء وإنما لتبيان أيها المخرز وأيها العين..

وفي هذا السياق، فإن المواقف، التي آلت على نفسها حتى الآن أن تظهر على نحوِ ما ليست هي عليه في حقيقتها، تتعرى واحدة تلوى الأخرى من كل ما تلبسه، إذ ستجد كثير من الهيئات أهلية أو مدنية، ما يحول دون تأييد الفكرة، وستلبس، هذه، لبوسات عدة، لا لشيء إلاَّ لتبقى مؤسسات، لها ما لها دون ما عليها، ذلك أن مؤسساتنا، أهلية أو مدنية هي على نحوِ أفرادها، وهؤلاء على نحوِ قوانينها، كذا نحن، أبداً، مزدوجون، منفصموا الشخصية، نتعرى ونحن معتقدون أننا ما زلنا متسترين، بل ومتدثرين، ألم يقل جبران «الحشمة ترسٌ منيع للوقاية من عيون المدنسين»، لكنه أردف متسائلاً، «أفلا تصبح الحشمة قيداً للفكر وتلوثاً له عندما لا يبقى مدنسون في الأرض». و«الدنس» هو دنسُ الفكر قبل أن يكون دنس الجسد، هكذا الكذب خيانة وزنى وعهر ورذيلة، وعندما نصل مستوى هكذا اقتناع، فلا شك أن من مؤسساتنا، الأهلية أو المدنية، من ستخرج للملأ، صادعة، جاهرة، بكل ما تعنيه هذه /الكوتا/ المطروحة الآن على بساط البحث، وليس على المستوى السياسي، المجزوء، المبتور، إنما في ما تعنيه منطلقاً ووسيلة وغاية، حتى لا تقبع هذه الكوتا، إن أجبرت، في البرلمان على صورة من لا يرى ولا يسمع ولا ينطق، كالكثيرين..

والمبررات لكل المواقف، كثيرة بل ومتاحة، وهي أبداً في سوق العرض، ومع أنها تبقى فكرة ناقصة ـ المبررات ـ لكنها تبقى واجدة تكاملها في واقعٍ كواقعنا، في مجتمعٍ كمجتمعنا، وكما المؤسسات، على اختلافها كذلك الأحزاب، فهذه في تاريخيتها، أثبتت، أنها اقدر الجميع على التزيِّ، بالدارج من الأزياء.

أحزابنا، كما نساؤنا، في الدارج، في «الموضة» أناسب الجسم أم لم يناسب، فالقصيرة ترتدي القصير كما الطويلة، لا لشيء، فقط، لأنها، «مودرن» يكفي أنه في التفاصيل يظهر ما تحب الظهور به.

أحزابنا، هي كنسائنا، تضع من المساحيق والمكياج، ما يمكن أن يلغي معالم الوجه الحقيقية، مع أنه مصنوع لغير بيئتها، ولا يتناسب مع دخلها ومصروفها وحاجتها..

أحزابنا، في الظاهر، ستقف جميعها مع الكوتا النسائية، حتى الدينية منها والمذهبية والطائفية، ولكنها في الواقع، ستجد من المبررات ما يحول دون ذلك، لأنها ستكون عاجزةً عن إيجاد من تَكْفَلَ له مقعده البرلماني من الضياع، ليس لعلة في المرأة كعضوٍ فيه، وإنما لعلة في الحزب ذاته، إذ هو، كما في أعضائه، كذلك في عضواته، تختلط في مبادئه قناعات أفراده، نساءً ورجالاً، ويدعي الجميع، بعد ما يُفَصِّلُ المبادئ على قياس القناعات، أن ذي هي العقيدة، الفكرة، النظرية..

هنا، تبدو النتائج المتوقعة، صدمٌ للمجتمع في مفاهيمه، وتعريته من كل زيفٍ، ومحاولة رؤية المرأة بغير ما هي عليه في الواقع، عليها من الواجبات ما ليس لها من الحقوق، وفي النتائج المتوقعة أيضاً، ترى المرأة أيضاً أن ما استسلمت إليه زمناً يعود محرَّضاً لها للعمل بموجب حقوقها كإنسان ورفض لواجباتها كسبيَّة وممتهنة بل وأكثر من ذلك كجارية، كامرأة  تبقى على الدوام تخشى /سن الضهي/.

في كل ذلك، تبقى الكوتا النسائية طرحاً فعلياً لقضية اجتماعية أكثرَ وأعمقَ منها سياسية لأنها في حقيقتها تنال من جميع قضايا الحياة بصورة عامة، وليس بصورة خاصة، فلا تقدم، ولا تطور، ولا تنطيحاً حقيقياً لقضايانا المصيرية، دون المرأة.

