المدرحية ـ فلسفة أنطون سعادة الاجتماعية ـ الفصل الثالث ـ شروح في المدرحية (مدرحية التلامذة)

الفصل الثالث:

شروح في المدرحية:

مدرحية التلامذة

 مدرحية حيدر الحاج إسماعيل

في قراءتنا لمجمل ما كتبه أنطون سعادة وألقاه من خطب وأحاديث وما نقل عنه، كانت الفكرة الرئيس في كل ما تقدم، تقوم على نظرته للأمة كواقع اجتماعي، التي قدمها في مؤلفه الأول “نشوء الأمم” والذي شكل المحور، أو العمود الفقري لمجمل ما تناولته خطبه وكتاباته المتفرقة وأحاديثه وحتى ما نقل عنه، لذا كان مؤلفه الأول هو نقطة البدء في أية دراسة يمكن لها أن تتناول هذا المفكر، والذي لم ينل حظوة لدى مختلف دارسي علم الاجتماع لأسباب عدة، أبرزها بل وأهمها أن نظريته في علم الاجتماع اقترنت بحزبه الذي أسس في عام 1932 إبان الانتداب الفرنسي لسورية، والذي نال من النقد ما لم ينله أي حزب سياسي آخر، فطغى الفرع على الأصل، وغاب سعادة المفكر في ظلال الحزب السياسي وعُومل الرجل على أنه رجل سياسة لا رجل فكر، الأكثر من ذلك أن مجموع ما تناول سعادة السياسي، لم يكن على اطلاع كافٍ بما كتبه وقاله أو قيل عنه، وتحديدًا من قبل تلامذته، الذين لم يتبحروا جيدًا في مجمل تراث من تعاقدوا معه على تحقيق نهضته، فظل الفكر غائبًا عن ما قيل عن سعادة وأضحى الحزب، بمختلف مراحله التاريخية، عنوانًا رئيسًا لكل ما كُتبَ عن سعادة، فاختلفت المواقف من الرجل وتباينت الآراء حوله، ومهما يكن من أمر ذلك، فالمسألة التي ترسّخت هي أن مختلف المواقف والأحاديث والدراسات التي تناولت سعادة غابت عنها وبشكل شبه مطلق الفكرة الرئيس التي كانت محور ما قاله الرجل وكتبه..

لا ندّعي مما تقدم، أننا أحطنا إحاطة تامة بفكرة الرجل، تلك الإحاطة التي يمكن اعتمادها في دراسة فكره، الذي لم يسعفه الزمن بشرحه، فحياته القصيرة ومشاغله واهتماماته بمن تعاقدوا معه وبمن خالفوه وتآمروا عليه، غيّبت ما كان الرجل يدركه بثاقب فكره، مما أفسح المجال رحبًا لتأويل ما كتبه وقاله والاجتهاد به وتفسيره ما أحدث بلبلة فكرية وتناقضًا وتضادًا في مختلف الدراسات التي تناولت فكر أنطون سعادة، نظرًا لقصور تلك الدراسات عن استيعاب ما جاء به الرجل وفي زمن كانت به أمته تعاني من ويلات التآمر عليها وعلى مختلف الأصعدة والمستويات الداخلية منها والخارجية، السياسة منها والاجتماعية والثقافية والاقتصادية..

نحن لا ندّعي أن دراستنا لفكر سعادة، يمكن أن تعتبر القول الفصل في فلسفته الاجتماعية، لكنها يمكن أن تُضيء جانبًا كثرَ فيه اللغط وتعددت به الآراء وتناقضت وتباينت إلى الحد الذي بات به ذاك الفكر عُرضة للتحريف والتحوير والتزييف لكثرة ما قيل به واجتهد وأُوِّل وفُسر، لذا كان لزامًا علينا أن نبادر للقول إن ما نعرضه من ذاك الفكر لا نجتهد به ولا نؤول به ولا نفسره، بل نتركه في سياقه كما شاء له صاحبه أن يكون، حيث تقتصر مهمتنا في هذا المنحى على الربط المنطقي بين محاور الفكر الذي تركه غير مكتمل، فلربما اكتملت الفكرة واتضحت من خلال ما نسعى إليه..

بداية لا بدَّ لنا من التنويه بأن مصطلح “مدرحية” لم يكن من المصطلحات التي اعتمدها سعادة في مجمل ما كتبه وقاله، بل وقلّما تلفظ بهذا المصطلح، ففي مجمل كتاباته، لا نجد أثرًا لهذا المصطلح إلا نادرًا، والمرة الأولى التي تناول فيها هذا المصطلح، كانت في كتابه “جنون الخلود” وفي معرض تهكمه على “رشيد سليم الخوري” الذي ابتكر هذا المصطلح، والذي نوّه له سعادة من أنه مصطلح مقتبسٌ من مقولته الرئيس “المادي- الروحي” التي نجدها في مختلف كتابات سعادة.. يقول سعادة: “ومن استعارات رشيد الخوري قوله في الرسالة المحمدية “الدين الإسلامي” إنها “مدرحية” أي “مادي- روحي معًا”. فقد يظنّ القارئ غير المطلع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية الخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتابي “نشوء الأمم” ومن شرحي لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهو فكرة فلسفية اجتماعية أبديتها في مناسبات عديدة. وآخر ما أعلنته من أمر نظرتي الفلسفية كان في خطابي في أول آذار سنة 1940، الذي نشر في “سورية الجديدة” في العدد الصادر في 27 نيسان من السنة المذكورة. قلت:

“إن الحركة السورية القومية الاجتماعية لم تأتِ سورية فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة. إن الحركة السورية القومية الاجتماعية ترفض الإقرار باتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساسًا للحياة الإنسانية، ولا تقف الحركة السورية القومية الاجتماعية عند هذا الحد، بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي- الروحي للحياة الإنسانية ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيي ويعمر ويرفع الثقافة ويسيّر الحياة نحو أرفع مستوى”.

كما لا بدَّ لنا من التنويه أيضًا، إلى أن تناول سعادة لمصطلح (روح) يبقى تناولًا مجازيًّا، إن صح التعبير بمعنى النفس، فسعادة يؤمن إيمانًا راسخًا بنظرية نشأة الإنسان بالتطور، ويرفض رفضًا قاطعًا لا رجعة فيه نظرية الخلق المستقل والتي تقول باستقلالية الروح عن الجسد..(2)

بناءً عليه، نسارع لتعريف فلسفة أنطون سعادة الاجتماعية (المدرحية) أو القومية الاجتماعية بالقول:

“الفلسفة القومية الاجتماعية (المدرحية) فلسفة اجتماعية تدرس نشأة الإنسان ومناحي تطوره، أسبابًا وعوامل ونتائج، وتقوم على مقولتها الفلسفية أو الناموس المدرحي /المادة تعين الشكل/(3) كركنٍ أساسي ورئيس، ونظريتها الاجتماعية /دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية/(4) في مختلف مناحي دراستها”..

اعتمدنا في تعريفنا للمدرحية، على ما أورده سعادة في كتابه نشوء الأمم:

“تقصّينا فيما دوّناه آنفًا الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله، وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع. (5)

والسؤال: ما هو الأساس المادي للاجتماع البشري الذي يعتمده سعادة في التعريف بنظريته القومية الاجتماعية (المدرحية)؟

إذا كانت /المادة تعيّن الشكل/ فالمادة هنا هي البيئة الطبيعية، بينما يأتي الإنسان يعيّن الشكل الذي يتخذ من مادته مختلف مناحي نشاطه الإبداعي يقول:

“فالأرض تكيّف الإنسان، وهو بدوره يردّ الفعل ويكيّفها.. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة..”(8)

على هذه العلاقة بين الإنسان والأرض، يقيم سعادة بناءه المدرحي بقوله: “شرط المجتمع، ليكون مجتمعًا طبيعيًّا أن يكون خاضعًا للاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعية- اقتصادية واحدة تشمل المجموع كلّه وتنبّه فيه الوجدان الاجتماعيّ..”(9)

بناءً على ما تقدم، يعرف سعادة الأمة قائلًا: “كلّ ميزة من ميزات الأمّة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتّحاد في الحياة الّذي منه تنشأ التّقاليد والعادات واللّغة والأدب والدّين والتّاريخ.. الأمّة متّحد اجتماعيّ أو مجتمع طبيعيّ من النّاس قبل كلّ شيء آخر.. الأمّة جماعة من البشر تحيا حياة موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النّفسيّة الماديّة في قطر معيّن يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التّطوّر، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات.”.(10)

ما تقدم، يوضح لنا ما يعنيه سعادة بالبناء المادي، أما البناء النفسي فيحدده بقوله: “وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع. ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلًا للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان..”(11)

الدولة عند سعادة هي البناء النفسي للمجتمع، حيث هي على شاكلته، يقول: “رأينا، في ما تقدّم من فصول هذا الكتاب، الأسس والخطط العامّة لتطوّر البشريّة وارتقائها في ثقافاتها الماديّة الناتجة عن تفاعل الإنسان والطّبيعة.. ورأينا أيضًا كيف أنّ الثّقافة النّفسيّة جارت الثّقافة الماديّة وقامت عليها..”.

ويضيف قائلًا: “حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان..”.

وحتى لا يكون التكرار مملًّا ونحن نستعرض مجمل ما كتب في المدرحية، نقف عند هذا الحد من التعريف بمدرحية سعادة، على أن نتابع شرحها وإبراز مختلف جوانبها لدى تناولنا تلك الكتابات بالنقد والتحليل. 

(2)- راجع مقالتنا المعنونة (الروح مصطلح عبري) على الرابط:

https://www.facebook.com/186235948194388/photos/a.297234813761167/1416133318537972/?type=3&theater

(3)- راجع كتاب نشوء الأمم (تعريف منتشيني للأمة)

(4)- راجع كتاب نشوء الأمم، (البيئة والجماعة)

(5)- راجع نشوء الأمم، /الفصل السّادس: نشوء الدّولة وتطوّرها

الثّقافتان المادّية والنّفسية/.

(6)- خير مثال نقدمه في هذا السياق هو العلاقة بين الإناء والماء، فشكل الإناء ولونه وحجمه يطبع الماء الذي بداخله شكلًا ولونًا وحجمًا، وقد يكسبه طعمًا ورائحة إذا ما توفر كلاهما أو أي منهما فيه، ولقد عمدنا إلى اعتماد رمزية الإناء للدلالة على البيئة، وإلى الماء للدلالة على الأجيال التي تتوالد في البيئة ومن حيث هو متكيف وشكل الإناء.

(7)- راجع نشوء الأمم (الدّولة المدنيّة والإمبراطورية البحريّة)

(8)- راجع نشوء الأمم /الطبيعة والإنسان/.

(9)- راجع نشوء الأمم /تحديد الأمة/.

(10)- راجع نشوء الأمم /تحديد الأمة/

(11)- راجع نشوء الأمم /الفصل السادس، الثقافتان المادية والنفسية/.

بداية، لا بد من التنويه، بأن نقدنا لمختلف ما كُتبَ في “المدرحية” يبقى اقتباسًا(1) عما ألمح إليه وأورده الأمين “حيدر الحاج إسماعيل” في كتابه المشار إليه، وهو اقتباس، قد لا يفي بحاجة إيفاء كتّابها حقهم مما كتبوه، لأسباب عدة، أبرزها، أن قراءة الأمين حيدر تعكس رؤيته الذاتية لما كُتبَ من خلال تعريفه الخاص للمدرحية والتي تطغى عليها بالدرجة الأولى دراسته، التي أسبغت على تعريفه للمدرحية نسقًا صارمًا، رياضي النزعة، أقرب ما يكون “للمنطق الرياضي”..

يحسم المؤلف موقفه من كتاب نشوء الأمم “مرة واحدة وإلى الأبد”.. بقوله: “.. إن ذاك الكتاب “كتاب اجتماعي علمي بحت..”، ويضيف “ولأن العلوم مادية، موضوعات ومناهج، فإن كتاب نشوء الأمم كتاب مادي، أي إن الدرس الذي أنشأه سعادة في ذلك الكتاب حول الأمة، سواء لجهة نشوئها أو لجهة تعريفها، هو درس مادي، والنتائج التي توصل إليها هي نتائج مادية، تبعًا لذلك، فلا سبيل إلى الوهم بأن ذاك الكتاب هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي- روحي، إنه كتاب في علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان..”، يضيف قائلًا إنه “تجنب التكرار لأن الفكرة المركزية مبثوثة ومكررة في قراءتنا النقدية التي تؤلف القسم الثاني من الكتاب..”، مؤكدا: “إن دراسة الفلسفة القومية الاجتماعية (المدرحية) تتخذ صورة أكثر وضوحًا وتكون أغنى فائدة إذا كانت دراسة مقارنة (2).. ويُقَسِّم المؤلف دراسته للمدرحية على النحو التالي: 1- مكتوبات سعادة. 2- المبادئ الفلسفية. 3- علاقة الفلسفة بالعلم. 4- الاختلاط الفكري (حول معنى الأمة). 5- الوجهان الحقائقي (العلمي) والمناقبي (الفلسفي) للمبادئ. 6- الرسالة. 7- المدرحية. 8- المصطلحات. 9- الوظائف.

ما يهمنا من هذا التقسيم، الفقرة السابعة دون سواها، فما تقدمها تمهيد لها وما لحقها قائم عليها..

 يقول في تعريفه للمدرحية: “الفلسفة المادية- الروحية، هي، الفلسفة القومية الاجتماعية الموجودة في المبادئ.. إن الفلسفة المادية- الروحية هي فلسفة الأمة لجهة نهضتها ماديًّا روحيَّا”. وفي ماهية العلاقة بين المادة والروح يقول: “.. إن العلاقة العلمية هي علاقة ترافقية أو علاقة ترابط.. نقول ذلك لكي ننفي أن العلاقة سببية.. ذلك أن مبدأ السببية من الفلسفة وليس من العلم.. أما العلاقة الفلسفية فإنها علاقة وجوبية مناقبية..”.

يبدو واضحًا أن هذا التعريف لا يأتي بجديد، سوى أن المدرحية هي المبادئ الأساسية والإصلاحية والغاية، التي شكلت المحور الرئيس أو العمود الفقري للحزب الذي أسسه متوخيًا منه تحمّله مسؤولية نهضة أمته السورية..

ما نعتقده، أن هذا التعريف يفتقر للكثير من نقاط الارتكاز التي تقوم عليها من وجهة نظرنا الفلسفة القومية الاجتماعية- المدرحية، نقول ذلك عملًا بما يلي:

لم يقدم لنا المؤلف تعريفًا محددًا للمادة والروح، بل تركهما كمصطلح لمفهوم متداول لدى العامة والباحثين على حدٍ سواء، مما يجعل القارئ عاديًّا أم باحثًا يضفي من فهمه الخاص عليهما ما يناقض فهم سعادة لهما، والذي يمكننا بلوغه من تحليلنا لقول سعادة: “تقصّينا فيما دوّناه آنفًا الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع..” بمعنى أن ما تناوله في الفصول (1 و2 و3 و4 و5) يشكل “الأساس المادي” بينما يأتي الفصل السادس وما تلاه ليشكل “الأساس النفسي”، فالمادة عند سعادة هي البيئة الطبيعية من حيث هي وجود موضوعي مستقل كل الاستقلال عن الإنسان وجودًا ومعرفة، فالمادة وفق سعادة هي كل وجود موضوعي، لا يستمد كيانه الذاتي من الإنسان وجودًا ومعرفةً، فهو موجود رغمًا عنه شاءه أم أباه، تعرَّف عليه أم لم يعرفه، له خصائصه ومواصفاته التي هو عليها، وهذه هي الحقيقة الجوهرية لمفهوم مصطلح المادة عند سعادة واعتماده مقولة: “المادة تعيّن الشكل” لم يأتِ من فراغ، بل من واقع موضوعي يعترف به اعترافًا واضحًا وجليًّا، يقول: “فالأرض تكيّف الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل ويكيّفها.. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة..”، واضحٌ كل الوضوح أن الأرض، الطبيعة، البيئة، هي التي تحدد للإنسان كيف يجب أن يتعامل معها، كوجود موضوعي وليس العكس، لا بدَّ له للإنسان من التكيف وفق ما تختزنه من مقومات، بل وأكثر من ذلك يكون تأثيرها عليه أكبر بكثير من تأثيره هو عليها، يقول سعادة: “فالبيئة كانت ولا تزال تحدّد الجماعة.. تحدّد البيئة الجماعة من عدّة وجوه، أوّلها: حدود الإقليم الجغرافيّة. ثانيها: طبيعة الإقليم من حيث نوع تربته ومعدّل درجة حرارته ورطوبته. ثالثها: شكل الإقليم (طبّغرافيته) من حيث سهوله وجباله وأنهاره.. وطبيعة الإقليم تميّز الجماعة بما تكسبها من لون وشكل وبما تمدّها به من الموادّ الخام لسدّ حاجاتها الحيويّة من غذاء وكساء وبناء وأدوات. فمدنيّة الجماعة المستقلّة مستمدّة من بيئتها، لأنّ الاستنباط والتّكييف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص البيئة الطّبيعيّة، وموافقين لها.. فالحياة العقليّة لا يمكن أن تأخذ مجراها إلاّ حيث تستتبّ لها الأسباب والمقومات..” يبدو واضحًا وضوح الشمس أن المادة عند سعادة تكتسب خصائصها ومواصفاتها ومختلف ميزاتها بمعزل عن وجود الإنسان من عدمه، فهي بالتالي، كما سبق أن أشرنا، وجود موضوعي مستقل عن الإنسان وجودًا ومعرفة..

 كما المادة، كذلك الروح، فالأخيرة كمصطلح يستخدمه سعادة، مجازيا كمفهومٍ متداولٍ، لكنه يأتي بمعنى النفس، ودليلنا في ذلك إيمانه المطلق بنشوء الإنسان بالتطور ونقده للتعليل الديني ونقضه له، يقول: “.. كانت حكاية الخلق الخياليّة أقرب إلى تصديق أهل الدّرجة المشار إليها آنفًا لأنّها اقتصرت على تسمية وجود الشّيء خلقًا مباشرًا تخلّصًا من الدّخول في أيّ بحث يتطلّب أدلّة راهنة يصحّ اعتبارها حقائق واقعيّة.. ولكنّ الإدراك البشريّ.. لم يعد يقنع بالتّعليلات الخياليّة البحتة المعزوّة إلى افتراض وجود شخصيّة وراء نظام الكون تُحدث النّظام وتَحدث بلا نظام، إليها ينسب كلّ ما يقف أمامه عقل الطّفل وعقل البالغ المجرّد من العلم حائرًا.. وتجاه الحقائق الّتي أبرزها العلم أخذت مسألة الخلق المستقلّ تنحطّ وتتراجع حتى لم يعد يهتمّ بها إلا الطامعون بالخلود الأنانيّ.. وهي أنّ الإنسان جزء من الحياة نشأ بالتّطوّر حتّى بلغ شكله الحاليّ، ولذلك فعهد نشوئه يرجع إلى عهد نشوء الحياة نفسها.. أمّا أنّ الإنسان نشأ بالتّطوّر فما لا جدال فيه وأمّا كيفيّة حدوث التّطوّر.. فممّا لم يتّفق عليه العلماء لحاجتهم إلى استكمال اختباراتهم..”.

يتضح مما تقدم أن سعادة، عندما يقول بـ(المادي- الروحي) لا يقصد الروح بالمعنى الديني، أي إن الروح كيان قائم بذاته مستقل كل الاستقلال عن الإنسان الذي تغادره فور موته، فالتعليل الديني مرفوض وغير مقبول، كما مرَّ معنا أعلاه، ما يعنيه سعادة بالروح هو ما أورده قائلًا: “.. إنّ حياة كلّ كائن حيّ تجري ضمن المثّلث: الجسم النّفس المحيط..” ثلاثية لا تبارح مختلف مقولات سعادة المدرحية، فإليها يعود فهم الماهية الجوهرية لمختلف الأمور والشؤون التي يتناولها سعادة بالدرس والبحث والتحليل، فإذا كان الإنسان قد نشأ بالتطور، فما هذه النشأة سوى هذه الثلاثية “محيط- جسم- نفس”، من النبات- الحيوان- الإنسان، من البيولوجي (الحيوي) إلى الفيزيولوجي (الوظيفي) فالسيكولوجي (النفسي)، فالنفس ملتصقة التصاقًا بالجسد (الجسم) لا تنفك عراه إلا بالموت، حيث مصيرها مصير جسدها الذي نشأت منه..

هذا هو مفهوم “الروح” عند سعادة، ما عدا ذلك، يبقى اجتهادًا وتأويلًا أو تفسيرًا يتناقض كليًا ومفهوم سعادة لهذا المصطلح.

 يقول المؤلف: “فلا سبيل إلى الوهم بأن ذاك الكتاب (نشوء الأمم) هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي- روحي..” وعليه يقول: “الفلسفة المادية- الروحية، هي، الفلسفة القومية الاجتماعية الموجودة في المبادئ.. إن الفلسفة المادية- الروحية هي فلسفة الأمة لجهة نهضتها ماديًّا روحيًّا.”

ينافي هذا القول ما يؤكده سعادة بقوله: “إنّ (نشوء الأمم) كتاب اجتماعيّ علميّ بحت تجنّبت فيه التّأويلات والاستنتاجات النّظرية وسائر فروع الفلسفة، ما وجدت إلى ذلك سبيلًا.. ومهما يكن من الأمر، فالكتاب الأوّل جامع مستوف الوجهة العامّة من نشوء الأمم بجميع مظاهرها وعواملها الأساسيّة.. يتناول الكتاب الأوّل تعريف الأمّة وكيفيّة نشوئها ومحلّها في سياق التّطوّر الإنسانيّ وعلاقتها بمظاهر الاجتماع..”، فسعادة عالم اجتماع وليس فيلسوفًا، والمدرحية ليست بأكثر من فلسفة اجتماعية تبحث في “تعريف الأمّة وكيفيّة نشوئها ومحلّها في سياق التّطوّر الإنسانيّ وعلاقتها بمظاهر الاجتماع..”، وكما “دوركهايم” و”أنجلز” و”ماكس فيبر” هم أصحاب نظريات في علم الاجتماع، كذلك سعادة له نظريته في علم الاجتماع، التي تقوم على مسلمة أن /المادة تعيّن الشكل/ والتي عليها يقيم سعادة بناءه المدرحي حيث الأرض، الطبيعة، البيئة الطبيعية، هي المادة التي يعتمدها أساسًا لنشوء المجتمع الأمة وحيث الشكل هو “دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية”، والتي هي شرط أساس من شروط تشكل المجتمعات، يقول سعادة: “شرط المجتمع، ليكون مجتمعًا طبيعيًّا أن يكون خاضعًا للاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعية- اقتصادية واحدة تشمل المجموع كلّه”، وتاليًا فالمجتمع الأمة هو المجتمع الدولة يقول: “ورأينا أيضًا كيف أنّ الثّقافة النّفسيّة جارت الثّقافة الماديّة وقامت عليها..”، ويضيف قائلًا: “ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلًا للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان..”، وعندما يقول إن دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية، تشمل المجموع كله، يعني قيام الدولة القومية التي هي “.. الدّولة الدّيمقراطيّة هي دولة قوميّة حتمًا، فهي لا تقوم على معتقدات خارجيّة أو إرادة وهميّة، بل على إرادة عامّة ناتجة عن الشّعور بالاشتراك في حياة اجتماعية- اقتصادية واحدة”، ولأنها الدولة التي تشمل المجموع كله يقول سعادة: “وما الدّولة الدّيمقراطيّة سوى دولة الشّعب أو دولة الأمّة. هي الدّولة القوميّة المنبثقة من إرادة المجتمع الشّاعر بوجوده وكيانه..” فالدولة الديمقراطية إذًا هي الدولة القومية الشاملة كل المجتمع بمختلف أجياله وطبقاته وعناصره ومعتقداته وثقافته وطموحاته.. الخ هي وفق رؤية سعادة القومية الاجتماعية- المدرحية، الإنسان- المجتمع..

2- على الرغم من إيماننا، بأن سعادة، لم يكن فيلسوفًا بل عالم اجتماع، فلسف هذا العلم واضعًا ركائزه العلمية الاجتماعية الفلسفية بكل موضوعية، فإننا نرى أن الأمين /حيدر الحاج إسماعيل/ لم يكن منصفًا لسعادة عندما يقول في فقرته الثانية من تعريفه بالمدرحية (المبادئ الفلسفية) “والحق يقال، إن سعادة لم يأتِ بغير المبادئ..”، بل يمكن القول إنه أجحف بحق الرجل إجحافًا لم يسبقه إليه أحد!! وهو لم يُقْدِمْ على ذلك إلا لأنه اعتمد قاعدة تقوم على العلاقة بين العلم والفلسفة، يقول “.. هناك بصورة عامة، علوم وهناك فلسفات علوم.. العلم مختص بالقوانين الكمية.. أما فلسفة العلم فمختصة بالمبادئ، ونعني بذلك المبادئ المشتركة الجامعة لمختلف قوانين ذلك العلم وظواهره.. إن العلم يقدم للفلسفة مادتها المحددة المصطلحات، لكن الفلسفة لا تكتفي بمادة العلم، بل تستخرج منها المبادئ الجامعة لشتات المعارف العلمية..” وعلى الرغم من صحة هذه القاعدة، فإنه لم يُحسن استخدامها في قراءته لكتاب نشوء الأمم، من حيث أنه وفق رؤيته: “كتاب علمي الذي اختصَّ بدرس نشوء الأمم وتعريف الأمة، قصد منه سعادة أن يكون مساعدًا (بتحديداته العلمية) لفلسفته المادية- الروحية..”، ذلك أن كتاب نشوء الأمم، ليس مجرد كتاب يستعرض فيه سعادة جملة من العلوم الطبيعية والأنثروبولوجي والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية.. الخ بل يجمعها جمعًا عزَّ نظيره في أي كتاب آخر ليستخرج من كل ذلك قواعد تقوم على تلك العلوم مجتمعة، فعلى سبيل المثال، في دراسته للسلالات (1)، واستعراضه لجملة ما قاله بعض علماء الأحياء وعلماء الاجتماع وعلماء التاريخ والفلسفة وحتى السياسة، في هذه المسألة، بداية لمدلول السلالة والفرق بينها وبين الجنس والنسب وتاليًا لمختلف معتقداتها لدى الشعوب، العرب، الفرنسيين والهولنديين والألمان والإنكليز والأميركانيين الهنود منهم والمستعمرين والروس وغيرهم والنظريات التي قامت على مفهوماتها المتداولة في مختلف مراحل التاريخ وارتباط مدلولات تلك المعتقدات بالسياسة وقدم من الأمثلة ما يدفع للتأكيد بأنه فيلسوف اجتماعي كما هو عالم اجتماع، يقول: “ويقال في الحقيقة إن نقولا فريره (Nicholas Freret) سجن في الباستيل سنة 1714 لأنّه خطّأ هذه النّظريّة !.. وفي سنة 1749 حاول أستاذ ألمانيّ في روسيا اسمه مللر أن يثبت أنّ الرّوسيّين هم من سلالة فنّيّة تترّية. فأمرت الإمبراطورة أليصابات بالقبض عليه وسجنه في الحال وأن يجلد ناموس المجمع العلميّ، تردبا كوفسكي، الّذي قال إنّ مللر على صواب. وقد أجبر مللر على تكذيب نفسه (10) !.. وإنّ بين الكتب المدرسيّة الموضوعة بعد الحرب الكبرى كتابًا ألّفه عالمان بنفسيّة الأحداث بلجيّان، أحدهما مركه (Mirquet) وهو رئيس مدرسة والآخر برغميني (Pergameni) وهو أستاذ جامعة.. وقد حاز هذا الكتاب سنة 1920 جائزة من المجمع العلميّ البلجيكيّ الملوكيّ! ومن أدلّة العناية بالاعتقاد بالسّلالة حتى في الدّوائر المسؤولة في الشؤون السّياسيّة الخطيرة ما صرّح به المستشار الألمانيّ الشّهير بتمن هلوق، بمناسبة إجازة قانون الجيش الألمانيّ في 7 نيسان 1913، قائلًا: “إنّ هنالك خطر اصطدام بين الصّقالبة والجرمانيّين، ولذلك يضطرّ هؤلاء إلى زيادة سلاحهم.. ولم يذهب هذا القول دون نتائج خطيرة بين صقالبة النّمسا والمجر..”، سعادة إذًا، لم يكن مستعرضًا بل مستنبطًا نظريته الخاصة (المزيج السلالي).

وعندما نؤكد أن سعادة لم يكن مستعرضًا بل مستنبطًا، مستنتجًا، مستخرجًا، من مختلف العلوم رؤيته أو نظريته الخاصة، فما ذلك كان ليأتي من فراغ بل من واقع يقوله سعادة: “والّذي نرجّحه أنّ السّلالات البشريّة هي عدّة تطوّرات أو سلسلة تطورّات حدثت في ظروف وبيئات تطوريّة، أي قبل استقرار البيئة الطّبيعيّة على حالتها المعروفة الآن، وقبل أن يكون الارتقاء قد مكّن الإنسان من التّحوّط ضدّ اختلاف البيئات. فإذا كان الأمر كذلك، وهو ما نرجّحه..”، هنا سعادة يبدو وكأنه أكثر من عالم أنثروبولوجي، بدراسته البشر وسلوك الإنسان والمجتمعات ماضيًا وحاضرًا، واجتماعية الإنسان وثقافته والقيم والمعايير الاجتماعية، كما ويدرس كيف تؤثر اللغة على الحياة الاجتماعية. ويدرس التطور البيولوجي للإنسان، فإن سعادة ليعدو أكثر من عالم أنثروبولوجي، بجمعه مختلف فروع هذا العلم، وأكثر من عالم اجتماع عندما يمازج بين العلمين ليستخرج منهما ومن غيرهما نظريته المشار إليها آنفًا، هكذا كان كتاب نشوء الأمم غير مكتفٍ بالعلم، بل جامع لشتات العلوم وتناقضاتها واختلافاتها وكان مستنبطًا، مستنتجًا، مستخرجًا منها مبدأ المزيج السلالي الذي قال به والذي لم يكن متداولًا في زمنه، بل على العكس من ذلك كان هذا المبدأ من أبرز ما علق في أذهان معارضيه وانتقدوه فيه متهمين إياه بالعنصرية.. وهو القائل بانتفاء صفاء ونقاء أية سلالة على الأرض، كما هو مشاع لدى العرب واليهود، يقول: “وأخذ العرب نصيبًا كبيرًا من تعليق أهميّة عظمى على أوهام السّلالة فافتخروا كثيرًا [بطيب عنصرهم] وظنّوا الأجانب أدنى منهم فسمّوهم [علوجًا] وغير ذلك من الأسماء وأثّر الدّين عندهم كثيرًا على أوهام السّلالة، كما أثّر على اليهود من قبلهم، ووصلوا أنساب عدنان بإسماعيل بن هاجر بن إبراهيم. أمّا اليهود فقد زعموا أنّهم سلالة إبراهيم اتّخذهم اللّه شعبًا له مفضّلًا على باقي الشّعوب والله عندهم هو [إله إسرائيل]..”

لم يكتف سعادة بما تقدم، بل قدّم جملة من المقولات التي تمزج بين العلم والفلسفة، فلا هي من هذا ولا من ذاك، بل هي مدرحية النزوع في الجوهر والمضمون في الشكل والمظهر ذلك في كتابه الرائع نشوء الأمم، منها على سبيل المثال لا الحصر مقولة “دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية” الجامعة للمجتمع القومي بمختلف أجياله وصفاته وخصائصه ومواصفاته.. الخ، مناقضًا النظرية الماركسية والقائلة بـ(التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية) على وجه التحديد، ومقولة “المرتبة الثقافية” التي يقسمها لثلاث مراتب، حيث الثالثة تبدو واضحة في رصدها لمعادلة الجهد والزمن والإنتاج (الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والحقوقي والقانوني و..الخ)، لينتهي منها للقول “إن الاقتصاد لا يعني حقيقة سوى سد الحاجة أو تأمين سدّها بأقل مجهود وأسرع وأكبر نتيجة ممكنتين” والتي منها يمكننا استنتاج واستنباط واستخراج المعادلة التالية (جهد+ زمن= إنتاج) والتي يمكن تعميمها في كل عمل اجتماعي وفق المرتبة الثقافية التي عليها المجتمع، فعلى سبيل المثال، وفي الدولة القومية الديمقراطية التي يقول بها سعادة، يجب أن تكون على النحو التالي: أقل جهد+ أقل زمن= أكبر إنتاج قومي كمًّا ونوعًا لمختلف المنتجين صناعة وغلالًا وفكرًا، أو صياغتها حقوقيًّا، على سبيل المثال على النحو التالي: “مواطنة+ واجبات= حقوق”، حيث أقل ما يمكن من الواجبات مقابل أكبر قدر من الحقوق، وقس على ذلك، ومقولته الرائدة “الدولة القومية ديمقراطية حتمًا”، الحتمية الوحيدة التي استخدمها سعادة في كل ما كتبه وقاله ونقل عنه، وخلاصة كتابه “لا بشر حيث لا أرض ولا جماعة حيث لا بيئة ولا تاريخ حيث لا جماعة” فهل هذه المقولة من العلم أم من الفلسفة؟ أليست في جوهرها مزيجًا من العلم والفلسفة..؟!!

ويمكننا القول أيضًا، إن العلم هو مادة شكله الفلسفة، فكلاهما في وحدة لا يمكن فصم عراها، إلا من حيث الدراسة النظرية البحتة، ووفق ما يمكن للعقل البشري استيعابه من مصطلحاته والتي تبقى عرضة للتغيير وفق ما تقدمه العلوم للفلسفة من حيث هي مقولات عامة أو أعم القوانين في الطبيعة والمجتمع.

عندما نقول إن حضرة الأمين حيدر الحاج إسماعيل لم ينصف سعادة بقدر ما كان مجحفًا، فما ذلك إلا لأنه استخدم قاعدة فلسفية للعلاقة بين العلم والفلسفة، على الرغم من صحتها، فإنه لم يحسن استخدامها في قراءته لكتاب نشوء الأمم، فقوله “أ- كتاب نشوء الأمم.. لا سبيل إلى الوهم بأن ذلك الكتاب هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي- روحي، إنه كتاب في علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان.. ب- الفلسفة القومية الاجتماعية هي الموجودة في المبادئ.. ج- العلاقة بين المادة والروح.. في الفلسفة المادية- الروحية لسعادة.. هي علاقة ترافقية أو علاقة ترابط.. (وليست) علاقة سببية.. إن مبدأ السببية من الفلسفة، وليس من العلم.. إن إدخال السببية في كتابات سعادة يفقدها صفتها العلمية.. أما العلاقة الفلسفية فإنها علاقة وجوبية مناقبية..”، هذا التوصيف لما هو علمي ولما هو فلسفي، قاد المؤلف لتقريره المشار إليه..

نحن لا نرى العلم سوى بحث في الجزئيات، أما الفلسفة فهي بحثٌ في الكليات، فالفلسفة “تجمع شتات العلوم..” المتفرقة لتصوغ مبادئها العامة والتي هي في المحصلة القانون العام الذي يحكم العلوم على اختلافها على اعتبار أن العلوم ليست، فيما تقدمه من معارف، سوى سرد، حيادي، مجرد، منزّه، عن كل رغبة أو شعور بالرضا من عدمه، لما هو موجود في الكون المادي (الموضوعي) والذي لا علاقة له بوجود الإنسان من عدمه، وهي أيضًا سردٌ لما هو موجود إنسانيًّا اجتماعيًّا وليس له علاقة بالفرد لجهة وجوده ككيان أو معرفة، فالأرض تدور حول الشمس وليس العكس وهذا ما يعبر عنه سعادة بقوله: “وإنّ الشّمس لا تدور حول الأرض. ولو لم تتّفق هذه الحقيقة مع مجد يشوع بن نون” بمعنى أن دوران الأرض حول الشمس هو شأن موضوعي لا علاقة له بإرادة الإنسان ورغبته أو معرفته من عدمها، فهو كيان قائم بذاته ولذاته”.. وقوله: “لا يختار الفرد مجتمعه إلا بقدر ما يختار أمه وأباه..”، وقوله “الأفراد يأتون ويذهبون أما المجتمع فباقٍ” ويؤكده بقوله: “في المبادئ التي تمتّ إلى الإنسان الحر بصلة، لا يمكن الاستناد لأي قول استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية أو لها علاقة بالإنسان- المجتمع..”  فالمجتمع للفرد، كما هي الطبيعة للإنسان، وجود موضوعي..

من جهة أخرى، تبقى العلوم على اختلافها نسبية، بمعنى أنها قابلة للتغيير، ليست مطلقة، سرمدية، وهذا ما حدا بسعادة للقول: “فالمجتمع الإنسانيّ ليس الإنسانيّة مجتمعة، ومن يدري هل يقدّر للإنسانيّة أن تصير مجتمعًا واحدًا في مستقبل العصور؟ إذن، العلوم متفرقات موضوعية، آنية “تجمع شتاتها” الفلسفة بالبحث عن المتكرر فيها لتصوغه بقانون عام يصحُّ به كل ما تأتي به على صعيد الطبيعة والإنسان”..

سبق لنا أن أشرنا لما تعنيه المادة والروح في فلسفة أنطون سعادة القومية الاجتماعية- المدرحية، فالمادة هي كل وجود موضوعي لا علاقة به للإنسان وجودًا ومعرفة كما مصطلح الروح الذي يستخدمه سعادة بمعنى النفس وليس بالمعنى الديني المتداول لجهة كونه كيانًا قائمًا بنفسه ولنفسه، وعلى ذلك، كان الأحرى بالأمين حيدر، أن يُعرِّف لنا كلًا من المادة والروح في تعريفه للعلم والفلسفة لا أن يتركهما (المادة والروح) للمتداول من المصطلح، لكنه لم يقدم لنا أي تعريف لهما بمجمل ما قاله في المدرحية ولا حتى في نقده لمختلف وجهات النظر التي تناولت هذه الفلسفة بالتعريف، ولو فعل ذلك لكان لنا أن نخلص لما  خلص له “والحق يقال، إن سعادة لم يأتِ بغير المبادئ..”، وأن “كتاب نشوء الأمم.. لا سبيل إلى الوهم بأن ذلك الكتاب هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي- روحي، إنه كتاب في علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان..”.

إذا كانت الفلسفة صياغة للمتكرر العلمي، الموضوعي، طبيعيًّا واجتماعيًّا، فسعادة قد صاغ في مؤلفه الرائع عددًا من هذا المتكرر الموضوعي، وعلى قاعدة تعريفه لهذا القانون العام المتكرر، والذي يُطلق عليه مصطلح “الناموس” والذي هو أيضًا بتعريف سعادة: “إنّ النّاموس اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة، نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب ألا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب ألا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها. فكوننا اكتشفنا ناموسًا أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب ألا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى، فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع..”، هذا التعريف للناموس يضع معنىً واضحًا لمختلف المقولات والنواميس التي جاء بها سعادة، والتي هي من حيث التعريف الفلسفي القانون العام الذي يحكم كل موضوع، من حيث التكرارية والتي هي بدورها تمثل جوهر القانون الأعم في الطبيعة والمجتمع أو المقولة الفلسفية الناموس، وفق سعادة، جوهرًا وكمية وكيفية وإضافة في الزمان والمكان (أين، متى) فعلًا وانفعالًا، فمقولته التي أقام عليها فلسفته (المادة تعيّن الشكل) يمكن لها أن تفسر لنا مختلف ما نحن بصدد بيان علاقته بالآخر الموضوعي والذاتي، الطبيعة والإنسان، المجتمع والفرد، كما مقولته “دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية”، حيث مصطلح “دورة” يدل دلالة واضحة على “المتكرر” المشار إليه آنفًا، والتي عليها ينشئ سعادة مقولته في “الأمة واقع اجتماعي بحت” ومقولته “الدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتمًا” ومقولته “الإنسان- المجتمع” والتي هي بطبيعة الحال الدولة القومية التي نادى بها، ومقولته في الاقتصاد “أقل جهد+ أقل زمن= أكبر إنتاج “.. الخ.

فهل هذه المقولات علمية أم فلسفية أم كلاهما معًا. أم أنها مقولات مادية أم مقولات نفسية “روحية”؟ يحسم سعادة ذلك، بإجابته على ما جاء في كتابه الرائع نشوء الأمم قائلًا: “تقصّينا فيما دوّناه آنفًا الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله، وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع. ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلًا للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ، حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان.” أساسان، مادي ونفسي، يقيم عليهما فلسفته القومية الاجتماعية- المدرحية في نشوء الأمم، بما يدحض أن “سعادة لم يأت بغير المبادئ..” لأن هذه تقوم بكل ما في الكلمة من معنى، على المقولات التي جاء بها سعادة في كتاب نشوء الأمم وبمختلف تصنيفات الأمين حيدر. التي تقوم هي الأخرى على قاعدة رسالة سعادة إلى فايز صايغ “إن الحركة نشأت على عقيدة، أي على فلسفة اجتماعية كاملة موجودة في المبادئ وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته..”، والتي يعتمدها المؤلف قاعدة لخلاصته المشار إليها آنفًا “والحق يقال إن سعادة لم يأت بغير المبادئ” فسعادة حتى في هذه الرسالة لم يُشر إلى أن فلسفته أقامها على المبادئ، وحسب، بل على كل ما جاءت به خطبه ومحاضراته وأحاديثه وقدوته وكتبه وشروحاته، ولم يستثنِ كتابه “نشوء الأمم” من جملة “كتبه” ولم يخص المبادئ دون الخطب والمحاضرات والأحاديث بفلسفته، فلو أن المؤلف قال إن الفلسفة القومية الاجتماعية- المدرحية متضمنة في “المبادئ وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته..” لما كان قد انتهى لبخس سعادة حقه بقوله إنه لم يأت بغير المبادئ.. وإن كان سعادة قد أشار في مقدمة كتاب نشوء الأمم إلى أنه “كتاب اجتماعيّ علميّ بحت تجنّبت فيه التّأويلات والاستنتاجات النّظرية وسائر فروع الفلسفة..” والتي يعتمدها الأمين حيدر، فإن هذه الإشارة ليست على النحو الذي دفع بالمؤلف لاستثنائه الكتاب من فلسفة سعادة القومية الاجتماعية- المدرحية، باعتباره كتابًا تجنّب فيه سعادة التّأويلات والاستنتاجات النّظرية وسائر فروع الفلسفة، بل للدلالة على موضوعية الكتاب باعتبار العلم على أي وجه أخذ به، هو موضوعي النزوع بمعنى التجرد والتنزه عن أي أفكار مسبقة أو مشاعر تنحى منحى ذاتيًّا يفسد على الموضوع نزاهته، على نحو ما جاء به كتاب “الرحمانية” لزكي الأرسوزي، على سبيل المثال أو عمنوئيل كونت في كتابه “نقد العقل المجرد” أو هيغل في كتابه “فلسفة الحق” وحتى أنغلز في كتابه “أصل العائلة والملكية والدولة” أو ماكس فيبر في كتابه “الأخلاق البروتستانتية”.. الخ، فالعلم مادي لأنه موضوعي ولأن الفلسفة ليست ذاتية عندما تجمع شتات المادي الموضوعي (العلم) بل هي موضوعية مادية أيضًا على شاكلة موضوعها، من حيث إنها بحث عن المتكرر المادي الموضوعي في مختلف العلوم المادية منها والإنسانية، وإن صياغتها لهذا المتكرر بقانون عام كافٍ وافٍ تجد فيه مختلف معارف الإنسان مكانًا (تفسيرًا) لها به تكون قد أنجزت مهمتها كفلسفة..

في قوله المجحف والمبخس وغير المنصف لسعادة، يقع الأمين حيدر في مطب نقده لمختلف ما قيل في مدرحية سعادة، فهو يقول: “الفلسفة القومية الاجتماعية= تجبُّ المبادئ لتنهض الأمة..” لا يُقدم تعريفًا لهذه الفلسفة بقدر ما يصفها، على نسق نقده لما جاء في “مدرحية هشام شرابي” حيث يقول: “.. فالباحث منذ البداية لن يبحث في ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية بل في صفاتها.. ولأن استعراض صفات الشيء لا يساوي علمًا بما هو الشيء.. هكذا طالب المعرفة بهذه الفلسفة سيظل مفتقرًا إليها، لأنه سيظل يطارد الباحث بسؤاله الأساسي، نعني: ما هي الفلسفة القومية الاجتماعية التي صفاتها كذا وكذا؟ يجيبنا الباحث هي شيء له صفة اجتماعية.. لكن ما هو هذا الشيء الذي له صفة اجتماعية؟ يجيبنا الباحث إنه الفلسفة القومية الاجتماعية التي تبدأ بالمجتمع وتنتهي فيه.. فالفلسفة معرفة، نمط من المعارف وباعتبارها معرفة لها أجوبتها سواء أكانت منظمة في سيستم أو لم تنتظم..”.

وبدورنا نسأل حضرة الأمين: ما هي الفلسفة القومية الاجتماعية- المدرحية؟ فيجيبنا قائلًا: “الفلسفة القومية الاجتماعية= تجبُّ المبادئ لتنهض الأمة” ولها: وجهان الحقائقي (العلمي) والمناقبي (الفلسفي) للمبادئ.. من الوجه الأول يمكننا أن نذكر حقائق طبيعية.. وحقائق بشرية.. وحقائق تاريخية حضارية.. وحقائق اقتصادية.. وحقائق سياسية وقانونية.. ومن الوجه الثاني، أن المبادئ دعوة مناقبية للنضال، وهي أيضًا “من هذه الناحية مبادئ معيارية..” وهي كذلك “رسالة.. من هذا الوجه ننظر إلى المبادئ على أنها رسالة خير لجميع الأمم” على الرغم من أنها تأتي كمصطلحات يكافئ بعضها بعضًا يقول: “فلسفة.. مبادئ.. رسالة.. نظرة.. عقيدة.. فلسفة مناقبية.. فلسفة الإنسان- المجتمع.. فلسفة التفاعل.. فلسفة مادية- روحية..”، أما من حيث الوظائف فهي: “1- الحقوق والمصالح القومية (وتشتمل) سيادة الأمة.. حياة وخير الأمة وعمرانها.. خصائص الأمة.. الوطن.. 2- التوحيد (بمعنى) رابطة الوحدة الاجتماعية الروحية.. 3- الحصانة (بمعنى) توفير المناعة الاجتماعية.. 4- مناقب الخير والعدل (بما يعني) تأسيس عقلية أخلاقية جديدة.. 5- الكفاءة الإنتاجية.. 6- المرجعية (أي) إن المبادئ مكتنزات الفكر والقوى، وهي قواعد انطلاق الفكر.. 7- الحداثة أو العصرنة ونعني بذلك أنها الفلسفة التي تضعنا بقوة في صميم العصر.”

كل ما يقدمه لنا الأمين حيدر مجرد توصيف لفلسفة سعادة التي يعرّفها في مقدمة كتابه نشوء الأمم واصفًا إياه وإياها “وإنّ درسًا من هذا النّوع يوضّح الواقع الاجتماعيّ الإنسانيّ في أطواره وظروفه وطبيعته.. ففي الدّرس تفهّم صحيح لحقائق الحياة الاجتماعيّة ومجاريها.. وقد أسندت حقائقه إلى مصادرها الموثوقة. واجتهدت الاجتهاد الكليّ في الوقوف على أحدث الحقائق الفنيّة الّتي تنير داخليّة المظاهر الاجتماعيّة وتمنع من إجراء الأحكام الاعتباطيّة عليها.. فالكتاب الأوّل جامع مستوف الوجهة العامّة من نشوء الأمم بجميع مظاهرها وعواملها الأساسيّة..”، فالفلسفة القومية الاجتماعية- المدرحية هي درس يوضح الواقع الاجتماعي الإنساني في أطواره الاجتماعية ومجاريها.. بجميع مظاهرها وعواملها الأساسية..” وعلى ما تقدم جاء تعريفنا للفلسفة القومية الاجتماعية- المدرحية بقولنا إنها “الفلسفة القومية الاجتماعية (المدرحية) فلسفة اجتماعية تدرس نشأة الإنسان ومناحي تطوره، أسبابًا وعوامل ونتائج، وتقوم على مقولتها الفلسفية /المادة تعين الشكل/(3) كركنٍ أساسي ورئيس، ومقولتها الاجتماعية /دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية/(4) في مختلف مناحي دراستها”..

في الختام نثمّن عاليًا الجهد الذي بذله حضرة الأمين الجزيل الاحترام حيدر الحاج إسماعيل، والذي وضع بين أيدينا مجمل ما كُتِبَ في المدرحية، متمنين عليه تقبّل نقدنا برحابة الصدر التي عرفناه بها صغارًا في مدرسة النهضة مرمريتا وكبارًا في مدرسة الثانوية الأهلية دمشق، فنقدنا لم يكن سوى شكل من أشكال الصراع الفكري القومي الاجتماعي في النهضة القومية الاجتماعية وعلى غرار، ماركس وفويرباخ جاء نقدنا كما انتقد تلميذا هيغل أستاذهما.

مقدمة لا بدَّ منها:

في نقدنا لمختلف ما أورده الأمين حيدر من مقالات في المدرحية أو دراسات أو حتى ما سُمّيَ بالأبحاث، فإننا نعتمد اعتمادًا مباشرًا على المقتطفات من تلك الدراسات التي انتقاها منها في نقده لها    دعمًا لوجهة نظره فيما قدمه لنا في تعريفه للمدرحية، وتاليًا فلن يكون نقدنا سوى نقد جزئي لتلك الدراسات، ولن يكون ذلك وافيًا لحقّ أصحابها فيما قدموه من محاولات، ولقد بذلنا من الجهود المضنية للحصول عليها أو حتى لبعضها فلم نوفق، في ذلك، لأسباب لا داعي لذكرها في بحثٍ فلسفي يتجاوزها، وينبئ عن دوافعها التي كان الانقسام والتشرذم الحزبي الراهن وراءها والذي من أبرز معالمه أنه بقيَ في حدود ضيقة من المعرفة التي يرى في توسعها وانتشارها في صفوف القوميين خطرًا عليه..

أيضًا، لا بدَّ من التنويه، إلى أن الأمين حيدر لم ينجُ من اعتماده قاعدة /إن صفات الشيء ليست هي الشيء/ في نقده لما قدمه سابقوه، حيث يقول على سبيل المثال لا الحصر: “الفلسفة المادية- الروحية هي الفلسفة القومية الاجتماعية الموجودة في المبادئ، ولما كانت الأمة محور المبادئ أو فكرتها المركزية فإننا نقول، إن الفلسفة المادية- الروحية هي فلسفة الأمة..”، فيكون جلّ ما يقدمه لنا الأمين حيدر هو أن الفلسفة هي الفلسفة، ذلك أنه يعرّف الفلسفة المادية- الروحية بالفلسفة القومية الاجتماعية وهذه هي فلسفة الأمة، فما الجديد الذي يقدمه لنا هذا التعريف؟ ذلك أنه لم يقدم لنا في دراسته للمدرحية تعريفًا فلسفيًّا لهذه الفلسفة واكتفى بعرض ما يصبّ في توطيد تعريفه، بدءًا من مكتوبات سعادة التي ينتقي منها رسالة سعادة إلى فايز صايغ والتي يقول فيها: “إن الحركة نشأت على عقيدة، أي على فلسفة اجتماعية كاملة موجودة في المبادئ وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته..”، معتبرًا أن سعادة قد حدّد فلسفته بأنها “موجودة في المبادئ” متجاهلًا ما تبقى مما يورده سعادة في الرسالة المشار إليها “.. وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه..”، ففلسفة سعادة موجودة في كل أعماله ومن جملتها كتبه التي لم يستثنِ منها كتاب نشوء الأمم باعتباره قد اختص في “علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان..” على ما يذهب إليه الأمين حيدر، فنشوء الأمم يسبق كل ما كتبه سعادة وقاله وفعله، فهو الكتاب الأول الذي يقول فيه سعادة “إن درسًا من هذا النّوع يوضّح الواقع الاجتماعيّ الإنسانيّ في أطواره وظروفه وطبيعته.. ففي الدّرس تفهّم صحيح لحقائق الحياة الاجتماعيّة ومجاريها.. وقد أسندت حقائقه إلى مصادرها الموثوقة. واجتهدت الاجتهاد الكليّ في الوقوف على أحدث الحقائق الفنيّة الّتي تنير داخليّة المظاهر الاجتماعيّة وتمنع من إجراء الأحكام الاعتباطيّة عليها.. فالكتاب الأوّل جامع مستوف الوجهة العامّة من نشوء الأمم بجميع مظاهرها وعواملها الأساسيّة..”، هذا الاستثناء لكتاب نشوء الأمم دفع به لينتهي إلى تعريفه التالي: “الفلسفة القومية الاجتماعية= تجبُّ المبادئ لتنهض الأمة..”، هذا التعريف لا يختلف عمّا قدمه تلامذة سعادة والذي ينتقده حضرة الأمين، من جهة ثانية، لا يقدّم لنا المؤلف تعريفًا محددًا للفلسفة ولا للمادة أو الروح ولا حتى للعلم، ففي شرحه لعلاقة العلم بالفلسفة ينتهي للقول: “إن العلم يقدم للفلسفة مادتها (من حيث أنه مختصٌ بالقوانين الكمية) أما الفلسفة فتستخرج منها المبادئ العامة الجامعة لشتات المعارف العلمية..” أما بالنسبة للعلاقة بين المادة والروح، فيقول: علاقة المادة بالروح علاقة ترافقية أو علاقة ترابط..”، أما علاقة الفلسفة بالعلم فهي “علاقة وجوبية مناقبية..” لكن ما هي المادة؟ وما هي الروح؟ وما هو العلم؟ وما هي الفلسفة؟ فهذا ما لا يجيبنا عليه حضرة الأمين!! على الأقل من وجهة نظر سعادة في فلسفته.. وقد سبق لنا وعرَّفنا كلٌ من المادة والروح وفق سعادة بناء على ما جاء به كتابه الرائع نشوء الأمم، ونعيد هنا تعريفنا للمادة بأنها كل ما لا يدين بوجوده للإنسان وجودًا ومعرفة، أي إنه موجود رغمًا عن الإنسان ولا يرتبط وجوده بوجود الإنسان أو معرفته، أي إنه وجود مستقل كل الاستقلال عن الإنسان، فهو وجود بذاته لذاته، وما يقوله سعادة بهذا الصدد واضحٌ وضوحًا لا لبس فيه: “فلا بد لقيام الحقيقة من شرطين أساسيين: الأول الوجود بذاته، أي أن يكون الشيء موجودًا. والثاني أن تقوم المعرفة لهذا الوجود. والمعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن أن تكون له بدونها… لكن لا يكفي تحديد الوجود لقيام الحقيقة، فالوجود يجب أن يصير معرفة ليكون حقيقة، أي إنه يجب أن يعرف إما من قبل الإنسان وإما من قبل الله..” أما الروح، فسعادة يستخدمها كمصطلح مجازي ويعني بها النفس، أي إنها لا تتمتع بمواصفات المادة كوجود مستقل، ذلك بنقده ونقضه للتعليل الديني وقوله إن الإنسان: “لم يعد يقنع بالتّعليلات الخياليّة البحتة المعزوّة إلى افتراض وجود شخصيّة وراء نظام الكون تُحدث النّظام وتَحدث بلا نظام.. وتجاه الحقائق الّتي أبرزها العلم.. وهي أنّ الإنسان جزء من الحياة نشأ بالتّطوّر حتّى بلغ شكله الحاليّ”، ندرك كيف أن سعادة يرفض مصطلح الروح الديني هذا من جهة، ولأنه يدرس البناءين المادي والنفسي والذي يقول فيه: “تقصّينا فيما دوّناه آنفًا الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع.. ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلًا للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان..” فالمدرحية هي إذًا هذان البناءان المادي الطبيعة بما هي وجود والنفسي بما هو الثقافة الإنسانية الدولة، هذا ثانيًا، أما العلم من حيث أنه “مختص بالقوانين الكمية” وفق ما يذهب إليه الأمين حيدر، فهو دراسة المادي، الموضوعي، الوجود، بما هو الكون والطبيعة، ومن ثم المجتمع الإنساني كوجود مادي، موضوعي، بالنسبة للفرد، والعلم من حيث هو قانون، هو دراسة العلاقات بين الموجودات، والتي هي بدورها، مادية، فالعلاقات الفيزيائية والكيمائية وحتى الرياضية والاجتماعية، هي علاقات مادية، موضوعية، فعندما نقول جيولوجيا نعني بها منطق طبقات الأرض، أي إن علم الإنسان بها ليس أكثر من صياغة لهذا المنطق، صياغة تتوافق وكيفية عمل العقل، فيزيولوجية العقل، صياغة معرفية، حيث يمكنه تسخيرها بما هي عليه من خصائص ومواصفات، لمصلحته، كذلك فيزيولوجيًّا، منطق الوظائف، وبيولوجيًّا، المنطق الحيوي، والسيكولوجيا، المنطق النفسي، والسيسيولوجي، المنطق الاجتماعي..، فمصطلح “…جيا” المضاف هو (Logic) المنطق، في اللغة العربية، ولما كان العلم هو درس الجزئيات المادية (فيزياء، كيمياء، تاريخ، اقتصاد.. الخ) كانت الفلسفة هي المحصلة التي تجمع “شتات العلوم..” بمقولات، قوانين عامة، يستطيع من خلالها الإنسان اختصار كل ما يجيء به العلم، فالفلسفة هي القانون، المقولة، الوافية الكافية، لتفسير ما نتساءل عنه، هي الناموس أو هي المقولة العامة، الشاملة، الكلية، للوجود المادي والنفسي على حدٍ سواء. هي البحث في المتكرر المادي، الموضوعي، وصياغة هذا المتكرر في قانون عام، أو مقولة. هي القانون، المقولة، الوافية الكافية، لتفسير ما نتساءل عنه، هي المقولة العامة، الشاملة، الكلية، للوجود المادي والنفسي على حدٍ سواء، هي البحث في المتكرر المادي، الموضوعي، وصياغة هذا المتكرر في قانون عام، أو مقولة. يستخدم سعادة مصطلح /ناموس/ للتعبير عن القانون أو المقولة معرِّفًا إياه بقوله: “النّاموس اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة..”، فالمدرحية جملة من المقولات، أو النواميس تبدأ بمقولة (ناموس) /المادة تعيّن الشكل/ ومنها تُشتق مقولة /الدورة الاجتماعية- الاقتصادية/ والتي عليها تقوم مقولة /الواقع الاجتماعي/ الذي هو الأمة، وعلى هذا الواقع الاجتماعي، تقوم مقولة /المرتبة الثقافية/ والتي تُشتق منها مقولة /إن الاقتصاد لا يعني حقيقة سوى سد الحاجة بأقل جهد وزمن وأكبر إنتاج/ ومقولة /الإنسان- المجتمع/ الدولة والتي تقوم عليها مقولة /نسبية القيم/ والتي منها على سبيل المثال لا الحصر، نسبة الحقوق إلى الواجبات حيث إنه في الدولة، الإنسان- المجتمع تتناهى الحقوق وفق المرتبة الثقافية إلى أعظم ما يمكن لتتناهى الواجبات إلى أقل ما يمكن..

وعليه الفلسفة القومية الاجتماعية- المدرحية، تعريفًا هي: “فلسفة اجتماعية تدرس الإنسان نشوءًا وارتقاءً، عوامل وأسباب ونتائج”.

فالفلسفة هي جملة القوانين العامة، أو المقولات أو النواميس التي تحكم مختلف أوضاع وحالات المجتمعات الإنسانية وظروفها التي تشكلت بموجبها ككيانات اجتماعية لها مواصفاتها الخاصة وخصائصها التي تميزها عن سواها من الجماعات..

هذه هي الفلسفة القومية الاجتماعية- المدرحية، تعريفًا ومقولات.

2- مدرحية لبيب زويا:

بأسلوبٍ تهكمي، يطرح الأمين حيدر نقده للمدرحية كما يراها زويا، بالطبع، منطلِقًا من تعريفه لها من أنها “هي الفلسفة القومية الاجتماعية الموجودة في المبادئ، ولما كانت الأمة هي محور المبادئ أو فكرتها المركزية، فإننا نقول: “إن الفلسفة المادية- الروحية هي فلسفة الأمة”، ولا ننكر أن وجهة نظر زويا شابها الكثير من الغموض والتناقض وفق ما أورده الأمين حيدر من مقتطفات في نقده لها، لكننا نرى أن ما بين أيدنا من تلك المقتطفات، لا يسمح لنا بأن نتناولها بالنقد والتحليل، فالسياق الذي طُرحت به تلك المقتطفات، في صلب الدراسة التي يقدمها زويا، مهم للغاية، بهدف بيان تلك النظرة كاملة غير مجزوءة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن نظرة القوميين الاجتماعيين في عام 1948 تاريخ نشر هذه النظرة في مجلة النظام الجديد للمدرحية أو القومية الاجتماعية، كان مبنيًّا على مجمل ما ألقاه سعادة من خطب ودبّجه من مقالات متفرقة أو تحدث به، وما كان بين أيدي الرفقاء من كتبه سوى نشوء الأمم والذي لم يُقرأ بالعناية والتأمل المفترض بدارسي فلسفة سعادة الاجتماعية، وعلى ما نعتقده أن تصفحه لم يكن ليكفي لتشكل رؤية عامة حول تلك الفلسفة، ولا يسمح بأية حال من تكوين نظرة شاملة لها تتغلغل في مختلف مفاصلها وتتكامل مع تلك الخطب والأحاديث، التي لم تكن في حقيقتها سوى شرحٍ لما جاء في كتاب نشوء الأمم من وجهات عدة اقتضتها ظروف ومكان الحديث أو الخطاب أو المقال والأشخاص ومستوياتهم المعرفية، والتي كان يأخذها سعادة بعين الاعتبار في توجهه لهم..

مع كل ما تقدم، فإننا نلمح لدى الرفيق لبيب زويا بعضًا من الرؤى الفلسفية، وإن جاءت على شاكلة لمحات أو شارات لمتجهات فلسفية عامة، أكانت قريبة أو بعيدة عن موضوع الدراسة التي يقدمها في نشرة النظام الجديد، فهي تعكس رغبة في جمع شتات ما كان مطروحًا حينها من أقوال ومقالات وخطب وأحاديث لسعادة، وما كان متداولًا من رؤى في الفلسفة والاجتماع والاقتصاد والسياسة.. الخ في اجتهاد شخصي يشكر عليه رفيقنا لبيب زويا..

فعلى سبيل المثال، ووفق ما جاء في مقتطفات الأمين حيدر، قول الرفيق لبيب زويا: “إن الصراع الحقيقي، إذًا، هو صراع الإنسان مع نفسه في سبيل فهمها وتحققها..”، فهذه مسألة قد لا تدخل في موضوع المدرحية كفلسفة اجتماعية، لكنها تبقى إشارة لما تنحو إليه هذه الفلسفة، فمن وجهة نظرنا، فإن ما يطرحه الرفيق زويا، صحيح، ذلك أن فكرة الله لم تكن في دوافعها، سوى هذا التوق الإنساني لأن يكون الإنسان إله ذاته، كل ما في الوجود تحت إمرته وتصرفه، وهو توقٌ لن ينتهي كما يقول زويا  إلا إذا تحقق للإنسان غايته من وجوده على غرار “كُنْ فيكون” أو كما عبّر عنها الرفيق زويا أي “فهمها وتحققها”، جوانب أخرى يضيء عليها زويا وهي مقاربة ما كان مطروحًا آنذاك من أن الحزب السوري القومي الاجتماعي في شعار الزوبعة وفي تسميته حتى وفي ما ذهب إليه من كون المزيج السلالي السوري خليط من مفلطحي الرؤوس ومستطيليها ومستديريها، ومن كونه حزبًا فاشيًّا أو نازيًّا، قوله: “إن الفلسفات التي تنطوي على البغض والكره تحمل في نفسها ميكروبات خيبتها (في إشارة للفلسفة الفاشية والنازية).. ليس في المدرحية بغض لأنها ليست عنصرية في باثولوجيها ولا فردية في اجتماعيتها ولا طبقية في اقتصاديها..” أما قوله: “هو ذلك الصراع الصامت الخفي الذي نقل الإنسان من أطواره الابتدائية إلى حالته الحاضرة..” فوفق ما نعتقد أن القصد الذي يذهب إليه زويا، هو أن التجربة الإنسانية كانت تجري بهدوء وصمت، وإلا لما كانت قد استغرقت هذا المدى الزمني الطويل، فليس استخدام النار على سبيل المثال أيضًا رافق الإنسان منذ أن وجد، فقد كان “لاقط ثمار ومن ثمَّ صيادًا..” يأكل اللحم نيّئًا، ليكتشف فيما بعد، أن طعمه مشويّ ألذُ من كونه نيّئًا، وليعتمد النار في تحسين مأكله ومن ثَمَّ مختلف شؤون حياته، هذا المدى الزمني يشير إليه الرفيق زويا بمفردة “الصامت الخفي”، فكل ما بين أيدينا اليوم لم يأت ابن لحظته، إنه تراكم الخبرة والرغبة في التحسين وعدم قبول ما هو كائن إلا في أحسن أحواله وما تقتضيه من الظروف والأوضاع التي يعيشها الإنسان أو يسعى لها..

ما يقدمه الرفيق زويا يبقى توصيفًا لمناحي مدرحية كان لا بدَّ من الوقوف حيالها نقدًا أو نقضًا، من وجهة رؤية الحزب لها وليس الفلسفة المدرحية، فهذه الأخيرة بقيت دونما شروحات اختصاصية، تلج منظومة الفلسفات الاجتماعية مصطلحات ومفاهيم ومقولات، على شاكلة ما يقدمه “دوركهايم أو أنجلز أو فيبر” تحديدًا كرواد للفلسفة الاجتماعية في القرن التاسع عشر والعشرين، وهذه مسألة ذات أهمية عند تناولنا المدرحية من حيث هي فلسفة اجتماعية..

ما يلي من مقتطفات من مقالة الرفيق زويا، كما انتقاها الأمين حيدر، تُظهر المستوى الثقافي الذي كان شائعًا في أربعينيات القرن الماضي، والذي واجهه سعادة بالنقد والتحليل ملخصًا إياه بهذه العبارة: “علينا أن نفهم فلسفة الحركة لندرك كيف تعالج الأمور” دون فهم هذه الفلسفة تبقى القضايا المطروحة عرضة لكثير من الخلل في النهج..

يتضح من مطالعتنا لهذه المقتطفات مدى التناقض الناتج عن الخلط بين المصطلحات الفلسفية، وأبرزه قول الرفيق زويا: “وقد تناولت الناحية الأنطولوجية (الوجودية) كما تناولت موقف هذه الفلسفة من الفلسفات المعاصرة..”، ومن ثم قوله: “ليست المدرحية نظرية في المعرفة فحسب، بل نظرية ميتافيزيقية (ما ورائية غيبية) لها مقولاتها الخاصة”، فكيف يمكن أن تكون عليه المدرحية وفي آن واحدٍ وجودية وغيبية والمصطلحان يناقضان بعضهما البعض..

لكن، وكما نوّهنا آنفًا فإن هذه المقتطفات لا تسمح لنا بنقد ما جاء به الرفيق زويا لأننا ومن خلال هذه (المقتطفات) لن نعرف ما إذا كانت المقالة قد تناولت، مثلًا، تلك “الفلسفات المعاصرة” أم لا؟ وأيًّا منها؟ والموقف الفلسفي القومي الاجتماعي منها!!

فهل جاء موقفنا متماشيًا مع ما اقتطفه الأمين حيدر من تلك المقالة:

مقتطفات من مقالة الرفيق زويا   

“إن هذه المحاضرة هي تحليلية دقيقة للفلسفة المدرحية، وقد تناولت الناحية الأنطلوجية كما تناولت موقف هذه الفلسفة من الفلسفات الأخرى المعاصرة، وهي تمثل اجتهادًا ممتازًا في شرح الفلسفة المدرحية التي تقدم الحل الوحيد روحيًّا وماديًّا لقضايا المجتمع الإنساني العسيرة… إنه لا إنتاج مادي دون أساس روحي له، وذلك لأن كليهما عنصر واحد إذا نظرنا إليه من الخارج دعوناه مادة وإذا نظرنا إليه من الداخل دعوناه روحًا، فالروح والمادة إذًا صنوان لا يفترقان كصفحتي ورقة بيضاء.. وجدا سويًّا، فكان الوجود، فهما الوجود.. وجد الصراع على الأرض منذ وجد الوجود.. إن الصراع الحقيقي، إذًا، هو صراع الإنسان مع نفسه في سبيل فهمها وتحققها… ولن يتمَّ هذا الصراع ولن يقف، إلا بتمام تحقيق الذات الإنسانية الشاملة.. لنبدأ الآن بتبيان الأساس الفلسفي الذي ترتكز عليه جميع مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الثقافية وغير الثقافية.. الفلسفة المدرحية ليست تركيبًا فلسفيًّا، بل إبداعًا فلسفيًّا.. إنه إن كان هناك فلسفة وجودية بالمعنى الصحيح فهي ولا شك، فلسفتنا نحن.. الوجود في نظرها وجود اجتماعي موحد وليس وجودًا إفراديًّا متقطعًا.. وإذا ما اعترفنا مع بعض المفكرين بأنه لا تقوم قائمة لأي مجتمع إذا فقد عاطفة المحبة والولاء رأينا أن الفلسفات التي تنطوي على البغض والكره تحمل في نفسها ميكروبات خيبتها.. “المدرحية” ترى أن المجتمع أساس الوجود وليس الفرد أو الدولة أو العنصر.. إنها كنظرية صراعية تعتبر أساس الوجود اتحاد المادة والروح، ذلك الاتحاد الذي لا يقوى أحد على فصم عراه، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى اعتبار أن كل ما في الوجود ناتج عن هذا المطلق العام.. ليس في المدرحية بغض لأنها ليست عنصرية في أثنولوجيتها ولا فردية في اجتماعيتها ولا طبقية في اقتصاديتها.. إن الصراع الذي تعتبره المدرحية أساس التطور الإنساني، هو ذلك الصراع الصامت الخفي الذي نقل الإنسان من أطواره الابتدائية إلى حالته الحاضرة.. لا تتهرب المدرحية من الحرب لأنها تعتبرها صراعًا.. ليست المدرحية نظرية في المعرفة فحسب، بل نظرية ميتافيزيقية لها مقولاتها الخاصة.

مدرحية كامل المقدم:

إن كنا لا نتفق مع الأمين الجزيل الاحترام حيدر الحاج إسماعيل في استثنائه لكتاب نشوء الأمم من تعريفه للفلسفة المدرحية، بناء على ما أورده من رسالة سعادة إلى فايز صايغ والتي يعتمدها الأمين حيدر في تعريفه للمدرحية، وفي نقده لمختلف المقالات التي تناولت مصطلحي المادة والروح..،(1) وما جاء في مقدمة نشوء الأمم من أنه كتاب علمي تجنّب فيه سعادة التأويلات الفلسفية، لكنه في حقيقة الأمر لم يتجاهل الفلسفة والفرق بيِّن بين التأويل والفلسفة، وهذا يبدو واضحًا في سياق الكتاب (نشوء الأمم) في تناوله لمختلف النظريات المدرجة تحت عناوين “علم اجتماع”..

 فإننا لا نتفق معه، أيضًا، في تصنيفه لمقالات وردت في نشرة “النظام الجديد” على أنها رؤى مدرحية، ذلك كونها: أولًا، ليست دراسات أو أبحاثًا في الفلسفة بوجه عام وفي المدرحية تحديدًا، ثانيًا: لأنها لم تكن سوى تعبير عن كيفية فهم رفقائنا الأوائل لما جاء به سعادة، وهي ثالثًا: مجرد مقالات حاولت أن تضفي ذاتيتها في سياق فلسفي عاجز عن فهم ما يتناوله أسسًا ووسائل وغايات، بمعنى أننا عندما نصف فلسفة سعادة بـ”وجودية، أنطولوجية” ومن ثم نعود ونصفها بـ”ما ورائية، غيبية، ميتافيزيقية” فإننا لا نكون قد ارتكبنا خطًأ فلسفيًّا وحسب، بل وخطأ منهجيًّا، ومع ذلك، فإننا نفهم أن ما دوّنه الرفقاء الأوائل من رؤى، يبقى محاولة للتعبير عن وحدة المادة والروح حتى في السياق “وجودي غيبي”، أي دمج متناقضين فلسفيين، كما هي الحال في دمج مادي- روحي..

فما يقدمه الأمين كامل المقدم تحت عنوان “بحث تحليلي فيما بين المادة والروح” لا يعدو كونه محاولة غير اختصاصية في موضوع فلسفي يحمل الكثير من الإشكاليات، تحديدًا المنطقية التي تمتاز بها كل فلسفة على حدة، فكيف جاء تعريف الأمين المقدم لكل من المادة والروح في محاولة لإبراز تكاملهما معًا فيما يتفق والفلسفة المدرحية، نكرر فيما يتفق والفلسفة المدرحية، أي إن الأمين المقدم، يقدم لنا كلًّا من المصطلحين من وجهة نظر مدرحية يقول (بالطبع وفق ما أورده الأمين حيدر من مقتطفات من هذا البحث): المادة جمال لا حياة فيه والروح حياة لا جمال فيه، والمادة والروح جمال وحياة في مجتمع حيٍّ كائن.. المادة هي الثروة الاقتصادية للمجتمع، ونسبة لحاجاتنا الملحة لهذه الثروة لا نقدر بدونها كأمة حية أن نسمو ونقوى ونسود.. أما الروح فهي الثروة الروحية النفسية المثلى التي تتعزز فيها المناقب وتقدس الفضائل وتسمو الأخلاق.. إن تلك المدرسة تنظر إلى الحياة كوحدة مادية- روحية وترى أن فلسفة الحياة الحقيقية هي تلك الفلسفة القائمة على تعاون المادة والروح.. لأن الروح هي سرُّ بقاء الأمة والمادة هي الغذاء لهذه الأمة.. إن خسارة الروح انخذال عظيم في الأخلاق والمكارم والفضائل وفي كل ما يمت بصلة مباشرة أو غير مباشرة إلى القيم الإنسانية النفسية المجتمعية المثلى.. وإن خسارة المادة انهيار تام في معترك الدول الاقتصادية معترك التفوق في النشاط والعمل والإنتاج..”.

في رؤيتنا لما قدمه الأمين كامل المقدم، نلمح مفصلين مهمين، الأول هو اقتران المادة بالثروة، بقوله: “المادة هي الثروة الاقتصادية للمجتمع..” وهذا الاقتران لو جاء على النحو التالي: المادة هي البيئة الطبيعية للأمة، لكان قولًا لا غبار عليه، ذلك أنه يتفق اتفاقًا مطلقًا مع سعادة، الذي يعتبر أن المادة هي التي تعيّن الشكل، وعليه، المادة البيئة هي التي تعيّن الشكل، المجتمع الأمة، وعلى قدر ما تكون المادة البيئة مؤهلة لقيام التمدن، بقدر ما تكون قوة الأمة أو تقدمها، أو رقيَّها أو مرتبتها الثقافية بين الأمم. وهذا ما كان الأمين المقدم يودّ قوله، وفق رؤيتنا وتحليلنا لقوله: “ونسبة لحاجاتنا الملحة لهذه الثروة لا نقدر بدونها كأمة حية أن نسمو ونقوى ونسود..”.

المفصل الثاني الذي نلمحه في مقالة الأمين المقدم هو: “أما الروح فهي الثروة الروحية النفسية المثلى التي تتعزز فيها المناقب وتقدس الفضائل وتسمو الأخلاق..”، والذي يقدم لنا اقترانًا أوليًّا بين مصطلح روح ومصطلح نفس، “الروحية النفسية” الروح هنا وفق تقديرنا هي النفس، وهذا الملمح يتطابق ومفهوم الروح عند سعادة.. خاصة عندما يؤكد الأمين المقدم ذلك بقوله: “إن خسارة الروح انخذال عظيم.. في كل ما يمتّ إلى القيم الإنسانية النفسية المجتمعية المثلى.. وإن خسارة المادة انهيار تام في معترك الدول الاقتصادية، معترك التفوق في النشاط والعمل والإنتاج..”، لنلاحظ “القيم النفسية المجتمعية” في إشارته إلى الروح، وإشارته إلى المادة في قوله “معترك الدول الاقتصادية..”.

قد تكون قلة المصادر الحزبية التي لم تكن متوفرة والتي كانت رديفًا ثقافيًّا لرفقاء الجيل الثاني، هي التي كانت وراء استخدام الأمين كامل المقدم لمصطلحات المادة والروح والثروة والقيم على النحو الذي جاءت به، لكنها بقيت محافظة على المضمون المشار إليه..   

(1)  نعود ونشير إلى أن سعادة وفي الرسالة ذاتها لم يستثنِ ما يستثنيه حضرة الأمين، حيث يرد في سياق المقطع الذي يعتمده الأمين حيدر ما يلي: “في المبادئ وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته..”، معتبرًا أن سعادة قد حدّد فلسفته بأنها “موجودة في المبادئ” فقط.

مدرحية الأمين أنيس فاخوري:

نبقى في ذات الاتجاه لرفقاء الجيل الأول، وكيفية فهمهم لفلسفة سعادة المدرحية، حيث المضمون واحد وإن اختلفت المصطلحات التي يعبّر كل منهم عن كيفية فهمه لتلك الفلسفة، فنجد الأمين الجزيل الاحترام أنيس فاخوري يقدم رؤيته تحت عنوان كبير /النظرة القومية الاجتماعية: النظرة المدرحية/ فيقول: “هذه المحاضرة.. هي محاولة أولى لإيضاح الفلسفة القومية الاجتماعية- المدرحية.. من الناحية غير المادية (الميتافيزيقية).. فهي تفتح الموضوع من ناحيته غير المادية والأنطولوجية.. فلسفة سعادة لها وجوه شبَه عديدة قد يراها الكثيرون مع الفلسفة التومائية (نسبة إلى توما الأكويني) ومع فلسفة سبينوزا وكانت وكونت، مع ذلك فلسفة سعادة المادية- الروحية ليست فلسفة توفيقية مؤلفة من عناصر من هنا وهناك، بل هي اتجاه ثالث جديد من اتجاهات التفكير الفلسفي، هو الاتجاه الصوابي والمخرج النظري في التفكير الإنساني.. (لذا) فمرتكزاتها تبدأ في كونها فلسفة اجتماعية في نظرتها إلى القيم، ولا تبحث منشأ الكون، أي ليست ميتافيزيقية.. (فهي) عقلية، العقل شريعتها، تفاعلية، تقول بتفاعل الروح والمادة وقومية اجتماعية فالإنسانية واقع مجتمعات وأمم وهي نهضوية تطلب إقامة نظام جديد لحياة مرتقية.. إنني أدعوكم الآن إلى أن تلقوا معي نظرة شاملة على هذه المبادئ لنرى كيف أنها التحقيق العملي للفلسفة القومية الاجتماعية- المدرحية.. ولمراجعة كتاب نشوء الأمم ليرى قراءه أية روعة فكرية عميقة تطالعهم، وأية لذة فلسفية تدغدغ أدمغتهم..”.

ما تقدم، على إيجازه، بمقتطفات، يقدم فكرة أن المضمون المدرحي كامن فيما يذهب إليه الأمين فاخوري، وإن خانته المصطلحات المناسبة، فإن ذلك لا يُنقص من قيمة توجه الأمين فاخوري، ذلك أنه يشير إلى مفصل رئيس يؤكد أن الفلسفة القومية الاجتماعية من وجهة النظر الميتافيزيقة الغيبية الماورائية، “لا تبحث في منشأ الكون..”، فهي ليست ميتافيزيقية وتاليًا هي اجتماعية طالما أنها (اجتماعية عقلية تفاعلية قومية نهضوية، بحيث تكون “المبادئ هي التحقيق العملي للفلسفة القومية الاجتماعية- المدرحية، وإن كتاب نشوء الأمم هو كتاب تقوم عليه هذه الفلسفة المدرحية”..

صحيح أن الأمين فاخوري لم يقدم لنا تعريفًا للمدرحية من حيث كونها “فلسفة اجتماعية تدرس نشأة الإنسان وارتقائه، عوامل وأسبابًا ونتائج”، لكنه يُضمن هذا المفهوم بقوله: “إنها لا تبحث في منشأ الكون” ولأنها كذلك ففي نشوء الأمم نجد مبدأها وركنها الأساس، باعتباره من وجهة نظرنا المدماك الأول الذي بنى سعادة، على ما تضمنه من نتائج فلسفته المدرحية التي تبقى المبادئ هي التحقيق العملي لها.

أخيرًا، وقد أثمرت الجهود النبيلة التي قام بها الرفيق (ع.ح) في وقوفنا على ما جاء في المقالات الأولى التي تناولها الأمين حيدر بالنقد، /لبيب زويا، كامل المقدم، أنيس فاخوري/ فإننا نعيد قراءتنا لها مقرونة بصور عنها لتعم الفائدة من جهة، ولتأتي رؤيتنا السابقة والراهنة مستكملة، كلٌ منها الأخرى، ولنرى إن أصاب الأمين حيدر في نقده لها أم لا.. مع العلم أن المقالات المشار إليها، كانت تحت إشراف سعادة وقد وافق على نشرها، مما يفيد بأنها تأتي على غير ما انتهى إليه الأمين حيدر، فموافقة سعادة تعني أنها تأتي في السياق الذي حدده عنوانها، وقد يكون سعادة قد نقحها إضافة أو حذف منها ما لا يتفق والسياق العام لها..  

إن موقفنا من قول الأمين حيدر: “والحق يقال إن سعادة لم يأت بغير المبادئ” واعتماده مقدمة نشوء الأمم من حيث كونه: “كتاب.. اجتماعيّ علميّ بحت تجنّبت فيه التّأويلات والاستنتاجات النّظرية وسائر فروع الفلسفة.. وكذلك على رسالة سعادة إلى فايز صايغ والتي يورد منها قول سعادة: “إن الحركة نشأت على عقيدة، أي على فلسفة اجتماعية كاملة موجودة في المبادئ وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته..”، وانتهاء الأمين حيدر لبخس سعادة حقه، يأتي في غير محله، فبناء على ما أورده من مقدمة نشوء الأمم، واستثناءه إياه، ككتاب علمي غير فلسفي، على الرغم من تأكيد سعادة على أنه كتاب (اجتماعي علمي) تجنب “فيه التّأويلات والاستنتاجات النّظرية وسائر فروع الفلسفة..” فهو اجتماعي بالدرجة الأولى، وتجنب “التأويلات والاستنتاجات النظرية..”، لا يعني تجنبه لفلسفة الاجتماع، فالتأويل شيء والفلسفة شيء آخر، هذا من جهة، أما قوله “سائر فروع الفلسفة” فيأتي وفق تحليلنا أن سعادة لم يعتمد أية فلسفة أو أي فرع من فروعها، ليقيم عليه بناءه المناقض لها، على غرار ماركس وفويرباخ تلميذي هيغل، وهذا ما دفع سعادة لاعتماد “الحقائق الفنيّة الّتي تنير داخليّة المظاهر الاجتماعيّة وتمنع من إجراء الأحكام الاعتباطيّة عليها..” هذه الحقائق التي يعتبرها الأمين حيدر حقائق علمية لا تمت إلى الفلسفة بصلة، يدحضها قول سعادة من أنه “جامع مستوف الوجهة العامّة من نشوء الأمم بجميع مظاهرها وعواملها الأساسيّة.. (من حيث) “تعريف الأمّة وكيفيّة نشوئها ومحلّها في سياق التّطوّر الإنسانيّ وعلاقتها بمظاهر الاجتماع..”، يضاف لما تقدم، أنه وفي الرسالة إلى فايز صايغ التي يعتمدها للقول بأن سعادة لم يأت بغير المبادئ، قولٌ تدحضه الرسالة نفسها، حيث إن سعادة لم يحصر المدرحية في المبادئ، بل، بالإضافة إليها يقول: “وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته..” “هذا التعميم لم يستثنِ منه سعادة (كتبه) والتي منها بطبيعة الحال، نشوء الأمم، أكثر من ذلك ما يورده سعادة في رسالة مؤرخة في العاشر من كانون الأول لعام 1947 والتي يستشهد بها الأمين حيدر على أن سعادة قد استخدم مصطلح مدرحية للتعبير عن قوميته الاجتماعية، دعوة سعادة “إلى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ المادي وحده والإقلاع عن اعتبار العالم ضرورة حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية وإلى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس مادي- روحي (مدرحي) وأن الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه..” مما يعني، بشكل لا جدال فيه أن نشوء الأمم هو في صلب تفسير المدرحية من حيث “أن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس مادي- روحي (مدرحي)، والملاحظ في هذا النص الذي كتبه سعادة والذي يتضمن مصطلح مدرحية لكن ضمن قوسين، بما يعني أن سعادة يأتي على ذكر المدرحية بتحفظ، مما يؤكد ما نوهنا إليه سابقًا من أن هذا المصطلح لرشيد سليم الخوري(*)، هذا من جهة، من الجهة الأخرى نجد أن النص يأتي واضحًا كل الوضوح بالدلالة على أن المدرحية هي الناموس (الأساس) الذي يفسر لنا (أساس الارتقاء الإنساني..) كأساس (مادي- روحي (مدرحي) فالقومية الاجتماعية- المدرحية هي تفسير لهذا الأساس المدرحي للتطور الإنساني، والكتاب الذي اختص بهذه المسألة هو كتاب “نشوء الأمم” وليس سواه..

وقد سبق لنا وذكرنا أن مصطلح (مدرحية) يذكره سعادة ثلاث مرات فقط لا غير، الأولى كانت في هامش من هوامش أحد كتابيه (الإسلام في رسالتيه وجنون الخلود) متهكّمًا على رشيد سليم الخوري من قوله (مدرحية) والتي هي باعتراف سعادة أنها مصطلح يؤول فيه ما جاء على لسان سعادة من أن أساس التطور الإنساني مادي- روحي.. أما الثاني ففي رسالته المشار إليها أعلاه، أما المرة الثالثة فهي، مقالته المعنونة بـ(لائحة العقاقير لا تصنع طبيبًا) حيث يقول: “إن الحركة القومية الاجتماعية تأسست على مبادئ الوجدان القومي والعدل الاجتماعي في النظرة المدرحية إلى الحياة والكون والفن..”، فما يقصده سعادة بقوله هذا، هو أن الحركة الحزب، تأسس على مبادئ الوجدان القومي والعدل الاجتماعي، في إشارة واضحة لقوله بالقومية (الوجدان القومي) الاجتماعية (العدل الاجتماعي) كأساس يقوم على “النظرة المدرحية إلى الحياة والكون والفن..”، هذا الأساس هو الأساس المدرحي في تفسير التطور الإنساني..”.

نعود ونذكّر بالمرتكزات التي نعتمدها في بحثنا هذا /نقدٌ على نقد/ إذ تأخذ فيها المصطلحات الواردة أدناه المفاهيم التالية:

الفلسفة:

كما نعرّفها، هي الكشف عن أعم القوانين في الطبيعة والمجتمع، هي بحثٌ في الكليات التي تنتظم من خلالها جزئيات العلم المعرفة في قوانين أو مقولات أو نواميس عامة، حيث يشكل المتكرر منها محورها الرئيس أو عمودها الفقري..

الناموس:

القانون أو المقولة أو الناموس هو وفق سعادة: “اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة.. والنواميس لا تلغي خصائص الأنواع”، لاحظ “استمرار حدوث..” أي المتكرر..

المادة:

هي كل ما لا يدين بوجوده للإنسان وجودًا ومعرفة، أي إنها كل ما يوجد رغمًا عن الإنسان فردًا أم مجتمعًا، كل ما هو موجود خارج وعي الإنسان ولا يمت بأية صلة بوجوده للإنسان، يقول سعادة: “لا بد لقيام الحقيقة من شرطين أساسيين: الأول الوجود بذاته، أي أن يكون الشيء موجودًا. والثاني أن تقوم المعرفة لهذا الوجود. والمعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن أن تكون له بدونها.. لأن الحقيقة قيمة إنسانية نفسية والإنسان هو وحده الذي يميز بين الحقيقة والباطل بالمعرفة..” وبما يعني أسبقية الوجود على المعرفة الوعي..

الروح:

هي كل نتاج نفسي إنساني أيًّا كان وبأي شكل كان وعلى أي نحو كان /صناعة وغلالًا وفكرًا/ علمًا، معرفة كان أم فلسفة، ناموسًا حيث موضوعهما يبقى وجودًا، ماديًّا أيًّا كان أيضًا.. فالحقيقة، كما يراها سعادة: “قيمة نفسية إنسانية” والإنسان هو وحده الذي يميّز بين الحقيقة والباطل بالمعرفة..”.

الفلسفة المدرحية:

هي دراسة التطور الإنساني نشوءًا وارتقاء، عوامل وأسبابًا ونتائج..

القوانين أو المقولات أو النواميس المدرحية:

1- المادة تعيّن الشكل.

2- دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية.

حيث تقوم على هاتين المقولتين أو الناموسين:

1- مقولة /الواقع الاجتماعي/ الذي هو الأمة.

2- مقولة /المراتب الثقافية الثلاث/.

3- مقولة الإنسان- المجتمع/ الدولة.