فالمرأة، هي خصب الحياة، معها التجدد الدائم، وفيها اللمحة الإنسانية الحقة، ومعنى تغييب المرأة عن حياتنا السياسية هو تغييب لجملة، لا عدَّ لها ولا حصر، من قضايا الحياة، القضايا المطروحة هي قضايا الذكورة، قضايا تخدمها، توطدها، تجذر مكتسباتها التاريخية على أرض الواقع..

في الكوتا النسائية، تعود الحياة لانسيابيتها وتتلمس تعرجاتها، تتخلص من التفافها، ومن انكساراتها التي تهدر أبداً كشلال، يأبى، لأنه كذلك، إلاَّ أن يحوِّل حبات المطر إلى سيول جارفة، وطوفانات تعبث في الأرض تخريباً.

والمسألة على هذا النحو، ليست مسألة حصة برلمانية، إنها تحدٍ للمطروح شعاراً انتخابياً، إذ قد تنتقل الحركة النسائية، ويجب أن تنتقل، إن لم تراعَ حقوقها، إلى حركة تقف سداً منيعاً في مواجهة من يعملون على تغييب قضايا، ومن جملتها قضية المرأة، عن المجتمع، ليبقى المجتمع اعرجاً، بل وكسيحاً، يبقى متكئاً على العصا بديلاً من القدم الحقيقية، فتُسقِط من حصة الرجل البرلمانية ما أمكنها إسقاطه.

إن الكوتا النسائية، هي المقدمة الضرورية والـ ما بعد ضرورية لقيام النصف الأخر من المجتمع بدوره الفعلي، العملي، الميداني في قيادة الحياة الاجتماعية، قيادة سياسية وثقافية واقتصادية، بل وتاريخية، تعمل على تغير ما عجز ويعجز عنه الرجل، طوعاً لا غصباً، لا لشيء، فقط لأنه يمسُّ الرجل في مصالحه وامتيازاته، واحتكاراته كرجل، تلك التي تمحورت حتى الآن في ملكيته للمرأة وتجيِّرها أبداً لخدمة أغراضه، واستثنائها أبداً وتهميشها وتحجيمها، طمعاً في إبقائها، طَعْماً ونكهة، وطُعْماً للنيل من خصومه، ومطمعاً ذاتياً تغوص إليه كلُّ آماله وأمانيه. وهو لذلك سيبقى متلبساً كلَّ اللبوسات للحيلولة دون بلوغ ما تطمح إليه الكوتا النسائية، فيتخفَّى أحياناً بالديمقراطية، كتنافس يصل إليه كل من يرغب فيه، رجلاً كان أو امرأة، مغيباً، كالعادة، جملة معايير من أبرزها أنه ما كان ليصل إلى مقعده البرلماني لو لم يكن عضواً في كوتا /لائحة/ رجَّالية، وأنه أبداً غير بالغ سدة البرلمان، لو لم يكن ممثلاً لما يعشعش في النفوس من مفاهيم، عائلية وطائفية ومذهبية، بل وعرقية وحزبية، ما زلنا نعاني منها، كمجتمع، الأمرَّين، وأنه أبداً متلبسٌ للطائفية السياسية، والتي على الرغم من كل ما يقال فيها، تبقى وستبقى، تحت مختلف الشعارات والظروف والوضاع والأحوال، القاعدة التي لا يمكن للكثيرين بلوغ ما بلغوه دونها، والتي تأتي الكوتا النسائية صدماً مباشراً لها..

في الكوتا النسائية، يسقط الرجل المتلبس بجريمته، بما افتعلت يداه، إذ ما يزال يتلبَّس السنن والشرائع ويتهمها بما في نفسه من مصالح ومطامع ومطامح، وهو الذي لا يتغذى إلاَّ على دماء الدساتير والقوانين، ويفرد على الدوام مختلف أطباق الأنظمة والتي ما تزال حتى اليوم وجبته الشهية..

في الكوتا النسائية، تسقط جميع الأقنعة التي تغطي الوجوه، وجه المرأة قبل الرجل، ويظهر كلٍّ على حقيقته دون زيف ولا خداع، وتتعرى النفوس من كل لبوس زائف لا يتناسب ومقاييس الجسد الإنساني، أكان «موضة» أو «مودرن» ولا نعود للتبرج أو التمكيج إلاَّ وفق انسجامنا النفسي والفكري، وبما ينسجم ويتناغم مع طبيعة، وبيئة حياتنا نحن، دون أن نكون مكلفين بتطبيق مفاهيم الغير دون معرفة هل هو مناسب لنا أم لا، وبذلك نحقق الانسجام الروحي والفكري وبذلك نصل إلى ما هو جميل وجيد دون تكلف ولا مواربة..

أشدُّ ما أخشاه، أن تكون الكوتا النسائية، واحدةٌ من «ماركات» المكياج القادم إلينا من الغرب كما من الشرق، فنبقى كما نحن، نغسل مع غياب الشمس ما كنَّا قد هدرنا ساعات الصباح على تنميقه في انسجام وتناغم خطوطه وانسيابية ألوانه..