4- مقولة /نسبية القيم/.

(*) يقول سعادة في جنون الخلود صفحة 60 “ومن استعارات رشيد الخوري قوله في الرسالة المحمدية “الدين الإسلامي” إنها “مدرحية” أي “مادي- روحي معًا”. فقد يظنّ القارئ غير المطلع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية الخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتابي “نشوء الأمم” ومن شرحي لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهو فكرة فلسفية اجتماعية أبديتها في مناسبات عديدة. وآخر ما أعلنته من أمر نظرتي الفلسفية كان في خطابي في أول آذار سنة 1940، الذي نشر في “سورية الجديدة” في العدد الصادر في 27 نيسان من السنة المذكورة. قلت:

“إن الحركة السورية القومية الاجتماعية لم تأتِ سوريّةً فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة. إن الحركة السورية القومية الاجتماعية ترفض الإقرار باتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساسًا للحياة الإنسانية، ولا تقف الحركة السورية القومية الاجتماعية عند هذا الحد، بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي- الروحي للحياة الإنسانية ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيي ويعمر ويرفع الثقافة ويسير الحياة نحو أرفع مستوى”.

قراءة في محاضرة الرفيق الأستاذ لبيب زويا

/الفلسفة المدرحية وناحيتها الصراعية/

تأتي هذه المقالة حول محاضرة الرفيق زويا مستكملة ما سبق أن سقناه بناء على مقتطفات الأمين حيدر حاج إسماعيل، وقد كنّا نوهنا سابقًا إلى أننا قد لا نفي هذه المقالات أو المحاضرات حقها، وتاليًا أن ننصف كتّابها، طالما أننا نعتمد على ما أورده الأمين حيدر من مقتطفات منها، وكان قولنا في محله، بعدما اطلعنا على المحاضرة كاملة، لذا كان من المفيد، أن نعيد قراءتنا لها كما هي لا كما دوّنها منتقدا الأمين حيدر حاج إسماعيل.

أولًا، نقرأ على غلاف مجلة “النظام الجديد” التي نشرت هذه المحاضرة، أن الموجّه لها كان سعادة، بمعنى أن ما قد يرد فيها من مقالات، خاضع لإشراف سعادة، وموافقته عليها قبل نشرها، وطالما أنها نُشرتْ، فهذا يعني أن سعادة قد وافق على كل ما جاء بها، لذا جاء التعريف بهذه المحاضرة والذي نعتقد أن سعادة قد خطَّهُ على النحو التالي: “إن هذه المحاضرة هي تحليلية دقيقة للفلسفة المدرحية، وقد تناولت الناحية الأنطولوجية، كما تناولت موقف هذه الفلسفة من الفلسفات المعاصرة، وهي تمثل اجتهادًا ممتازًا في شرح الفلسفة المدرحية التي تقدم الحل الوحيد روحيًّا وماديًّا لقضايا المجتمع الإنساني العسيرة وتشق للمجتمع طريق الخروج من التخبط والأضاليل إلى حرية أعظم ونظام أجمل ونتيجة فيها الخير كل الخير للمجتمع، فهي وحدة من وحدات هذه المجموعة الأولى الكبيرة القيّمة للفلسفة المدرحية التي أعلنها سعادة وتقدمها النهضة القومية الاجتماعية للعالم.”

تأتي المحاضرة تحت عنوان عريض هو: “الفلسفة المدرحية وناحيتها الصراعية” فهي تطرح الفلسفة المدرحية من وجهة نظر محددة ألا وهي: “الصراع”، بمعنى لماذا تأخذ هذه الفلسفة وجهة الصراع منطلقًا ووسيلة وغاية؟ فالمحاضرة إذًا، تتناول ثلاثة محاور أساسية، تناولها التعريف بها، والتي دارت بمجملها حول هذه المحاور، أولها التعريف بالمدرحية، ثانيها موقف هذه الفلسفة من الفلسفات الأخرى، ثالثها كونها المخرج العملي من التخبط والأضاليل إلى حرية أعظم..”

بناء على ما تقدم، فلن نستعرض من المحاضرة سوى محورها الأول، وهو التعريف بالمدرحية، أما المحورين الآخرين، فيمكن لمن يود الاطلاع عليهما متابعتهما بالصور المرفقة..

ينوّه الرفيق الأستاذ زويا بداية أنه يرجو: “أن يُفهم من هذه الكلمة (الروح) هنا مدلولها الفلسفي لا الديني..” فهو يستخدم مصطلح الروح بمعناه الفلسفي أي بمعناه النفسي، وهذه بداية جيدة تُحسب للرفيق زويا، ثم يطرح سؤاله الرئيس: “.. إذا لم نصل إلى معرفة الأساس الذي يقف عليه وجودنا نحن، فما قيمة إصلاح لا يتناول الأساس؟.. علينا أن نبيّن ماهية الأسس التي يرتكز عليها الصراع الإنساني بشتى مظاهره.. ولنبدأ بتبيان الأساس الفلسفي الذي ترتكز عليه جميع مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، الثقافية وغير الثقافية..” إنه المبدأ المدرحي أو الفلسفة المدرحية من حيث إنها “ليست تركيبًا فلسفيًّا بل إبداع فلسفيّ، بمعنى أنها نظرة جديدة كل الجدة إلى الحياة والعالم والمعرفة، وأن هذه الفلسفة لها من المقام ما لأي فلسفة أخرى، لا بل أكثر أهمية من غيرها لأنها الوحيدة التي استطاعت أن تعطي الأساس الموحد لسير الحياة الإنسانية، فقضت بذلك على أوهام كثيرة عُلِّقَتْ فيما مضى على علاقة المادة والروح، الأمر الذي أدى في كثير من الأحايين إلى العزوف عن فكرة الوحدة الحياتية الجامعة.. ولما لهذه الفكرة من أهمية.. فإنني أقول إنه إن كان هنالك من فلسفة وجودية بالمعنى الصحيح فهي بلا شك فلسفتنا نحن لأنها تعتبر الوجود كأساس لها، فتبني عليه، والوجود بنظرها وجود اجتماعي موحّد وليس وجودًا إفراديًّا متقطعًا.. فمنذ أن عرف الإنسان على هذه الأرض حتى اليوم، والأرض لم تزل كما كانت من قبل.. إنما الذي يتغير، عليها هو تلك الأشياء الخاضعة لنواميس خاصة تتطور حسبها، مع العلم أيضًا أن هذه النواميس الطبيعية هي أيضًا أمور ثابتة، لأنها تمثل القانون العام الذي تسير الطبيعة بأجمعها حسبه،..” ومن أبرز هذه القوانين التي يقدمها لنا الرفيق الأستاذ زويا قانون الصراع الذي يعيده إلى “.. التفاوت والتباين بين القوى الإنسانية في الأشخاص وفي الجماعات.. كان التفاوت، فكان الصراع، فكانت الحضارة، فالصراع أساس الحضارة الإنسانية، كما وأن التفاوت والتضارب أساس للصراع الإنساني، فلولا التفاوت لما استطاع الإنسان التقدم قيد أنملة في ميدان التحقق العام..”، ليبقى التساؤل: ما أسباب هذا التفاوت بين البشر وتاليًا الجماعات؟ يجيبنا الرفيق الأستاذ زويا قائلًا: “وجد الإنسان على هذه الأرض مظهرًا لشيئين مختلفين بالاسم.. وقد جرى الناس على تسمية هذين الشيئين باسمين مختلفين، لا رابط بينهما، وهما الروح والمادة،.. واختلف الناس حول أهمية هذين العنصرين.. (لكن) إذا كانت الروح والمادة العنصرين الأساسيين في الحياة، فليس من المعقول أن تكون أهمية الواحد أكثر بكثير من أهمية الآخر بحيث ينعدم الآخر، إن المادة والروح عنصران أساسيان، وهما في حقيقة الأمر عنصرٌ واحدٌ، أو بالحري مظهر ذو وجهتين لوجود واحد، إن مَثّْلا شيئًا فإنهما يمثّلان الوجود، ولن يتم الوجود بالواحد دون الآخر، إنهما الوجود نفسه كما يُنظر إليه من ناحيتين: موضوعية وذاتية، الأولى تعبّر عن الناحية المادية والثانية تعبّر عن الناحية الروحية.. إن المدرحية.. هي النظرة الصائبة إلى الحياة والفن والكون، لأنها النظرة التي تعمل على الأساس الوجودي الصحيح.. وبأن الأساس الذي يرتكز عليه الوجود هو الجوهر الفرد الواحد العام وأن لهذا الجوهر الفرد مظهرين يتخذهما، هما، المادة والروح، اللذان إذا أُخذا من حيث أنهما عنصران فرديان أمكن التكلم عنهما بالتجريد وفصلهما الواحد عن الآخر، أما حينما يدور الكلام عن الوجود من حيث هو وجود، فهما بالحقيقة شيء واحد، هما الوجود نفسه وهما أساسه وهما مظهراه الأساسيان.. إنهما الوجود في حالتيه الذاتية والوضعية.. إن الفلسفة المدرحية هي فلسفة العصر الحديث،.. لأن فيها عنصر التطور، إنها تتطور من تلقاء نفسها حسب التطور الاجتماعي العام دون أن يكون في ذلك سبب موجب لتغير الأساس الذي يرتكز عليه الوجود الإنساني بشتى مظاهره..”

يشرح لنا الرفيق زويا في المحور الأول من محاضرته، التي لم تُلقَ في مؤتمر المدرسين، لكنها نُشرت في سلسلة النظام الجديد التي كان سعادة هو المشرف الوحيد عليها، الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه الفلسفة المدرحية “والذي ترتكز عليه جميع مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، الثقافية وغير الثقافية..” بما يعني، أن الفلسفة المدرحية تقدم الأساس الذي تقوم عليه المبادئ، فالمبادئ إذًا ليست كما يذهب إليه الأمين حيدر من أنها هي الفلسفة المدرحية، هي نتيجة من نتائجها، أو هي التعبير العملي لها بما يخص الأمة التي نادى بها سعادة،..

يطرح الرفيق الأستاذ لبيب زويا، الناحية الصراعية من الفلسفة المدرحية، بمعنى لماذا تقول المدرحية بالصراع “هذا الصراع نفسه ليس بالحقيقة إلا شيئًا واحدًا هو التطور الإنساني نحو التحقيق الأمثل.. وما هذا المخلوق (الإنسان) سوى نتيجة لذلك الصراع الطويل منذ بدء الخلق حتى يومنا هذا، صراع الإنسان والطبيعة وبين الإنسان وأخيه الإنسان..”، إذًا، فالمدرحية تُقرُّ بوجهي صراع، الوجه الأول هو صراع الإنسان مع الطبيعة والذي يدور ضمن ثلاثية: 1- تُكيف الأرض الإنسان. 2- وهو يرد الفعل ويكيفها. 3- لكنها هي التي تحدد مدى هذا التكيف ومنحاه. أما الوجه الآخر لهذا الصراع فهو صراع بين الإنسان وأخيه الإنسان، صراع يدور مذ “وجد الإنسان على هذه الأرض مظهرًا لشيئين مختلفين بالاسم.. وقد جرى الناس على تسمية هذين الشيئين باسمين مختلفين، لا رابط بينهما، وهما الروح والمادة.. (مع) أنهما الوجود نفسه كما يُنظر إليه من ناحيتين: موضوعية وذاتية، الأولى تعبر عن الناحية المادية والثانية تعبر عن الناحية الروحية..”. في ضوء ما تقدم كان “المبدأ المدرحي، أو الفلسفة المدرحية، ليست تركيبًا فلسفيًّا بل إبداع فلسفيّ بمعنى أنها نظرة جديدة كل الجدة إلى الحياة والعالم والمعرفة.. لأنها استطاعت أن تعطي الأساس الموحد لسير الإنسانية، فقضت على أوهام كثيرة عُلِّقَتْ فيما مضى على علاقة الروح بالمادة..”، فالصراع إذًا بين مفهومين يفضل كل منهما وجهًا من وجوه الوجود على الآخر، من هنا تأتي المدرحية كمخرج من هذا المأزق المفهومي لتقول: “إنهما الوجود نفسه كما يُنظر إليه من ناحيتين: موضوعية وذاتية، الأولى تعبر عن الناحية المادية والثانية تعبر عن الناحية الروحية.. (كما) أنهما الوجود في حالتيه الذاتية والوضعية..”.

وإذا كان الرفيق الأستاذ زويا لم يقدم لنا تعريفًا محدّدا لماهية الفلسفة المدرحية، فذلك لأنه اتخذ الناحية الصراعية من تلك الفلسفة، أو أجاب في محاضرته عن سؤال محدد هو: “لماذا تتخذ الفلسفة المدرحية وجهة الصراع في مفهومها لماهية التطور الإنساني.. فهي في المواصفات التي يطرحها فلسفة وجودية “أنطولوجية” ومع ذلك فهي “ميتافيزيائية” لها مقولاتها الخاصة، وليست “ميتافيزيقة” أو ما ورائية كما ألمح إليه الأمين حيدر حينما قال: “كانت المدرحية في رأي الكاتب نظرية وجودية تهتم بالوجود الماثل، الآن صارت نظرية فيما وراء الوجود metaphysical” “بالإضافة لكونها نظرية في المعرفة أبستمولوجية..” هي كذلك (أي ميتافيزيائية) لأنها تقول: “بأن أساس الوجود ناتج عن اتحاد عنصريه المادة والروح بطريقة يستحيل معها فصلهما وأن الوجود المُسَبَبْ من هذا الاتحاد هو مُسَبْبْ هذا الاتحاد وهذا الاتحاد هو السبب الذي لا سبب قبله والذي منه تبتدئ سلسلة العلة والمعلول..”، وكأني بالرفيق الأستاذ زويا يأخذنا إلى النظرية النسبية، حيث وهم الزمان والمكان، (الزمكان) من حيث أنهما شأن واحد يرتبطان ارتباطًا ولاديًّا وموتًا لا رجعة فيه، أو إلى نظرية ستيف هوكينغ أو (إشعاع هوكينغ) “الانفجار الكبير” والتي تقول بولادة الزمان والمكان وبأن المكان والزمان (الزمكان) شيء واحد، يبدأان معًا وينتهيان معًا..

المحاضرة على وجه العموم شرح لوجهة نظر سعادة الصراعية وموقفه من المثالية والمادية وموقفه من الرأسمالية والشيوعية والفاشية، الذي يشكل المحور الثاني، أما المحور الثالث فيتناول الجانب الصراعي منها.. المحاضرة جديرة بالقراءة لمحبي الاطلاع. ويمكن لمريدي التعمق والدرس الاطلاع على مقالة “حق الصراع هو حق التقدم ومقارنة ما جاء فيها مع ما جاء بهذه المحاضرة”.

راجع كتاب جنون الخلود الصفحة 60

محاضرة الأمين أنيس فاخوري

الفلسفة القومية الاجتماعية

النظرة المدرحية

يجيء التعريف بهذه المحاضرة والتي نعتقد أن سعادة قد دبّجه: “هذه المحاضرة.. هي محاولة أولى لإيضاح الفلسفة القومية الاجتماعية.. من الناحية “الميتافيزيقية” وأن التمهيد الموجز في الفلسفة وموضوعها أو مواضيعها الذي صدَّر به المحاضرة، هو ضروري ومفيد.. إن هذه المحاضرة ذات قيمة كبيرة، والمحاولة التي اشتملت عليها هي محاولة مهمة وجريئة.. فهي إذا كانت مقدمة، مقدمة تفتح الموضوع من ناحيته غير المادية و”الأنطولوجية”..

يجدر بنا التنويه بأن هذا التعريف، وفق ما نذهب إليه، يأتي، مستندًا لمحاور رئيسة تناولتها المحاضرة: 1- التعريف بالفلسفة على وجه العموم، 2- التعريف بالفلسفة الروحية والفلسفة المادية والمخرج المدرحي من تناقضهما إلى وحدتهما. 3- مرتكزات الفلسفة المدرحية.

أيضًا، لابدَّ لنا من التنويه لمصطلح رئيس يأتي في التعريف وهو “الميتافيزيقية” والذي يعني” الما فوق طبيعي”، بمعنى، العبقرية، للدلالة على عبقرية سعادة في استخلاصه فلسفته المدرحية.

1- معنى الفلسفة:

“.. إن الفلسفة لا تُعنى بالجزئيات من المعرفة بقدر ما تُعنى بالكليات أو المبادئ أو الأصول الأساسية للأشياء.. بينما العلوم على اختلافها تُعنى بالجزئيات، كل علم بما يخصه ويدخل ضمن نطاق بحثه.. غير أن الفيلسوف يأخذ خلاصات جميع هذه العلوم والأبحاث ويحاول أن يصوغها في قالب واحد ويلقي نظرة واحدة شاملة محيطة (كليَّة) لينظمها كلها في سلك (نسق) واحد ويستخلص حقيقة واحدة كبيرة (شاملة) (1) وبالنظر للتفاوت العقلي والتفاوت العلمي أحيانًا بين مختلف الفلاسفة، نشأت المدارس الفلسفية القديمة منها والمتوسطة والحديثة.. ولم يكن الفرق بين العلم والفلسفة والعلاقة بينهما، أشدُّ وضوحًا منها عند الزعيم الذي قال في مقدمة كتابه الأول من مؤلفه “نشوء الأمم”:

“إنه كتاب اجتماعي علمي تجنبت فيه التأويلات والاستنتاجات النظرية وسائر فروع الفلسفة ما وجدت إلى ذلك سبيلًا..”، فالزعيم لا يخلط بين العلم والفلسفة.. لكن كمال العلم في “نشوء الأمم” هو ما جعل الزعيم يتوّج الحقائق العلمية التي أثبتها وحللها أدق تحليل بنظرات فلسفية عميقة تناولت قضايا كونية أساسية..”(2)

“فإذا اعتبرنا أن هناك حقيقة واحدة في الكون كله، وأن العلوم، كل علم على حدة، يحاول أن يكشف كل ما يستطيعه من مجرى تلك الحقيقة الواحدة.. كلما أتيح للفيلسوف الفرصة الفضلى في التوصل إلى صياغة أكمل لنظرته الإجمالية الشاملة، وكل فلسفة لا تكون مرتكزة على خلاصات صحيحة لمختلف أجزاء المعرفة، تكون فلسفة ناقصة..”.

2- المدرحية والفلسفتان المادية والروحية (المثالية)*

يُعرّف الأمين فاخوري الفلسفة الروحية بقوله: “إن الفلسفة الروحية على اختلاف فروعها ما هي إلا مرافعات جزئية جريئة وفذّة وجذابة، غايتها الدفاع عن العقائد الدينية القديمة، الدينية منها والوثنية والكتابية..”.

أما الفلسفة المادية فهي تلك التي: “لا تعترف بشيء من هذا الأصل الروحي، فهي تأخذ المادة المنظورة أساسًا لبحثها، وهي ترى بأن الفكر في الإنسان ما هو إلا مظهر من مظاهر المادة المتطورة وأن التفاعل (والأصح التضاد) بين مختلف العناصر هو الأساس في تنوع الأشياء ووجودها.. معتبرة أن هذا المنظور هو بداية ونهاية كل الأشياء..”.

أما الفلسفة المدرحية، فكونها “ترتكز إلى أساسات منسجمة متلاحمة تستند إلى الحقائق العلمية المتينة.. متمايزة بنظرتها العميقة الفذة إلى الحياة الاجتماعية والمجتمع، وترى في الفرد إمكانية إنسانية وفاعلية اجتماعية ترتفع إلى الأوج في إدراك صوابية الخير والحق والجمال.. إن الفلسفة القومية الاجتماعية ونظرتها المدرحية، هي اتجاه ثالث من اتجاهات التفكير الفلسفي.. والمخرج النظري في التفكير الإنساني..”.

يُعرج، الأمين فاخوري على سؤال طالما طرحه البعض من قوميين وغير قوميين: هل الفلسفة المدرحية هي مزيج من هنا وهناك؟ أو هي جمعٌ لمتفرقات فلسفية؟

ليجيب عليه قائلًا: “إن الفلسفة المدرحية لا يمكن أن تكون من هذا النوع مطلقًا، إذ هي ترتكز على مرتكزات منسجمة، متلاحمة، ويبني رفضه على أنه من الممكن للبعض أن يراها متفقة مع “توما الأكويني” في التفريق بين المعرفة الطبيعية والمعرفة اللاهوتية، لكنها تعارضه في إخضاع الإرادة للمعرفة، أي جعل الإرادة تابعة للمعرفة، وقد تتفق مع ديكارت.. لكنها تخالفه بعلاقة الروح بالجسد، وقد ترى في وحدة الوجود عند سبينوزا ما يتفق مع بعض نظرات المدرحية، كذلك ترى أن الفكرة عند لوك التي أساسها الاختيار والفهم تتفق مع النظرة المدرحية المرتكزة على تقدير وإدراك الحقيقة، كذلك نظرة باركلي القائلة (بأن كل شيء في السماء وعلى الأرض وكل ما يؤلف هذا الهيكل العالمي الجبار ليس له كيان خارج نطاق العقل أو الفكر، متفقة والنظرة المدرحية القائلة: “الشريعة الأساسية للإنسان هي العقل الذي لا يجوز أن تعطله شريعة أخرى، وفي فلسفة كانت الانتقادية وتقسيمه الأشياء إلى نوعين مدرك بالعقل أو مدرك بالاختبار.. كذلك الأمر مع هيكل وكونت وحتى في فلسفة التطور الانبثاقي.. لكنها (أي المدرحية) من نوع آخر..”.

3- مرتكزات الفلسفة المدرحية:

خمسة هي، على التراتب الذي يراه الأمين فاخوري، مسهبًا في شرح كل منها كخاتمة لمحاضرته: “1- القيم الإنسانية هي قيم اجتماعية، متحدية، لا قيم فردية. 2- العقل كشرع أعلى في الإنسان. 3- التفاعل الموحد الجامع القوى الإنسانية. 4- المجتمع هو الوجود الإنساني الكامل، والحقيقة الإنسانية الكلية. 5- إقامة نظام جديد”.

لا يولي الأمين حيدر، هذه المحاضرة العناية الكافية التي تليق بها، في نقده لها، ويخلط بين التعريف بها وبين المحاضرة ذاتها، متسائلًا عن الفلسفة المدرحية التي جاءت هذه المحاضرة للتعريف بها، منطلقًا من أن صفات الشيء ليست الشيء بذاته، فكون الفلسفة هي الناموس أو القانون العام الذي تؤول إليه جميع الموجودات المادية والنفسية (الروحية) شيء والمدرحية شيء آخر، إذ لم يبين لنا الأمين فاخوري ما الناموس العام الذي تقول به الفلسفة المدرحية، كما وأن كون هذه الفلسفة ليست خلطًا أو مزجًا لفلسفات أخرى، لا يقدم لنا كيف هي كذلك لتكون المخرج النظري من تناقضات وإشكاليات المادية والروحية، فمرتكزات المدرحية غير المدرحية، مع إقرارنا بأن شرح هذه المرتكزات جاء متفقًا كل الاتفاق مع خطب ومقالات سعادة، لكنه لا يفي حقنا في البحث عن تعريف المدرحية تعريفًا لا يترك مجالًا للشك بأنها القانون أو الناموس الذي يشكل فعليًّا المخرج من تلك الإشكاليات التي أشار إليها.. ما يُحسب للأمين فاخوري هو اعتباره “نشوء الأمم” الركن الرئيس الذي قامت عليه الفلسفة المدرحية، وبأن المبادئ هي التطبيق العملي لهذه الفلسفة، وهذا ما يعترض عليه الأمين حيدر..

هكذا تبدو قراءتنا السابقة، بناء على تلك المقتطفات التي سقناها من قراءة هذه المحاضرة للأمين حيدر، مختلفة بعض الشيء عما طالعناه منها مباشرة، فهي في مفاصلها الثلاثة، تنسجم انسجامًا كليًّا مع طروحات سعادة في كل ما جاءت عليه من مفهومها للفلسفة، أولًا من حيث سعيها لأن تكون القانون العام الكافي والوافي لتفسير كل ما يحتويه الوجود من علاقات، موضوعية وذاتية، فهي كيان متطور مع تطور العلوم وتشعباتها..

المحاضرة، قيِّمة، كما جاء في التقديم لها، وإن تكن قد أسهبت فيما تناولته وقصَّرت في آخر، لكنها على وجه العموم جديرة بالقراءة والتمعن وإمعان النظر فيما جاءت به من شروحات لمرتكزات الفلسفة المدرحية والتي تأتي على جوانب عدة، كان سعادة قد تطرق لها في كتاباته وخطبه، والتي نحن اليوم بأشد الحاجة لتفهمها، وتمثلنا لها في حياتنا اليومية، ويمكن لمحب الاطلاع أن يعيد قراءتها من خلال الصور المرفقة.     

(1)- راجع تعريفنا للفلسفة

(2)- راجع مقالتنا /على هامش المدرحية/ نقد على نقد/

* الفلسفة المثالية هي الفلسفة التي ترى أن العالم بما فيه ليس أكثر من انعكاس للوعي.

بحث تحليلي في /ما بين المادة والروح/

الرفيق كامل المقدم:

تحت عنوان عريض، (مدرحية المقدم) يقدم لنا الأمين “حيدر حاج إسماعيل” نقده لمقالة الرفيق كامل المقدم، والتي هي في واقع الأمر لا علاقة لها بالفلسفة المدرحية، بقدر ما هي محاضرة أو مقالة في التوجيه السياسي العقائدي في أحسن أحوالها، على الرغم من أنها تأتي على مصطلحات (مادة، روح، مدرحية) لكنها مصطلحات تأتي عرضًا في المحاضرة المقالة، للدلالة على أهمية الاقتصاد والأخلاق الاجتماعية (المناقب) في حياة الأمة، فالتوجه الرئيس في “المحاضرة المقالة” يبقى تأثير التخلف الاقتصادي والتردي الأخلاقي على قضايانا القومية وأبرزها قضية فلسطين..

“المحاضرة المقالة” نُشرت بموافقة سعادة، لا ريب في ذلك، ولا شك أنها خضعت للتنقيح من قبله، وهي على نحو ما جاءت به من معالجات لقضايا عدة لا تخرج عن النطاق الموما إليه أعلاه..

“المادة والروح” في رؤية الرفيق المقدم، ووفق ما تنحو إليه “المحاضرة المقالة”، لابدَّ لهما من أن يكونا شيئًا واحدًا، ذلك أن “المادة المنفصلة عن الروح تقود الأمة إلى الانحطاط الخلقي والتسكع المناقبي.. والروح إذا ما انفصلت عن المادة تسير بنا إلى ما وراء الطبيعة، إلى العالم الميتافيزيقي، عالم الغيبيات، حيث نخسر وجودنا وكياننا الاجتماعي، وبالتالي نخسر أنفسنا.. المادة هي الثروة الاقتصادية.. لا نقدر بدونها، كأمة حية، أن نسمو ونقوى ونسود, والروح هي الثروة الروحية النفسية التي تتعزز فيها المناقب وتتقدس الفضائل وتسمو فيها الأخلاق.. وهنا في الأوساط السورية خسرنا المادة وفقدنا الروح.. وإذا أردنا شاهدًا.. فهذه فلسطين تشهد على صحة ما نذهب إليه.. ففقدان الأخلاق والفضائل.. هي السبب المباشر لخسارة معركة فلسطين وليس الضغط الأجنبي.. والنتيجة المفجعة التي وصلت إليها القضية الفلسطينية هي نتيجة حتمية.. للأوضاع القائمة على الميوعة والرخاوة والركاكة والإفلاس المناقبي.. فعبثًا يتبجحون* بمستقبل عظيم الشأن ويوجهون اللوم إلى زيد أو عمرو قبل أن يوجهوه لأنفسهم.. فكلهم في الجرم شركاء وكلهم تربّوا أو ترعرعوا في مدرسة انهزامية واحدة هي مدرسة الشخصية الفردية الخداعة.. إن المدرسة الفردية، هي المدرسة التي تقول بحرية الفرد الكاملة المطلقة دون الالتفات إلى المصلحة المجتمعية العليا وهي إما مدرسة روحية فردية فقط أو مدرسة مادية فردية فقط.. وفي كلا الحالتين نجد أن المجتمع هو الفرد وليس الفرد هو المجتمع.. أما المدرسة الصالحة للبقاء.. هي المدرسة المدرحية، أي المدرسة القائلة “ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها”، هذه هي الفلسفة القومية الاجتماعية التي تنظر إلى الحياة كوحدة مادية- روحية.. إن فوضى النظم الاقتصادية المرتجلة جعلت بلادنا مزرعة تستغلها الإقطاعية.. والرأسمالية التعسفية المستبدة وتركت الثروة المادية العامة في متناول أصحاب الثروات الفردية والنزعات الشخصية، ومما زاد في الطين بلة وجود الطائفة كنظام حكم.. إن فلسفة الحياة إذًا والنظرة الصائبة إلى الكون والفن والجمال هي الفلسفة المدرحية..”.

ما تقدم على اختصاره المحاضرة المقالة، التي تقع بحدود الصفحات العشر من القطع المتوسط، لا يغني عن قراءتها لمن يود التعمق في صحة ما يسمها به الأمين الجزيل الاحترام حيدر حاج إسماعيل.    

* في إشارة لما يسميه/ رجالات دول العالم العربي

المرتكزات الفلسفية

للأمين حيدر الحاج إسماعيل

 المبادئ الفلسفية: والحق يقال إن سعادة لم يأت بغير المبادئ ص14

 علاقة العلم بالفلسفة: “هناك علوم وهناك فلسفات.. العلم يختص بالقوانين الكمية.. سلوك الظواهر والأشياء.. أما فلسفة العلم فمختصة بالمبادئ، ونقصد بذلك المبادئ المشتركة الجامعة لمختلف قوانين ذلك العلم وظواهره.. إن العلم يقدم للفلسفة مادتها المحددة المصطلحات، لكن الفلسفة لا تكتفي بمادة العلم، بل تستخرج منها المبادئ العامة الجامعة لشتات المعارف العلمية.. (وعليه فإن كتاب نشوء الأمم) قدم المادة التي هي التحديد العلمي للأمة، وواقعًا اجتماعيًّا.. إن الأمة كانت الفكرة المركزية في كل كتابات سعادة: فالأمة من حيث تعريفها ونشوئها كانت الفكرة المركزية لكتاب نشوء الأمم، والأمة من حيث نهضتها كانت الفكرة لكل ما عدا ذلك، ونعني الكتابات الفلسفية.. إن المبادئ هي أجوبة على تلك الأسئلة التي طرحها سعادة على نفسه.. من نحن؟ ما الذي جلب على أمتي هذا الويل؟

وجهان للمبادئ، الحقائقي (العلمي) والمناقبي (الفلسفي).. من الوجه الثاني نذكر أن المبادئ عبارة عن دعوة مناقبية للنضال من أجل تحقيقها، فهي من هذه الناحية معيارية.. نحن مع سعادة نقول، إن ذلك الكتاب “كتاب اجتماعي علمي بحت” فهو، لأنه علم، والعلوم مادية، موضوعات ومناهج، لذلك فإن كتاب نشوء الأمم كتاب مادي، أي إن الدرس الذي أنشأه سعادة في ذلك الكتاب حول الأمة، سواء لجهة نشوئها أو لجهة تعريفها، هو درس مادي، والنتائج التي توصل إليها هي نتائج مادية، تبعًا لذلك، فلا سبيل إلى الوهم بأن ذلك الكتاب هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي- روحي، إنه كتاب في علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان.. الفلسفة المادية- الروحية هي الفلسفة الموجودة في المبادئ، ولما كانت الأمة هي محور المبادئ وفكرتها المركزية فإننا نقول، إن الفلسفة المادية- الروحية هي فلسفة الأمة.. إن الفلسفة المادية- الروحية هي فلسفة الأمة لجهة نهضتها ماديًّا- روحيًّا.. (أما لجهة العلاقة بين المادة والروح).. إن العلاقة العلمية هي علاقة ترافقية أو علاقة ترابطية.. (وعليه، فالعلاقة بين المادة والروح ليست علاقة) سببية (لأنها تفترض السؤال عن أيهما الأسبق) مما يجر إلى ما يشبه المباحث الميتافيزقية.. وإن إدخال السببية في كتابات سعادة العلمية يفقدها صفتها العلمية، إذ إن مبدأ السببية من الفلسفة وليس من العلم.. هذا لجهة العلاقة العلمية بين المادة والروح.. أما العلاقة الفلسفية فإنها علاقة وجوبية مناقبية، مؤداها يجبّ الصراع لتحقيق المبادئ..”.

في مجمل نقده للمقالات التي تناولت المدرحية بشكل أو بآخر، ينطلق الأمين حيدر حاج إسماعيل من قاعدة أن العلم غير الفلسفة، مستنتجًا من ذلك أن نشوء الأمم هو كتاب علمي لا علاقة له بالفلسفة المدرحية يقول: “فلا سبيل إلى الوهم أن ذلك الكتاب هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي- روحي، إنه كتاب في علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان.. الفلسفة المادية- الروحية هي الفلسفة الموجودة في المبادئ، ولما كانت الأمة هي محور المبادئ وفكرتها المركزية فإننا نقول، إن الفلسفة المادية- الروحية هي فلسفة الأمة.. هي فلسفة الأمة لجهة نهضتها ماديًّا روحيًّا..”.

هذا الاستثناء، شكّل المنعطف الرئيس في افتراق ما جاءته كتابات حيدر عن غيرها من كتابات قوميين وغير قوميين في موضوعٍ هو شائك لجهة أن القائل به أودعه مجمل كتاباته وشكّل بآن، لغزًا لمن حاول شرح بعض جوانبه وطلسمًا لمن لم يفقه سعادة منهجًا ومنطقًا، علمًا وفلسفة!!

نضيف لما تقدم، إن الأمين حيدر، يعتمد على أن تعريف الشيء بصفاته، كما تعريفه بـ(الليسيات) ليس تعريفًا، نقاط ثلاث شكلت موقفًا للأمين حيدر في تعريفه للفلسفة المدرحية، وتاليًا بخس سعادة حقه بالقول: “والحقيقة أن سعادة لم يأت بغير المبادئ..”.

لقد سبق لنا أن ناقشنا مرتكزات الأمين حيدر، لجهة استثنائه لكتاب نشوء الأمم، لكننا نعود إليها من منطلق العلاقة بين العلم والفلسفة، وضرورة حلّ هذه الإشكالية، التي شغلت حيّزًا واسعًا من دراسات لفلاسفة وعلماء اجتماع ومناطقيين ومناهجيين، بل وشكلت نقطة اختلاف وتناقض بين عددٍ منهم، لم تضع أوزارها حتى تاريخه..

ما نعتقده، وبما يختص بموضوع دراستنا /المدرحية نقد على نقد/ أنه لا يمكن حل هذه الإشكالية إلا وفق منهج ومنطق مدرحي تحديدًا، بمعنى أنه لا يمكن فهم المدرحية، نقدًا ونقضًا، بغير منهجها ومنطقها، كما أن إسقاط مناطق ومناهج فلسفية أخرى عليها، لفهمها أو نقدها أو نقضها، سيخرجها عن محورها لتدور في فلك تلك المناطق أو المناهج، كما هي الحال في مختلف الدراسات الفلسفية الأخرى التي تناولت فلسفة ما بغير منهجها ومنطقها، فعلى سبيل المثال، لا يمكن نقد أو نقض الماركسية بغير منهجها ومنطقها الديالكتيكي، على غرار ما قام به “ماركس” و”فويرباخ” في نقدهما لمنهج أستاذهما “هيغل” الديالكتيكي ومن ثم نقضهما له، كذلك في نقد “ماركس” لـ”فويرباخ” ومن ثم نقضه لما انتهى إليه الأخير ديالكتيكيًّا.. فعلى سبيل المثال، وباختصار شديد وحتى لا نخرج عن موضوعنا، كيف يمكن نقد الماركسية ديالكتيكيًّا؟

وفق الماركسية ديالكتيكيًّا، فإن “صراع الأضداد” هو جوهر الوجود، وبتطور هذا الصراع، تخلص الماركسية للقول بقانون “نفي النفي” عبر تراكمات الكم “من الكم إلى الكيف” وقولها في المحصلة “بالحتمية التاريخية” مما أوقعها في تناقض ذاتي، من حيث أنها خاضعة قبل غيرها لمبدئها الأول “صراع الأضداد” فإن خرجت عليه، لم يعد هذا المبدأ، جوهرًا للوجود، لأن هناك ما خرج عليه، ذلك أنها عبر قانون “نفي النفي” ستُخرج من لدنها ما ينفيها، أو يتناقض معها، عبر، من “الكم إلى الكيف” فإذا كانت مبادئها المشار إليها صحيحة، وأنها ليست بخارجة عنها، فلا يمكنها القول “بحتمية تاريخية” تنتهي بها إلى “المجتمع المشاعي” حيث الدولة على سبيل المثال “مصلحة بريد” لأنها ستكون قد خضعت لمقولاتها التي لا تسمح لها بالتنبؤ بهذا المجتمع.. لأنها تكون قد خضعت لتغيرات عبر نفي النفي، أي إنه، قد ولدت نظرية تناقضها وتنفيها قبل أن تمضي إلى تشكيل مجتمعها المشاعي.. 

كذلك الأمر بالنسبة للمدرحية، حيث لا يمكن الفصل بين الوجود ووحدته، بين الوجود ومعرفته، بين المادة والروح (النفس) بين الباطن والظاهر، بين الجوهر والمظهر، بين المضمون والشكل، فكلٌ من هذه المصطلحات، أو المفردات، أو الصياغات، ما هي إلا مصطلحات عقلية محضة يلجأ إليها العقل لفهم ما حوله، وجوده، أما واقعها، فما هو سوى وحدة لا يمكن تجزئتها إلا نظريًا لفهمها، من هنا جاء تعريف سعادة للناموس أو المقولة أو القانون على أنه “اصطلاحٌ بشري لمجرى من مجاري الحياة أو الطبيعة..” اصطلاح، بمعنى اتفاق، بين البشر على أن ذاك الشيء هو كذا، لكنه ليس هذا “الكذا” في واقع الحال من حيث هو وجود قائم بذاته ولذاته، يضرب سعادة مثال “يشوع بن نون” الذي أوقف الشمس عن دورانها حول الأرض لينتصر على الفلسطينيين..”.

ليست الحقيقة “شيئين” هما وجود ومعرفة، هي شيء واحد، لكنها من حيث أنها “قيمة نفسية إنسانية” تضحى نسبية، لكنها ليست كذلك، فيما يتعلق بالوجود الموضوعي، لكنها كذلك عندما يتعلق الأمر بالمعرفة التي تتغير وفق المعطيات التي تقدمها أدوات المعرفة وتساهم في توسيع أو تعميق مجال الرؤية، النظرية أو العقلية للإنسان، هكذا وجد “هابل” عبر التلسكوب، لونين أزرق وبرتقاليًّا، فكانت نظريته في تمدد الكون، فتمدد الكون حقيقة، لم تكن معروفة قبل هابل، لكنها لم تكن كاملة، حتى قيام “ستيف هوكينغ” بمناقشة هذا التمدد “عقليا” عبر جملة من المعادلات الرياضية المعقدة، حيث رأى أن هذا التمدد سيؤول إلى تقلص ومن ثم إلى ولادة جديدة للمكان والزمان اللذين هما وفق “هوكينغ” شيئًا واحدًا..    

وعلى الرغم من أن الأمين حيدر لم يقدم لنا تعريفًا لما يعنيه بالمادة والروح في الفلسفة المدرحية على مدى انتقاداته لكل ما كُتبَ بها، فإننا نرى أن المقولة الرئيس في الفلسفة المدرحية “المادة تعين الشكل” كفيلة بأن تحلَّ لنا الإشكالية التي أثارها الأمين حيدر للعلاقة بين العلم والفلسفة بقوله: “إنه كتاب في علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان.. الفلسفة المادية- الروحية هي الفلسفة الموجودة في المبادئ..”، وعلى الرغم من اعتقادنا بأن الأمين حيدر لم يأتِ بجديد في قوله المشار إليه، كما أنه لم يقدم لنا تعريفًا لهذه الفلسفة الموجودة في المبادئ، بقوله: “ولما كانت المبادئ هي مختصة بنهضة الأمة فإن الحاصل يكون، أن الفلسفة المادية- الروحية، هي فلسفة الأمة لجهة نهضتها ماديًّا- روحيًّا..”، معرّفًا إياها بوظائفها “سيادة الأمة، التوحيد، الحصانة، مناقب الخير والعدل، الكفاءة الإنتاجية، المرجعية، الحداثة”، فإذا لم يكن تعريف الشيء بصفاته هو الشيء بذاته، وفق ما يذهب إليه الأمين حيدر، فهل تعريف الشيء بوظائفه، هو الشيء بذاته؟!! 

فإذا كانت المادة تعيّن الشكل، وعلى افتراض أن علم الاجتماع علم ماديّ، فهو وفق ما تذهب إليه، مقولتنا، يبقى نشوء الأمم هو المادة التي تعيّن المبادئ الشكل، فكما أن البيئة المادة، هي التي تعيّن الشكل، الجماعة، المتحد، المجتمع، الدولة، وإذا كانت المبادئ قواعد انطلاق الفكر، فعمل الفكر من منطلق قواعده، سيكون وفق قاعدة /تكيف الإنسان الأرض، وهو يرد الفعل ويكيفها، لكنها هي التي تحدد مدى هذا التكيف منحىً واتجاهًا/، فصيرورة المبادئ في حال تحققها ستتحدد وفق المادة التي قامت عليها، أي نشوء الأمم..

وإذا قلنا إن المادة هي كل ما هو موجود بغض النظر عن وجود الإنسان أو معرفته، فإن الروح، (بمعنى النفس) هي كل ما له علاقة بالإنسان وجودًا ومعرفة، وعليه يمكننا القول إن الوجود المادي (المحيط الجسم) هو الذي يشكل الروح (النفس) وفق سعادة، وعليه أيضًا، من الوجهة المدرحية، يكون الشكل متوافقًا مع المادة، كما الباطن والظاهر، كما الجوهر والمظهر، كما الشكل والمضمون، كلٌ يعبر عن الآخر، فلا انفصام أو انفصال بينهما، مدرحيًّا..

كذلك الأمر، أيضًا، فيما يتعلق بالعلاقة بين العلم (المادي) وفق حيدر، والفلسفة (المعرفة) مهما تكن المصطلحات والصياغات التي ساقها الأمين حيدر لتوكيد نظريته في الفصل بينهما، فوفق سعادة في مقولته الأساس “المادة تعين الشكل” يكون العلم هو المادة التي تعيّن الشكل الفلسفة، طالما أن الفلسفة جامعة لشتات العلوم، فلا يمكنها الخروج على معطيات هذا الشتات، وتاليًا يكون نشوء الأمم هو القاعدة التي تقوم عليها المبادئ، فلا يمكن الفصل مدرحيًّا بين المادة والشكل، بين نشوء الأمم وبين المبادئ، فكلاهما “شيء واحد” مهما تكن نوعية العلاقة العلمية (ترافقية كانت أو توافقية) وفق حيدر أو علاقة (وجوبية أو مناقبية) وفق حيدر أيضًا.

من النادر، أن أستشهد بكتّاب أو علماء غربيين، على صعيد البحث الاجتماعي، لكن ما قاله “بيتر اينيتش” في كتابه الصادر عام 1958 “فكرة علم اجتماعي وعلاقته بالفلسفة” يلقي ضوءًا مهمًّا على ما نحن بصدد دراسته، يقول “اينيتش” ما يلي: “إن الفلسفة والسوسيولوجيا متشابهتان إن لم تكونا متطابقتين: فهما معًا تعالجان موضوعًا تنصهر فيه المفاهيم والأشياء بشكل معقد، وتدرسان كيف تتشابك المفاهيم مع الواقع. وهما معًا معنيان بفهم المفاهيم وتحليلها..”، ويضيف قائلًا: “إن الفلسفة والعلوم الاجتماعية متناظران منطقيًا وإبيستيمولوجيًا”، وبالتالي فإن “توضيح طبيعة الفلسفة وتوضيح طبيعة الدراسات الاجتماعية يؤديان إلى الشيء نفسه؛ لذلك فإن كلَّ دراسةٍ للمجتمع جديرةٍ بهذا الاسم يجب أن تكون دراسة فلسفية في جوهرها، وإن كلَّ فلسفةٍ جديرةٍ بهذا الاسم يجب أن تهتم بطبيعة المجتمع البشري”. نكتفي بهذا القدر من التحليل لمرتكزات الأمين حيدر، لنتابع فيما بعد /مدرحية جورج عبد المسيح/ وفق تصنيف الأمين حيدر.

ملاحظة: يرجى العودة لمحاضرة الأمين أنيس فاخوري، فهي معالجة وافية لعلاقة العلم بالفلسفة، وقوله: “.. لم يكن الفرق بين العلم والفلسفة والعلاقة بينهما، أشدُّ وضوحًا عند أحدٍ منها عن الزعيم، الذي قال في مقدمة كتابه الأول من مؤلف “نشوء الأمم” (إن نشوء الأمم كتاب اجتماعي علمي بحت تجنبت فيه التأويلات والاستنتاجات النظرية وسائر فروع الفلسفة ما وجدت إلى ذلك سبيلًا..) فالزعيم لا يخلط بين العلم والفلسفة.. خصوصًا في علم الاجتماع الدقيق، لكن كمال العلم في نشوء الأمم، هو ما جعل الزعيم يتوج الحقائق العلمية التي أثبتها وحللها أدق تحليل بنظرات فلسفية عميقة تناولت قضايا كونية أساسية..” يجدر لفت الانتباه إلى أن هذه المحاضرة أو المقالة نالت موافقة الزعيم وثنائه عليها موجود في صدر تقديمها للنشر.

ويبدو صحيحًا كل الصحة القول: “فلسفة علم الاجتماع هي فرع من فروع الفلسفة التي تعنى بدراسة منطق ومنهجية العلوم الاجتماعية مثل علم الاجتماع وعلم الإنسان والعلوم السياسية.

يُصر الأمين حيدر على أن كتاب “نشوء الأمم” كتاب علمي لا علاقة له بالفلسفة عمومًا والمدرحية بشكل خاص” حيث يأتي هذا الإصرار قاعدة لتناقضه مع مختلف الدراسات التي اعتبرته مستندًا من أهم وأبرز مستندات الفلسفة المدرحية، بل والأساس الذي قامت عليه، كما ويأتي تناقضه الآخر على قاعدة إصراره على “إن مواصفات الشيء أو صفاته ليست هي الشيء بذاته”، وعلى الرغم من صحة ما يدعيه الأمين حيدر، نسبيًّا، فإن الظاهر والباطن، أو الشكل والمضمون، أو الجوهر والمظهر.. الخ، وعلى قاعدة “إن المادة تحدد الشكل” وفق سعادة، يجب أن يكونا متوافقين ومتطابقين بعضهما مع بعض، فلا يمكن فصل المظهر عن الجوهر أو الشكل عن المضمون أو الباطن عن الظاهر، فهذا الثنائي وجها عملة واحدة، أيٌ منهما يمثل الآخر ويعبر عنه.. كما المادة والروح، مدرحيًّا، كما الأمة والبيئة، فإذا كانت صفات الشيء أو مواصفاته أو خصائصه، ليست هي الشيء بذاته!! فما هو هذا الشيء الذي هو بذاته؟ دون خصائصه وصفاته ومواصفاته!! دون علله وأسبابه؟ وعلى ذات القاعدة التي يعتمدها الأمين حيدر بأن تعريف الشيء بـ”الليسيات” ليس تعريفًا..

ليس بين العلم والفلسفة تلك المسافة التي يفترضها الأمين حيدر، إذ يبدأ البحث العلمي، كما الفلسفي، بالسؤال، فإذا اعتبرنا أن أنشتاين عالم فيزيائي فتساؤله حول علاقة سرعة الضوء بسرعة مصدره كانت البداية لنظريته النسبية التي قلبت موازين الفيزياء رأسًا على عقب، فأصبحت الجاذبية مجرد وهم والخط المستقيم مجرد افتراض وكذلك الزمان في ولادته وموته، وبات “الزمكان” هو الحقيقة التي أثبتتها التجارب، حيث الزمان والمكان حدثٌ واحد، لا ينفصل أيٌ منهما عن الآخر، وباتت العلاقة بينهما علاقة عكسية، كلما اتسع المكان ضاق الزمان والعكس صحيح، وعليه، فأنشتاين ليس عالمًا فيزيائيًّا وحسب، بل وفيلسوفًا، وهكذا هي الفلسفة، تساؤلٌ يبدأ في البحث عن ماهية العلاقة بين الموجودات ولماذا هي على هذا النحو دون ذاك، هي تساؤلٌ يحاكم العلاقة بين جزئيات موضوعه، أيًا كان، ماديًّا أم نفسيًا، بمعنى آخر، إن الفلسفة، أيًّا كان موضوعها، وجودًا ماديًّا أو نفسيًّا، هي محاكمة للعلل والأسباب التي تحكم خصائص ومواصفات وصفات الموضوع: لماذا هي على هذا النحو؟ لتخلص من تساؤلها إلى نتيجة، خلاصة، توجزها بقانون، مقولة، ناموس يتتبع التكرارية في الظاهرة التي يدرسها باعتبارها (التكرارية) هي التي تحكم هذه الظاهرة في تجلياتها، في “إشعاع هوكينغ” أو نظرية الانفجار الكبير، كان تساؤل “ستيفن هوكينغ” إذا كان الكون يتوسع فإلى أي حدٍ يبقى على هذه الحال؟ هذا التساؤل كان البداية لبحث انتهى إلى أنه لا بدَّ له من أن يعود ويتقلص، هذه المحاكمة لجملة الحقائق العلمية، ليست علمًا، إنها فلسفة، تروي لنا ما قد يحدث قبل حدوثه بمليارات السنين الأرضية..

سعادة ليس فيلسوفًا فيزيائيًّا أو رياضيًّا أو كيميائيًّا.. سعادة فيلسوف اجتماعيّ، حاكم بعقلانية مجمل ما قيل في علم الاجتماع، وخلُصَ لنتائجه الاجتماعية التي شكلت فلسفته الاجتماعية والتي نعتها بـ”القومية الاجتماعية” أو “المادية- الروحية ” أو “المدرحية”.

بناء على ما تقدم، نسأل حضرة الأمين: هل مقولة قانون أو ناموس (المادة تعيّن الشكل) هي مقولة علمية أم فلسفية؟ وهل “دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية” هي مقولة علمية أم فلسفية أيضًا؟ هل (الأمة واقع اجتماعي بحت) هي مقولة علمية أم فلسفية؟ هل (الإنسان- المجتمع) مقولة علمية أم فلسفية؟ هل (الدولة القومية هي دولة ديمقراطية حتمًا) مقولة علمية أم فلسفية؟ وهل حقًّا أن سعادة “لم يأتِ بغير المبادئ”؟ وتاليًا هل الفلسفة المدرحية هي المبادئ؟ أو وفق تعبير الأمين الجزيل الاحترام : “الفلسفة القومية الاجتماعية= تجبُّ المبادئ لتنهض الأمة ولها: وجهان الحقائقي (العلمي) والمناقبي (الفلسفي) للمبادئ..”، وهل تقتصر الفلسفة على ما هو مناقبي دون سواه؟       

وعلى الرغم من أننا لسنا هنا بمعرض شرح أو تفسير معنى مصطلح فلسفة، فهي في المبدأ، تفسير، شرح، توضيح، الشيء عقليًّا بعلله وأسبابه، فالشيء هو علله وأسبابه، وليس أي شيء آخر، والفلسفة من حيث هي البحث عن أعم القوانين في الطبيعة والمجتمع، تستند في بحثها على ما تنتهي إليه المعارف (العلوم) من حقائق طبيعية أو اجتماعية عللًا وأسبابًا لتصوغ منها قانونًا يمكن من خلاله تفسير مختلف الظواهر الطبيعية والاجتماعية، هذا القانون أو الناموس وفق سعادة وتعريفه “اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة..”، هذا القانون أو الناموس، هو فقط المتكرر في مجرى الحياة أو الطبيعة، وما أوضح هذا المتكرر في مقولة سعادة الرئيس: “دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية”، فأي معنى يمكن لمفردة “دورة” أن تأخذه سوى هذه التكرارية، وهذه التكرارية، التي، أينما وجد بشر أو أرض، ستأخذ ذات الأشكال التي تقررها “مادتها بيئتها” التي، أيضًا وفق سعادة “المادة تعيّن الشكل” هي التي تحدد هذا الشكل وتميزه عن ذاك، على اعتبار “أن النواميس لا تلغي خصائص الأنواع” وفق سعادة أيضًا، إذ تبقى خصائص ومواصفات وصفات تلك الدورة خاضعة لخصائص ومواصفات وصفات البيئة التي تجري فيها تلك الدورة الاجتماعية- الاقتصادية..

من الضروري جدًّا أن ننوه لضرورة العودة لمحاضرة الأمين أنيس فاخوري، السابق نشرها كاملة، والتي نالت موافقة سعادة باعتباره الموجه للنشرة التي جاءت بها، والتي تتناول معنى الفلسفة وموقع نشوء الأمم من الفلسفة المدرحية وقوله: “إن كمال العلم في نشوء الأمم هو ما جعل الزعيم يتوّج الحقائق العلمية التي أثبتها وحللها أدق تحليل، بنظرات فلسفية عميقة تناولت قضايا كونية أساسية..”.     

مدرحية جورج عبد المسيح:

في نقده لما كتبه جورج عبد المسيح عن المدرحية، يصيب الأمين حيدر كبد الحقيقة بقوله: “.. إن جورج عبد المسيح كان ظالمًا لسعادة من ناحيتين:

الأولى: أنه لم يدرسه كفاية، بدليل عدم اطلاعه على بعض المكتوبات.

الثانية: لأنه حرَّفَ معنى فلسفته، وألحّ على تحريفه.

مستندًا في حكمه على أن عبد المسيح أشار في نهاية كتابه /رسالة من رسالة/ وتحت عنوان “المدرحية لفظة وليست نظرة”، إلى قوله: “”المدرحية لفظة مركبة من كلمتين، مادة وروح”، وقد وقع بعض أتباع سعادة في خطأ تسمية فلسفة معلمهم “مدرحية” بسبب عدم استيعاب المحتوى الخاص الذي أعطاه الزعيم لكلمة “مدرحية” وقد ذكرها مرة واحدة فقط وفي رسالة واحدة من رسالاته التوضيحية..”” وهذا ما تدحضه الوثائق التي يشير إليها الأمين حيدر(*) ونضيف إلى ما أورده الأمين حيدر، ورود مصطلح مدرحية للمرة الأولى في معرض (وناحيتها الصراعية) المنشورة في سلسلة النظام الجديد..

فماذا يقول سعادة في الوثائق المشار إليها أعلاه:

بتاريخ 1/9/1942 يأتي سعادة على ذكر المدرحية للمرة الأولى في مقالته “بين الجمود والارتقاء” ما يلي: “ومن استعارات رشيد الخوري قوله في الرسالة المحمدية إنها مدرحية، أي مادي- روحي معًا، فقد يظن القارئ غير المطلع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية للخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتابي “نشوء الأمم” ومن شرحي لمبادئ الحزب، فهو فكرة اجتماعية أبديتها في مناسبات عديدة، وآخر ما أعلنته من أمر نظرتي الفلسفية كان في الأول من آذار 1940، قلت: إن الحركة السورية القومية الاجتماعية لم تأتِ سوريةً فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة، إن الحركة السورية القومية الاجتماعية ترفض الإقرار باتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساسًا للحياة الإنسانية، ولا تقف حركتنا عند هذا الحد، بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي- الروحي للحياة الإنسانية ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيي ويعمّر ويرفع الثقافة ويسيّر الحياة نحو أرفع مستوى”، يفيد الكلام الوارد أعلاه أن المدرحية هي نظرة فلسفية عامة تشمل العالم بأجمعه، مما يدحض ما جاء به عبد المسيح من أن المدرحية لفظة وليست نظرة، ويؤكد أنها موجودة في مؤلفه “نشوء الأمم”، وهذا ما يدحض أيضًا قول الأمين حيدر: “.. فلا سبيل إلى الوهم أن ذلك الكتاب هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي- روحي”، إذ يقدم سعادة “نشوء الأمم” على شرح المبادئ، كما ويؤكد على أن المدرحية من حيث هي نظرة فلسفية، هي فلسفة اجتماعية بالدرجة الأولى..

في رسالته المؤرخة في 10/1/1947 يقول: “داعية الأمم إلى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده وعقيدة تفسيره، من الجهة الأخرى، بالمبدأ ‏‏المادي وحده، والإقلاع عن اعتبار العالم ضرورة، عالم حرب مُهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية، وإلى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي- مادي (مدرحي) وأنّ الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته، ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها..”، في هذا النص، يبدو واضحًا ما يعنيه سعادة بفلسفته المدرحية، أي (تفسير التطور الإنساني..)، فالمدرحية إذًا هي فلسفة اجتماعية تدرس التطور الإنساني نشوءًا وارتقاءً (وإلى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي- مادي (مدرحي).. بما يدحض قول عبد المسيح من أنها لفظة وليست نظرة من جهة، وقول الأمين حيدر من جهة ثانية، من أن: “الفلسفة المادية- الروحية هي الفلسفة الموجودة في المبادئ.. إن الفلسفة المادية- الروحية هي فلسفة الأمة.. إن الفلسفة المادية- الروحية هي فلسفة الأمة لجهة نهضتها ماديًّا روحيًّا..” فالمدرحية من حيث هي فلسفة اجتماعية تدرس التطور الإنساني نشوءًا وارتقاءً وتخلص إلى القول بأن أساس الارتقاء مادي- روحي، مدرحي، فلا سبيل لأية أمة كائنة ما كانت، سوريّة أم هندية أم صينية.. الخ في مسعى نهوضها ماديًّا وروحيًّا إلا الأخذ بهذه الفلسفة.. وحيث إن المبادئ هي قواعد ارتكاز وانطلاق الفكر، يبقى الفكر في صيرورته منشدًّا إلى أساس التطور الإنساني، وليس إلى قواعد انطلاقه فحسب، فهذه الأخيرة تبقى تعبيرًا عن الأساس الذي قامت عليه، ولا يمكن لها أن تحلَّ محله، فهي قد تتغير كلما تحقق منها فصلٌ من فصولها، وتحديدًا في مفصلها الإصلاحي (المبادئ الإصلاحية)، لكنها تبقى هي هي في مفصلها الأساسي (المبادئ الأساسية) القائم على أي وجه أخذ به على أن أساس التطور الإنساني نشوءًا وارتقاء هو أساس مدرحي، ذلك أن المبادئ نتيجة لا سبب، نتيجة أن التطور الإنساني هو تطور مدرحي، يأخذ الوجود في وحدته لا في تشظياته الاصطلاحية التي تنفصم بها وحدته، وتصبح إما مادية أو روحية، فهاتان المفردتان كما أشرنا سابقًا تبقيان مجرد اصطلاح بشري “.. لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة، لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب أن لا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها. فكوننا اكتشفنا ناموسًا أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب أن لا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى، فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع. وإذا كنّا قد اكتشفنا سنّة التّطوّر، فيجب أن لا نتّخذ من هذه السنّة أقيسة وهميّة تذهب بنا إلى تصّورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة..”، هكذا يبقى الواقع الطبيعي والاجتماعي أساسًا يُصَوّبُ متجهات النهوض المادي- الروحي..

في مقالته “لائحة العقاقير لا تصنع طبيبًا” يعيد سعادة ذكر المدرحية يقول: “إن الحركة القومية الاجتماعية تأسست على مبادئ الوجدان القومي والعدل الاجتماعي في النظرة المدرحية إلى الحياة والكون والفن..”، هنا لا يتحدث سعادة عن فلسفته المدرحية بقدر ما يشير إلى ما تأسست عليه مبادئه في الوجدان القومي (المبادئ الأساسية) والعدل الاجتماعي (المبادئ الإصلاحية) مؤكدًا أن مبادئه قامت وتأسست على النظرة المدرحية، مما ينفي أن هذه المبادئ هي الفلسفة المدرحية، وبأنها نتيجة لا سبب، وبأن سعادة لم يأت على ذكر المدرحية “.. مرة فقط وفي رسالة واحدة من رسالاته التوضيحية” كما يقول عبد المسيح..

في كلمته التوجيهية، في مؤتمر المدرسين، يأتي سعادة على ذكر المدرحية قائلًا: “ولذلك كان الغرض الأساسي من الحركة السورية القومية الاجتماعية جعلها عامة ومنتصرة في الأمة السورية، وحيثما أمكن تحقيق رسالتها الاجتماعية وفلسفتها المدرحية..”، ويضيف في ذات الكلمة قائلًا: “إنّ صلب المعركة هو في تثقيف نفسية الأحداث ومعارفهم في البيت وفي المدرسة الابتدائية والمدرسة الثانوية. وتستمر المعركة العقائدية ما وراء ذلك. لم يهمل صاحب الرسالة القومية الاجتماعية- المدرحية هذه القضية الثقافية الخطيرة، بل، بالعكس، أولاها عناية خاصة..”. في هذا النص يبدو واضحًا أيضًا، أن سعادة يقول بالمدرحية فلسفة لا تقتصر على أمته السورية، بل “.. وحيثما أمكن تحقيق رسالتها الاجتماعية وفلسفتها المدرحية..” وتشمل العالم أجمع، والنص واضح من حيث أن سعادة ينعت قوميته الاجتماعية بالمدرحية، على عكس ما يشير إليه عبد المسيح الذي يقول: “التأويلات الخاطئة لفلسفة الإنسان الجديدة.. لأن النظرة إلى الوجود التي تنبثق عنها وتثبتها التعاليم السورية القومية الاجتماعية وفلسفة الإنسان الجديدة ليست الفلسفة المدرحية.. المدرحية لفظة مركبة من كلمتين مادة وروح وقد وقع بعض أتباع سعادة في خطأ تسمية فلسفة معلمهم “مدرحية” بسبب عدم استيعابٍ للمحتوى الخاص الذي أعطاه الزعيم لكلمة مدرحية..”.. هكذا يقع عبد المسيح فيما نعت به (أتباع سعادة) في إشارة منه لمن لا يتّبعون تنظيم الانتفاضة، فهم ليسوا برفقاء له، بقدر ما هم (أتباع لسعادة)..

في تصدير سعادة لمقالة الرفيق لبيب زويا نقرأ: “إن هذه المحاضرة هي تحليلية دقيقة للفلسفة المدرحية، وقد تناولت الناحية الأنطلوجية كما تناولت موقف هذه الفلسفة من الفلسفات المعاصرة، وهي تمثل اجتهادًا ممتازًا في شرح الفلسفة المدرحية التي تقدم الحل الوحيد روحيًّا وعمليًّا لقضايا المجتمع الإنساني العسيرة وتشق للمجتمع طريق الخروج من التخبط والأضاليل إلى حرية أعظم ونظام أجمل ونتيجة فيها كل الخير للمجتمع، فهي وحدة من وحدات هذه المجموعة الأولى من الدراسات الكبيرة القيمة للفلسفة المدرحية التي أعلنها سعادة وتقدمها النهضة القومية الاجتماعية للعالم..”، هنا أيضًا نجد أن سعادة يعيد ويكرر أن فلسفته القومية الاجتماعية هي فلسفته المدرحية وأنها فلسفة إلى العالم أجمع، على العكس تمامًا مما يدلي به عبد المسيح”.. الفلسفة التي تقدمها النهضة ليست “الفلسفة المدرحية” إنها فلسفة الإنسان الجديدة المنبثقة عن نظرة للوجود الإنساني في حقيقته الأساسية، المجتمع الإنسان الكامل، التي توضح أن هذا الوجود لا يجوز أن يفسر ماديًّا ولا تفسيرًا روحيًّا وفق الظاهرات لهذا الوجود الكلي الشامل.. ليست فلسفة الحزب “الفلسفة المدرحية”، بل فلسفة الوجود بكمال وشمول ماهيته..”.

يبدو واضحًا مما سبق مدى الخطل الذي وقع به عبد المسيح وتناقضه التام والكامل مع سعادة وأنه أراد أن يستغل نقص المعرفة والفهم لبعض الذين تبعوه في انتفاضته التي شكلت شرخًا خطيرًا في الحزب؛ أوصل الحزب لما هو عليه الآن من تشتت وضياع، وهذا ما تنبأ به سعادة بنظرته الثاقبة للزمن، حيث يقول: “واحذروا من اختلاط السياسة والدبلوماسية وأغراضهما بعقيدتكم وإيمانكم وعناصر حيواتكم الأساسية،، لئلا تكون العاقبة وخيمة..”.

مدرحية هشام الشرابي:

لا أعتقد أن الأمين حيدر كان منصفًا بحق كل من تناوله في مؤلفه /الفلسفة المادية- الروحية عند سعادة/ بالنقد، والذي تناول فيه مجمل ما كتبه تلامذة سعادة في موضوع الفلسفة المدرحية وفق رؤية الأمين حيدر، مع العلم أن الكثير من تلك الدراسات، لم يكن موضوعها أو محورها الأساس، هو الفلسفة المدرحية، فقد أتت الكثير منها على الإشارة إليها في معرض الحديث عن فلسفة سعادة القومية الاجتماعية، إن لجهة خصائصها أو صفاتها أو مواصفاتها، أو في أحيان نادرة تعريفها من وجهة نظر اجتماعية أو قومية أو في معرض الحديث عن اليسار أو اليمين أو الليبرالية.. الخ، وقد تعامل معها وكأنها بحث فلسفي في المدرحية، فراح يُخرج النص عن سياقه أو ينتقي منه ما يفيد رؤيته هو في ذات الموضوع، وأقصد الفلسفة المدرحية، حيث يأتي نقده مبخسًا حق كاتب المقالة أو الدراسة أو المحاضرة فيما تذهب إليه دراسته أو مقالته أو محاضرته، وخير مثال نقدمه، لتأكيد هذا الاتجاه، هو ما جاء عليه نقده لمقالة أو دراسة كلٍ من (لبيب زويا وأنيس فاخوري وكامل المقدم)، على الرغم من أن سعادة كان موجهًا ومصوبًا لما جاء فيها من أفكار، وقد أشرنا سابقًا أن كلًا منها، قدَّمَ له سعادة، بتصدير يُبرز فيه مُتَّجَه الدراسة أو المقالة، مثنيًا عليها بطريقة ما، تتناسب والموضوع الذي تثيره، وقد تجاهل الأمين حيدر هذا التصدير..

يظهر بوضوح الاتجاه المنوّه عنه أعلاه في نقده لدراسة هشام الشرابي والتي جاءت تحت عنوان /فلسفة جديدة/، وفيها يشرح هشام شرابي بعضًا من مفردات هذه الفلسفة، مُسقطًا إياها على بعض الأحداث التي عاصرها، وتحديدًا نظرة فايز صايغ دون الإشارة إليه ولرهطه بالاسم، بمعنى آخر، ليست الدراسة بحثًا في المدرحية بقدر ما هي إسقاطٌ لبعض مفاهيمها على وقائع حيّة عايشها الشرابي ورأى في تلك الوقائع انحرافًا عن مفاهيم تلك الفلسفة، فراح يستمد من تلك الفلسفة ما يصوّب متجهات مسلكية رفقائه من القوميين، وتاليًا لا يمكن القول إن الدراسة بحد ذاتها ذات اتجاه فلسفي، هي في صلبها تصويب مسلكي، لا أكثر ولا أقل..

يمكننا اختصار ما جاءت به دراسة هشام الشرابي بما ختمها به قائلًا: “.. إن قضية هذا الجيل من القوميين الاجتماعيين هي قضية نفسية في المكان الأول وليست قضية فكرية مجردة، فهذا الجيل هو جيل قلق معذب وهو يعاني نوعين عميقين من الألم: ألم التحقق وألم العجز الذي يجابهه في التحقيق، وليس أقسى على الذي شعَّ في قلبه نور المثل العليا، من أن يتعثر في تحقيق ما آمن به، إذ إنه هو الذي يحكم على نفسه عندما يتعثر قبل أن يحكم عليه الآخرون، وأقسى الأحكام هي التي نحكم بها على أنفسنا.. إن واجب القومي الاجتماعي الأول، اليوم وفي كل يوم، هو تركيز وتثبيت حقيقة النهضة القومية الاجتماعية في قلبه وروحه وعقله، وهذه الحقيقة واضحة الأسس والمعنى لا تحتاج إلى عقل يتفلسف، بل إلى نفسية متفوقة وإرادة منتصرة، دون الاستيعاب العميق للمبادئ الأساسية للعقيدة القومية الاجتماعية لا يمكن ردّ الميعان الذي يسيطر على أفراد هذا الجيل، ولا يمكن للقومي الاجتماعي الاحتفاظ بالروحية الصراعية التي يتطلبها عمله الجبار، إن الفلسفة القومية الاجتماعية هي القوميون الاجتماعيون وما يحققون، إذ إنها في المضمار الأخير ليست إلا التجسيد الفعلي للحقيقة العظمى ألا وهي حقيقة الأمة السورية وقدرتها على أن تكون أمة عظيمة متفوقة”.

يتضح من المقطع الوارد أعلاه المُتَجَه الذي جاءت الدراسة لشرحه وبيان أسسه، فلننظر الآن كيف عالج الأمين حيدر هذه الدراسة، التي يقول إنها نشرت لأكثر من مرة: “إن مرادنا هو إظهار مبلغ الأهمية التي أعطيت لتلك المحاضرة (المقالة) في أواسط المفكرين من تلامذة سعادة، وذلك عندما نعرف أن وسائل نشر الفكر القومي الاجتماعي قد عمّمتها لثلاث مرات، لذلك سنجد أنفسنا مهتمين بها: أولًا، لأنها ما زالت تحتل مركزًا في الأوساط الفكرية داخل الحزب، ثانيًا لأننا لم نقرأ للرفيق الدكتور أي بحث سواها حول المدرحية، وأخيرًا لنرى مقدار نسبتها إلى فكر سعادة الفلسفي”.

 وعلى الرغم من اعتقادنا، أن وسائل نشر الفكر القومي الاجتماعي، لم تكن في يوم هي الأخرى منصفة لكل ما كُتب في الحزب فكرًا وممارسة لأسباب شتى أبرزها تسلط السلطة الحزبية القائمة عليها، وعلى ما يبدو، فإن إعادة نشر هذه المقالة كان بسبب إدراك القيادات الحزبية، على امتداد تاريخ تسلطها على الصف الحزبي ومؤسساته، إن الصف الحزبي كان متهالكًا ومتساقطًا تساقط أوراق الخريف، نتيجة الضعف في أداء المؤسسات الحزبية عمومًا، والانخراط في الحدث السياسي، يضاف إلى ما تقدم ضعف أدائها الثقافي من حيث هو اللبنة الأولى في تماسك هذا الصف وتراصّه في وجه العقبات التي تواجهه، كما يشير إليه هشام الشرابي، على اعتبار أنها مقالة توجيهية، لا مقالة فلسفية، كما يراها الأمين حيدر، ولأنها، من جهة أخرى، اقترنت باسم شخصية عاصرت سعادة، وكانت مقرّبة منه أكثر من غيرها، ولم تمسّها أي شائعات مغرضة مارستها السلطات الحزبية على مدى تاريخها ضد مفكريها، حتى قيل “كيف لحزب يلفظ مفكريه أن ينتصر؟!!” ولأنها مارست على مدى تقلباتها قاعدة “إذا أردت أن تقتل إنسانًا فلا تطلق عليه رصاصة بل أطلق إشاعة” لهذه الأسباب، ولغيرها، البعيدة منها والقريبة، كانت إعادة نشر هذه المقالة ملحة..

يحدد هشام الشرابي متجهات مقالته بالنقاط التالية، معتبرًا إياها (النقاط) دليلًا له في شرح ومعالجة ما هو بصدده يقول:

 1- “اجتماعية الفلسفة القومية الاجتماعية، هي كذلك لأنها تبدأ في المجتمع وتنتهي فيه، وكل ما هو خارج نطاق حياة المجتمع وشؤونه ليس من اختصاصها..

2- عقلية الفلسفة القومية الاجتماعية، والميزة الكبرى الثانية، هي وضعها العقل المقياس والواسطة والمرجع الأخير، لجميع المسائل التي تواجهها..

3- مناقبية الفلسفة القومية الاجتماعية، الصفة الثالثة للعقيدة القومية الاجتماعية هي رسالتها المناقبية..

4- الفلسفة القومية الاجتماعية قاعدة انطلاق، أما الصفة الرابعة الكبرى للعقيدة القومية الاجتماعية، هي أن فلسفتها، ليست فلسفة وقوف وتحجر، بل فلسفة حركة ونمو وانطلاق..

يعلّق الأمين حيدر على النقاط الأربع أعلاه، قائلًا: “يضعنا الدكتور الشرابي أمام العقيدة القومية الاجتماعية وفلسفة العقيدة القومية الاجتماعية، ولكنه لا يشرح لنا العلاقة بينهما.. يجيء أول تعريف عمومي له للفلسفة الاجتماعية مجرد تشبيه لها بالكائنات الحية، أما تعريفه العمومي الثاني فيأتي غامضًا في قوله إن الفلسفة القومية الاجتماعية تعبّر عن فكر حركة فاعلة محققة، والتعريف العمومي الثالث، فيأتي، كتشبيه هندسي مركب، خطًّا واتجاهًا وشعاعًا وقاعدة انطلاق.. أما خطته (أي هشام شرابي)، في بحثه فيقول عنها “إنها تتناول بعض الصفات البارزة للفلسفة الجديدة.. فهو (الشرابي) لن يبحث في ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية (المدرحية: الفلسفة الجديدة) بل في صفاتها البارزة”.

لا تأتي المقالة على نعت الفلسفة القومية الاجتماعية بالمدرحية، سوى في قول الباحث: “يعتقد البعض أن فلسفة الحركة التي تسمى عرضًا (الفلسفة المدرحية)، هي عدد من النظريات الفلسفية..”، ولا حتى في أي من مواصفاتها المشار إليها، ولا حتى في شروحها، هذا أولًا. ثانيًا، يصيب الأمين حيدر بقوله: “إذًا، الباحث لن يبحث في ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية..”، فالبحث بحد ذاته غير معني بالفلسفة المدرحية من حيث هي كذلك، يقول الشرابي: “العقيدة القومية الاجتماعية، تقدم فلسفة مناقبية جديدة، ولكنها لا تقدم بحثًا في فلسفة الأخلاق.. إن القومي الاجتماعي لا يحتاج لأن يفلسف القيم المناقبية التي تتطلبها منه النهضة.. ليس إلا المتفزلكين المتمخرقين والسطحيين والمعدومي الإرادة (من يطالبون بأن تكون للحزب فلسفة) وهم لا يعترفون وهم يشككون بأن للحزب فلسفة.. إن الحركة القومية الاجتماعية ترفض أمثال هؤلاء وليس لديها ما تقدمه لهم..”، لكن البحث معني بميزاتها أو صفاتها أو خصائصها أو سماتها.. الخ، التي يمكن لها أن تفيد غايتها (المقالة) وهي معالجة بعض القضايا المثارة، الدين، الفردية، الأخلاق، الفلسفة.. 

في نقده لقول هشام الشرابي بأن الفلسفة القومية الاجتماعية، فلسفة اجتماعية، كونها تبدأ في المجتمع وتنتهي به ولا علاقة لها بشؤون تخرج عن نطاق المجتمع، يتساءل الأمين حيدر: “ما هي الفلسفة القومية الاجتماعية؟، يجيبنا الباحث: هي شيء له صفة اجتماعية، لكن ما هو هذا الشيء الذي له صفة اجتماعية؟ يجيبنا الباحث: إنه الفلسفة القومية الاجتماعية..”. من وجهة نظرنا، لا غبار على قول هشام الشرابي بأن الفلسفة القومية الاجتماعية هي فلسفة اجتماعية بمعنى اختصاصها بمجمل أطروحاتها بالمجتمع الإنساني بكل ما يعنيه من أمم تتجاذب أطراف القوة لتثبيت حقها في الحياة.. فالمدرحية، ما هي إلا فلسفة اجتماعية تدرس التطور الإنساني، نشوءًا وارتقاء من حيث العوامل والأسباب والنتائج، التي قامت عليها حضارة اليوم، وتضع لهذا الصراع الأممي مخرجًا له من مأزقه المعرفي، بوحدة الدول على أساس وحدة بيئاتها الطبيعية، حيث يكون التكامل البيئي أساسًا لتعاون أكثر سلمية، ولأننا ننتج في الاتفاق أكثر بكثير من إنتاجنا في الخصام والصراع واحتكار القوة لفرض مصلحة مجتمع ما على بقية مصالح المجتمعات الأخرى..

هي اجتماعية، لأن غايتها الأولى والأخيرة كانت وما تزال المجتمع بأبعاده السياسية والثقافية والاقتصادية.. الخ، فالشرابي لا يجانب الحقيقة في قوله باجتماعية الفلسفة المدرحية، فهي كما يذهب الشرابي، بقوله: “الدين والقضايا الدينية المثيولوجية، هي خارج محور اهتمام العقيدة القومية الاجتماعية إلا حيث يظهر الدين كعامل مباشر في حياة المجتمع من الوجهة الاجتماعية السياسية، ففي هذا النطاق، قول التعاليم القومية الاجتماعية واضح جدًّا، فهو يدعو إلى فصل الدين عن الدولة ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون القضاء والسياسة القوميين، والتي هي من اختصاص الدولة وحدها..”، حيث تذهب المقالة بعيدًا في شرح هذا الموقف، من وجهات نظر مختلفة، الإيمان الديني، رجال الدين، إلى أن يقول في خاتمة شرحه لموقف الحركة من الدين: “نحن القوميين الاجتماعيين لم نتخلَّ عن الدين وعن رسالة الدين الحقيقية، بل اخترنا أن نرفع هذه الرسالة من الحضيض الطائفي الذي أوصلتنا إليه قرون عهود الانحطاط والتدخل الأجنبي وأن نعيدها إلى مكانها اللائق، إن حرية الإيمان مصونة في الحركة القومية الاجتماعية..”.

لما كانت مقالة هشام الشرابي، ليست بحثًا فلسفيًّا في المدرحية، بل فيما تعنيه حيال مجموعة من القضايا المثارة حينها والتي يتطلب الواجب المعرفي وضع حدٍّ لها لما فيه تراص ووحدة الصف الحزبي والحيلولة دون بروز تيارات فكرية تشتت وحدة الاتجاه، ولما فيه ضمان صيرورة الحركة القومية الاجتماعية منطلقًا ووسيلة وغاية، فإن بحثنا سيتناول تساؤلات الأمين حيدر حولها لجلاء حقيقة ما يستهدفه من سبغ صفة المدرحية عليها..

فعلى الرغم من قول الأمين حيدر واعترافه بأن “.. الباحث لن يبحث في ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية (المدرحية: الفلسفة الجديدة) بل في صفاتها البارزة..”، يقول: ” فالبحث بدايته نهايته وإن نهايته بدايته، ذلك أن استعراض الشيء لا يساوي علمًا بما هو الشيء..”، يصرّ على أنها بحثٌ في الفلسفة المدرحية ويتساءل: “ما هي الفلسفة القومية الاجتماعية التي صفاتها كذا وكذا..؟” وقبل ذلك طرح السؤال التالي: “يضعنا الدكتور الشرابي أمام العقيدة القومية الاجتماعية وفلسفة العقيدة القومية الاجتماعية، لكنه لا يشرح لنا العلاقة بينهما..”.

بما أن الكاتب (هشام الشرابي) قد أكد أن مقالته لن تبحث في ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية (المدرحية)، فلا مجال لسؤاله: لماذا لا تبحث في الفلسفة القومية الاجتماعية وتبين لنا العلاقة بين العقيدة والفلسفة؟!، حتى إنه لا يحق لنا طرح تساؤلاتنا عن (ما هي الفلسفة القومية الاجتماعية التي صفاتها كذا وكذا..) فللمقالة متجه محدد، وأي بحث في مثل هكذا تساؤلات، يخرجه عن محوره، فالاستطراد يشتت ذهن القارئ عن القصد الذي جاءت المقالة لتوضيحه، وحيث إن المقالة تستهدف حدثًا معينًا ومعاشًا، فهي تأخذ ما يفيد في شرح هذا الحدث وبيان أسبابه ونتائجه وحتى وسائله، بإسقاط بعض الصفات أو الميزات التي تتناسب والحدث المعني، وليس كل الصفات والميزات، فالهدف يحدد المنطلق والوسيلة، فإن حادت المقالة عن أي منهما، أضاعت هدفها، وهذا ما حدا بكاتب المقالة لأن يختار بعضًا من ميزات الفلسفة القومية الاجتماعية وبما يتناسب وهدفه المعلن من الدين والفردية والأخلاق والفلسفة..  

وتعليقًا على قول هشام الشرابي: “ليس للحزب فلسفة كالفلسفة التي يريدها هؤلاء، إن الحركة القومية الاجتماعية ترفض أمثال هؤلاء وليس لديها ما تقدمه لهم، إن المتهكم على الحق بنار الحق يحرق..”، يعلّق قائلًا: “هل نحن مع فكر أم أمام سلطة إدارية!!”.

يأتي هذا القول لهشام الشرابي تحت عنوان مناقبية الفلسفة القومية الاجتماعية، وفي سياق “إن القومي الاجتماعي لا يحتاج لأن يُفلسف القيم المناقبية التي تتطلبها منه النهضة، وإن أوضح الأشياء في العقيدة هي هذه المناقب.. في كتابات سعادة لا نجد المطولات في هذه الناحية أو تلك من قضية حالتنا المناقبية بل نجد ومضات كاسحة من النور تُظهر بقوة البرق طريق المناقب ومعنى القيم في الصراع من أجل الحياة الجديدة، إنني أجد في كلمات قليلة ما لا أجده في مجلد من الشرح، إنكم ملاقون أعظم انتصار لأعظم صبر في التاريخ، إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ، إن الحياة وقفة عزٍّ فقط  (كلمات) تحرك في الأعماق تيارًا هائلًا يحمل إلى كل نفس كل معاني قيم الصبر والقوة والبطولة والعز والكرامة والتضحية، وفي الإرادة الشدَّة وفي العقل الوعي..”.

ثم يأتي كلامه الوارد أعلاه، والذي اتخذه الأمين حيدر سلاحًا تهكّميًّا مسلّطًا على هشام شرابي، وهو في حقيقته، إشارة لفايز صايغ ورهطه ممن أثاروا فتنة التشكيك بمقولات سعادة الفكرية، وتحديدًا “قضية الفرد غاية المجتمع” و”الكيان اللبناني”..  

تعقيبًا على قول هشام الشرابي: “إن المناقب القومية الاجتماعية اليوم هي حقيقة واقعة أكثر مما كانت عليه في أي وقت مضى، ومسألة موقفنا منها ليست معرفتها فلسفيًّا، بل تجسيدها في عملنا الصامت المستمر..” يقول الأمين حيدر مستغربًا: “هذا كلام خطير جدًّا.. مناقب الفلسفة القومية الاجتماعية التي يعرف الباحث كيف يفك ألغازها هي، العمل الصامت دون معرفة، هي العمل وفقًا لمناقب لا نعرف ما هي ولسنا نستطيع أن نعرف ما هي، ذلك لأن مسألة موقف الباحث تجاهها ليست معرفتها فلسفيًّا..”.

يأتي هذا القول لهشام الشرابي ليس بالمعنى الذي أراده له الأمين حيدر، ولا حتى في سياق ما أشار إليه، إنه يأتي وفق الشرابي في سياق أنه “عندما وقعت الحوادث سنة 1949 (الثورة القومية الاجتماعية الأولى ولجوء سعادة للكيان الشامي وتسليمه للسلطات اللبنانية ومحاكمته وإعدامه خلال 24 ساعة أو أقل) وجُوبه القوميون الاجتماعيون بالمسؤولية الفعلية التي وضعتها القضية على عواتقهم، صُدم بعضهم صدمة نفسية وصلت إلى أعمق أعماقهم، فسقط منهم القليل واستمر الباقون في السير، وقد أثخنت الجراح نفوسهم وبعضها لم يندمل، لقد أحدثت هذه التجربة ثورة سيكولوجية عنيفة في صفوف الحركة، وكان من أهم نتائجها النضوج المناقبي الذي انبثق ثمرة لهذه التجربة في الآلاف من القوميين الاجتماعيين، وليس مثل الألم مطهرًا للنفوس أو قاتلًا لها، فالحديد الأقوى هو الحديد المصهور، لقد أصبح القومي الاجتماعي الصحيح اليوم يدرك تمامًا معنى كونه قوميًّا اجتماعيًّا، إنه يدرك الآن ما عناه سعادة بقوله /إن قضيتنا قضية خطيرة تساوي وجودنا والقضية القومية الاجتماعية لم تعد مجرد تحية فيها كبر ونظامًا عسكريًّا يثير الإعجاب..”، ثم يأتي ما أورده الأمين حيدر، ليدلّل على أن التجربة التي عايشها القوميون الاجتماعيون صهرت نفوسهم فأطاحت بالخبث والحِيلة، والخَدِيعَة، والخِدَاع، والغَدْر، والغِشّ، والمكر، لتحل محله البَساطَة, وسَلامَة الطَّوِيَّة، والصَّراحَة، والأَمَانَةٌ، والإِخْلاص، والاستقامَةٌ، والصِدْق، والنَزَاهَةٌ، والوَفاء.. ويتابع هشام الشرابي القول: “فالقومي الاجتماعي الصحيح أصبح يعرف معنى التواضع الفخور وقيمة العمل الصامت المستمر، فقد صُهر في ألم التجربة وعُمّد بدم الشهادة..”. بهذا المعنى جاءت إشارته إلى “إن المناقب القومية الاجتماعية هي حقيقة واقعية.. ومسألة موقفنا منها ليست معرفتها بل تجسيدها في عملنا الصامت المستمر..”.

يعلق الأمين حيدر حاج إسماعيل على قول الرفيق هشام شرابي: “يعتقد البعض أن فلسفة الحركة التي تسمى عرضًا (الفلسفة المدرحية) هي عدد من النظريات الفلسفية التي تؤلف بمجموعها سيستيمًا فلسفيًّا كاملًا وأنها تقدم الجواب لكل سؤال فلسفي يخطر في البال، إن هذا الاعتقاد خاطئ..”، قائلًا: “إن وصف الفلسفة القومية الاجتماعية بـ(الفلسفة المدرحية) هو مجرد عرض، لكنه لا يشرح لنا ماذا يقصد بهذا القول: كيف هي عرض؟ وما سبب الوصف المدرحي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا استخدم سعادة تسميتها (المدرحية) أصلًا؟

سبق أن أشرنا إلى أن مصطلح (مدرحية) جاء للمرة الأولى في كتاب سعادة “جنون الخلود” وتحت عنوان “بين الجمود والارتقاء”، ونصه: “.. ومن استعارات رشيد الخوري قوله في الرسالة المحمدية “الدين الإسلامي” إنها “مدرحية” أي “مادي- روحي معًا”. فقد يظنّ القارئ غير المطلع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية للخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتابي “نشوء الأمم” ومن شرحي لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهو فكرة فلسفية اجتماعية أبديتها في مناسبات عديدة.. أخذ رشيد الخوري هذه الفكرة الفلسفية العظيمة التي لا يطيق عقله إدراك عمقها وأهمية القضايا الاجتماعية التي تشتمل عليها، فمسخها وجعلها مجرد كلام سطحي بسيط يقصد به إيجاد مقابلة استبدادية بين “الأديان” الثلاثة المسيحي والمحمدي واليهودي؛ فقال “فالدين المسيحي دين تصوّري لا ينفع الدنيا لانفصاله عنها، ولا الآخرة لعدم حاجتها إليه. وهو نقيض الدين اليهودي الذي هو ماديّ صرف. أما الدين الإسلامي “فمدرحي” إذا صح النحت والتركيب، أي مادي وروحي معًا”.

فمصطلح (مدرحي) لم يستخدمه سعادة في نعت فلسفته المادية- الروحية، إلا بعد أن تداوله القوميون الاجتماعيون، وكان أول استخدام له من قبل سعادة في رسالته المؤرخة في 10/1/1947 يقول: “داعية الأمم إلى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده وعقيدة تفسيره، من الجهة الأخرى، بالمبدأ ‏‏المادي وحده، والإقلاع عن اعتبار العالم ضرورة، عالم حرب مُهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية، وإلى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي- مادي (مدرحي) وأنّ الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها..”، ونلاحظ أن المصطلح يضعه سعادة بين قوسين، بما يفيد استخدامه بتحفظ، لكنه بعد ذلك أطلقه من قوسيه معتمدًا إياه في مختلف خطبه ومقالاته وإشارته لفلسفته بهذا المصطلح، من هنا جاءت إشارة الرفيق الشرابي لعرضية المصطلح، على الرغم من عدم إشارته لأسباب ذلك، فالشرابي كان من أكثر القوميين الاجتماعيين التصاقًا بسعادة وكان سعادة يميّزه عن بقية الرفقاء بكثير من المواقف، وتأكيدًا على هذا الاتجاه لم يستخدم سعادة مصطلح “مدرحي” طوال الفترة الممتدة بين 1942 و1947، فعرضية المصطلح عند الشرابي تقوم على واقعة إدراكه أنه ليس من نحت سعادة.   

يتابع حيدر تعليقه قائلًا: “بعد ذلك، يؤكد لنا الكاتب ما يلي: (عندما نقول إن الحركة تقدم نظرة شاملة إلى الحياة والكون والفن، لا نعني أن لدى الحركة نصوصًا فلسفية تقدمها إلى كل من يسألنا عن نظرتنا إلى الفن والكون والحياة..) هاهاها هناك نظرة وليس هناك نظرة، كيف يحكم الكاتب أن للحركة نظرة فكرية دون أن يكون قد اطلع عليها في نصوص وكتابات وضعها سعادة، اللهمَّ إلا إذا كانت النظرة غير فكرية، تدرك بالحس!

الفقرة التي أوردها الأمين حيدر متهكّمًا، تأتي في سياق مقالة الشرابي على النحو التالي، يقول: “العقيدة القومية الاجتماعية، تقدم فلسفة مناقبية جديدة، لكنها لا تقدم بحثًا في الأخلاق.. في كتابات سعادة لا نجد المطولات في هذه الناحية أو تلك من قضية حالتنا المناقبية، بل نجد ومضات كاسحة من نور..”.

يختم الأمين حيدر تساؤلاته بالقول: “هذا كلام عجيب: كيف تكون هناك حركة، تسمى حركة قومية اجتماعية، دون أن تكون قد تأسست على فلسفة قومية اجتماعية وضعها مؤسس الحركة..”، ويضيف: “يمضي الكاتب متابعًا حنقه على السائلين الطالبين للمعرفة، ومتابعًا عناده وإحجامه عن ذكر ما يعرف عن ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية، فيقول (إن شؤون الفلسفة وقضاياها ليست من اختصاص الجميع، الحركة القومية الاجتماعية ليست جمعية فلسفية ترحب بكل من أراد أن يتلذذ بترداد ما تعلمه من مصادر غربية أو ما توصل إليه من قراءة بعض الكتب..).

منذ البداية، يؤكد الشرابي أنه لن يبحث ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية، فهذه المسألة لا تختص بها مقالته التي أفردها منذ البداية، كما سبق أن أشرنا، لبعض المسائل والقضايا التي يعتبرها تشتيتًا للفكر العام في الصف الحزبي، لذلك هو يعرض عن بحثها في سياق مقالته..

لاحقًا ننشر صورًا لمقالة الشرابي وأخرى للأمين حيدر عسى أن يستفيد منها من أراد التمحيص فيما جئنا به أعلاه.

1- رسالة سعادة المؤرخة في 10/1/1947

2- مقالة سعادة /لائحة العقاقير لا تصنع طبيبًا/.

مدرحية الأمين إنعام رعد  

يُفرد الأمين حيدر لبحثه المعنون /مدرحية رعد/ ما لا يُفرده لأي باحث آخر، فالأمين رعد، هو من أغزر مَنْ كتب في القومية الاجتماعية وعلى أصعدة عدة، وفق ما ذهب إليه الأمين حيدر، محاولًا أمام هذا الكم الغزير من الكتابات تصنيف أو تخصيص ما جاء به رعد على أربعة عناوين:

1- المنطلقات الفكرية والإستراتيجية الثورية.

2- كتابات فكر.

3- الاتجاه الجديد في النظر.

4- محاولة خائبة.

على ما يبدو، فإن انتقاد الأمين رعد للأمين حيدر في فصل الأخير لكتاب “نشوء الأمم” عن مجمل كتابات سعادة باعتباره “كتابًا علميًّا لا علاقة له بالفلسفة المدرحية”، وفق ما يذهب إليه الأمين حيدر، يبقى المحور الذي دارت حوله مختلف الانتقادات التي وجهها الأمين حيدر للأمين رعد..

في مناقشتنا لكلتا الأطروحتين، نؤكد أن السياق الذي جاءت به كلتاهما مهم للغاية، ذلك أن متجه الدراسة يحدد معايير ما جاءت به من مصطلحات ومفاهيم ووقائع ونتائج، كما هي الحال فيما سمّاه الأمين حيدر /مدرحية المقدم/، والتي هي في مجملها لا علاقة لها بالفلسفة المدرحية، وتبقى توجيهًا سياسيًّا قوميًّا اجتماعيًّا لا أكثر ولا أقل، والتي نشرت بإشراف سعادة وتوجيهه، فلو أنها اختصت بالفلسفة المدرحية، لكان لسعادة موقفه من مجمل ما جاءت به وعليه..

بناءً على ما تقدم، سيكون بحثنا وفق التصنيفات الأربعة التي جاء نقد الأمين حيدر وفقها ونبدأ في:

المنطلقات الفكرية والإستراتيجية الثورية

على مدى 122 صفحة، يتناول بها الأمين إنعام رعد موضوعات عدة /المنطلقات الفكرية للحزب وإستراتيجيته الثورية- مفهوم اليسار القومي الاجتماعي- القومية الاجتماعية الرائدة التي يتجه إليها العصر الحديث بتجارب أممه- المنطلقات العقدية للأهداف والمواقف في الحزب السوري القومي الاجتماعي/ هذه الموضوعات تناولها الأمين رعد إما في محاضرات، غالبًا ما كان يرتجلها، أو دراسات، لكنها بمجملها كانت موضوعات مطروحة وبقوة فترة السبعينيات من القرن الماضي، وبالطبع من منطلق قومي اجتماعي، غالبًا ما يصفه الأمين رعد بالثوري، كمصطلح يومي متداول في تلك الفترة، وكنقيض للواقع الذي أفرزته حرب 1967..

وبطبيعة الحال، يتناول الأمين رعد، هذه الموضوعات مُسْقِطًا عليها مفاهيم قومية اجتماعية، بمصطلحات تتكرر باستمرار في مختلف كتاباته،..

يكتفي الأمين حيدر بالسؤال حول ما تعنيه هذه أو تلك من المصطلحات والمفاهيم، ويُحمِّلُها معانيه أو مفهوماته الخاصة حول الفلسفة المدرحية، وتحت عنوان لا يتناسب وهذه الموضوعات /مدرحية رعد/، ذلك أنها محاضرات ودراسات أقرب ما تكون للتوجيه السياسي الذي فرضته أحداث تلك المرحلة العاصفة من تاريخ الأمة، حيث تبقى تلك المحاضرات والدراسات منشدّة إلى زمانها ومكانها، لكنها، قطعًا، ليست بحثًا فلسفيًّا، يتجاوز حدود المكان والزمان، وتحديدًا في الفلسفة المدرحية، وإن كان (رعد) يستند لبعض من مقولاتها وبشكل متكرر، كمقولة “الدورة الاجتماعية- الاقتصادية”، والتي تدور مختلف أطروحاته حولها أو تنطلق منها أو تستند عليها أو لبعض ما تعنيه وقائعَ ونتائج، لكنها (المحاضرات والدراسات) بالمطلق، ليست بحثًا فلسفيًّا في المدرحية..

تدور تساؤلات الأمين حيدر حول فكرةٍ هنا أو مصطلح هناك أو مفهوم يتجاوز القصد المفهوم من السياق العام للدراسة أو المحاضرة، فعلى سبيل المثال، يتساءل الأمين حيدر بعد أن يستعرض “تعابير مثل (التكامل المادي- الروحي) و(الثورة المادية- النفسية) أو (قومية الأرض) و(المنهج المدرحي)”، ويقول في معرض تساؤلاته: “مصطلح التكامل المادي- الروحي (والذي لا نجده في كتابات سعادة) يستخدمه رعد ليفيد ما يسميه الوحدة الروحية والوحدة الاجتماعية- الاقتصادية، ويؤكد رعد أن لوحدة المجتمع، مفهومين متكاملين يشكلان مفهوم الثورة عند سعادة، ألا وهما المفهوم الروحي (القومية) والمفهوم المادي (الاجتماع بالمعنى الاقتصادي) ليتساءل: “هل حقًّا عنى سعادة بالمادة، في فلسفته المادية- الروحية، الاجتماع الاقتصادي؟”.

من منطلق أن البحث ليس في الفلسفة المدرحية، فلا يمكن طرح السؤال عن: “ما إذا كان سعادة قد عنى “بالمادة” الاجتماع الاقتصادي!”، فالبحث يدور حول ماهية الوحدة القومية ومقوماتها. الروحية منها والمادية، والأثر الاقتصادي في مجال تطبيقهما عمليًّا على الأرض.

يستشهد “رعد” بقول لسعادة فيقول: “نعود لسعادة فعنده القول الفصل في كل هذه المواضيع، يقول سعادة (إن الحزب السوري القومي الاجتماعي يريد وحدة قومية متينة تُثبت حق الأمة السورية في معترك الحياة والتفوق، وهذه الوحدة القومية القوية لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اقتصادي سيئ، كما لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اجتماعي سيئ، فإقامة العدل الاجتماعي الحقوقي والعدل الاقتصادي الحقوقي أمر ضروري لفلاح النهضة السورية القومية الاجتماعية..)

في هذا القول لسعادة، يؤكد “رعد” على أن سعادة قد ربط الشأن الاجتماعي بالشأن الاقتصادي، فلا انتصار بجانب واحد من جوانب الثورة القومية الاجتماعية بما تعنيه من مقومات مادية- روحية، كونها (الثورة القومية الاجتماعية) “مدرحية” الأبعاد المادية- الروحية، وتاليًا فالشأن الروحي يأتي مكمّلًا للشأن الاجتماعي الاقتصادي، رعد يشرح ما قاله سعادة، ويقدم عيّنات، تؤكد صوابية متجه سعادة، في كون الثورة لا يمكن لها أن تقوم على جانب واحد من مقومات الحياة ويقصد الجانب الروحي يقول: “يقول سعادة: (نسير إلى الحرب [حرب التحرير] ليس فقط جماعة واحدة من الوجهة الروحية بل من الوجهة الاجتماعية أيضًا، ليس لننتصر إقطاعيًّا على إقطاعي أو رأسمالي، بل لنكسب أرضًا لا يمكن أن نقيم فيها مستعبدين من أنفسنا على أمتنا، نسير محققين انتصارًا لشعب حرّ يتجمع تحت علم أمته ودولته بنظام واحد ومجد واحد للجميع..) ففي حرب التحرير يتابع رعد شارحًا في المواجهة مع العدو الخارجي، قصد سعادة ألاّ نسير موحدين من الناحية الروحية، وحدة الروح التي تحدثنا عنها، لا تفرقنا الطوائف المذهبية وموحدين من الوجهة الاجتماعية، وحدة لا تقوم على السكوت على النظام الاجتماعي، على تعايش الإقطاع والرأسمالية مع الشعب المسحوق، الشعب الكادح المنتج بفلاحيه وعماله ومثقفيه، بل وحدة تقوم لا على نصرة إقطاعي أو رأسمالي، بل لنكسب أرضًا لا يمكن أن نقيم فيها مستعبدين من أنفسنا على أمتنا، فالثورة الاجتماعية في سبيل النظام الجديد وإسقاط الإقطاع والرأسمالية جزء لا يتجزأ من حرب التحرير القومية عند سعادة.

النظام الجديد ووحدتنا الروحية الاجتماعية توءمان لا ينفصلان.. والوحدة الروحية ليست بديلًا عن الوحدة الاجتماعية- الاقتصادية بل مكملًا لها..”، يقدم رعد أمثلة مستشهدًا بسعادة مما جرى في بريطانية وفي أميركا تأكيدًا على ما يذهب إليه في شرحه لسعادة، فيقول “يقول سعادة في هذا الموضوع، حالة المحافظين والإقطاعيين في بريطانيا الذين كانوا يرفضون وضوح المفاهيم الاشتراكية: إن الشعوب كانت متخمة من الديمقراطية الرأسمالية التي أصبحت كابوس العامل والفلاح، وإن حالة الحرب هي التي تضغط على بريطانية والولايات المتحدة للاهتمام بالناحية الاجتماعية..”، فالثورة القومية تستدعي بالضرورة الثورة الاجتماعية بما تعنيه الأخيرة من إسقاط للنظام الإقطاعي والرأسمالي المتحكم في البلاد والعباد، مع تأكيد رعد تحت عنوان /سعادة والثورة الاجتماعية/ على أن الثورة الاجتماعية عند سعادة هي أشمل من الثورة الاقتصادية كما طرحتها الماركسية، إنها أشمل لعدة أسباب، إنها لا تقوم على مجرد الشأن المادي الاقتصادي.. المشكلة ليست مشكلة إنسان وطبقات، في أمتنا جيوب طائفية عنصرية، في أمتنا مشكلة كردية في العراق، في أمتنا مفهوم الأكثرية الطائفية، وقسْ على ذلك العديد من المشكلات، هذه المشكلة لا يمكن أن تحلّ بتبدل علاقة الإنسان بوسائل الإنتاج..

يتضح أن رعد لم يعنِ بالمادة، في فلسفة سعادة المادية- الروحية، الاجتماع الاقتصادي، ذلك أن البحث يبقى في ممكنات الثورة للتحقق، وإن تطرق للشأن الاقتصادي في مفهوم الثورة، فإنه لا يتعدى ذلك ليصبح في الفلسفة المدرحية أن المادة هي الاقتصاد.    

يتابع الأمين حيدر تساؤله حول ما يقوله الأمين رعد من أن “المشكلة الاجتماعية غير منفصلة عن المشكلة القومية، وكل فصل بين هذين التوأمين إجهاض للشأن القومي وقتلٌ للشأن الاجتماعي” متسائلًا: كيف وبأي معنى نفهم علاقة عدم الانفصال، بين المشكلة الاجتماعية والمشكلة القومية؟ هل هي علاقة سبب ونتيجة؟ أم علاقة ترابطية؟ أم علاقة تكافؤ؟ أم خلاف ذلك؟

على الرغم من أن تساؤل الأمين حيدر، يتجاوز حدود المطروح من هذه المسألة، فسؤاله يثير مشكلة من لا مشكلة، في محاولة منه للتشكيك فيما يزعمه رعد من أن المشكلة الاجتماعية غير منفصلة عن المشكلة القومية، في تساؤله عن العلاقة بين الشأن الاجتماعي والشأن القومي، ذلك أنه لا فرق بين الشأنين، هما كلٌ متكاملٌ من حيث أن القومية الاجتماعية هي المدرحية وهي المادي- الروحي، فالعلاقة بين الشأنين هي علاقة الجوهر بالمظهر أو الباطن بالظاهر أو المادة في الشكل، هما شأنٌ واحد، وإن كنا نمايز بينهما فيما اصطلح عليه من مفهوم أي منهما، فالقوم هم الجماعة، مدرحيًّا كلاهما رديف للآخر، مترادفات لغوية، لكنها شأن واحد، يتخذ كلٌ منهما شكل الآخر، وفق الحالة التي تفترضها الوقائع والظروف والأحوال، في اللغة العربية، هناك تسع وتسعون اسمًا للأسد، فأي منها نختار لوصف حالة ما يمرُّ بها الأسد يقول المتنبي:

 وردٌ إذا ورد البحيرة شاربًا… ورد الفرات زئيره والنيلا

يصف المتنبي الأسد بالورد تبعًا للونه الضارب للحمرة، لكن ورد هو الأسد بعينه..

بديع الزمان الهمزاني يصف الأسد بالهزبر يقول:

إِذًا لَرَأَيْتِ لَيْثًا زَارَ لَيْثًا… هِزَبْرًا أَغْلَبا لاقى هِزَبْرَا

الأسد هنا هو الهزبر لوصف حالته بالغالب، أو الشديد الوطأة أو الكاسر(*)

عدم الانفصال إذًا، هو كون القومية والاجتماعية في وحدة لا تنفصم عراها، فكل منهما صنوٌ للآخر، وعلى أي وجه جاءت به هذه العلاقة توافقية وتكافؤية، أو نتيجة لسبب..   

المسألة الثالثة التي يتساءل الأمين حيدر حولها هي قول الأمين رعد: “إن القومية الاجتماعية هي قومية الأرض وهي قومية الإنسان في الأرض، الإنسان الحر السيد الشريف”، متسائلًا: هل نفهم من هذا الكلام أن الباحث يريد أن يقول إن القومية الاجتماعية هي قومية جغرافية؟ أو القومية الوطنية؟ باعتبار الأرض تنتمي لدائرة علم الجغرافيا؟.. وهل يقصد بعبارة “قومية الإنسان في الأرض” التفاعل بين الإنسان والأرض؟

هذه التساؤلات في ظاهرها شيء، وفي باطنها شيء آخر، في ظاهرها تساؤلات منطقية، وإن كانت لا تنطلق من ماهية البحث، لكنها في باطنها محاولة للتشكيك في صحة ما يدّعيه رعد!!

قومية الأرض، وكما هي في السياق، تعني الوحدة القومية، وحدة البيئة التي بها تكتمل “دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية”، أما قومية الإنسان في الأرض، فتأتي بمعنى التفاعل من جهة والإنسان المكتنه وحدة أرضه وشعبه، مجتمعه، قومه، أو كما عبّر سعادة في مقدمة نشوء الأمم: “إنّ هذه الشّخصيّة مركّب اجتماعي اقتصاديّ نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه، وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسيّة متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه”.

 أخيرًا، يتساءل الأمين حيدر عن المقصود في “المنهج المدرحي” والذي لا نجده عند سعادة!! في قول الأمين رعد: “وتنطلق القومية الاجتماعية من الشمول في المنهج المدرحي لتحليل التطور الاجتماعي.. فالعقيدة القومية الاجتماعية الشاملة تعنى بالقضية القومية (المبادئ الأساسية) وبالنظام الاجتماعي- الاقتصادي (المبادئ الإصلاحية)”.

كما سبقت الإشارة إلى أن البحث ليس بحثًا في الفلسفة، فالسؤال لا يجد إجابته فيه، وإن الإشارة إلى شمولية المنهج، تبقى للدلالة على أن المدرحية، في شموليتها مختلف جوانب الوجود المادي والروحي، الموضوعي والذاتي، تستمد من النسق التطوري منهجها لفهم هذه الظاهرة أو تلك، لذلك هي معنية بتحديد ماهية الشأن القومي كما هي معنية في الوقت عينه بالنظام الاجتماعي الاقتصادي.  

* بين المصطلح والمفهوم:

الفرق بين المفهوم والمصطلح هو: في أن الأول يأتي معناه والمقصود منه في سياق البحث، المفردة تأخذ في السياق معنى واحدًا لا أكثر، المصطلح، يبقى اتفاقيًّا على أن هذا الشيء هو كذا، مصطلح مدرحية، يبقى معناه في النص أينما وجد هو “الكل المادي- الروحي”، أو “القومية الاجتماعية” بكل مضامينها، فعندما نقول مدرحية نعني بها أن كل شأن أو شيء هو مادي- روحي، أو هو قومي اجتماعي، الثالوث مدرحية- مادية- روحية- قومية اجتماعية، هي مسمى واحد، لجوهر واحد، لمضمون واحد، أو هي مترادفات تأخذ المعنى المقصود منها في السياق الذي تأتي به..

المفهوم له في السياق واحدٌ من معانيه، وواحدٌ من مرادفاته.  

المفردة، في أية لغة كانت، تأخذ القصد من استخدامها، من السياق الذي جاءت به، ولا يمكن تجريدها منه، لأنه في حالة من هذا النوع، تفقد المفردة المعنى الذي أُريد لها أن تكون به، خاصة في اللغة العربية التي تكثر فيها المعاني ومترادفات المفردة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لنأخذ مفردة (خطل) والتي يمكن لها أن تأخذ المعاني التالية: خَطِلَ في كَلاَمِهِ: أَتَى بِكَلاَمٍ فَاسِدٍ لاَ مَعْنَى لَهُ، أفْحَشَ، خَطِلَ فِي الرَّأْيِ: أَخْطَأَ، خَطِلَ الرَّجُلُ: عَجِلَ، حَمُقَ، خَطِلَ فِي مَشْيِهِ: تَبَخْتَرَ وَتَلَوَّى، خَطِلَ الْوَلَدُ: اِضْطَرَبَ، اِسْتَرْخَى، خَطِلَ خَطِلَ خَطَلًا: استرخى واضطرب، خَطِلَ: أَسْرَعَ وحاد عن الصَّواب، أما مترادفاتها فهي “إفْك، باطِل، تَخَرُّص، حَشْو، حَماقَة، حُمْق، خَلَل، خَلْط، رَعَالَة، رَكَاكَة (في الكلام)، رُعونة، رُعُونَة، سَخافَة، ضُعْف، غَبَاوَة، لَغْب، لَغْو، نَوْك، هَذَر، هَذَيان، هَذَيَان، هَوَج، هُذَاء، هُرَاء..”، فأيٌّ من هذه المعاني والمترادفات يمكن لها أن تأخذ في قول الشاعر “الطغرائي”:

أصالة الرأي صانَتْنِي عن الخَطَلِ

وحليةُ الفضلِ زانتني لدى العَطَلِ

تأخذ هذه المفردة معناها كأضداد لمفردة أصالة والتي تعني “أَصالَةٌ في الرَّأْيِ: جَوْدَتُهُ، إِحْكامُهُ وهذا المعنى يأتي مترادفًا مع “أصالة، أمانَةٌ, أَمَانَةٌ، بلاغَةٌ، بَلاَغَةٌ، تَعَقُّلٌ، حصافَةٌ، حقيقَةٌ، حِكْمَةٌ، حِلْمٌ، رَزَانَةٌ، رَوِيَّةٌ، سكوتٌ، صَمْتٌ، صِدْقٌ، فَصَاحَةٌ، قُوَّةٌ، قُوَّةٌ (في الكلام)، نَزاهَةٌ، نَزَاهَةٌ، وفاءٌ، وَقارٌ، وَقَارٌ، وُجُومٌ”..

في دراسته التي تمتد على نحو (95) خمس وتسعين صفحة يشرح فيها “رعد” موقف سعادة من الانعزالية، بمعناها الكياني حتى لا ينحصر معناها بالكيان اللبناني تحديدًا، فالشامي المتمسك بهويته الشامية هو انعزالي أيضًا كما العراقي والأردني والفلسطيني والقبرصي.

في نقده لما جاء في تلك الدراسة الشرح، يُصرّ حيدر على “الكتابات المتصلة بالمجرى الأساسي لقراءتنا”، نعني، “فلسفة سعادة المادية- الروحية”.. مسجلًا اثنتي عشرة ملاحظة على ما جاء به رعد، شارحًا موقف سعادة من الانعزالية..

“الدراسة- الشرح”، ونعيد هنا ونكرر، أنها ليست بحثًا فلسفيًّا، وهذا جانب مهم في أية دراسة نقدية، مهما كان موضوعها، ذلك أن إسقاط مقولات فلسفية على موضوع معين، ليس بحثًا فلسفيًّا، إنما هو دلالة على أن تلك المقولات تسبر أغوار الموضوع سلبًا كان أم إيجابًا، وتكشف علّته كمعلول، كمظهر لجوهر، كشكل لمادة، فمصطلح “انعزال” يعني جزءًا من كل، فإذا كان الجزء يدّعي قيامه بذاته، فما هو ذاك الكل الذي يُسقط أو يدحض ذلك الادعاء، مع الأخذ بعين الاعتبار “أن النواميس لا تمحو خصائص الأنواع” كما يقول سعادة، وأن العام لا يلغي الخاص، كما المجتمع لا يلغي الفرد، فإذا كان للجزء مواصفاته وخصائصه وصفاته، التي تميّزه عن بقية الأجزاء، كما تميّز خصائص ومواصفات وصفات تلك الأجزاء عنه، فما هو ذاك الكل الذي يجمع هذه الأجزاء بعضها إلى بعض؟ ليضفي عليها كلًّا متجانسًا، متكافلًا، متضامنًا؟ يجيب رعد، مشيرًا لواقع التجزئة الذي مورس على السوريين كافة بموجب اتفاقية (سايكس- بيكو) قائلًا: “.. إن عارضة الناقورة أقامت حدًّا سياسيًّا بين منطقة الاحتلال اليهودي ومنطقة الاحتلال البريطاني، (لكنها) لم تَحُلْ دون انطلاق حيوية اللبنانيين نحو مقاومة مشروع “الوطن القومي اليهودي”! وأن عارضة وادي الحرير لم تمنع مئات السيارات من الذهاب والإياب يوميًّا بين مراكز الفاعلية الحيوية اللبنانية ومراكز الفاعلية الحيوية الشامية، حاملة اللبنانيين والشاميين إلى جميع الأنحاء توزعًا من المركزين المذكورين، وأن عارضة عند النهر الكبير (الشمالي) لم تمنع تفاعل الحياة الاجتماعية بين لبنان وغرب الشام”، موضحًا أن سعادة قد أشار إلى هذه المسألة في مقالته “الانعزالية أفلست” عندما قال: “إن الترابط بين القرى والمدن والأوردة الزراعية في سورية الطبيعية كلها لا تسمح بالتفكير بتجزئة الأمة السورية إلى أمم والشعب السوري إلى شعوب”، لكن السؤال يبقى قائمًا: ما علة هذا “الترابط”؟ أو ذاك الكل الجامع والموحد والصاهر لكل تباين، يجيب رعد: “إنها دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية” والتي إذا ما أُسْقِطَتْ على مفهوم مصطلح الانعزال، بانت على النحو التالي: يقول رعد: “إن مفهوم الدورة الاجتماعية- الاقتصادية عدا أنه يقدّم الأساس الموضوعي المادي للوجود الاجتماعي، بحيث تحاكم الأفكار والاتجاهات على قاعدته وتُحَكُّ على محكه، فيسقط منها ما يفتقر إلى عوامله الموضوعية، فإنه يشتمل على نقطتين بالغتي الأهمية في نقض مرتكزات الاتجاه الانعزالي، النقطة الأولى أن هذا المفهوم حركي، الحركة الاجتماعية، تختلف أصلًا عن المفهوم الاستاتيكي الذي (تستند) تنظر إليه الأفكار المزيفة قوميًّا إلى الحدود الجغرافية.. أما النقطة الثانية في مفهوم سعادة للدورة الاجتماعية- الاقتصادية، الناقضة للمفهوم الانعزالي، في مفهوم هذه العملية الحركية، هذه الدورة الحياتية هي التي تصهر الجماعات البشرية في عملية التفاعل فتزيل فروقاتها السلالية وأصولها القبلية لتدمجها في وحدة الحياة الاجتماعية ومصهرها المذيب فروقات الأصول والمبقي على أصل وحيد هو وحدة الحياة القومية في البيئة الطبيعية الواحدة”.

كيف يعلّق حيدر منتقدًا رعد؟

“أولًا: النتيجة الأولى: هي قول الباحث “إن (المتحد الأتم) عند سعادة أساسه الاتحاد في الحياة”.. (هذا القول) ليس لسعادة، سعادة المعروف بأمانته العلمية ينسبه إلى عالم الاجتماع الأميركي ماكيفر صاحب كتاب “المتحد”.. يقول سعادة: “أريد أن أجاري هنا مكيور (ماكيفر) في إيضاحه المتّحد أنّه كلّ مساحة تشتمل على حياة مشتركة وتكون متميّزة عن المساحات الأخرى تميّزًا لا تصحّ بدونه تسمية المتّحد.. ويكون معنى هذا المتّحد منتهى التّوسّع في استعمال هذه اللّفظة الّتي تفيد التّجانس والتّلاحم والّتي أريد بعد الآن أنّ أقتصر فيها على الواقع الاجتماعيّ، على الجماعة المشتركة في حياة واحدة تكسبها صفات مشتركة بارزة وتسبغ عليها ما يمكننا أن نسمّيه شخصيّة ووحدة خاصّة”، حيث الحياة الواحدة التي تكسب هذا المتحد الأتم صفات وخصائص تميزه عن سواه من المتحدات، يقول سعادة: “القرية متّحد والمدينة متّحد والمنطقة متّحد والقطر متّحد، ولكلّ متّحد خصائص تميّزه عمّا سواه ممّا هو أصغر منه أو أوسع منه، أقلّ منه أو أكثر منه..”. وهكذا، فالمتحد عند سعادة هو “الجماعة المشتركة في حياة واحدة”، فعندما يقول رعد شارحًا لسعادة من أن المتحد أساسه الاشتراك في الحياة لا يخطئ بقدر ما يعتمد توصيف المتحد عند سعادة..

ثانيًا: قول الكاتب إن الأمة هي “المتحد الأتم” عند سعادة قولٌ غير صحيح، هذا التحديد هو أيضًا للعالم الأميركي “ماكيفر”.

أكان هذا التحديد لماكيفر أم لسعادة، فإن اعتماد الأخير عليه يجعله جزءًا من مفهوم سعادة للمتحد، لكن سعادة لا يبقي تعريف ماكيفر للمتحد على حاله، بل يتوسع به ليأخذ معنى آخر غير المعنى الذي أراده له ماكيفر، حيث يقصره سعادة على الواقع الاجتماعي، الذي يتجاوز ماكيفر في تحديده للمتحد في قوله: “- فإنّ شرط المتّحد ليس أن يكون مجموعًا عدديًّا من ناس مشتركين في صفات النّوع الإنسانيّ العامّة فحسب، بل مجموعًا متّحدًا في الحياة..”، مشدّدًا على أن الاتحاد في الحياة يكسب الجماعة ميزات وصفات وخصائص، هي أعمق من “صفات النوع الإنساني” مؤكدًا على أن البيئة الطبيعية هي المعنى المقصود، مستندًا على قول بواس: “ولكنّنا نقصد ما عناه بواس في الإجابة العضويّة على محرّضات البيئة الّتي تحدّد المتّحد.. ومن إيضاح بواس نعلم أنّ التّشابه العقليّ والفيزيائيّ نتيجة، لا سبب. فهو ناتج عن الاشتراك في الحياة الواحدة”. بمعنى أن الاشتراك في حياة واحدة تمتد لأجيال وأجيال تفضي بطبيعة الحال إلى “التّشابه العقليّ والفيزيائيّ” بتأثير البيئة من جهة وبردّ فعل المجتمع ككل بمختلف أجياله على ذات التأثير الذي تمارسه البيئة الطبيعية على موضوعات اشتراكهم في حياة واحدة، وعليه فإن قول رعد صحيح كل الصحة في أن المتحد أساسه الاشتراك في حياة واحدة، حيث يفضي هذا الاشتراك في الحياة بطبيعة الحال إلى الشعور بالشخصية المتمايزة عن سواها، حيث تكون الأمة أمر واقع اجتماعي والذي اقتصر عليه تعريف المتحد عن سعادة..

ثالثًا: القول بأن الاتحاد بالحياة هو حصيلة التفاعل بين الجماعة وبيئتها الطبيعية يناقضه ما ذكره سعادة في كتابه “نشوء الأمم”، حيث يقول: “فالمتحد الأتم هو دائمًا أمر واقع اجتماعي” و”الأمة واقع اجتماعي بحت”..

كيف يفهم الأمين حيدر هذا التوصيف لسعادة من أن الأمة هي أمر واقع اجتماعي بحت ليأتي قول الأمين رعد مناقضًا لسعادة!!؟

يفهم الأمين حيدر الواقع الاجتماعي على أنه أمر أفراد يشتركون بعضهم مع بعض بميزات تميزهم عن غيرهم، بغض النظر عن كيفية اكتسابهم لهذه الصفات التي تميزهم عن سواهم وبماذا يشتركون وكيف يشتركون ولماذا هم مشتركون وما هي ميادين اشتراكهم ومادة هذا الاشتراك؟ لتكون لهم هذه الميزات كنتيجة لا كسبب؟ مستشهدًا بقول سعادة: “إن الصفات تتبع المتحد لا المتحد يتبع الصفات” ويتخذ من مثال سعادة حول مغتربينا في أميركا الشمالية والجنوبية قاعدة لتأكيد أن الواقع الاجتماعي البحت يتعلق فقط بالأفراد من حيث علاقاتهم بعضهم ببعض، مستثنيًا البيئة الطبيعية التي يقيمون اشتراكهم بعضهم مع بعض ردًّا  لمحرضاتها، فالسوريون المنتقلون إلى الأميركيتين يكتسبون صفات وخصائص جديدة تجعلهم كأبناء تلك المجتمعات ويختلفون عما كانوا عليه في مجتمعهم السوري الذي غادروه، حيث يقول سعادة “السّوريّ الّذي يهاجر إلى أميركا لا يلبث، إذا أقام، أن تتبدّل صفاته الخاصّة ويكتسب صفات المتّحد الأميركانيّ الخاصّة. فكيف زالت صفاته الأولى الثّابتة الّتي كانت تميّزه عن الأميركان، ومن أين جاءته الصّفات الأميركانيّة الّتي أصبحت تميّزه عن السّوريّين؟ يتجاهل الأمين حيدر هذا النص لسعادة ويكتفي بقول سعادة: “أليس في هذا الواقع برهان مفحم على أنّ الصّفات ليست أساس المتّحد وأنّ أساس المتّحد والصّفات هو الاشتراك في الحياة الواحدة؟ بلى. فحيثما اجتمع جمهور كبير من السّوريّين في أميركا وقلّ اختلاطهم مع الأميركان وظلّوا محافظين على اشتراكهم في حياتهم، في متّحدهم، فهم يكتسبون كثيرًا من طابع البيئة ولكنّهم يظلّون متّحدًا متميّزًا عن الأميركان بنسبة إقلالهم من الاشتراك في الحياة الأميركانيّة وعكفهم على حياتهم السّوريّة. وكلّما قلّ تعاشرهم فيما بينهم وازداد اشتراكهم في الحياة الأميركانيّة ازداد تخلّقهم بأخلاق الأميركان واكتسابهم صفاتهم..”.

معلّقًا بقوله (الأمين حيدر): “واضح من النصوص المتقدمة أن سعادة كان دائمًا مؤكّدًا فكرة أن المتحد (الأمة) واقع اجتماعي بحت، لذلك نجده مشدّدًا (والقول للأمين حيدر) على أن تفاعل السوريين المغتربين بعضهم مع بعض (اشتراكهم أو اتحادهم في الحياة السورية) هو جوهر كونهم متحدًا سوريًّا في المغترب وليس التفاعل مع البيئة الطبيعية، متجاهلًا ما أورده هو من قول سعادة في أنهم “فهم يكتسبون كثيرًا من طابع البيئة” متابعًا: “والحق يقال (وهنا بيت القصيد) أنه لو كان الأمر أمر تفاعل السوريين مع البيئة الطبيعية الأميركانية هو الأصل في معنى المتحد لما ظلوا سوريين”، ما تجاهله الأمين حيدر في النص المشار إليه هو أن رعد يؤكد قول سعادة ولا ينفيه أو يتناقض معه، فقول سعادة واضح في سؤاله: “فكيف زالت صفاته الأولى الثّابتة الّتي كانت تميّزه عن الأميركان، ومن أين جاءته الصّفات الأميركانيّة الّتي أصبحت تميّزه عن السّوريّين؟ أليس في هذا الواقع برهان مفحم على أنّ الصّفات ليست أساس المتّحد وأنّ أساس المتّحد والصّفات هو الاشتراك في الحياة الواحدة؟” معنى الاشتراك في الحياة لا يقتصر على علاقات تقوم بين الأفراد وإلا لما كان سعادة قد تساءل عن “كيف زالت صفاته الأولى الثّابتة الّتي كانت تميّزه عن الأميركان، ومن أين جاءته الصّفات الأميركانيّة الّتي أصبحت تميّزه عن السّوريّين؟ فهم يكتسبون كثيرًا من طابع البيئة ولكنّهم يظلّون متّحدًا متميّزًا عن الأميركان بنسبة إقلالهم من الاشتراك في الحياة الأميركانيّة وعكفهم على حياتهم السّوريّة. وكلّما قلّ تعاشرهم فيما بينهم وازداد اشتراكهم في الحياة الأميركانيّة ازداد تخلّقهم بأخلاق الأميركان واكتسابهم صفاتهم..”، ولكن كيف هم يشتركون في الحياة الأميركانية؟ والتي بطبيعة الحال هو (الاشتراك) استجابة لمحرضات البيئة التي “يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة..”، هكذا يتجاهل الأمين حيدر موضوع الاشتراك في الحياة ومادته وكيفيته ووسائله، مقتصرًا على أنه مجرد علاقات تقوم بين الأفراد، فكأنه يقول إن اشتراك السوريين في حياة واحدة سورية السمة، يجعل منهم متحدًا سوريًّا في قلب المتحد الأميركي، والذي يحول دون اندماجهم في الحياة الأميركية، بمعنى آخر يجعل منهم “غيتو” على النسق اليهودي في مختلف المجتمعات التي عرفت اليهود، وهذا ما يتناقض كليًّا مع سعادة، والذي يؤكد ما يذهب إليه رعد من أن “التفاعل هو لبّ الحركة التاريخية التي ينشأ عنها “المتحد الأتم” وهو جوهر فلسفة سعادة الاجتماعية، وحصيلة التفاعل في مجرى التطور هي الدورة الاجتماعية- الاقتصادية التي تعطي الأمة مفهومًا حركيًّا، مفهوم الدورة الحياتية، فالاتحاد في الحياة قاعدته دورة العمران الاجتماعية- الاقتصادية..”.

المسألة الرابعة التي ينتقد فيها حيدر، (دراسة- شرح) رعد، قوله: “إن الأمة عند سعادة هي حصيلة تفاعل الجماعة البشرية مع بيئتها الطبيعية، هذا القول مردود.. لا تكون الأمة باعتبارها متحدًا، (أي باعتبارها جوهريًّا، اتحادًا في الحياة) حصيلة حركة العمل الاقتصادية، أي التفاعل مع البيئة، العكس هو الصحيح..”، بمعنى أن التفاعل مع البيئة هو نتيجة لكون الأمة متحدًا!! لكن كيف تكون الأمة متحدًا يُنتج تفاعلًا مع البيئة؟ يجيبنا الأمين حيدر فيقول: “يقترف (رعد) أغلوطة الاختزال عندما يلغي التفاعل بين السلائل البشرية الذي يؤدي إلى اختفاء (تلك) السلائل وظهور الآمة مجتمعًا جديدًا (مختلفًا كل الاختلاف عن عناصره السلالية) ويقصر معنى التفاعل على التفاعل مع البيئة الطبيعية الذي يؤدي إلى ظهور خصائص ومزايا الأمة وليس كيانها بالذات، وشتان بين الشيء وصفاته.. الأمة (بعد نشوئها مجتمعًا مزيجًا مشتركًا) تفعل في بيئتها الطبيعية أو تتفاعل معها. الأمة هي (بدولتها) صانعة ظاهرة التفاعل مع البيئة، لا التفاعل صانعًا الأمة.”.

يقلب الأمين حيدر المفاهيم القومية الاجتماعية رأسًا على عقب، في قوله المشار إليه أعلاه، ذلك أن سعادة يقول: رأينا، فيما تقدّم من فصول هذا الكتاب، الأسس والخطط العامّة لتطوّر البشريّة وارتقائها في ثقافاتها الماديّة الناتجة عن تفاعل الإنسان والطّبيعة بقصد تأمين سدّ الحاجة وبقاء الذّريّة..”، ويؤكد على أن المتحد ليس مجرد مزيج سلالي، عندما يقول “ولا نقصد بهذا التّشابه شيئًا سلاليًّا بحتًا، ولكنّنا نقصد ما عناه بواس في الإجابة العضويّة على محرّضات البيئة الّتي تحدّد المتّحد.. ومن إيضاح بواس نعلم أنّ التّشابه العقليّ والفيزيائيّ نتيجة، لا سبب. فهو ناتج عن الاشتراك في الحياة الواحدة..” فسعادة يقدّم الرد على محرضات البيئة على التشابه العقلي والفيزيائي (أي السلالي) والذي يعتبره نتيجة لا سببًا، مؤكدًا أن محرضات البيئة هي التي تحدد المتحد، وعليه يكون السبب الرئيس في كون المتحد متحدًا أتمَّ أمةً هو الرد على محرضات البيئة، من حيث هي (أي محرضات البيئة) موضوع العمل اليومي للقائمين في هذه البيئة، والذي يؤدي بالتالي إلى التجانس والتلاحم بينهم في هذه البيئة من الوجهة السلالية (نسبيًّا) ومن الوجهة النفسية بالمطلق، وإلا ما معنى قول سعادة: “إنّ تقسّم الأرض إلى بيئات هو السّبب المباشر لتوزّع النّوع البشريّ جماعات. فالبيئة كانت ولا تزال تحدّد الجماعة.. تحدّد البيئة الجماعة من عدّة وجوه، أوّلها: حدود الإقليم الجغرافيّة. ثانيها: طبيعة الإقليم من حيث نوع تربته ومعدّل درجة حرارته ورطوبته. ثالثها: شكل الإقليم (طبّغرافيته) من حيث سهوله وجباله وأنهاره. فالحدود الجغرافيّة تضمن وحدة الجماعة..” أكثر من ذلك تأكيده على أن التفاعل هو بين الإنسان وبيئته الطبيعية عندما يقول: “وإنّ من أهمّ مؤثّرات البيئة أو الأرض في تمييز الجماعات أنّها أهمّ عامل في تكوين [شخصيّة الجماعة]. ويضيف: “فالأرض تكيّف الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل ويكيّفها.. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة..”. هكذا ينهي سعادة الخلاف بين وجهتي النظر (حيدر- إنعام) بالتأكيد على ما أورده الأمين الراحل إنعام رعد من أن التفاعل مع البيئة الطبيعية هو السبب في ظهور الجماعات المجتمعات البشرية وتمايزها بعضها عن بعض، وليس تمايزها كمزيج سلالي ينتهي بنا للقول بنشوء جماعات سلالية وفق البيئات التي تقيم فيها تلك الجماعات (المتمازجة سلاليًّا)، كما ونضيف على ما جئنا به أعلاه أن الأمين رعد لا يقصر التفاعل على التفاعل مع البيئة الطبيعية، بل يشمل التفاعل وفق ما يذهب إليه رعد على التفاعل بين المجتمع والبيئة، بين الإنسان وبيئته وبين الإنسان والإنسان في البيئة الواحدة، فالإنسان هنا هو الجماعة- المتحد- الأمة- الواقع الاجتماعي البحت، التفاعل ليس بين فردٍ وأرضه، إنه تفاعل الجماعة بمجموع أفرادها وبمجموع أجيالها، وإلا فأي معنى يمكن أن يكون عليه تعريف سعادة للأمة السورية بأنها “وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي..”.

ونضيف إن القول “الأمة هي (بدولتها) صانعة ظاهرة التفاعل مع البيئة، لا التفاعل صانعًا الأمة”، ليس قولًا مغلوطًا وحسب، بل هو متناقض بالمطلق مع قول سعادة الذي يقول: “ورأينا أيضًا كيف أنّ الثّقافة النّفسيّة جارت الثّقافة الماديّة وقامت عليها، إذ الحياة العقليّة لا يمكن أن تأخذ مجراها إلاّ حيث تستتبّ لها الأسباب والمقومات. ولذلك نجد التّطوّر الثقافيّ بجميع مظاهره يرتقي ويسبق غيره، حيث أسباب الحياة أوفر وأرقى ممّا في سواه..”، مضيفًا: “تقصّينا فيما دوّناه آنفًا الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع. ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلًا للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان..”، مما يعني أن الدولة، كشأن ثقافي تأتي نتيجة لا سببًا في التفاعل بين الإنسان وبيئته الطبيعية..

يتابع حيدر، خروجه العقدي بنقده للأمين رعد في قوله: “قول الكاتب، إن التفاعل هو لبُّ الحركة التاريخية.. نراه حكمًا قاطعًا غير مدعوم ببرهان..”.

هذا القول لا يحتاج إلى برهان فعندما يقول سعادة في مبدئه الرابع: “وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي..”، يعني هذه الحركة التاريخية في التفاعل بين الإنسان والإنسان وهذا مع بيئته في تعاقب أجياله، مما يؤدي بطبيعة الحال إلى نشوء تلاحم وتجانس عبر التاريخ بين أفراد جيل والجيل التالي كما الجيل السابق تجانس (عقلي وفيزيائي) وتجانس في الرد على (محرضات البيئة)..

المسألة السادسة التي يثيرها الأمين حيدر في نقده للأمين رعد قوله: “قول الكاتب، التفاعل يُنتج الأمة، هو قول تدحضه الاعتبارات التي ذكرناها..”، نرد هذا القول أيضًا إلى “الاعتبارات التي ذكرناها آنفًا”.

يقول الأمين حيدر في “سابعًا”: “قوله (رعد) إن التفاعل جوهر فلسفة سعادة.. والحق يُقال إن تعبير (الفلسفة الاجتماعية) عند سعادة يقتضي القول بالتفاعل الاجتماعي (بين الإنسان والإنسان) وليس بالتفاعل الاجتماعي  الطبيعي، ثم أيعقل أن تكون فلسفة سعادة الاجتماعية جوهرها الاقتصاد..” مسألتان يثيرهما هذا النقد، الأولى هي أن سعادة قال بالفلسفة القومية الاجتماعية وليس بفلسفة اجتماعية، وتقديم مصطلح القومية على مصطلح الاجتماعية أن الأولى تفترض الثانية وتقوم عليها من حيث الخصائص والصفات تبعًا للظروف والأوضاع والأحوال التي يمر بها المجتمع، ثانيًا لم يقل سعادة وتاليًا رعد إن فلسفة الأول جوهرها الاقتصاد، إلا إذا كان فهم الأمين حيدر للعلاقة مع الطبيعة- البيئة، على أنها علاقة اقتصادية، وهذا ما ينفيه كلاهما، فسعادة يقول: “يجب أن لا نتصوّر الرّابطة الاقتصاديّة عبارة عن عمليّة اقتصاديّة أو غرض من أغراض الرّبح الاقتصاديّ، بل مصلحة تأمين حياة الجماعة وارتقائها.. (وعليه) إذا كانت الرّابطة الاقتصاديّة أساس الرّابطة الاجتماعيّة البشريّة، فالعمل ونظامه التعاونيّ مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع… وهكذا الجماعات شخصيّاتها مرتبطة بالأرض الّتي تملكها ارتباطًا وثيقًا، بل قوام شخصيّاتها البيئة- الوطن.. ويضيف قائلًا: “لا بدّ لنا.. من تقرير حقيقة ضروريّة لفهم تركيب المجتمع..، هي حقيقة الضّرورة الاقتصاديّة للاجتماع البشريّ. فالرّابطة الاقتصاديّة هي الرّابطة الاجتماعيّة الأولى في حياة الإنسان أو الأساس الماديّ الّذي يقيم الإنسان عليه عمرانه.. والتّطوّر الاجتماعيّ هو دائمًا على نسبة التّطوّر الاقتصاديّ..”، يضيف سعادة على قوله المتقدم: “إنّ التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة، الّتي تتأثّر كثيرًا بعامل البيئة..”، أما رعد فيقول: “لا يمكن حصر الصراع الاجتماعي في ظاهرة الصراع الطبقي، إن الثورة القومية الاجتماعية عند سعادة.. أشمل من الثورة الاقتصادية، المشكلة ليست مجرد مشكلة إنسان وطبقات، في أمتنا جيوب طائفية عنصرية.. في أمتنا مفهوم الأكثرية الطائفية.. هذه المشكلة لا يمكن أن تحل بتبديل علاقات الإنسان بوسائل الإنتاج.. وتبقي مفاهيم المجتمع كما هي..”.

في ثامنًا، يقول الأمين حيدر: “القول بأن التفاعل ينتج الدورة الاجتماعية- الاقتصادية، عند سعادة، صحيح، ما دام الكاتب يفهم من تعبير “التفاعل” تفاعلًا للجماعة مع بيئتها..”، ليس هذا وحسب، بل إن التفاعل مع البيئة لا يتم بين أفراد وبيئتهم كل منهم على حدة، بل بين بعضهم البعض أيضًا..

أما في تاسعًا، فالمسألة تبدو مستغربة، بل ومتناقضة تناقضًا مطلقًا مع مفهوم سعادة للأمة، حيث يقول الأمين حيدر: “القول بأن دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية هي جوهر الوجود القومي أي (الأمة)، فهو مرفوض من سعادة، إذ الأمة وجود مادي- روحي، فمن حيث مادتها، الأمة هي المزيج البشري المشترك، ومن حيث روحها، الأمة في الشعور المشترك لدى أبنائها بحقيقتهم الواحدة..”.

سعادة وفي مختلف كتاباته وخطبه لم يقل في يوم إن “الأمة من حيث مادتها هي المزيج البشري المشترك”. سعادة وفي معرض حديثه عن السلائل البشرية، يقول إن الارتحالات الكبرى التي كانت تدفع بالجماعات لترك موطنها الذي نشأت به، سعيًا وراء الرزق، دفع بها للتمازج والسلالات المضيفة، وتاليًا عدم وجود سلالة صافية نقية، وهذا ما تؤكده الأدلة الرأسية التي يمكن أن تكون عامة في البشرية نتيجة هذا التمازج، وعلى الرغم من أن الأدلة الرأسية تكون عامة في السلائل المنحطة كذلك في الجماعات المتفوقة، فإن نسبة هذه إلى تلك هي التي تحدد مدى استجابة الجماعة المتكونة من هذا المزيج لمحرضات البيئة..

يتضح مما تقدم كيف يفهم الأمين حيدر المقولة الأبرز في فلسفة سعادة المدرحية أي (دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية) ويقف معترضًا عليها، في مختلف انتقاداته لما سمّاه (مدرحيات التلامذة)، فالمدرحية بالنسبة له هي في كون مادة الأمة مزيجها البشري ومن حيث روحها، الأمة في الشعور المشترك لدى أبنائها بحقيقتهم الواحدة، بناء على موقفه من كتاب نشوء الأمم واستثنائه له من كونه ممثلًا للفلسفة القومية الاجتماعية- المدرحية..

نعيد ونكرر، إن الفلسفة المدرحية تقوم على مقولتين رئيستين: الأولى هي “أن المادة تعيّن الشكل”، أي البيئة الطبيعية هي التي تقرر ماهية المجتمع المتفاعل بها ومعها، الثانية هي “دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية” التي تقرر المرتبة الثقافية التي يكون عليها المجتمع، فمادة الأمة هي بيئتها أما روحها (شكلها) فهو دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية.

تحت عنوان /نسبة الأمة للبيئة/، يقدم لنا الأمين حيدر اجتهاده في أن الأمة هي غير البيئة يقول: “إذن البيئة عامل من عوامل نشوء الأمة، الأمة، واقع اجتماعي في حين البيئة واقع طبيعي، لكنما العلاقة بينهما علاقة حيوية، إذ تقدم البيئة للأمة إمكانيات الحياة..” يضيف: “نعتقد أن الاتحاد في الحياة (أو الاشتراك في الحياة) يكون بتفاعل القوى الإنسانية المؤلفة للجماعة البشرية المستقرة في القطر بعضها مع بعضها الآخر داخل القطر، ونعني بذلك تفاعل جميع العناصر والجماعات الإثنية وغيرها من الجماعات التي استقرت في القطر فيما بينها تفاعلًا تذوب لشدّته جميع الحدود السلالية، الحواجز الاجتماعية ويظهر إلى الوجود جسم اجتماعي جديد هو الأمة من حيث مادتها..”

المدرحية، عند سعادة، في قوميته الاجتماعية، هي، أن ترى الشمس، شمسًا واحدة، لا شمسين، لأنه في الحالة الثانية، أنت مصابٌ بالحول لا محالة، هي، (الزمكان) وليس الزمان والمكان، وفق ما يذهب إليه “أنشتاين” في نظريته النسبية، الزمان والمكان، مصطلحان، يَفهم من خلالهما العقل البشري، وفق فيزيولوجيته، ما يحيط به، لكن ما يحيط به هو شيء واحد، العلاقة الفيزيائية (من حيث أن الكون مجرد علاقات فيزيائية وفق أنشتاين)، بين الأرض والقمر، هي ذات العلاقة بينهما وبين الشمس أو المريخ أو زحل وإن اختلفت الكتلة والمسافات بينها.. 

المتاهة التي يضعنا فيها الأمين حيدر هي أنه يتركنا نفسر مصطلحاته التي يستخدمها بتفاسير قد لا تتوافق والمفاهيم التي يستخدمها هو بها، فهو لا يبين لنا الفرق بين التفاعل والترابط على سبيل المثال، أو بين الواقع الاجتماعي والواقع الطبيعي، حتى في موضوعة “جسم اجتماعي جديد” أهو مزيج سلالي أم أنه سلالة جديدة، أم هل هو مجرد تلاقح بين السلالات المستقرة في البيئة، أم هو نواميس جديدة من عادات تحولت إلى تقاليد أم هو كل ما تقدم..، ويحيلنا إلى سعادة الذي يستخدم كلا المصطلحين (ترابط وتفاعل) في مختلف الموضوعات التي يثيرها علم الاجتماع..، وللخروج من هذه المتاهة، علينا بداية، أن نحدد المقصود، المفهوم، من كلٍ من الترابط والتفاعل، لنمايز بين مصطلحات حيدر ورعد، فالترابط لغويًّا، يفيد بالتلاحم والتماسك والوحدة، اجتماعيًّا، يفيد تحديد طبيعة علاقة الفرد بالجماعة في كل مجتمع، والشعور بالترابط من أهم الدعائم التي تحافظ علي استقرار ونمو المجتمع، وهو يشير إلى مدى شعور أفراد المجتمع بالترابط مع مجتمعهم، والمشاركة الإيجابية في أنشطة المجتمع، والدفاع عن مصالح المجتمع، والشعور بالفخر والاعتزاز بالترابط المجتمعي..

أما التفاعل (الذي يستخدمه حيدر في بيان ما هو عليه الترابط) التفاعل الاجتماعي هذا، هو بشكل عام نوعًا من المؤثرات والاستجابات، وفي العلوم الاجتماعية يشير إلى سلسلة من المؤثرات والاستجابات التي ينتج عنها تغيير في الأطراف الداخلة فيه عما كانت عليه عند البداية، أو هو التأثير المتبادل بين طرفي أو الأطراف الداخلة في التفاعل، حيث ينتج عنهما شيء واحد أو أشياء أخرى..

يُفهم مما تقدم، أن الترابط إرادي، أما التفاعل لا إرادي، التفاعل موضوعي، بينما الترابط ذاتي..

التفاعل والترابط، مختلفان من حيث الموضوع، الترابط ذو اتجاه مجتمعي، أما التفاعل فذو اتجاه اجتماعي- بيئي، اجتماعي- طبيعي، اجتماعي- موضوعي.

بين الواقع الاجتماعي والواقع الطبيعي

الواقع، أكان اجتماعيًّا أم طبيعيًّا، فهو للدلالة على ما هو قائم أو الذي لا انفكاك منه، فالواقع، موضوعيًّا كان أم ذاتيًّا، هو مُعطى يصف الحالة الراهنة، كما هي لا كما يمكن أن تكون عليه، بما لا يعني أنه، علميًّا، لا يمكن أن يكون استشرافيًّا، أي أبعد من أن يكون راهنيًّا، بمعنى آخر، إنه يمكننا اعتبار نظرية “هوكينغ” في “إشعاع هوكينغ” أو “الانفجار الكبير”، واقعًا لا انفكاك منه، بمعنى آخر أن هذا الكون وليد كون سابق له ومقدمة لكون جديد يولد به الزمان والمكان من جديد.. وهو (الواقع) في مختلف الأحوال، يشكل مادة المعرفة..  

فأي من المفاهيم المتقدمة، يمكننا فهم سعادة عندما يقول: “إنّ البيئة تؤثّر، في الغالب، على أشخاص مختلفين تأثيرًا يؤدّي إلى اتجاه واحد بناء على أنّ لكلّ عضو [حدود سلامة] يتكيّف ضمنها تبعًا لمقتضيات البيئة، فيتّخذ الهيئة الّتي تتطلّبها عوامل البيئة دون أن يفقد خصائص وظيفته.. أما علاقة الطّبيعة بالإنسان فهي مزدوجة. ففي الدّرجة الأولى نجد أنّ بيئة الإنسان الطّبيعيّة هي الّتي تمدّه بالموادّ الخام اللاّزمة له لإرضاء شعوره بالحاجة. وهي في الدّرجة الثّانية مشهد أعماله وسعيه لبلوغ أربه مداورة (غير مباشرة).. إنّ امتياز الإنسان على الحيوان في سدّ حاجته مداورة بإعداد الأدوات للصّيد والقتال والبناء وغير ذلك جعل علاقته بالأرض أمتن من علاقة سائر الكائنات الحيّة بها، إذ هو يقدر على معالجتها مباشرة فحيث لا نبات صالح لغذائه يحفر في الأرض وينقب ويزرع. وحيث بعض الحبوب والنّباتات واللّحوم لا تصلح لتناولها مباشرة، يعمد الإنسان إلى معالجتها بالطّبخ والشّيّ. فالأرض تكيّف الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل ويكيّفها. وإلى هذه العلاقة المتينة يعود تفوّق الإنسان على بقيّة الحيوانات في تنازع البقاء. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة..”، ويضيف “وهذه الخصائص هي الّتي تعيّن وجهة تقدّم الإنسان في سدّ حاجاته مداورة أي مدنيّته. بل إنّ البيئة هامّة لتقدّم الإنسان بقدر ما هي الأرض عمومًا هامّة لحياته. ولمّا كانت البيئة جزءًا من الأرض فهي هامّة لحياة الإنسان أيضًا. فمن جميع الموادّ الّتي يتطلّبها الإنسان لحياته في كلّ مكان بشكل يسدّ حاجة الحياة مباشرة أو مداورة”.

يستخدم سعادة في شرحه لعلاقة الإنسان بالطبيعة أو البيئة مصطلحات مثل “تأثير” “مزدوجة” “علاقة” “مباشرة” “مداورة” “يرد الفعل”.

العلاقة هي إذًا موضوعية وليست ذاتية، هي كذلك، لأنه “لا يختار الإنسان- المجتمع الّذي يعيش فيه أكثر ممّا يختار والديه، ولكنّه قد يخير أمّه على أبيه أو العكس”.. تفاعلية وليست ترابطية كما يرى الأمين حيدر، والواقع الذي يفهمه سعادة إذًا هو واقع “اجتماعي- طبيعي” وليس واقعًا اجتماعيًّا وحيد الجانب، يقول سعادة: “شرط المجتمع، ليكون مجتمعًا طبيعيًّا أن يكون خاضعًا للاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعية- اقتصادية واحدة تشمل المجموع..”، هنا نجد تعريف سعادة للاتحاد في الحياة” أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعية- اقتصادية واحدة..” وليس كما يذهب الأمين حيدر بقوله: “نعتقد أن الاتحاد في الحياة (أو الاشتراك في الحياة) يكون بتفاعل القوى الإنسانية المؤلفة للجماعة البشرية المستقرة في القطر بعضها مع بعضها الآخر داخل القطر”.

“الأمة ليست البيئة” كما يقول الأمين حيدر، الأمة كيان بشري، قوامه المادي، بيئته الطبيعية، وشكله المتحد، الجماعة، المجتمع، عملًا بمقولة سعادة الرئيس “المادة تحدد الشكل” أما المزيج السلالي فهو في حركة مستمرة من التطور لا يعرف ثباتًا أو سكونًا، فبدءًا من منتصف الألف الرابع قبل الميلاد وبدء الهجرات العربية من الجنوب إلى سورية الطبيعية وتمازجها مع سكان سورية الأصليين، مرورًا بالهجرات الآتية من الشمال “الملوك الرعاة (الهكسوس) أو الحثيين إلى القبائل المهاجرة من الغرب- بحر إيجة وقبائل الفلاستي، وقيام الإمبراطوريات السورية والتي وصل بعضها حتى موسكو في الشمال، إلى الغزو الفارسي على يد قورش إلى الاحتلال اليوناني على يد الاسكندر الكبير وقيام الدولة السلوقية إلى الاحتلال الروماني وتبوّئ أباطرة سوريون للعرش الإمبراطوري الروماني إلى الفتح العربي وقيام الإمبراطورية الأموية ومن ثم العباسية إلى الغزوات الصليبية فالاحتلال العثماني فالفرنسي- البريطاني، كل هذا التاريخ الحافل بالتمازج بين مختلف الشعوب، شكّل وبنسب متفاوتة المزيج الحالي السوري الذي ما يزال يمضي قدمًا بتطوره بقدوم الهجرات الأرمنية والتركمانية والشركسية..  ينتج “مادة” الأمة، والتي هي “وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي”. ولنفرض جدلًا، أن سعادة عنى “بوحدة الشعب السوري” مزيجه “السلالي” فهل يقصد بذلك نشوء مزيج خاص بالأمة السورية دون سواها، بمعنى: هل السلالات التي ضربت في الأرض، عبر ارتحالاتها الكبرى، اقتصرت على سورية دون سواها، أم أنها تشاركت (سورية) مع غيرها من البيئات، استقبال واحتواء هذه السلالات، فتشكل بنتيجة الحال، مزيجًا سلاليًّا، له خصائصه البيولوجية والفيزيولوجية والسيكولوجية الناتجة عن نوعية تفاعله بعضه مع بعض من جهة، وبيئته الطبيعية من جهة أخرى؟ فتمايزت الأمم وفق نتائج هذا التفاعل المزدوج بين الإنسان وبيئته وفق شروط الأخيرة وسوية تلك السلالات بين منحطّ وراقٍ؟ هذا التمايز بين الأمم لا يجد تعبيرًا له إلا في دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية التي تقوم عليها، كما يقول سعادة: “كلّ ميزة من ميزات الأمّة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتّحاد في الحياة (أي دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية) الّذي منه تنشأ التّقاليد والعادات واللّغة والأدب والدّين والتّاريخ..”.

يدفعنا الأمين حيدر، دفعًا، لنقاطٍ خلافية، هي في مختلف الإشكاليات التي يثيرها، ليست خلافية أصلًا، فهو يُصر، ويجتهد ويُجهد نفسه، في البحث عما يؤكد وجهة نظره التي تنتهي للقول: “تحصيل ذلك، أن الأمة واقع اجتماعي لمزيج بشري اشتركت في حصوله الجماعات الإثنية والعناصر التي استقرت في البيئة الطبيعة، إن تفاعل هذه الجماعات فيما بينها ضمن القطر هو قانون نشوء الأمة، وليس تفاعل هذه الجماعات مع البيئة الطبيعية الذي هو قانون ظهور خصائص، ومزايا الأمة، وشخصيتها، وثقافاتها، التاريخية المادية والنفسية “

بين “قانون نشوء الأمة” و”قانون ظهور خصائصها” بين “الواقع الاجتماعي” و”الواقع الطبيعي” بين “الشيء ودرس نشوئه” و”الشيء وشرطه” وبين “الشيء وصفاته”، بين “العلم ومقولاته والفلسفة ومقولاتها” بين “مفهوم التفاعل قبل نشوء الأمة ومفهومه بعد نشوء الأمة” بين “زمان الأمة وزمان السلائل” بين “ما هو طبيعي وما هو صنعي” وفي كل ما تقدم لا يبين لنا كيف علينا أن نفهم هذه الـ(شتان بين هذا وذاك)..

سبق لنا أن أشرنا، مرارًا وتكرارًا، على أن المدرحية كفلسفة اجتماعية، لا تسمح عمليًّا بما يمليه الـ(نظريًّا) على الواقع، الوجود، المعرفة، المادي، الروحي.. بين الشيء وشرطه وصفاته ودرسه و.. الخ.

في المدرحية هناك حقيقة، هي ليست وجودًا، كما وليست معرفة، هي ركناها، هي باطنها وظاهره، هي جوهرها ومظهره، هي مضمونها وشكله، هي مادتها وشكلها، فعندما يثير الأمين حيدر إشكالات كالواردة أعلاه، فهو يُخرجنا على مفهوم المدرحية بكليّته، نظريًّا، لا ينفي أحد أن الأمة مزيج سلالي وأن البيئة الطبيعية بوتقة انصهار هذا المزيج، مدرحيًّا، هما “دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية” وهذا ما عبّر عنه سعادة بوضوح لا غموض في أي من جزئياته عندما عرَّفَ “وحدة الحياة” أو “الاشتراك بالحياة” بالدورة الاجتماعية- الاقتصادية يقول: “شرط المجتمع، ليكون مجتمعًا طبيعيًّا أن يكون خاضعًا للاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعية- اقتصادية واحدة تشمل المجموع..”.

فعندما يقول: “إن المزيج السلالي هو مادة الأمة” كون الأمة “واقع اجتماعي” بناءً على “إن تفاعل هذه الجماعات فيما بينها ضمن القطر هو قانون نشوء الأمة” لا يفيدنا كيف يتم هذا التفاعل بمعزل عن البيئة “كواقع طبيعي” لأنه من حيث المبدأ، كـ”تفاعل” لا بدَّ له من موضوع يكون المحور الذي تدور في فلكه مستويات ذاك التفاعل فيما بين تلك الجماعات والذي يُصرّ على أنه “يتم ضمن القطر”، إذًا فالتفاعل ليس عشوائيًّا أو مطلقًا أو كيفما اتفق، إنه تفاعل مشروط بالبيئة لأنه “يتم ضمن القطر”، هذا التفاعل بين الجماعات والذي موضوعه ومحوره البيئة الطبيعية والذي تتمايز بنتائجه جماعة عن الأخرى، هو ما يسمه سعادة بـ”دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية” الّذي منه تنشأ التّقاليد والعادات واللّغة والأدب والدّين والتّاريخ..” والتي على أساسها تتمايز أمة عن أخرى، وفق سعادة، أيضًا، فدورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية هي البوتقة التي ينصهر فيها قطبا الأمة، البيئة والجماعة دونما فضل من واحد على الآخر، فالبيئة الجيدة تحتاج لمزيج سلالي راقٍ، وفي الحال المعاكسة تكون كما يقول سعادة: “فحيث كانت الأرض خصبة والجماعة البشريّة عديمة الخبرة في الأرض لم ينشأ عمران، كما هو الواقع في أودية أميركا الخصبة الّتي ظلّت عديمة العمران إلى أن جاءت أميركا أقوام جديدة راقية في خبرتها بطبيعة الأرض واستعدادها للاستفادة منها..” والعكس صحيح أيضًا.

تحت عنوان “الأمة غير الاقتصاد”، يثير الأمين حيدر إشكالية أيهما الأسبق “الشأن القومي والشأن الاقتصادي” في قول الأمين رعد “وهكذا فالقومية الاجتماعية اعتبرت منذ البدء أن الشأن القومي هو بالضرورة منطلق فهم الشأن الاقتصادي، لأن الأمة هي ذات دورة اجتماعية- اقتصادية واحدة، ولأن الرابطة الاقتصادية هي الرابطة الاجتماعية الأولى”، ليعلّق الأمين حيدر قائلًا: “كأني بالكاتب يريد أن يقول هناك شأن قومي وهناك شأن اقتصادي والشأن الثاني يفتقر إلى الشأن الأول على مستوى فهمنا له، أو نقول إن هناك شأنين وليس شأنًا واحدًا، هما الشأن القومي والشأن الاقتصادي، وعلاقة الثاني بالأول علاقة التابع بالمتبوع، مثل هذه الفكرة ينتج عنها فكرة أن الشأن القومي غير مطابق للشأن الاقتصادي أو أن الأمة غير الاقتصاد.. وفي قوله اللاحق بأن الأمة ذات دورة اجتماعية- اقتصادية وليست الأمة دورة اجتماعية- اقتصادية”.

في القول إن الشأن القومي منطلقٌ للشأن الاقتصادي، لا احتمال لمجمل التأويلات التي جاء بها حيدر، فالمقصود من قول الأمين رعد واضح لا لبس فيه، فالشأن القومي هو منطلق للشأن الاقتصادي، يعني أنه لا يمكن قيام اقتصاد قومي إلا في نطاق قوميته الشاملة لمختلف كيانات الأمة من حيث أن الأمة هي ذات دورة اجتماعية- اقتصادية واحدة، يقول سعادة: “الدولة هنا هي الدولة القومية فقط. الدولة التي يصح القول فيها إنها قومية تشمل المجتمع القومي كله، ذا الدورة الاقتصادية الكاملة التامة.. نحن نعتقد أن درسًا اقتصاديًا صحيحًا من الوجهة القومية على أساس نظام سياسي لا قومي صحيح، هو درس عقيم لا يمكن أن يعطي نتائج صحيحة.. إذًا العملية الاقتصادية، الاقتصاد كموضوع لأمة ولشعب لا يمكن أن ينظر إليه إلا بالمنظار القومي بمنظار المجتمع الموحد، الأمة التي هي وحدة جماعة ووحدة أرض، وحدة اقتصاد..”، ما تبقى من هذه المقالة يبقى مجرد اجتهاد لا أساس قوميًّا اجتماعيًّا له..

تحت عنوان آخر “علاقات الإنتاج طبقية”

يعلّق أيضًا الأمين حيدر على قول الأمين إنعام رعد القائل: “وإذا كانت كل المذاهب الاقتصادية المعاصرة، قد انصبّت على موضوعة علاقات الإنتاج، فإن القومية الاجتماعية التي شاركت المذاهب المعاصرة اهتمامها بهذه الموضوعة وحددت موقفها منها إلا أنها اهتمت بنشوء الإنتاج الذي بدونه لا تقوم علاقات إنتاج..” بقوله (الأمين حيدر): “إن فكرة علاقات الإنتاج تفيد علاقات الاستغلال الطبقية..”.

في العودة لكتاب “بؤس الفلسفة” لـ”كارل ماركس”، وهو الكتاب الذي تضمن مصطلح “علاقات الإنتاج” على الرغم من أن ماركس قد سبق وعرف المصطلح في كتابه “الأيديولوجيا الألمانية” للمرة الأولى، فإن المصطلح أخذ معنى “محصلة مجمل العلاقات الاجتماعية التي يجب على الناس أن تدخلها من أجل البقاء، إنتاج وإعادة إنتاج وسائل العيش..” وليس كما جاء به الأمين حيدر من أنها تفيد “علاقات الاستغلال الطبقية”، بمعنى آخر، إن اضطرار الإنسان لسد حاجته مداورة فهو يدخل تلقائيًّا في علاقة مع الآخرين، فعلاقة الإنتاج هذه قد تتخذ أشكالًا عدة وفق شروط ضرورياتها، وإن كان ماركس قد اتخذ من هذا المصطلح -بناءً على شروط ضرورياتها- عدة مفهومات وفق المرحلة التاريخية التي يعالجها في مختلف كتاباته، وبناءً على المقولة الماركسية الأساس “التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية” والتي هي بالتعريف الماركسي: “المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره” على سبيل المثال، علاقات الإنتاج الرأسمالية من حيث سعر السلعة وعلاقتها بأجر العامل المُنتج لتلك السلعة  علاقة القنّ بسيده؛ علاقة مالك العبد بعبده الخ. تقابلها وتؤثر عليها ما أطلق عليها ماركس اسم قوى الإنتاج. هذا ماركسيًّا، قوميًّا اجتماعيًّا، فإن علاقات الإنتاج الناشئة عن شروط ضروراتها، تقوم على مقولة سعادة في “أن الاقتصاد لا يعني حقيقة سوى سدّ الحاجة أو تأمين سدّها بأقل مجهود وأسرع وأكبر نتيجة ممكنين..” والتي تختلف من حيث المرتبة الثقافية التي يتم فيها الإنتاج، فعلى سبيل المثال عندما يكون الإنتاج يستغرق زمنًا أكبر وجهدًا أكبر بكثير من كمّه ونوعيته، فإن المرتبة الثقافية لهذا الإنتاج متدنية أو متخلفة أو بدائية، في المرتبة الثقافية الثانية -والتي عليها حال الأمة السورية- يكون الإنتاج معادلًا أو مساويًا للزمن والجهد، وتاليًا فالإنتاج يبقى راكدًا غير قادر على التطور، وهو الحال الذي تعمّ فيه العلاقات الإنتاجية الإقطاعية، يقول سعادة بهذا الصدد: “والمرتبة الثّانية هي التي بلغتها الشّعوب الساميّة منذ أقدم عصورها المعروفة وهي المرتبة التي تحاول سورية الآن الخروج منها إلى المرتبة الثّالثة، وهي أساس هذه المرتبة الأخيرة..”. أخيرًا، فالمبدأ الإصلاحي القائل “تنظيم الاقتصاد على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة..” يقف إلى جانب الأمين رعد في قوله: “.. إلا أنها اهتمت بنشوء الإنتاج الذي بدونه لا تقوم علاقات إنتاج..”، فسعادة يعتبر أن الإنتاج هو الهدف الأسمى من العملية الاقتصادية أيًّا كانت علاقاتها وقواها عمومًا..

ما تبقى من المقالة، يبقى موقفًا يُدان به الأمين حيدر حاج إسماعيل، لأنه اعتمد التهكم والسخرية، وهذه مسألة شخصية لا علاقة لها ببحث يتناول قضايا كبرى.

مدرحية وليد زيدان

في مختلف المقالات أو المحاضرات أو الدراسات التي تناولناها حتى الآن، والتي يسمها الأمين حيدر حاج إسماعيل، بالمدرحية، لم تكن أيّ منها سوى إسقاطات لمفاهيم مدرحية على موضوعات ذات اتجاه سياسي أكثر منها موضوعات فكرية، تتناول المدرحية تحديدًا كفلسفة، حيث يختلف البحث النقدي الفلسفي عن البحث النقدي الاجتماعي والسياسي على وجه التحديد..

“مدرحية” وليد زيدان، تقدم عرضًا فكريًّا سياسيًّا لماهية الطبقة الطائفة يقول زيدان: “.. إن مقولة الطائفة الطبقة هي مقولة مدانة، لأنها الغطاء النظري للممارسات المنحرفة عند بعض أطراف “الحركة الوطنية” وخاصة أنه ارتكبت باسمها الموبقات والجرائم والممارسات الطائفية التي عُبِّرَ عنها بالقتل على الهوية والتهجير الطائفي والقصف العشوائي دون تمييز..”، منتقدًا موقف الحزب الشيوعي في مقولته “الطائفة الطبقة” “والتي كانت بدورها “تصحيحًا خاطئًا لمفاهيم سابقة خاطئة..”، يفسّر زيدان ما تقدم بقوله: “إن الطائفية مرتبطة بالواقع الاقتصادي وبالنظام القائم، لكن ليس لها علاقة محددة بطبقة معينة كما يحاول ربطها البعض، إنها نتيجة تطور تاريخي في المنطقة ولها أسباب موضوعية في واقع الأقليات وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية..”. والدراسة على وجه العموم ليست بحثًا في المدرحية كفلسفة، بقدر ما هي مقارنة بين ما تدّعيه الماركسية وما تقوله القومية الاجتماعية- المدرحية، في موضوع محدد كل التحديد /الطائفة- الطبقة/ وفي هذا السياق وبما يخدم الفكرة الرئيس..

يبدأ زيدان طرحه فيما قاد إليه المنهج الديالكتيكي بما يتعلق بالوضع اللبناني عام 1979 (تاريخ نشر المقالة) في أن المنهج الماركسي عبر مقولته “أسبقية المادة على الروح”، اعتبر أن الطائفية تزييفًا للصراع الطبقي، لكن، وعلى الرغم من أن المدرحية تقول أيضًا بأسبقية المادة على الروح (النفس) اعتبرت أن “دراسة الظواهر الاجتماعية لا تتم في المطلق وفي التعميمات السطحية التي تأخذ بعض الحقائق الموضوعية المتوافقة مع نظرتها، وتتجاهل الحقائق الموضوعية الأخرى المناقضة لها، (ذلك) أن المنهج العلمي الصحيح هو المنهج القادر على تفسير جميع الحقائق والمعطيات والظواهر، وليس بعضها، وإلا وقع في التفسيرات الجزئية التي تنفي عنه الصفة العلمية الموضوعية.. إن أخطاء معظم المناهج وقصورها هو في كونها لم تستطع أن تحلَّ ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين التطور الاجتماعي وحرية الإرادة الإنسانية.. تخضع دراسة الواقع الاجتماعي وظواهره، إلى تحليل بنية المتحد الاجتماعي ومعرفة حركية الجماعة، لأن هذه الشخصية “مركب اجتماعي- اقتصادي- نفساني، يتطلب من المرء أن يضيف إلى شعوره بشخصيته شعوره بشخصية جماعته، أمته.. الخ،” ويضيف قائلًا: “يمكننا معرفة مختلف الظواهر الاجتماعية على أساس فهم الإنسان- المجتمع ونسبة إليه نستطيع أن ندرك حركية الإنسان العشائري والطائفي والطبقي والفردي..”، يقول مضيفًا: “الإنسان- المجتمع ليس مطلقًا، بل هو دينامية متطورة لأنه حركة مستمرة يجب درسها وفهمها في كل لحظة من لحظات وجودها، هذه الحركة ليست حتمية ولا فوضوية عشوائية، بل اتجاه عام يحدد طرفي حركتها (المجتمع والإنسان) تاركًا المجال لحيّز من الحرية التي هي اختيار الممكن والضروري.. إن منهجية سعادة لا تنظر إلى الظواهر نظرة تراتبية لتحدد الأسبقية لمن، بل تنظر إلى الظواهر على أساس مدى فعلها في حركية الإنسان، الذي هو المقياس ونسبة إليه تُدرس الظواهر وتُقَيَّمْ، وتقسيم الواقع إلى مادي- روحي هو تقسيم اعتباطي وافتراضي ذهني، غير موجود في الواقع الموضوعي المتداخل”.

في نقده لما تقدم، يطرح الأمين حيدر تساؤلاته ليجيب هو عليها، ملخصا إجابته بالنقاط التالية:

1- ابتدأ بالقول بأسبقية المادة (الأرض على الحياة من حيث المنشأ.

2- ذكر أن الوجود البشري بنية متفاعلة لها أساس مادي (لم يحدده).

3- “المنهج المدرحي” صار بعد ذلك منهج انطلاق من مبدأ الإنسان- المجتمع (لكننا لا ندري كيف تم هذا التحول).

4- منهجية “الإنسان- المجتمع” أسقطت الفكر التراتبي بخاصة فكرة الكلام عن الأسبقية للمادة أو الروح.

5- الإنسان- المجتمع هو مقياس الظواهر والقيم.

6- الواقع الموضوعي يدحض تقسيمه إلى مادي وروحي.

وهكذا تكون النتيجة الباهرة التالية: هناك واقع مادي- روحي وليس هناك واقع مادي- روحي (انظر 2 و6) وتكون النتيجة الباهرة الثانية: حتى الآن لم نفهم ماذا يريد صاحب الدراسة أن نفهم من “المنهج المدرحي” وتكون النتيجة الباهرة الثالثة، سعادة يقول بالمدرحية والدارس لا يقول بها، لأن تقسيم الواقع إلى مادي وروحي هو تقسيم اعتباطي وافتراض ذهني غير موجود في الواقع الموضوعي المتداخل.

يلفتنا، يقول الأمين حيدر: “تعبير المتداخل وصفًا “للواقع الموضوعي”، هل يريدنا الدارس أن نفهم من هذا التعبير أن “الواقع الموضوعي” تتداخل فيه الشؤون المادية والشؤون الروحية، فتصبح المادة والروح موجودتين فيه، وهما غير موجودتين؟

من وجهة نظرنا، أنه في هكذا أبحاث، لا يحق لنا اتّباع أسلوب السخرية أو التهكم، في نقدنا لأي موضوع كان، فعلى النقد أن يكون موضوعيًّا بعيدًا كل البعد عن المواقف الشخصية والذاتية وإلا فقد قيمته النقدية وأصبح موقفًا شخصيًّا، لا يدان به الموضوع ولا صاحبه، بقدر ما يدين هذا الأسلوب صاحبه بالدرجة الأولى، “فما أعطي لإنسان إلا أن يهين نفسه” كما يقول سعادة.

المقالة كما سبق أن أشرنا، ليست بحثًا في المدرحية، كفلسفة، بقدر ما هي إسقاطات لبعض مفهوماتها على موضوع معين، تأخذ مدلولاتها الفلسفية والاجتماعية من السياق الذي وردت به، في محاولة لبيان إشكالاتها بهدف حل هذه الإشكاليات، أو إيضاح حقيقة مفاصلها الرئيسة والخلوص لحلول موضوعية مدعّمة علميًّا وتجريبيًّا في المجتمع، وهذا ما حاوله الرفيق زيدان.

وعليه، فالنقاط التي استنتجها الأمين حيدر، بصيغة السؤال، والاستفهام، لم ترد في النص أساسًا، فعلى سبيل المثال، قوله (الأمين حيدر): هناك واقع مادي- روحي وليس هناك واقع مادي- روحي، مستندًا لاستنتاجاته فيما يقوله الرفيق زيدان: “إن تقسيم الواقع إلى مادي- روحي هو تقسيم اعتباطي وافتراض ذهني، غير موجود في الواقع”!!

سبق لنا أن أشرنا لكون المدرحية كفلسفة ترى الوجود في وحدته، وليس في تشظياته التي تفترضها فيزيولوجية العقل البشري والتي بدورها، من حيث مادة المعرفة، هي نتيجة لافتراضات مقتبسة من ثنائية الليل والنهار، الأبيض والأسود الأعلى والأسفل، الأمام والوراء، اليمين واليسار.. الخ، فالوجود مثلًا يفترض العدم، لكن العدم ليس سوى افتراض، والمادة تفترض الروح، لكن الروح ليست أكثر من افتراض من حيث هي شأن مستقل عن الإنسان، أو من حيث هي كيان من خارجه وضعت به بقدرة الله والذي بدوره مجرد افتراض لحل التناقض بين العدم والوجود، إذ كيف يأتي الوجود من العدم؟ أو كيف كانت بداية هذا العالم وكيف يمكن أن تكون نهايته، فالبداية والنهاية مقولتان لا تتطابقان مع الوجود المادي تحديدًا، لأن بداية الإنسان باتت أكثر من مثبتة علميًّا من أنه قد نشأ بالتطور، نقول ذلك على الرغم من أن “ستيفن هوكينغ” قد بيَّن في كتابه “إشعاع هوكينغ” كيف هي بداية هذا الكون العالم، وتاليًا أيضًا وأيضًا، أنه لا وجود لمثل هكذا ثنائية في عالم هو مجرد علاقات فيزيائية، وفق “أنشتاين” فليس هناك زمان ولا مكان، كلاهما شأن واحد في الجوهر والمظهر أي “الزمكان” فالثنائية التي ألمحنا لها آنفًا، ليست سوى رد فعل فيزيولوجي لآلية عمل العقل (المخ والمخيخ والبصلة السيسيائية)، البداية والنهاية إذًا مصطلحان افترضتهما فيزيولوجية العقل وألية معرفته، وليس لأن لهذا الوجود بداية ونهاية، بالمعنى الديني وليس بالمعنى الذي أثبته “هوكينغ” وأجاب به عن سؤال كان قد طرحه الإنسان على نفسه منذ أقدم أطوار نشوء معرفته لما يحيط به، يقول سعادة: “لم يعد يقنع (الإدراك البشري) بالتّعليلات الخياليّة البحتة المعزوّة إلى افتراض وجود شخصيّة وراء نظام الكون تُحْدِثُ النّظام وتَحْدُثُ بلا نظام، إليها ينسب كلّ ما يقف أمامه عقل الطّفل وعقل البالغ المجرّد من العلم حائرًا..”، وعليه، فالواقع الموضوعي الذي يشير إليه الرفيق زيدان “بالاعتباطي وافتراض ذهني” إنما يعني حقيقة ما تقدم، بمعنى أن المدرحية تنظر إلى الواقع الموضوعي في وحدته وليس في تشظياته، وهذا المعنى واضح في قول زيدان: “إن منهجية سعادة لا تنظر إلى الظواهر نظرة تراتبية لتحدد الأسبقية لمن..” طالما أن الوجود قد افترض العدم، وليس العدم هو الذي افترض الوجود، وتاليًا، وبناء على أن الإنسان هو الذي افترض العدم، فعليه تقع مسؤولية تأكيده أو نفيه باعتبار الإنسان هو، وكما يقول الرفيق زيدان “المقياس” وإليه تنسب معرفة الظواهر وتُقَيَّمْ (وليس القيم كما أشار الأمين حيدر).

يقول الأمين حيدر: “حتى الآن لم نفهم ماذا يريد صاحب الدراسة لنا أن نفهم من “المنهج المدرحي”.

يحمل هذا السؤال في طياته الكثير من الاتهامات للرفيق زيدان، لكننا في تجاوزنا لهذا، نقول، لو أجاب الرفيق زيدان على تساؤلات الأمين حيدر، في دراسته، لخرج عن محورها الرئيس بما يمكن تسميته بالاستطراد، فالدراسة بحد ذاتها لا تسمح بمثل إجابات لهكذا تساؤلات، فمجرد طرحها، يبقى طرحًا غير مقبول، لكن وبناءً على قراءتنا للدراسة، نسمح لأنفسنا بإجابة الأمين حيدر على مختلف تساؤلاته، يقول الرفيق زيدان تحت عنوان “المنهج الفكري الخاطئ”: “إن أخطاء معظم المناهج وقصورها هو في كونها لم تستطع أن تحلّ ما يبدو من تناقض بين حتمية التطور الاجتماعي وحرية الإرادة الإنسانية..”، في قول الرفيق زيدان (ما يبدو من تناقض) نلمح (مدرحيًّا) أنه ليس هناك تناقض في الجوهر وإن كان المظهر يوحي بذلك، أي إن حتمية التطور الاجتماعي لا تتعارض وحرية الإرادة الإنسانية إلا حيث شاء أو رغب بعض القاصرين علميًّا بحلّ إشكالات على حساب أخرى، علمًا بأن “المنهج العلمي هو المنهج القادر على تفسير جميع الحقائق والمعطيات والظواهر، وليس بعضها، وإلا وقع في التفسيرات الجزئية التي تنفي عنه صفة العلمية..” كما يقول زيدان.. ونضيف على قول الرفيق زيدان أن سعادة قد أشار لما يشير إليه الرفيق زيدان قائلًا: “إنّ التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة..”، سعادة يؤكد في هذا القول أن الحتمية في التطور الاجتماعي، حيث البيئة (الأرض) أحد الافتراضات التي لا بدّ منها لنشوء التاريخ، لا تلغي الحرية الإنسانية، حيث “العوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة..”.

لكن تبقى تساؤلات الأمين حيدر (كاتجاه من اتجاهات المناهج الفلسفية) بحاجة للإجابة عليها طالما أن عنوان مقالتنا هذه هو (المدرحية..).

يقول الرفيق زيدان إن المنهج المدرحي، هو منهج علمي موضوعي يأخذ الكل دون استثناء: “إن المنهج العلمي هو المنهج القادر على تفسير جميع الحقائق والمعطيات والظواهر وليس بعضها.. (ويضيف) المطلوب هو منهج علمي لمعرفة الوجود الإنساني، أما مقولات ما قبل الوجود فهي ليست موضوع علم الاجتماع، تنطلق القومية الاجتماعية من الوجود البشري كبنية متفاعلة لها أساس مادي وبناء روحي بمعنى الفكر، الثقافة.. دون أن تخلق ميتافيزيقا لما قبل الوجود، وتعتبر موضوع بحثها هو الإنسان- المجتمع وليس الإنسان- الفرد، وهي لا تطرح المشكلة من الزاوية التي تطرحها المادية أو المثالية، بل تنطلق من الوجود الإنساني وتقول بأسبقية الإنسان- المجتمع” على الفرد..

إذًا، يحدد الرفيق زيدان المنهج المدرحي بالمنهج العلمي الموضوعي وموضوعه الإنسان- المجتمع، وهذا ما تسمح به الدراسة من حيث هي دراسة في الطائفة- الطبقة.

لكن ما هو المنهج بشكل عام وما موضوعه وما هي أدواته و.. الخ؟

المنهج بشكل عام مجموعة من الإجراءات والخطوات والاختبارات والقواعد التي يتبعها الإنسان لبلوغ حقائق وجوده، ولنقل إنه، أسلوب، صيغة، كيفية، وسيلة، لبلوغ الحقيقة، تختلف المناهج وفق موضوعاتها، فهناك من يعتمد الحدس والتمثيل، وهناك من يعتمد منهج الشك أو المنهج الظواهري والتحليلي والبنيوي والمنهج الفيلولوجي. منهج تجريبي ومنهج علمي ومنهج سلوكي.. الخ وما نعتقده أن سعادة قد حدد بعضًا من ملامح أو مواصفات وخصائص منهجه المدرحي عندما قال: “إنّ النّاموس اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة (منهج تحليلي لتلقط المتكرر أو المستمر في تأثيره على حركة الوجود المادي أو الاجتماعي) لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. (غير حتمي أو مطلق قابل للتغير أو التطور أو التبدل..) وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب ألا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب ألا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها. (عدم التناقض الذاتي أي ألا نعتمد في بلوغ الحقيقة على جملة من المعلومات أو المعارف المتناقضة بعضها مع بعض) فكوننا اكتشفنا ناموسًا أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب ألا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى، (عدم التناقض الموضوعي أي تناقضه مع حقائق مثبتة علميًّا..) فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع. (أي إن العام لا يمحو الخاص فكلاهما في وحدة وإلا نكون قد دخلنا في تناقض ذاتي، تناقض الشيء مع ذاته) وإذا كنّا قد اكتشفنا سنّة التّطوّر فيجب ألا نتّخذ من هذه السنّة أقيسة وهميّة تذهب بنا إلى تصّورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة..” (عدم التعميم).

فالمنهج المدرحي الذي يرسم مناحيه سعادة هو منهج تحليلي في الدرجة الأولى ليس حتميًّا- مطلقًا، بالدرجة الثانية ليس متناقضًا ذاتيًّا وموضوعيًّا، والعام فيه لا يمحو الخاص، وبناء على هذه المواصفات أو الخصائص، يمكننا القول إن المنهج المدرحي هو منهج تحليلي وتركيبي في آن، كما هو وصفي ومعياري في آن أيضًا، هو منهج يحلّل الظواهر حتى منتهى جزئياتها، يقول سعادة في جزئية متناهية في الصغر “.. فهذه الصّفات المشتركة تظهر بقوّة في الشّعوب الّتي لمّا تحرّكها الثّقافة الزّراعيّة التجاريّة وساعدتها أحوال معاشها الضّيّقة على حصر قواها النّفسّية في بعض المظاهر المحدودة. ونرى أذواق هذه الجماعات مشتركة حتى في الطّعام. فهم، لجوعهم، يزدردون الطّعام بطريقة لا تسمح بالتّلذّذ به على حدّ الجماعات الرّاقية، حتّى إنّ بعض العلماء يذهب إلى جعل درجة لذّة الطّعم في عداد الفوارق بين الأقوام الأوّليّة والشّعوب الرّاقية..” ليبني بعد ذلك بناء حقيقته- نظريته، هو منهج يرى الواقع كما هو دون تزييف، يفرز المتكرر والمستمر عن الطفرة أو الآني، اللحظي، ليصل في نهاية المطاف إلى العام الذي يتكامل مع الخاص، فعلى سبيل المثال، عندما ينطلق المنهج من حقيقة أن الاجتماع خاصة ملازمة للبشرية وأن البيئة الطبيعية لها القول الفصل في تمايز الجماعات، وتاليًا أن المجتمع- الإنسان هو ما تسعى إليه، لا تستثني في هذا كون العوامل الفاصلة في التاريخ هي العوامل النفسية والفردية على الرغم من قولها إن الفرد مجرد إمكانية اجتماعية..

لكن كيف توصل الأمين حيدر إلى “النتيجة الباهرة الثالثة، سعادة يقول بالمدرحية والدارس لا يقول بها لأن “تقسيم الواقع إلى مادي وروحي هو تقسيم اعتباطي وافتراض ذهني غير موجود في الواقع الموضوعي المتداخل”، لافتًا إلى وصف –المتداخل- للواقع الموضوعي وخالصًا لنتيجة رابعة (باهرة وفق حيدر) إلى أن التداخل في الشؤون المادية والشؤون الروحية، فتصبح المادة والروح موجودتين فيه وهما غير موجودتين؟” لكن كيف هما موجودتان في الواقع الموضوعي وليستا موجودتين فيه، فهذا ما لا يخبرنا به الأمين حيدر، وما علينا في حالة من هذا النوع سوى الاجتهاد في أن سعادة يُقسّم الواقع الموضوعي إلى مادي- روحي، بينما الرفيق زيدان يعتبر تقسيم سعادة مجرد (تقسيم اعتباطي وافتراض ذهني غير موجود في الواقع الموضوعي المتداخل) فإذا كان اجتهادنا صحيحًا، فالأمين حيدر يُحمِّل أو يُقوِّل الدراسة ما لم تقله، فإشارة الرفيق زيدان إلى “أن تقسيم الواقع إلى مادي وروحي هو تقسيم اعتباطي وافتراض ذهني غير موجود في الواقع الموضوعي المتداخل..”، يعني أن المدرحية لا تقول بهذا التقسيم كونها من جهة أولى ترى الوجود المادي والروحي في وحدته، وأن كل ما يُجزئ هذه الوحدة هو مجرد فكر تأملي لا علاقة له بحقيقة هذا الواقع غير العابئ بمثل هكذا تأملات ومن جهة ثانية فقول الرفيق زيدان: “إن معرفة حركة الوجود كما هو لا تستلزم معرفة سرّ الوجود وكيفية الخلق وسائر المقولات الميتافيزيقية..” بما يعني أن المدرحية “لا تطرح المشكلة من الزاوية التي تطرحها المادية والمثالية لتقول بأسبقية المادة أو الروح، بل تنطلق من الوجود الإنساني وتقول بأسبقية الإنسان- المجتمع” وبما يعني أيضًا، عدم التناقض الموضوعي من حيث أن الوجود المادي والاجتماعي أيضًا وإلى حدٍ بعيد، لا يستلزم بحثًا فيما يناقضه من افتراضات هي محض تأملية وتبقى افتراضية مهما قيل إنها غير افتراضية، ذلك وكما يقول الرفيق زيدان “إن دراسة الظواهر الاجتماعية لا تتم في المطلق وفي التعميمات السطحية والتي تأخذ بعض الحقائق الموضوعية المتوافقة مع نظرتها وتتجاهل الحقائق الأخرى الموضوعية الأخرى المناقضة لها.. لأننا عندما نُلمُّ بمختلف الظروف المجتمعية نتفادى الوقوع في الاجتزاء.. الإنسان- المجتمع ليس المطلق الثابت، بل هو دينامية متطورة، لأنه حركة مستمرة يجب دراستها في كل لحظة من لحظات وجودها”، هذه الإشارات، بمختلف توجهاتها لا تعني بأية حال ما ذهب إليه الأمين حيدر من أن “التداخل في الشؤون المادية والشؤون الروحية فتصبح المادة والروح موجودتين فيه (أي في الواقع الموضوعي) وهما غير موجودتين؟ ما يعنيه الرفيق زيدان بـ(التداخل) هو أن الواقع الاجتماعي في حالة من الحركة التفاعلية، تتمظهر من خلال حركته التفاعلية هذه في أحيان كثيرة، الشؤون المادية بمظاهر روحية (نفسية) والعكس صحيح أيضًا، ويضرب أمثلته على حالات من هذا التداخل، فعنوان المقالة يحمل أول نوع من أنواع هذا التداخل، حين تتمظهر الطائفة بالطبقة، أو الطبقة في الطائفة، يضيف قائلًا: “لا يتحرك الإنسان بصورة دائمة، بدافع المنفعة الاقتصادية (المادية)، كما وأن وعيه (الروحي- النفسي) ليس دومًا وفق موقعه من وسائل الإنتاج..” ولأنه في أحيان كثيرة أيضًا لا تكون “منفعة العامل الاقتصادية متوافقة مع مصلحة الثورة..” على الدوام، على الرغم من أن الثورة تستهدف نقله من مرحلة العوز إلى مرحلة الاكتفاء استقرارًا وطمأنينة، يتضح ذلك من قوله: “إن كل منهج ثوري يستهدف قبل كل شيء تغيّر الواقع الاجتماعي، وهذا الواقع يختلف عن الواقع الطبيعي لوجود الإنسان الذي يتمتع بمصالح مادية- روحية وعنده القدرات والقوى القادرة على الاختيار والعمل والوعي والتذكر..” بمعنى القدرة على تغيير الممكن والذي يمكن لهذه القدرات أن تتجاوزه إلى غير الممكن في محاولة لبلوغ درجة أعلى من سلّم التطور، التغير، التبدل، الانتقال، التكيف مع المستجد من هذه الحركة، وهذه الحركة التفاعلية، بمختلف مترادفاتها ومسمياتها وخصائصها، ومواصفاتها، تبقى تعبيرًا عن حالة من حالات التطور والرقي والتقدم.. ويضيف الكثير من الأمثلة الأخرى التي تتعدى الطائفة والطبقة، ويقارن بين ابن الجنوب اللبناني وعلاقته بـ((إسرائيل)) وعلاقة الفلسطيني بهذا الكيان السرطاني وبما لا يدع للشك مكانًا فيما يذهب إليه الرفيق زيدان ويدحض ما يؤوله الأمين حيدر حاج إسماعيل..

يميز سعادة بين المصلحة والمنفعة، فالمصلحة هي “كل ما تنطوي عليه النفس الإنسانية في علاقاتها.. المصلحة هي طلب ارتياح النفس وتحقيق ارتياح النفس هو غرض الإرادة.. المصلحة هي كل ما يولّد عملًا اجتماعيًّا”. أما المنفعة فهي على عكس المصلحة، المنفعة شأن فردي، مصلحة فردية، فائدة فردية، خصوصية لا تتعدى نطاق الفردية..

من هذا المنطلق، يطرق الرفيق زيدان باب الاقتصاد ليتساءل: “ما هو دور الاقتصاد في الإنسان؟ وهل الاقتصاد هو المحرك الوحيد للإنسان؟ يجيب على سؤاله قائلًا: “لا يتحرك الإنسان بصورة دائمًا، بدافع المنفعة الاقتصادية، كما أن وعيه ليس دومًا وفق موقعه من وسائل الإنتاج (كما تقول الماركسية) لذلك ليست المنفعة الاقتصادية الأساس في التحريض الثوري والتوعية دائمًا، لأن منفعة العامل الذاتية لا تكون دومًا متوافقة مع مصلحة الثورة..”، يضيف: “ومن هذه الزاوية، يعتبر المنهج المدرحي أن المصلحة القومية الاجتماعية هي المقولة الثورية في التحريض والدافع النضالي للتوعية وعلى أساسها تقاس المنفعة الاقتصادية وكل منفعة أخرى.. المنفعة التي يمكن أن يحققها المواطن عبر طائفته أو عشيرته أو علاقاته الخاصة والتي تصل أحيانًا إلى حد العمالة والخيانة، هي منافع جزئية تتحقق على حساب باقي المواطنين، وتقضي على وحدة المجتمع.. الاقتصاد من ضمن هذه الرؤية، هو أحيانًا يتضمن مصلحة اقتصادية تشكل عاملًا ثوريًّا يجب تعميمه وتعميقه، وأحيانًا يشكل منفعة فردية سلبية يجب تجاوزها بالوعي الثوري النضالي.. ترى القومية الاجتماعية أن الثورة الفعلية هي التي تشمل البنى وعلاقات البنية التحتية والفوقية معًا..”.

في نقده لما ورد أعلاه، يقول الأمين حيدر: “مما تقدم من نصوص، يتبين لنا أن رفيقنا صاحب الدراسة، يتجه اتجاهًا مختلفًا عن الاتجاهات التي ابتدأها في فهمه للمنهج المدرحي، فهو الآن منهج “بنية تحتية” و”بنية فوقية” وعلاقة التفاعل بينهما والتي يراها محددة بليستين هما: اللا تراتبية واللاسببية ويكون الحاصل الفكري الأخير للدراسة هو التالي:

المادة هي الأرض من حيث المنشأ

والروح هو الفكر والثقافة و..

والمدرحية هي الإنسان- المجتمع.

والمادة والروح تقييم اعتباطي وافتراض ذهني لا وجود له في الواقع، والمادة هي البنية التحتية أو الاقتصاد والروح هو االبنية الفوقية أو البناء النفسي”.

سبق لنا أن أشرنا، إلى أن الدراسة لا علاقة لها بالمدرحية كفلسفة، فهي لا تبحث بها من حيث هي كذلك، لكنها (الدراسة) تُسقط بعض المفهومات المدرحية على واقع علاقة الطائفة بالطبقة وبالعكس، على سبيل المثال ما أوردته الدراسة من مفهوم الطبقة والطائفة والمصلحة والمنفعة والمنهج المدرحي والإنسان- المجتمع والاقتصاد والبنى التحتية والفوقية.. الخ، هذا الإسقاط لا يتيح للأمين حيدر الخلوص إلى ما خَلُصَ إليه في موضوع المادة والروح وتاليًا المدرحية، وهي النقاط ألتي أوردها في نهاية تساؤلاته حول الدراسة والتي لم يُجبْ على أيٍّ منها بما ينفيها أو يؤكدها، فإذا كان التساؤل هو أحد المناهج الفلسفية، فطرحه يوجب الإجابة عليه نفيًا أو إثباتًا، وهذا ما لم يقدمه لنا الناقد، فطرح السؤال على نحوٍ كهذا يثير الشك في الدراسة من حيث صوابية الطرح أو غلطه، وهذا ما لا نقع عليه في دراسة الرفيق وليد زيدان ونرى أنها جاءت متماسكة غير متناقضة في طروحاتها كافة، فقد عالج الرفيق زيدان موضوعه بكل الوعي والمعرفة بتشابكاته وعلاقاته ونتائجه..

ينهي الأمين حيدر حاج إسماعيل نقده لدراسة الرفيق وليد زيدان بملاحظتين:

الأولى: “لم نجد في هذه الدراسة أية إشارة للمبادئ القومية الاجتماعية التي جملتها تشكل الفلسفة المدرحية”.

الثانية: “الفلسفة المدرحية (كما ذكرنا تكرارًا) هي فلسفة نهضة الأمة من حيث مادتها (المزيج السلالي ومن حيث روحها (الشعور القومي المشترك أو إجماع الفكر على المصلحة العامة) الذي ينشأ نشوءًا طبيعيًّا مرافقًا للتفاعل البشري المشترك بين جماعات الأمة أو بواسطة التربية داخل الحزب السوري القومي الاجتماعي.

نحن هنا حيال تعريف للأمة يناقض كليًّا وبالمطلق، مختلف ما طُرح حول هذه الفلسفة، أصاب ذاك الطرح أم أخطأ، لكنه (الطرح بمجمله) لم يجافِ حقيقة أن “نشوء الأمم” كان المرتكز الذي قامت عليه الفلسفة المدرحية من حيث هي فلسفة اجتماعية تدرس الإنسان، نشوءًا وارتقاء، عوامل وأسبابًا ونتائج..

هذا التناقض، يرتكز إلى جملة دعائم يقول بها الأمين حيدر حاج إسماعيل:

1- استثناؤه لكتاب “نشوء الأمم” على قاعدة أنه مبحث علمي في الاجتماع وليس مبحثًا فلسفيًّا، وعلى قاعدة أن العلم غير الفلسفة.

2- فهمه الخاص، والخاص جدًّا، لمقولة “الأمة واقع اجتماعي بحت”.

3- قوله “والحقيقة أن سعادة لم يأت بغير المبادئ”.

4- إخضاع مختلف الصياغات الفكرية والتي جاء نقده مبنيًّا عليها لقاعدة، منطقية أو منهجية لديه تقول: “إن الشيء ليس صفاته، أو خصائصه، أو مواصفاته، أو درس نشوء الشيء ليس الشيء بذاته، أو أن الشيء ليس شرطه، أو أن تعريف الشيء بـ”الليسيات” ليس هو الشيء.. الخ..

سبق لنا أن ناقشنا هذه الدعائم أو المرتكزات التي يستند إليها الأمين حيدر في تعريفه للأمة، وقد لا نضيف جديدًا إذا ما أسهبنا في تفنيد ما جاء به تعريف الأمين حيدر، ففي المبدأ، لم يقدم الأمين حيدر تعريفًا للفلسفة المدرحية، بل اكتفى بتعريفها على النحو التالي: “الفلسفة القومية الاجتماعية= تجبّ المبادئ لتنهض الأمة”، ومن ثم جاء تعريفه لها في نهاية نقده للرفيق وليد زيدان، بالتعريف الوارد أعلاه، لذا يتوجب علينا تناول تعريفه الأخير بشيء من التفصيل..

سبق أن أشرنا، أيضًا، إلى أن الأمين حيدر لم يحدد، يعيّن، لنا مفهومًا محدّدًا، معيّنًا، لمصطلحي مادة وروح، بل تركهما على إطلاقهما، فليفهم كل منا المفهوم، المعنى، المقصود، الذي يريد من هذين المصطلحين، مما يؤدي بطبيعة الحال إلى عدد لا يحصى من المعاني والمفاهيم لهذين المصطلحين، فتصبح حقيقتهما، بعدد الأفراد الذين يتداولون بهما، ولما كان “شرط الوضوح التعيّن” كان من حق البحث تحديد، تعيين، المفهوم، المقصود، من هذين المصطلحين، وأي من هذه المفاهيم هو المفهوم الذي تأخذ به المدرحية في تفسير العالم الذي يحيط بنا، ومن جملته، “نحن”، فنحن جزء من هذا العالم الذي هو(نحن) بحاجة ماسة للتعريف به، كمصطلح فلسفي، يشكل، جزءًا جوهريًّا من معنى أو مفهوم، أو المقصود من هذا “العالم”.

المفهوم المدرحي للمادة:

تنطلق المدرحية في تحديدها لمفهوم المادة من أسبقيتها على المعرفة، الوعي، الإنسان، كقاعدة لا يمكن تجاوزها، تحت أية ذريعة، علمية كانت، أم غير علمية (تأملية)، المادة في أسبقيتها على الوعي، تأخذ المفهوم التالي: كل ما لا يرتبط وجوده، بوعي، بمعرفة، الإنسان له، فهي وجود، مستقل كل الاستقلال عن الوعي الإنساني له، هي كيان موضوعي لا غنى للإنسان عنه، فهي محتوى وعيه، معرفته، إدراكه، إذ لا معنى للوعي دونها، والذي لم يكن (الوعي) بدونها أيضًا، ذلك أن العضوية، (كيميائيًّا وفيزيائيًّا) تتكيف، وفق ما هي به وعليه، من عوامل وشروط موضوعية، هذا التكيف، -والذي اختصت به العضوية عن سواها من الموجودات المادية (باعتبارها مادة في الأصل)- هو الذي يقود العضوية إلى ما هي عليه، فلولا الضوء، لما تكيفت هذه العضوية مع الضوء وتطورت إلى حالة الرؤية، ودون الهواء، والروائح، لما كانت حاسة الشم، ولو لم يكن للوجود ملمس، لما كانت حاسة الحس أو اللمس، لولا الصوت لما كانت حاسة السمع، وكذلك حاسة الذوق، ودليلنا العلمي على ما تقدم، هو أن حاسة السمع مثلًا، هي حاسة مرتبطة كليًّا بما نحن عليه من درجات السمع، فنحن لا نسمع ما هو أعلى كما ما هو أدنى، فنحن لا نسمع سوى الموجات التي لا تتعدى الـ(20- 20,000) هرتز، بينما تصل الموجات المافوق صوتية إلى أكثر من (20,000) هرتز، كما لا نسمع كل ما هو دون الـ(20) هرتز، كذلك في الضوء، وتحديدًا ألوان الطيف الضوئي، فنحن لا نرى سوى سبعة ألوان، علمًا أن مزيجًا منها قد يصل إلى (15,000,000) لون، هذا الكم الهائل من الألوان نحن لا نرى منه سوى سبعة فقط..

ما تقدم، يعني، أن المادة سابقة للوعي، لأنها هي التي شكلت له أدواته الحسية، والتي لولاها، لما استطاع التعرف على ما يحيط به!!

المادة إذًا، كل ما هو موضوعي، ولا يدين بوجوده بأية حال لوجود الإنسان، كيانًا وإدراكًا ومعرفة وعلمًا، المادة وجود موضوعي، موجود رغمًا عن الإنسان، كيانًا ومعرفة وعلمًا، المادة، وجود موضوعي، سابق لوجود الإنسان، المادة، محتوى الوعي، الفكر، المعرفة، العقل..

الروح في المفهوم المدرحي:

“الروح” مصطلح عبري، مقتبس، أو بالأحرى منهوب، ومحوّر عن الريح، في قصة الخلق الآشورية، حيث الإله مردوك يقتل تيامات (تيهوم- بالعبرية) بواسطة الرياح الأربع، في التوراة السامرية، نتبين مدى التشابه بين التوراة وقصة الخلق البابلية والآشورية:

1- “في بداية خليقة السماوات والأرض (سفر تكوين)= في بداية الخلق (ملحمة بابل).

2- كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه تيامات ظلمة (سفر تكوين)= (مقتل تيامات وخلو الأرض للإله مردوخ) (ملحمة بابل).

3- (ورياح الإله ترف على وجه الأرض) (سفر تكوين)= أرسل الرياح الأربع لتُحيط بها (تيامات) من كل جانب، ثم أرسل سبع رياح في بطنها وهكذا تمكن من سحقها (ملحمة بابل).

4- فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ…. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سماء.. وقال: “لِتَجْتَمِعِ الْمِيَاهُ تَحْتَ السَّمَاءِ إلى مَكَانٍ وَاحِدٍ وَلْتَظْهَرِ الْيَابِسَةُ (المياه: تيامات) (سفر تكوين)= (ثم قسم تيامات إلى سماء وأرض) (ملحمة بابل)..”.

ما يهمنا أن الريح في قصة الخلق البابلية أصبحت روحًا في التوراة، وليس هذا فقط، فقد حوّرت التوراة اسم “إيل” الإله إلى “الله”، لاحظ “اسماع إيل، جبرا إيل، عذرا إيل، إسرا إيل، صومو إيل.. وهكذا، ما تبقى من أساطير توراتية.. اعتمدت المسيحية والمحمدية هذا التحوير وأطلقته إيمانًا لأتباعها.. “الإيمان بوجودها يجسّد مفهوم المادة الأثيرية الأصلية الخاصة بالكائنات الحية. استنادًا إلى بعض الديانات والفلسفات، فإن الروح مخلوقةً من جنسٍ لا نظير له في الوجود مع الاعتقاد بكونها الأساس للإدراك والوعي والشعور عند الإنسان. ويختلف مصطلح الروح عن النفس حسب الاعتقادات الدينية (يُقصد الإسلام)، فالبعض يرى النفس هي الروح والجسد مجتمعان ويرى البعض الآخر أن النفس قد تكون أو لا تكون خالدة ولكن الروح خالدة حتى بعد موت الجسد”.

الروح، فلسفيًّا، هي الوعي، كل ما ليس محسوسًا وملموسًا ومسموعًا وهو نتاج العقل (المخ والمخيخ والبصلة السيسيائية)، مدرحيًّا، هي النفس، وفق ثلاثية سعادة (المحيط- الجسم- النفس)، مدرحيًّا، الروح تعبير مجازي للنفس، مدرحيًّا، الروح مصطلح عبري تحويري للريح، مدرحيًّا، الروح مُفْتَرَضْ نقيض للمادة، كما يفترض الوجود العدم، لا تقول المدرحية بالروح ككيان مستقل، مبثوث في الجسم، النفس نتاج الجسم..

من سعادة نستقي ما يروي عطشنا، يقول: “التعيين هو شرط الوضوح، والوضوح هو الحالة الطبيعية للذات المدركة الواعية الفاهمة. كل مطلق ليس واضحًا هو نسبي مهما قيل إنه مطلق غير نسبي. كل مطلق مبهم هو لا شيء. المطلق الذي هو شيء هو المطلق الواضح. فإذا وجدنا أمامنا مطلقًا غير واضح، إذا افترضنا أي مطلق افتراضًا وابتدأنا نحوم حول فهم هذا المطلق ومعرفته، فإننا قد عيَّنا مبهمًا للخروج من جدل لم نصل فيه إلى الحقيقة. فكل لا وضوح لا يمكن أن يكون أساسًا لإيمان صحيح، وكل لا وضوح لا يمكن أن يكون قاعدة لأي حقيقة من جمال أو حق أو خير. فالوضوح -معرفة الأمور والأشياء معرفة صحيحة- هو قاعدة لا بد من اتباعها في أية قضية للفكر الإنساني وللحياة الإنسانية.. ففي العقائد التي تمتّ إلى الإنسان الحر بصلة لا يمكن الاستناد إلى أي قول استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية لها علاقة بالإنسان- المجتمع. فلا بد لقيام الحقيقة من شرطين أساسيين: الأول الوجود بذاته، أي أن يكون الشيء موجودًا. والثاني أن تقوم المعرفة لهذا الوجود. والمعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن أن تكون له بدونها.. لا يمكننا أن نتصور وجودًا بلا معرفة. فلا يمكننا أن نقول إن لأي وجود مفترض، غير مدرك بالمعرفة، قيمة الحقيقة، لأن الحقيقة قيمة إنسانية نفسية والإنسان هو وحده الذي يميز بين الحقيقة والباطل بالمعرفة..”

الأمة في المفهوم المدرحي:

يشوب مفهوم الواقع الاجتماعي لدى الأمين حيدر حاج إسماعيل، الكثير من الشوائب، فهو يراه كيانًا بشريًّا قائمًا بذاته، كمزيج سلالي مستقل استقلالًا تامًّا عما يحيط به من أوضاع وأحوال وظروف، فعندما يعتمد مقولة “الأمة واقع اجتماعي بحت” لا يتراءى له سوى كيانها البشري من حيث مزيجه السلالي، مما يدفعه للقول بأن مادة الأمة مزيجها السلالي.. متجاهلًا أو متناسيًا قول سعادة الحاسم في هذا الموضوع بالذات “لا يمكن القول إن هنالك أممًا وشعوبًا قدرت بفطرتها الممتازة وفاعليتها الذاتية أن تجد إلى الارتقاء سبيلًا.. القطر الصّالح والقوم المؤهّلون، هذان هما العنصران الأساسيّان لنشوء الأمّة”. ومتغافلًا عن أن الواقع في علم الفلسفة يعني حالة الأشياء كما هي موجودة، وكما وجدت حولنا، وما وجد فعلًا في مقابل الخيال، الواقع ما يكون راهنًا أو معطى ويفيد الأشياء كما هي لا كما يمكنها أن تكون.. أبستمولوجيا يفيد الواقعي معنى يتعلق بفكرة الشيء بوصفه غرضًا فكريًّا فهو الراهن والمعطى ويشمل مادة المعرفة كلها.. إن ما يمثله المفهوم العلمي للواقع بوصفه يتضمن فكرة لا تشمل فقط الراهن ولكن أيضًا لحالة لا راهنية لها تشارك مع ذلك في تصوير الواقع، حيث إن تصورًا علميًّا لا يصور فقط ما هو كائن وإنما يتخيل ما يمكن أن يكون..

وعليه فعندما يُعرِّف سعادة الأمة بأنها واقع اجتماعي، يعني بذلك أنها كيان موضوعي لا علاقة له بفرد ما أو جيل ما، هي استمرار، هي أفرادها بما هم عليه بخصائصهم ومواصفاتهم وأشكالهم و.. الخ هي مجموع أجيالها عبر الزمن، يقول: “الأفراد يأتون ويذهبون أما المجتمع فباقٍ”. يضيف قائلًا: “لا يختار الفرد مجتمعه إلا بقدر ما يختار أمه وأباه” للدلالة على موضوعية الواقع الاجتماعي بالنسبة للفرد وأجياله، مدرحيًّا، الأمة كواقع اجتماعي هي شكل المادة التي هي البيئة، متمثلة ماديًّا “بدورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية”، الأمة هي هذه الدورة الحياتية الاجتماعية- الاقتصادية معًا دون أي انفصام بينهما، لذلك يشدد سعادة على مصطلح “الاشتراك في الحياة” أو “وحدة حياة” للدلالة على البعد الزمني الذي يبقى العامل الرئيس في تشكل الأمم وتطوراتها، سلبًا وإيجابًا، الأمة وفق سعادة “جماعة من البشر تحيا حياة موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النّفسيّة الماديّة في قطر معيّن يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التّطوّر، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات”. ما يُميز أمة عن أخرى هو إذًا تفاعلها مع بيئتها وليس أي شيء آخر، لذلك نراه (سعادة) يشدد على أن “كلّ أمّة تنشأ بعامل ارتباط جماعة من النّاس، مهما كانت تقاليدها وعاداتها ومهما كان مصدرها، ببقعة من الأرض لا بدّ من أن تكون في مجرى حياتها تقاليد جديدة وعادات جديدة..” هكذا تتشكل مواصفات أمة عن أخرى، لذا كان “الأصل الإنسانيّ الوحيد للأمّة هو وحدة الحياة على تعاقب الأجيال وهي الوحدة الّتي تتمّ دورتها ضمن القطر..” “المزيج المتجانس أصل كافٍ للأمّة، وهذا المزيج هو ما يعبّر عنه أحيانًا بلفظة السّلالة. إنّ الأمّة من الوجهة السّلاليّة أو من وجهة الأصل، هي مركّب أو مزيج معيّن كالمركّبات الكيماويّة الّتي يتميّز كلّ مركّب منها بعناصره وبنسبة بعضها إلى البعض الآخر..، يضيف قائلًا: “فإذا تتبعنا تاريخ تكوّن الأمّة الإيطاليّة كان الأصل الوحيد الثّابت الّذي نتمكّن دائمًا من تقريره هو الأرض، أمّا الأصل الشّعبيّ فهو مشترك في عدّة أصول. الحقيقة أنّه ليس لأمّة من الأمم الحديثة أصل سلاليّ واحد، حتّى ولا أصل شعبيّ (مزيج سلالي) واحد.. فالأمّة تكون قويّة أو ضعيفة، متقدّمة أو متأخّرة، على نسبة ممكنات بيئتها الاقتصاديّة ومقدرتها على الانتفاع بهذه الممكنات..” الحكم النهائي الذي يصدره سعادة في هذا الشأن والذي لا رجعة فيه هو: “القطر الصّالح والقوم المؤهّلون، هذان هما العنصران الأساسيّان لنشوء الأمّة..” مما يضع حدًا لمختلف تقولات الأمين حيدر حول موضوع الأمة، أكثر من ذلك يشدد سعادة على أهمية البيئة الطبيعية في نشوء الأمة، أية أمة، يقول: “الأمّة تجد أساسها، قبل كلّ شيء آخر، في وحدة أرضيّة معيّنة تتفاعل معها جماعة من النّاس وتشتبك وتتّحد ضمنها..” يضيف موضحًا بقوله: “لعلّ سورية أفضل مثال للبيئة الّتي تصهر الجماعات المختلفة النّازلة بها وتحوّلها إلى مزاج واحد وشخصيّة واحدة.. فالبيئة المحدّدة هي البوتقة الّتي تصهر حياة هذه الجماعات وتمزجها مزجًا يكسبها شخصيّة خاصّة..” هذا على صعيد ما جاء به سعادة بكتابه العلمي “نشوء الأمم” على حد وصف الأمين حيدر لهذا الكتاب، أما على صعيد اعتباره أن المبادئ هي الفلسفة المدرحية، نراه يقول: “والحقيقة أن سعادة لم يأتِ بغير المبادئ” وسنذهب مع الأمين حيدر لما يقوله سعادة في المدرحية التي هي “المبادئ” وفق وصف الأمين حيدر، ففي شرح سعادة للمبدأ الأساسي الرابع الذي ينص على أن “الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي” يقول ما يدحض تعريف الأمين حيدر للأمة من حيث مادتها: “وهكذا نرى أن مبدأ القومية السورية ليس مؤسسًا على مبدأ وحدة سلالية، بل على مبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية لمزيج سلالي متجانس..” الوحدة الطبيعية لمزيج سلالي، لكن ماذا يعني سعادة في مصطلح “الوحدة الطبيعية” يقول: “إننا نعتبر الأمة أمرًا واحدًا: إنه وحدة الحياة التي جمعت فيه مجمل العناصر الأساسية (البيئة والمزيج السلالي) التي تتركب منها ودمجها بعضها ببعض فكونت منها حياة واحدة متفاعلة موثقة، أي مجتمعًا واحدًا موحد الحياة والمصير.. إذًا لا حاجة إلى أصل واحد معين لنشوء الأمة. لنشوء القومية. فالأمة موجودة بتفاعلها ضمن بيئتها ومع بيئتها..”، فقوله الأمة موجودة بتفاعلها بعضها مع بعض “ضمن بيئتها ومع بيئتها” مما لا يدع للشك مكانًا في أن الأمة هي نتيجة للتفاعل بعضها مع بعض ومع بيئتها، يضيف موضحًا (سعادة) “فإذا أخذنا مجموع الشعب السوري أو أي شعب آخر وجدنا أنه شعب يتكون من مستطيلي الرؤوس ومعتدلي الرؤوس ومفلطحي الرؤوس، ومع ذلك نجد أن الحياة جبلتهم جبلة واحدة فامتزجوا سلالة ودمًا واشتركوا في الحياة الجيدة والصعبة وعملوا وأجابوا على محرضات البيئة أعمالًا وإجابات مستمرة خلال أجيال أو أدهار كونت نفسية خاصة وطابعًا فيزيائيًّا خاصًّا مستقلًا”. الحياة بمفهوم سعادة المدرحي نمو، تقدم، تطور، رقي، وعلى نسبة ما تقدم تتبوأ الأمة مكانتها بين الأمم، شرط الحياة لتكون وفق مفهوم سعادة لها، استمرارًا زمنيًّا كشرط ضروري ومهم وحاسم في تمايز الأمة عن سواها، شرط لازم، لكنه غير كافٍ لأنه لا يقوم إلا بعنصريه، المزيج السلالي والبيئة الطبيعية، محددًا المرتبة الثقافية التي عليها الأمة، هذا ما نجده في التاريخ السوري، حيث شهدت هذه البلاد محنًا واحتلالات قلبت موازين حياتها وأحالت استقرارها لاضطراب وحروب وويلات، لكنها بقيت على ما هي عليه من ميزات، لذلك نرى سعادة يؤكد “إن في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم… إذا لم تقو النفسية السورية وتنزه عن العوامل الخارجية وسيطرة النفسيات الغريبة فإن سورية تبقى فاقدة عنصر الاستقلال الحقيقي، فاقدة المثل العليا لحياتها”.

مدرحيًّا، يمكننا القول، بناء على ما تقدم: “على قاعدة المقولة الأساس في الفلسفة المدرحية “المادة تعيّن الشكل” وعلى قاعدة أن الإنسان هو المتكيف مع البيئة وليس العكس، تلعب البيئة دور البوتقة والإنسان دور الماء الذي يتخذ من شكل البوتقة شكلًا له، أكثر من ذلك، يتخذ من لون البوتقة لونًا له، وزيادة في ذلك، يتخذ طعم بل ورائحة البوتقة، في حال وجد لها هذا الطعم وتلك الرائحة، من هنا نجد كيف أن الإنسان الفرد عند انتقاله من بيئته الأصلية يبدأ بالتكيف والبيئة التي انتقل إليها، هذا الانتقال يعبّر عنه سعادة في قوله “وقد يفضل أمه على أبيه أو العكس”، وحيث إن المادة واقع موضوعي، فمادة الأمة هي بيئتها، وهي محتوى وعيها، أي شكلها –فلسفيًّا- حيث دورة حياتها الاجتماعية- الاقتصادية، هي هذا الشكل الذي نجد عليه أمة من الأمم، أما مرتبة هذا الشكل الثقافية فتعود لنسبة إجابة مزيجها السلالي لعوامل أو لمحرضات البيئة ونسبة تقبله لها أسبابًا، تاريخية وظرفية بآن، وعلى ما تقدم تكون النتائج التي تعي الأمة من خلالها عوامل وأسباب وكيفيات ووسائل نهوضها.

مقدمة في المنهج المدرحي

لفهم المنهج المدرحي الذي ينتهجه سعادة في بلوغ الحقائق التي تقول بها فلسفته، لا بد لنا من إلقاء نظرة ولو وجيزة، على ما هو المنهج، حنى لا تبقى المصطلحات التي نستخدمها على إطلاقها، كل يقول بمفهوم خاص، يقوم على سعة المعلومات التي لديه كمًّا ونوعًا، وبما يسمح به البحث للحيلولة دون الخروج عن محوره..

المنهج تعريفًا هو الأسلوب أو الوسيلة أو الصيغة التي يعتقد الباحث -أيًّا كان- أنها تفيد في بلوغه خلاصات موضوعه، أي حقائقه..

والمنهج بحد ذاته، هو فرع من فروع المنطق، الذي يفترضه العقل البشري لعدم تناقضه مع ذاته، والمنطق كما المنهج، هو الصيغة أو الأسلوب أو الوسيلة الفكرية التي يعتمدها العقل وفق فيزيولوجيته، أي الطريقة التي تتعامل من خلالها مكونات العقل البشري (المخ والمخيخ والبصلة السيسيائية)* كلٌ وفق خصائصها التي تمتاز بها، مع الأخرى، حيث ينعكس الواقع عبر أدوات العقل (الحواس الخمس) انعكاسات مختلفة بعضها يعود للموضوع بذاته وبعضها الآخر يعود لمدى فاعلية أجزاء العقل ومكوناتها مع ما تتلقاه من معلومات على شكل ومضات كهربائية..

سبق لنا أن أشرنا، في إحدى حلقات هذا البحث إلى أننا عندما نقول، على سبيل المثال “جيولوجيا” فنحن نقصد بذلك “منطق طبقات الأرض” و”المفردة المصطلح” جيولوجيًّا، تقسم إلى قسمين الأول هو طبقات (جيو) أما الثاني فهو منطق (لوجيك Logic) سيسيولوجيًّا، تاليًا تعني منطق الاجتماع البشري، من حيث عوامله وأسبابه ونتائجه، فمهمة عالم الاجتماع إذًا هي: تفسير أو الإجابة على سؤال “لماذا الاجتماع البشري على هذا النحو دون ذاك؟ متبعًا في إجابته طرقًا مختلفة أو معتمدًا على حقائق أولية أو رؤيته الخاصة، ليبني عليها إجابته..

اختلفت المناطق (جمع منطق) بعضها عن بعض وفق ما تقدم، وتاليًا المناهج، حيث اختصَّ كل عالم اجتماع برؤيته للواقع الاجتماعي الذي يعاينه، فنشأ عن ذلك تعدّدٌ في المناطق تبعًا للموضوع، كما أشرنا آنفًا، أو للأسلوب الذي اتبعه العالم الاجتماعي في رؤيته، فهناك على سبيل المثال، منطق صوري، منطق حيوي، منطق لغوي، منطق أرسططالي، منطق رياضي.. الخ، سعادة ووفق رؤيته المدرحية، رأى أنه لا يمكن تعميم المشكلات التي ينتهجها أو يبتدعها العقل في فهمه لموضوعه، على موضوعه، ذلك أن العالم، المادي والنفسي، لا يمكن تجزئته وفق ذلك، فسعادة يقول بأسبقية الوجود المادي على الوعي، وتاليًا لا يمكن تصور الواقع، أيًّا كان، وفق ما يراه العقل بناءً على فيزيولوجيته، حينها يكون الوجود المادي انعكاسًا للوعي وليس العكس، أو بناءً على قواعد أو معلومات غير مثبتة علميًّا، بالتجربة أو بالاستدلال عليها من خلال الوقائع التي تؤيدها ولا يكون للعقل فيها أي تدخل، فعلى سبيل المثال، في إجابة سعادة على سؤال: لماذا العالم، على ما هو عليه، واقع أمم؟ كانت إجابته: لأن العالم واقع بيئات، “إنّ تقسّم الأرض إلى بيئات هو السّبب المباشر لتوزّع النّوع البشريّ جماعات. فالبيئة كانت ولا تزال تحدّد الجماعة، لأنّ لكلّ بيئة جغرافيّتها وخصائصها، كما مرّ بك. فلو أنّ الأرض كانت سهلًا منبسطًا في درجة واحدة من الحرارة والرّطوبة، خاليًا من الحدود الجغرافيّة من صحارى وجبال وأنهار وبحار، لكان من البديهيّ أنّ يؤدّي انتشار النّوع البشريّ فيها إلى إنشاء جماعة واحدة كبيرة..”. يستدل سعادة إذًا من الواقع الموضوعي على نتائج هذا الواقع، اجتماعيًّا، وفي غوصه في مراحل تاريخ التطور البشري، حتى مراحله الأولية، حيث الإنسان في حيوانيته، وجد أن الإنسان كان مجتمعًا، ووجد أنه بالرغم من التطور اللاحق وحتى بأشواط طويلة، أبقى الإنسان على حالته الاجتماعية، فقال: “ولقد تكلّمنا عن الاجتماع البشريّ، وأشرنا إلى أنّه عريق في القدم وأنّه صفة بشريّة عامّة، حتّى إنّ ما قلناه بهذا الصّدد ليحمل على الاعتقاد أنّ اجتماعيّة الإنسان شيوعيّة بلا حدود أو قيود، والواقع غير ذلك. فالمجتمع الإنسانيّ ليس الإنسانيّة مجتمعة، ومن يدري هل يقدّر للإنسانيّة أن تصير مجتمعًا واحدًا في مستقبل العصور؟” سعادة في بحثه عن حقائقه، يستنطق الواقع الموضوعي، مستخرجًا منه قواعده في بناء فلسفته، ولا يستقرئ الواقع ليبني عليه أحكامًا مطلقة خارجة عن حدود الزمان والمكان، بالمعنى الماركسي الذي تنبأ، بناء على معاينته لواقع المجتمعات الأوروبية في القرن التاسع عشر أحكامًا ثبت بما لا يقبل جدلًا، أنها مجرد تهيؤات لماركس أو أنغلز، وعلى سبيل المثال، أيضًا، فإن منهج سعادة في التحري عن العوامل والأسباب، لأية موضوعة يواجهها، ينهج منهجًا تحليليًّا، يغوص إلى أعمق أعماقها بما لا يترك مجالًا للشك لديه، ليعيد ترتيبها من جديد في منهج تركيبي، ينتهي به إلى نتائج أقرب ما تكون إلى الموضوعية، لكنه مع ذلك لا يطلقها أيّما إطلاق، ففي استقصائه عن السلالات البشرية، مثلًا، لا يقف موقف كارل ماركس من السلالات، حيث اعتمد ماركس مفهوم السلالة العامي وتعامل معه كواقعة ملازمة للبشرية، سعادة يدقق حتى في المفاهيم والمصطلحات التي تواجه أبحاثه، فلا يتركها على الغارب، يعاينها يحللها ويعيد ترتيب جزئياتها ويبني عليها حقائقه، يغوص محلّلًا مصطلح السلالة بدءًا من مدلول السلالة العامي، إلى معتقدات السلالة في مختلف القارات، إلى عقائدها، ونظرياتها ليعود بانيًا موقفه منها بدراسته لنشوئها وأعدادها وتأثيرها في عقول معتنقيها، يقول: “إذا تركنا وجهة التّخمين والتّقديرات التّخيّليّة في الفوارق الظاهرة في جماعات النّوع البشريّ وبحثنا عن مدلول كلمة [السّلالة] العلميّ، وجدنا أنّ هذه اللّفظة هي من مصطلحات العلم الطّبيعيّ. والغرض منها تقسيم النّوع الواحد إلى فروع (أجناس) تتوارث صفاتها ومزاياها الخاصّة(7)، أمّا النّوع فيقصد منه تحديد الكائنات الحيّة الّتي ينتج تزاوجها نتاجًا ناجحًا يكون له ذات المقدرة بلا حدود(8). فالأجناس تقبل الاختلاط والتّزاوج والإنتاج ويمتنع ذلك في الأنواع إلاّ شذوذًا نادرًا”، يضيف: “إذا تركنا المعتقدات السّلالية والنّظريّات المبنيّة عليها جانبًا وعمدنا إلى الوجهة العلميّة من الموضوع وجدنا السّلائل البشريّة خاضعة لعلمين رئيسيّين يتناولانها بالدرس في دوائر اختصاصيّة، هما الإثنلوجية، أو علم الأقوام أو السّلائل البشريّة(25) والأنثروبولوجية أو علم الإنسان”. وما ندخل هنا في أيّ بحث يتناول تعليل حدوث هذا التقسيم التّنوّعيّ لسببين:

أوّلهما أنّه ليس غرض هذا الكتاب التّحقيق في هذا الموضوع المستقّلّ.

والثاني أنّ آراء العلماء وأدلّتهم ليست متّفقة بهذا الصّدد فيكون الخوض فيه خطرًا. ولكنّه لا بدّ لنا في سياق هذا البحث، من أن نعرض لبعض النّظريّات العلميّة في ذلك، من باب التّوسّع الّذي لا يدخلنا في خطر إصدار أحكام عامّة جازمة”، لكنه (سعادة) يبني على ما تقدم نظريته في هذا الموضوع ويقول: “والّذي نرجّحه أنّ السّلالات البشريّة هي عدّة تطوّرات أو سلسلة تطورّات حدثت في ظروف وبيئات تطوريّة، أي قبل استقرار البيئة الطّبيعيّة على حالتها المعروفة الآن، وقبل أن يكون الارتقاء قد مكّن الإنسان من التّحوّط ضدّ اختلاف البيئات. فإذا كان الأمر كذلك، وهو ما نرجّحه، فقد توافقت نظريّة القائلين بخضوع السّلالة للبيئة والقائلين باستقلال السّلالة عن البيئة..” في قول سعادة: “فقد توافقت نظريّة القائلين بخضوع السّلالة للبيئة والقائلين باستقلال السّلالة عن البيئة..”، تتضح منهجية سعادة في فلسفته المدرحية، من أنها: “الـ Synthese أو المخرج النظري من تعارض النظريتين، مذهبًا واحدًا هو القومية. إن في هذا المبدأ إنهاء جدل عقيم يهمل الواقع المحسوس ويتشبث باللاحسي، جدل يحل علم الكلام محل علم الاجتماع..”.

في شرحه للمبدأ الأساسي الرابع، يعلن سعادة صراحة عن منهجه يقول: “يتبع هذا المبدأ مبدأ التسلسل التحليلي. فهو تحديد لماهية الأمة المذكورة في المواد السابقة. وهو من حيث مدلوله الأثنلوجي يحتاج إلى تدقيق وإمعان..”، يضيف ويعلن: “.. القصد منه إعطاء الواقع الذي هو النتيجة الأخيرة الحاصلة من تاريخ طويل يشمل جميع الشعوب التي نزلت هذه البلاد وقطنتها واحتكت فيها بعضها ببعض واتصلت وتمازجت، منذ عهد أقوام العصر الحجري المتأخر..”، يتبع التحليل منهجًا آخر هو المنهج التركيبي في قوله: “هو النتيجة الأخيرة الحاصلة من تاريخ طويل..”.

ليست المدرحية في حقيقة الأمر سوى رفض لتجزئة الوجود وفق توصيفات العقل، فوحدة الوجود كلٌ لا يتجزأ، وإن كان ذلك من ضرورات المعرفة، فتبقى تلك التوصيفات لا تتنافى ووحدة الوجود، فسعادة عندما يحلل الواقعة الطبيعية أو الاجتماعية، يُبقيها في حدود جزئياتها، دون تدخل منه إلا في تموضعات تلك الجزئيات، في تحليلات أخرى لنظريات أخرى، هو يعيد ترتيب أولوياتها ليبني عليها نظريته في منهج تركيبي يتبع به منهجًا وصفيًّا يرصف من خلاله معياريًّا ما ينتهي إليه توصيفه، في نظرته للإنسان، يرفض سعادة اعتبار الفرد مقياسًا للحقيقة “فالأفراد يأتون ويذهبون، يتساقطون تساقط أوراق الخريف، أما المجتمع فباقٍ”.. المجتمع، ها هنا، تعبير عن وحدة الوجود، عن الاستمرارية أو التكرارية، والتي يعتبرها سعادة جوهر الواقعة الطبيعية أو الاجتماعية، أو بالأحرى، القانون الموضوعي الذي لا محيد عنه، والذي لا يقبل تحييدًا، أو إهمالًا، أو تجنيبًا، لذا، كان المجتمع، كلًا لا يمكن تجزئته، إلى أفراد وأجيال ومقاطع تاريخية وأخرى بنى طائفية أو عرقية أو اقتصادية، هي تشويه لوحدته كوجود موضوعي لا يقبل بأية حال التجزئة إلا في حدود بيان سلبيات الواقعة (الطائفية، الطبقية، العرقية، اللغوية، الدينية..) أو إيجابياتها..

سعادة، يدرس الواقعة الطبيعية أو الاجتماعية، فيصفها بطريقة علمية، أقرب ما تكون إلى المنهج المقارن، والذي يعتبر من أفضل الطرق للوصول لتفسيرات منطقية لها دلالاتها وبراهينها ومن ثم يضعها في أطر، محددة لها، لكنها تبقى تنتمي لوحدتها التي لا تقبل التجزئة، وهذا هو بحد ذاته المنهج الوصفي الذي يتبعه في مختلف مقارناته، يقول: “يمكننا الآن أن نتقدّم بارتياح إلى النّظر في خصائص أو مزايا المجتمع البدويّ والمتوحّش.. ونوعا هذه الجماعات الأوّليّ والبربريّ يشتركان في العادات الاجتماعيّة والأذواق بحكم مستوييهم الاقتصاديّين المتقاربين. فترى الضّيافة الّتي تفرضها عليهم أحوال معاشهم صفة عامّة عندهم على السّواء، وكذلك تعاملهم فيما بينهم، وخصوصًا معاملتهم المرأة(76). وما يروى، مثلًا، عن كرم العرب وفروسيّتهم والشّعور بالشّرف عندهم وضيافتهم، يروى مثله عن أهل بلاد النّار (تراد لفويقو) وهنود أميركا والفيجيين والطنقوسيين(77)، فهذه الصّفات المشتركة تظهر بقوّة في الشّعوب الّتي لمّا تحرّكها الثّقافة الزّراعيّة التجاريّة وساعدتها أحوال معاشها الضّيّقة على حصر قواها النّفسّية في بعض المظاهر المحدودة. ونرى أذواق هذه الجماعات مشتركة حتى في الطّعام. فهم، لجوعهم، يزدردون الطّعام بطريقة لا تسمح بالتّلذّذ به على حدّ الجماعات الرّاقية، حتّى إنّ بعض العلماء يذهب إلى جعل درجة لذّة الطّعم في عداد الفوارق بين الأقوام الأوّليّة والشّعوب الرّاقية، وجميع هذه الجماعات أو المجاميع لا تعرف توزيع العمل.. وبالإيجاز نقول إنّ أغراض الجماعات الأوّليّة المتوحّشة والجماعات البربريّة المنحطّة أو المتأخّرة محدودة جدًا بالنّسبة إلى أسباب سدّ الحاجة المعاشيّة مباشرة أو مداورة إلى مدى محدود..”، منهج وصفي لا يقتصر على عينة محددة بل يعمل على مقارنتها بما يشابهها في خصائصها وما يخالفها في ذلك..، من الوصفي إلى المعياري، ونقصد بالمنهج المعياري، كيفية ترتيب عناصر الواقعة الطبيعية أو الاجتماعية، وفق أفضل المعايير التي تجعل من الإنسان قيمة بحد ذاته، وأيضًا هنا يعمل سعادة على اشتقاق معاييره من الحالة التي يعاينها، وبما يتناسب وإمكاناتها، وما يحقق لها مرمى وجودها في وحدته..

لكن كيف يجمع سعادة في منهجه المدرحي عددًا من المناهج في آن؟

لا يرى سعادة وقائعه الطبيعية والاجتماعية في جزئيتها، بل تبقى كلٌ منها، أيًا كانت، في مجمل ارتباطاتها مع وقائعه الأخرى، فالعام عند سعادة لا يمحو الخاص، هذه مسألة جوهرية في فلسفته المدرحية، ففي نظرته للإنسان المجتمع يرى الفرد مجرد إمكانية، لكنه، في التاريخ يبقى القول الفصل، يقول: “والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة..” ومع ذلك يرفضه رفضًا قاطعًا من أن يكون، في واقعة الديمقراطية شريكًا مباشرًا في تقرير مصالح الدولة، يقول: “إنّ العقل السّوريّ العمليّ لم يكن يميل إلى تخيّلات فاسدة من الوجهة العمليّة. ولذلك فهو قد اكتفى من التّجربة الإغريقيّة للحكم الشّعبيّ، بواسطة الشّعب أجمع، بالمشاهدة. إنّه لخيال بديع، في نظر غيري، وخيال سخيف في رأيي أن يكون كلّ فرد من أفراد المدينة المعترف بهم [شريكًا] فعليًّا في إدارة الدّولة. إنّ المدينة السّورية ظلّت محافظة على الفرق بين السيّاسة والاجتماع، وهذا الفرق هو ما مكّن الدّولة من اطّراد تقدّمها..”.

في منهجية سعادة، تبقى ثلاثياته في حالة تداول الأدوار، في إطار الزمان والمكان (جسم، محيط، نفس، -قضاء، تشريع، تنفيذ،- ماضٍ، حاضر، مستقبل،- الهو، الأنا، الأنا العليا،- الغريزة، العاطفة، العقل،- البيولوجي” الحيوي”، الفيزيولوجي” الوظيفي”، السيكولوجي” النفسي”.. الخ) لا يلغي أيٌ منها الآخر، تبقى في ترابطها وفي وحدتها، كلٌ لا يتجزأ، يتبوأ كل منها القيادة حتى درجة الإشباع، ليتنحى بعدها فاسحًا المجال رحبًا للآخر سدّة القيادة مشاركًا مشاركة فعَّالة في تنفيذ مقرراته، هكذا لا يلغي التحليلي المنهج التركيبي، كما لا يلغي هذا الوصفي، وفي المنهج المقارن، يأخذ كلٌ من هذه المناهج دوره في القيادة، أما المعياري “القيمي” فيبقى في حالة انتظار ليقدم له الجمع خلاصات أفعالهم وأعمالهم، ليخط عليها القيمة الفضلى لإنسانه.

على قاعدة /شرط الوضوح التعيّن/ يحدد سعادة مواصفات منهجه في التزامه بقوننة خلاصاته، بالقانون العام لفلسفته، “الناموس” الذي يقول به: “إنّ النّاموس اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب أن لا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها. فكوننا اكتشفنا ناموسًا أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب أن لا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى، فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع. وإذا كنّا قد اكتشفنا سنّة التّطوّر فيجب أن لا نتّخذ من هذه السنّة أقيسة وهميّة تذهب بنا إلى تصّورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة”.

في تعريفه للناموس، أي القانون العام، أو المقولة التي تجمع شتات العلوم في صيغة جدّ مختصرة تفسّر جملة من العلاقات لواقعة أو وقائع طبيعية أو اجتماعية، يضع، سعادة مرتكزات فلسفته المدرحية، فالناموس، القانون العام، المقولة، هو مجرد مصطلح (من اصطلح، اتفق)، اتفاق بشري، على أن هذا الشيء هو كذا وكذا، ومن حيث هو كذلك أي اتفاق، فهو يحتمل الخطأ والصواب، وخير مثال على صحة ما يذهب إليه سعادة، أنه وعلى مدى ثلاثة قرون، سيطرت نظرية نيوتن في الجاذبية على مختلف فروع الميكانيك، حتى أطل أنشتاين بنظرية “وهم الجاذبية” فقلب موازين الرياضيات رأسًا على عقب.. بما يعني أننا وإن اتفقنا على مسألة ما طبيعية أو اجتماعية، فهذا الاتفاق قابل للتعديل أو التغيير.. ذلك أن المادة السابقة للوعي، تبقى على ما هي عليه وإن انعكست في الوعي على غير ما هي عليه..

يضيف، مدللًا على موضوعه “لمجرى من مجاري الحياة أو الطبيعة..” بما يعني أيضًا أن موضوعه هو الوجود بكليّته وليس ما وراء الوجود، ذلك أن هذا الـ”ما وراء الوجود” هو مجرد افتراض كما العدم، كما البداية والنهاية، والتي هي بمجملها انعكاس للمادة في الوعي، فالشيء في الوعي يفترض نقيضه، مقتبسًا من تجربة الوعي في ثنائية الليل والنهار، الأبيض والأسود، الأعلى والأسفل.. لكنه لا يوجد في الطبيعة ولا يحرك في الحياة شيء، بين الوجود بالفعل والوجود بالقوة، ينحاز سعادة كليًّا إلى الأول ويرفض رفضًا قاطعًا الثاني..

من وجهة نظر سعادة، ليست الطفرة بقانون وإن حدثت، ذلك أنها لا تملك خاصية وصفة الديمومة، أو الاستمرار، أو المتكرر، خاصية الاستمرار في التأثير، في الفعل، تبقى هي الجوهر الذي يدلّل على تأثير هذا على ذاك، وتاليًا هو ما يمكن قوننته، لذا كان القصد من الناموس “تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة..” عند سعادة ليس الفرد مقياس الأشياء، لأن الأفراد يأتون ويذهبون.. أما المجتمع فباق، الفرد مجرد “طفرة” الاستمرارية للمجتمع.. من هنا كان الإنسان- المجتمع هو الناموس في الاجتماع البشري..

يقول: “لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها..” وجهان لهذه الخاصية للناموس، وجه معرفي، أي إن الناموس قابل للتغير أو التبدل أو التطور، والوجه الآخر، أن لا مطلق في الوجود، وكل الأوامر والنواهي التي جاءت بها الفلسفات ليست سوى وهم ابتدعه الوعي “كل مطلق ليس واضحًا هو نسبي مهما قيل إنه مطلق غير نسبي. كل مطلق مبهم هو لا شيء..” ولا يستثني سعادة فلسفته التي تتمحور، اجتماعيًّا، حول فكرة الأمة، من ذلك في قوله: “ومن يدري هل يقدّر للإنسانيّة أن تصير مجتمعًا واحدًا في مستقبل العصور؟” بمعنى أنه لا يطلق لنظريته الديمومة على مدى العصور القادمة، بل هي خاضعة بدورها لناموسه، الذي يقبل بالتغير أو التبدل أو التطور، فقد تؤول العلاقات بين الأمم إلى وحدتها في مجتمع عالمي تمحو به الفوارق بين الأمم نتيجة التحاكّ اليومي عبر مختلف الوسائل التي يمكن للعقل أن يبتكرها مقاربًا بين الجماعات سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا..

يضيف قائلًا: “وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب أن لا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها..” مقياس الخطأ والصواب عند سعادة، هو الحياة، كل ما يعيق حركة الحياة في تطورها ليس بناموس، ليس بقانون، ليس بمقولة، هو مجرد إعاقة لمسيرة الحياة، هو تجزئة لوحدة الحياة المادية النفسية، التي لا تقبل التجزئة، مهما دعي إليها انعكاس الوجود في تشظياته، في الوعي..

في قوننته للحقيقة، لا يغفل سعادة أنها مستخرجة من الوجود الموضوعي، الطبيعي والاجتماعي، لذلك يشترط عدم إطلاقها، بمعنى تعميمها على ما تبقى من نواميس فالعام لا يمحو الخاص، يقول: “فكوننا اكتشفنا ناموسًا أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب أن لا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى، فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع..” من هنا كان اعترافه بالفرد على أنه مجرد إمكانية لكنه في الوقت عينه، من العوامل الفاصلة في التاريخ كما وأنه “قد يكون حبّ المجد هو الموحى أو الدافع لبعض الأشخاص على العمل للمصلحة العامّة، فتكون المصلحة في هذا المثل مركّبة بالنّسبة إلى الشّخص، ولكنّها بالنّسبة إلى العموم عامّة بسيطة، وهنا نضطرّ إلى التّمييز بين المصلحة العامّة الأوّليّة بالنّسبة إلى الكلّ وبين المصلحة العامّة الثّانويّة بالنّسبة إلى الشّخص الّذي يتّخذ من المصلحة العامّة وسيلة لمصلحة شكليّة شخصيّة (حبّ المجد) هي المصلحة الأوليّة له. فالأساس الاجتماعيّ للمصلحتين واحد هو خير المجتمع، وهو وحده يوجد علاقة المصلحة الاجتماعيّة الثّابتة. ومهما يكن من الأمر في هذه المسألة فمصلحة المتّحد تظلّ قائمة لأنّها دائمة..”.

يقول: “وإذا كنّا قد اكتشفنا سنّة التّطوّر فيجب أن لا نتّخذ من هذه السنّة أقيسة وهميّة تذهب بنا إلى تصّورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة.” سعادة هنا يؤكد على ضرورة حصر القانون أو المقولة أو الناموس في نطاقها، دون تعميمها على ما يتعداها، في إشارة إلى المادية الديالكتيكية في إسقاطاتها قوانين الطبيعة على الاجتماع البشري، مما أدى بها إلى تصور حتمي لمجتمع مشاعيّ هو الأخير في التطور الإنساني، حيث تتناهى الدولة لمجرد “مصلحة بريد” ويضيف أنه لا يمكن ذلك ليس بين الطبيعة والمجتمع فحسب، بل لا يمكننا ذلك حتى في حالات تتقارب فيها بعض الخصائص بين الحيوان والإنسان، يقول: “وإذا كان الإنسان يقع، من الوجهة الإحصائيّة، في جدول الحيوانات المتجمهرة، فلا يعني ذلك بوجه من الوجوه أنّ بينه وبين الحيوانات والحشرات المذكورة قرابة اجتماعية تمكّن من استخراج أقيسة عامّة تطبّق على كلا الحيوان والإنسان، كما ظنّ ويظنّ عدد من الكتّاب الاجتماعيّين وغيرهم. وإنّ من أكبر الأخطاء الّتي وقع فيها هؤلاء الكتّاب محاولتهم تطبيق أحوال المجتمع الإنسانيّ على مظاهر تجمهر الحيوانات والحشرات واتّخاذ قواعد اجتماعيّة من هذا التّجمهر ومظاهره. وإذا كان في أنواع حياة الحيوانات والحشرات المتجمهرة شيء ذو فائدة للإنسان فليس ذلك في واقع التّجمهر بل في الحقائق الأخرى الّتي نتوصّل إليها بالدّرس في جميع الحيوانات والحشرات، سواء أكانت من المتجمهرة أم من غيرها ففي الحياة سنن عامّة تجري على الأجسام الحيّة كلّها. على أنّ في المتجمهرة منها فائدة أخصّ..”.

يقف سعادة موقفًا صارمًا من اتباع منهج القياس في الموضوعات التي تتطرق لها العلوم الاجتماعية أو الإنسانية بصورة عامة، يقول: “إنّ القياس كان ولا يزال مصيبة كبيرة في الأبحاث العلميّة الاجتماعيّة، خصوصًا في الأبحاث الّتي لا تجرّد علم الاجتماع من النّظريّات الفلسفيّة، من الفلسفة الاجتماعيّة، وهو الالتجاء إلى القياس ما أوجد شيئًا كثيرًا من الخلط في المسائل الاجتماعيّة عمومًا ومسألة الأمّة والقوميّة خصوصًا..”.

بناء على ما تقدم، فإن المنهج المدرحي، يتصف بقابليته للتطور تبعًا لمستجدات الواقعة الطبيعية أو الاجتماعية باعتبار أن النواميس ليست سوى انعكاس للموضوعي في الوعي الذي قد يقتصر في خلاصاته على معلومات غير مكتملة من الوجهة الموضوعية أو الذاتية أما الصفة الثانية فهي أنه يقتصر على المتكرر في الواقعة، من حيث أن المتكرر، هو جوهر الواقعة، أما الصفة الثالثة فهي أنه مشتق من الواقعة بذاتها وغير متعارض معها، وأما الصفة الرابعة والمكملة لقابليته للتطور أنه ليس مطلقًا بل نسبيًّا متوافقًا ونسبية المعلومة التي يقوم عليها، أما الصفة الخامسة وهي جوهره أنه يعبّر عن وحدة الوجود الطبيعي والاجتماعي الذي يعاينه وغير متجاوز لها، لهذا فهو يجمع مختلف مناهج البحث العلمي، بادئًا بالمنهج التحليلي، مصنّفًا جزئيات الواقعة وفق أولوياتها بالنسبة لوحدتها، ليقيم عليها بناءه عبر منهج تركيبي، لا يهمل في أي جانب من جوانبه الوصفية بغية بلوغ مرتكز يحقق له منهجه المعياري القيمي، فالمنهج المدرحي إذًا هو وحدة المناهج في قراءة ودراسة واستخلاص النتائج التي تكشف عنها الواقعة الطبيعية أو الاجتماعية..

في الختام، لا بد لنا من الإشارة إلى ما يشير إليه /عبد الرحمن بدوي/ في توطئته لدراسة /مناهج البحث العلمي/ مستخلصًا إياها من جملة ما قيل في توصيف مختلف مناهج البحث، يقول:

“والنتيجة لهذا إذن، أن الفصل بين المناهج العلمية غير ممكن في البحث العلمي: ولكننا نقوم بهذا التقسيم من أجل دراستها فحسب، وعلينا إذن أن نراعي تلك الوحدة، وأن لا نعد هذا التقسيم، تقسيمًا مطلقًا، فهي كلها في الواقع خطوات مختلفة في منهج واحد عام قد نسير بها كلها بالنسبة إلى مسألة واحدة في علم واحد..”.

بعد أكثر من نصف قرن على ما يقدمه سعادة في أبحاثه، يقتفي أثره علماء الاجتماع كافة متجاهلين أنه واضع أسس علم اجتماع جديد، يبقى مهما قيل عنه نظرة جديدة بالفعل إلى الحياة والكون والفن.

“مدرحية” علي عمران:

في مختلف الدراسات أو المقالات التي تناولناها حتى الآن، كانت المدرحية مجرد إسقاطات على موضوعات مختلفة، حيث لا يمكن وصفها بالسمة التي يسمها بها الأمين حيدر..

“قراءة في الفلسفة المدرحية” عنوان مقالة الرفيق علي عمران، هي الدراسة الأولى التي تناولت المدرحية كموضوع رئيس لها، والتي يمكن وسمها برؤية الرفيق علي عمران للمدرحية، من وجهة نظر أقرب ما تكون للأكاديمية منها إلى البحث في المدرحية كفلسفة، لذلك فإن هذه القراءة، تعتبر فريدة من نوعها نظرًا لتماسكها وترابطها واقتصارها على الجوهري من الفلسفة المدرحية، وهي ميزة تحسب للرفيق عمران..

لم يُولِ الأمين حيدر هذه الدراسة الاهتمام الذي أولاه لغيرها من تلك الإسقاطات، أو الدراسات أو المقالات، لعلة في ذاته أم لأنه لم يجد ما يمكن نقده في هذه القراءة، فهي كما سبق أن أشرنا إليه أعلاه، وكان المجال رحبًا للأمين حيدر إيلاءها الاهتمام الكافي لبيان رأيه فيما أوردته من إشارات فلسفية تناقض ما يورده هو من مرتكزات يعتبرها تعريفًا للمدرحية من وجهة نظره..

يبدأ الرفيق عمران قراءته من السؤال الفلسفي البكر: من يحتل مركز الأولوية في الوجود المادة أو الوعي، فيقول: “كان العقل يفتش عن الغامض المطلق الذي كان علة الوجود..”، فكان سؤاله “الفلسفي التقليدي”: من وجد قبل الآخر المادة أو الروح؟ لبيان أين هو موقف الإنسان باعتباره معلولًا للجواب” وفي جميع الإجابات الفلسفية كان موقع الإنسان محكومًا بالعلة المطلقة التي كانت سببًا لوجوده. فـ”الإنسان” في الفلسفات المادية إمكانية تحقق قوانين المادة. وهو في الفلسفات الروحية “إمكانية إيمانية” تخضع خضوعًا تامًا لقوانين الروح المطلقة. وبقدر ما كانت المسافة شاسعة بين مثالية المادية ومثالية الروح.. بقدر ما كان على العقل الإنساني أن يبذل من الجهد لملء هذه الفجوة الفاصلة بين القطبين النقيضين (المادة والروح) بالفكر الجديد”، الذي جاء مع الفلسفة الوضعية التجريبية، فتحولت الفلسفة كما يقول عمران من (علم الحكمة) إلى (العلم الكلي) وبنتيجة ذلك كان التأسيس لعلم الاجتماع..

من السؤال الفلسفي (مَنْ قبل مَنْ) إلى السؤال الذي طرحته المدرحية كبديل للتناقض القائم بين تلك الأسبقية، فكان السؤال: “من أين جاءت الحياة؟” وكانت الإجابة كما يقول عمران: “شيوع الحياة في المادة شيوع الإنسانية في الحياة.. (بمعنى أنه) يجب تفسير الوجود بالإنسان على قاعدة ربط موضوعه بحركة الحياة.. (من منطلق أنه) إذا كان شيوع الحياة في المادة شرطًا لوجود الإنسانية واستمرارها، فإن شيوع الإنسانية في الحياة هو أيضًا شرط لإعطاء الظواهر المادية بعدها المؤنسن، المعّرف، والمتسق في عملية بنائية (كمية وكيفية) لا حدود لها. وهذه النظرة تستقرئ كيفية تحول الحياة من كمون مجرد إلى حيوية، ومن ثم إلى حركة. وتنطلق إلى تحديد المنطق الناظم لتحول الوجودات من أشياء إلى ماهيات، ومن عبث إلى وظيفة، فالحياة لا معنى لها إن لم تكن صيرورة.. وخلقًا مستمرًا..” في تحول الوجود من شيء إلى ماهية، يقف الوعي فاعلًا لتحويله من إمكانية إلى فعل..

فلسفة التفاعل:

هنا تبرز للوجود أهمية الوعي الإنساني في الفعل باعتباره الرد الأمثل للتحدي الوجودي الموضوعي، وفي العلاقة بين الوجود والوعي، تقوم مقولة التفاعل التي تقول بها المدرحية كمخرج عملي، فعلي، من صراع أضداد مفترضة هي في وحدة مهما قيل غير ذلك، يقول الرفيق علي عمران: “يشكّل فكر سعادة نهجًا مغايرًا لمنحى الفلسفات التي سبقته، وتتجلى نقطة افتراقه عنها في موقفين نظريين متكاملين:

الأول: أنه أبطل السؤال الفلسفي التقليدي..

الثاني: بما أن الإنسان هو قضية الفلسفة، لا يجوز تجاهل ما تفرضه الظاهرة الإنسانية من واقع وضعي..” بالطبع، على صعيدي الوجود والوعي، يضيف الرفيق عمران: “يرى سعادة وجوب فهم هذه الظاهرة حسب القوانين الطبيعية التي تحكم وجودها وفق ثلاثة مستويات متلازمة ومترابطة سببيًا..”، واحدة من أهم ثلاثيات سعادة، الإنسان، الأرض، التفاعل، بمعنى دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية.. الإنسان كمفهوم، يقول عمران: “هو إشارة إلى حالة اجتماعية ذات خصائص طبيعية ولا يتضمن هذا المفهوم أي إشارة إلى الفرد كحالة بشرية معزولة..”، أما الطبيعة البيئة، فهي في خصوصيتها كما يقول عمران: “يربط سعادة بين خصوصية الأرض (المكان)، وخصوصية الظاهرة الإنسانية (الحالة الثقافية والنفسية للمجتمع) بعلاقة طبيعية هي التفاعل بين طرفي معادلة الحياة (البيئة والمجتمع) حيث تبرز للوجود ظاهرة راهنية” التفاعل الذي ينشأ بين المجتمع (الحالة الثقافية النفسية) وبين الأرض (البيئة الطبيعية). وفي هذا التفاعل يشكل القطبان الأساسيان (الأرض= الإمكانيات المادية) و(الإنسان= الوعي) عاملي السلب والإيجاب، حيث يصبح كل قطب في موقع الفعل والانفعال..”، وهنا ما يحسب للرفيق عمران في كشفه عن جوهر العلاقة التفاعلية التي تقول بها المدرحية، ذلك أنها ليست مجرد علاقة كيمائية يأخذ كل من قطبيها دوره متماهيًا في الآخر، إنها علاقة مدرحية بامتياز عندما يقول عمران “بحيث يصبح كل قطب في موقع الفعل والانفعال..” أي تداولية الأدوار في العلاقة التفاعلية المدرحية، فأي من طرفي مقولة التفاعل، هو في آن منفعلٌ وفاعلٌ، يقول سعادة: “يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة. وفي الوقت الّذي يسعى هو لتكييف الأرض لتوافق حاجاته الحيويّة يجد نفسه مضطرًّا لتكييف حاجاته حسب خصائص الأرض النّازل فيها..” وعليه يبني الرفيق عمران موقفًا مدرحيًّا بامتياز:”• في كل مادي نقع في الوجود الإنساني على مدلول روحي أو أكثر. وفي كل روحي هناك مدلول مادي أو أكثر.. ولا وجود عمليًا للتناقض في “المادة”، سواء داخليًّا (بين مكوناتها) أو خارجيًّا (بين مادة وأخرى)، فالموجب “يكامل” السالب، وكل سلب شرط لوجود الإيجاب والعكس صحيح”. مدللًا في هذا الموقف على وحدة الوجود التي لا يمكن تجزئتها وفق تشظيات فهم العقل لها، ومعرّفًا الإنسان كمركب من “المعرفة (العقل) والوجدان (النفس والإرادة) وتشكل المعارف العقلية في تفاعلها مع الوجدان البنية الروحية للإنسان..” بمعنى أكثر وضوحًا، أن ما نعرفه يدخل فيه شرطاه، الوجود والمعرفة، فالوجود مضمون المعرفة، كما المعرفة هي التي تُعطي الوجود قيمته..

التناقض إذًا في العقل الذي لا يقبل بالتناقض، فيمضي في تجزئة الواقع المادي لفهمه.. ومع ذلك فعلى الرغم من التناقض في الوعي (بمعنى تجزئة الواقع المادي إلى ثنائية هي انعكاس لما فطر عليه من ثنائية الليل والنهار البعيد والقريب، الأعلى والأسفل) فإن “التفاعل بين الإنسان والوجود، يتبدى عمليًّا في مستوى العلاقة بين الوعي وعالم الظاهرات، وهذه العلاقة تنطوي على تفاعل متواصل بين عالم الأشياء في ذاتها (الذي هو الوجود الموضوعي) وبين العقل الاجتماعي، وتحكم خصائص المجتمع (العامل الذاتي) مسار العقل الاجتماعي في التحقق من الظاهرات، وإدخالها مدار التفاعل.. -في الحقل الاجتماعي الواحد (الأرض+ الجماعة) تجري عملية التفاعل في مستويين:

أ- المستوى الموضوعي: وهو الذي تتم فيه العلاقة الحيوية بين الإنسان والبيئة (المحيط المادي) وقياسًا عليه، يمكن القول إن الفكرة تنتج من تفاعل مثلث العناصر الأساسية:

المكان (البيئة الطبيعية) -الحالة (بنية المجتمع)- العقل والوجدان (الثقافة والإرادة).. بمعنى آخر أكثر دقة، أن المادة مرتبطة بمدى استجابة الجماعة لها، هذه الاستجابة هي التي تعيّن مستوى المرتبة الثقافية للمجتمع وفق المرتبة الثقافية لدورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية..

فلسفة الحقيقة:

يُعرّف عمران الحقيقة من حيث كونها “ظاهرة وجودية متفاعلة ومنفعلة مع الوعي..”، أي إن المادة بالمعرفة تخضع للإنسان، فتصبح مُسخّرة لخدمة أغراضه التي إن أحسن صياغتها باتت المادة أقدر على تلبية مطالبه منها، في الحال المعاكس تبدو المادة مستعصية على الاستجابة، والاستعصاء دليل على فهم مغلوط في الوعي وليس في المادة، استعصاء الوحدة الاجتماعية دليل فهم مغلوط لهذه الوحدة (مفهوم العروبة، مفهوم الأممية الدينية والطبقية..) وعليه يقول عمران: “فهي نسبية وشرط تحوّلها إلى حقيقة مطلقة أن تصل عملية التفاعل (فعل وانفعال) بين شرطيها إلى حدها النهائي.. ولذلك فالحقائق الوجودية المطلقة لا وجود لها عمليًّا في منطق الحياة، لأن كل مطلق سكوني، بينما الحياة مسكونة بديناميات التغيير التي تصنع حركة التاريخ التي لا تعترف بنهائيات في الفكر وحتى الحقائق الرياضية والفيزيائية التي أسستها للعلوم المعاصرة نقضها منطق العلم الحديث، وانقلبت عليها أدوات المعرفة المعاصرة..”، يضيف عمران موضحًا أن الافتراض العلمي مقبول مبدئيًّا، لأنه افتراض مُدعم بمنطق موضوعي، لذلك “في كل فلسفة يمكن أن نقع على منطق افتراضي في المستوى الأول من منهج التفكير..” لكنه (عمران) ينبّه إلى أن “الظواهر رغم وجودها تكاد تكون عدمًا في غياب الوعي، لأن وجود الإنسان كان شرطًا قطعيًّا لإدراك الوجود، فالكون لا وجود له معرفيًّا لولا وجود الإنسان.. أي إنه في غياب الوعي الإنساني يظل (الوجود) في كينونته افتراضًا غير محقق..”.

فلسفة التاريخ:

في فلسفة التاريخ، يقدم لنا الرفيق عمران كيف أن المدرحية أو القومية الاجتماعية، هي المخرج العملي لتنازع الأمم لمصالحها، فهذا التنازع محكوم بتجزئة بيئات الأمم إلى كيانات سياسية فرضتها ظروف تاريخية حكمتها نزوعات للتوسع والسيطرة على الموارد، لذا، كان المخرج الوحيد من حالة الاضطراب هذه التي تعيق الإنسانية من اضطراد التقدم، هو العودة إلى “مبدأ الخصوصية الذي يحكم نشوء الأمم هو القانون الوحيد الذي يمكن على أساسه فهم التباينات الحاصلة في مسارات المجتمعات الإنسانية. إذ لا يمكن أن نتصور تحديدًا للمجتمع بما هو ليس فيه أو عليه. فالإنسانية لم تؤلف في الماضي ولم تؤلف حاليًّا ولن تؤلف مستقبلًا كلًا متجانسًا تنتفي فيه التمايزات الحضارية والقومية. ولا أحد يستطيع الادعاء بأن الجنس الإنساني يشكل في مجموعه جماعة واحدة تتطور دائمًا وكليًّا في الاتجاه ذاته وفقًا لمسار واحد واتجاه واحد. فالإنسانية (الملأ الإنساني) لا تزال مجرد فكرة عقلية ترمي إلى وضع مدلول صالح للتعبير عن مجموع الجماعات الإنسانية في تعريف مطلق وشديد العمومية… إن الإنسان والمجتمع هما مظهران لجوهر واحد يتحقق بالتفاعل ويتمايز بالنوازع الثقافية والنفسية (روح المجتمع) التي لا تتوقف عن الالتحام والتفاعل مع البيئة (أرض- أمة)، محققة صيرورة مدرحية متفاعلة لا تنتهي إلا بانتهاء أحد شرطيها (الأرض) أو (الأمة). وهذا لا يكون إلا بزوالهما معًا.

مدرحية الدكتور عادل ضاهر

على مدى سبع وثلاثين صفحة، يقدّم لنا الأمين حيدر حاج إسماعيل، نقده لما يطرحه الدكتور عادل ضاهر في كتابه “المجتمع والإنسان” الصادر في عام 1980، والذي حاول فيه الدكتور ضاهر “متوجسًا” تلمّس الطريق إلى فهم ما هو أقرب ما يكون لفلسفة أنطون سعادة “المدرحية”.

وقبل الخوض فيما قدمه الدكتور عادل ضاهر، وما انتقده الأمين حيدر، وعلى اعتبار أننا هنا، لسنا بمعرض ما قدمه الرفيق عادل ضاهر، بل بنقد الأمين حيدر له، فإننا نختص هاهنا بما قدمه الأخير حول دراسة الأول، مع الإشارة إلى ثناء الأمين حيدر على دراسة الرفيق ضاهر، من منطلق أنه الثناء الوحيد بين كل ما تناوله في كتابه “الفلسفة المادية- الروحية عند سعادة” من دراسات أو مقالات أو محاضرات في الفكر السوري القومي الاجتماعي.

والسؤال البدئي في محاولتنا قراءة ما يقدمه كلاهما -ضاهر وحيدر- هو: “لماذا نعتمد علماء الاجتماع الغربيين في تقييم ما يقوله سعادة في رؤيته إلى الحياة والكون والفن؟ فكأننا بهذه الحال، نعارض سعادة كليّةً في ضرورة استقلالية الذات السورية في نظرتها للحياة والكون والفن، والتي –الاستقلالية- كانت من أهم المحاور التي دار في فلكها فكر سعادة! وقد يقول قائل: “لكن سعادة نفسه قد استعان بعلماء الغرب في مؤلفه “نشوء الأمم”!!” نقول مع صحة هذا التساؤل، فاستعانة سعادة بعلماء غربيين كانت على قاعدة نقدهم وليس اعتماد ما يقولونه إلا ما توافق مع رؤيته لذات الموضوعات التي تطرق هو وهم لها!! وهذا ما لا نجده في كلتا المحاولتين (حيدر وضاهر) فعلى قياس الغرب يحاولان تفصيل ما قدّمه سعادة لجهة الفصل بين العلم والفلسفة أو لجهة المنهج فيما كتبه وقاله سعادة!!

من وجهة نظرنا، فإن علماء الغرب، يُفصّلون العالم على مقاسهم، هناك ثلاثة من كبار علماء الاجتماع في الغرب، هم كذلك، لأن نظرياتهم سادت أوروبا ومن ثم أميركا، دوركهايم في نظريته الوظيفية، وفريدريك أنغلز في ماديته التاريخية، وماكس فيبر في نظرته الفردانية (الفرد هو المقياس)، سقطت الوظيفية في التجربة التي قدمتها أميركا عبر التطورات التي سادت أوروبا بعد أميركا، كما سقطت المادية التاريخية بسقوط الاتحاد السوفييتي، واستغراق كل من الصين وكوبا وكوريا وحتى فيتنام في كيانيتهم وعزفهم عن “مركست” العالم، أما فيبر فما تزال نظريته تفعل فعلها في الغرب، متوافقة مع متطلبات الغرب الاستعمارية.. ومع كل هذا الإفلاس لعلماء الغرب، ما زلنا نستشهد بهم على سعادة..

سعادة، لم يدرس مجتمعه السوري فقط كما درس دوركهايم المجتمع الأوروبي من حيث أنه كيان قائم بذاته بمعزل عن مختلف التطورات التاريخية (اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا..) التي انتهت به للحالة التي درسه بها دوركهايم، كما أن سعادة لم يعتمد “مورغان” في دراسته لشعوب أميركا، كما اعتمده أنغلز في “أصل العائلة والملكية والدولة” ولا في سؤال ماكس فيبر الرئيس: “لماذا ظهرت الحداثة العلمية والتكنولوجية والبيروقراطية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية فقط؟”.

في كل ما كتبه سعادة وقاله، كان تعبيرًا عن رفضه نقدًا ونقضًا لكل فلاسفة الغرب الاجتماعيين وغيرهم، قدّم سعادة فكرة ونظرية جديدة كل الجدة مقارنة مع علماء كُثر غربيين وغير غربيين، يقول: “أما التكلم المبعثر على وولتار وموليار ولنكلن وهيقل ووليم جايمس وكانت وشوبنهور… الخ. وعلى مختلف المدارس الفكرية بدون أن يكون لنا رأي وموقف واضح في تلك الأفكار وأولئك المفكرين، فلا يعني أن لنا نهضة. إن ذلك لا يعني إلا بلبلة وزيادة تخبط. إن الفكر البعيد عن هذه القضايا هو أفضل من الفكر المضطرب المتراوح الذي لا يقدر أن ينحاز أو أن يتجه، لأنه متخبط وليس له نظرة أصلية، ولا يدرك ماذا يريد..”.

نعيد طرح فهمنا لفلسفة أنطون سعادة “المدرحية” في إطارها العام، الذي سبق تفصيله من خلال هذه الدراسة /نقد على نقد/:

“لا تعني المدرحية أكثر من كون، حقيقة أن “أسبقية المادة على الوعي، بما هي انعكاس للمادة في الوعي، تأتي في سياق إن عكس ما في الوعي على المادة” أيًا كانت مفهوماتنا للمادة أو الوعي، موضوعًا ومنهجًا ونتيجة، يبقى خلافًا لما هو مادة وما هو روح، بمعنى آخر، لا يمكن قسمة الوجود بما فيه الإنسان، إلى مادة وروح (نفس) على الرغم مما تتمتع به النفس أو الوجود من خصائص وميزات وصفات أو ماهية، تبقى بأية حال، مهما بالغت من المنطقية، قسمة هي واحدة من تشظيات الوعي لفهمه ذاته أو ما يحيط به”.

وقد يكون خير مثال على ما تقدم، هو ما أشار إليه الأمين حيدر في معرض نقده لدراسة الرفيق ضاهر في قوله: “.. “الفلسفة المدرحية” عند سعادة، و”الفلسفة القومية الاجتماعية” عند سعادة و”النظرة إلى الحياة” عند سعادة و”العقيدة” عند سعادة و”المبادئ” عند سعادة، كلام يكافئ بعضه بعضًا..”، بمعنى أننا إذ نتداول في أي من هذه المصطلحات، فإننا لا نتداول (مدرحيًّا) سوى بما يكافئ بعضه بعضًا، وبما يفيد أيضًا، أن وحدة الوجود بما فيه الإنسان، في مختلف ما نعنيه في الفلسفة أو الفلسفات، أو المنهج والمناهج، أو المنطق والمناطق، أو العلم والعلوم، فكل من هذه، تبقى “كلام يكافئ بعضه بعضًا” من حيث أن موضوعه هو الوجود والإنسان، وهذا ما تقول به المدرحية وما تعنيه، فوعي الوجود والإنسان، بما تعنيه المعرفة، من حيث هو ضرورة، تكمن الأخيرة في الاستدلال على ما يمكن تسخيره من الوجود لما فيه تقدم ورقي الإنسان، وبقدر ما تكون فيه المعرفة حقيقية، بمعنى قابضة على خصائص وميزات الوجود بما فيه الإنسان، بقدر ما تكون قابلة لتحقيق غاية وجودها موضوعًا لخير الإنسان، وهذا ما عناه سعادة بقوله: “وأنّ الشّمس لا تدور حول الأرض. ولو لم تتّفق هذه الحقيقة مع مجد يشوع بن نون..” بمعنى أن ما تنقله لنا حواسنا مما حولنا، يبقى إذا لم يعمل العقل على مطابقته مع الوجود بما فيه الإنسان، مجرد فهم قاصرٍ على تسخيره لما فيه خير الإنسان بذاته”، فالحقيقة من حيث هي “قيمة نفسية إنسانية..” تبقى “المعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن أن تكون له بدونها” بمعنى آخر، إن المعرفة هي السبيل الوحيد للإنسان لتسخير الوجود لصالحه، شرطها الوحيد أن تكون حقيقية، أي أن تكون متطابقة وخصائص الوجود بذاته لا متوقعة أو متخيلة.

في بداية نقده لطرح الرفيق الدكتور عادل ضاهر، يتناول الأمين حيدر، قول الرفيق ضاهر في تصديره لكتابه: “زد على ذلك أن آثار سعادة، لم تنشر كلها بعد، وأن جزءًا لا يستهان به مما لم ينشر في غير متناول الباحث، لهذه الأسباب لا بدَّ للباحث من التخوف والحذر في بعض الاستنتاجات وخاصة ما يتعلق منها بنظرة سعادة للإنسان والقيم والتطور التاريخي، فالفجوات كثيرة هنا، ولذلك يجب تنبيه القارئ إلى أن تأويلنا لنظرة سعادة المرتبطة بالشؤون المذكورة كان أحيانًا خاضعًا لفهمنا الخاص لما يشكل المنحى العام لفكر سعادة وليس لما توحي به نصوص معينة من كتاباته..”، بما يعني كما يقول الأمين حيدر: “ألا نعتبر فهمه الخاص مطابقًا مطابقة تامة لفكر سعادة..”، أما في مقدمة الكتاب، فالملفت عند الأمين حيدر قول الباحث: “ولكن إذا كان لا بد من معرفة الواقع الاجتماعي، فما هو المنهج الذي يجب استعماله للوصول إلى هذه المعرفة؟ من الضروري أن نلفت نظر القارئ في بداية معالجتنا لهذا السؤال إلى أن سعادة كدارس اجتماعي، ليس صاحب منهج خاص به ولا هو ذو موقف فلسفي تجاه المسائل المنهجية يميزه عن سواه، لقد شدّد سعادة في أمكنة كثيرة من كتاباته على الموضوعية في تقصّيه للحقائق الاجتماعية والتاريخية ولكن لم يفرد سعادة بحثًا، أيًّا من أبحاثه، لتناول أسئلة منهجية تتعلق بما يعنيه أن ننحو نحوًا علميًّا أو موضوعيًّا في حقل الدراسات الاجتماعية، فأسئلة منهجية كالتي نشير إليها هنا على درجة عالية من الأهمية، ولكن بما أن العلوم الاجتماعية حديثة العهد، فإننا نجد أنه، حتى في الغرب، الذي ازدهرت فيه هذه العلوم قبل غيره، لم تطرح هكذا أسئلة جديًّا وتعالج على نطاق واسع إلا منذ فترة قريبة..” كل ما تقدم من تبريرات الباحث، يقول الأمين حيدر: “كل ذلك لا يصلح أن ينتج عنه نتيجة جازمة بأن سعادة ليس بصاحب منهج..”، يضيف قائلًا: “مناهج الفلاسفة وطرائق البحث عند المفكرين والعلماء لا تُعرف فقط من أبحاثهم المباشرة فيها أو كتاباتهم عنها، يمكن التعرُّف عليها أو استنباطها من مكتوباتهم في قضايا أخرى..”، في شرحه للمبدأ الرابع من مبادئ النهضة السورية القومية الاجتماعية، يقول الأمين حيدر: “هذا المنهج يسمّيه سعادة بالحرف الواحد “مبدأ التسلسل التحليلي” وهو المثال الذي سبق أن أشرنا إليه في دراسة الرفيق عمران، لكنه ليس المبدأ الوحيد الذي يتبعه سعادة في مختلف كتاباته، ذلك أن تحليل الوقائع إلى أدق جزئياتها، بمعنى بلوغ التحليل العوامل والأسباب التي كانت الوقائع نتيجة لها، يتطلب ترتيبها من جديد وفق منطقيتها المادية الموضوعية، ومن ثمَّ إعادة بنائها وفق تلك المنطقية المادية الموضوعية والخلوص لنتائج تتوافق أيضًا مع ماديتها الموضوعية، نتائج تتبين الشوائب التي أدّت لنتائج هي ظاهرات اجتماعية، كظاهرة الطائفية أو الطبقية أو الكيانية أو العنصرية أو… الخ، وتاليًا كيفية معالجتها بغرض الحد من تأثيراتها على تقدم ورقي الإنسان وخيره، أو إزالتها، فعندما يقول سعادة في شرحه للمبدأ الرابع من مبادئ النهضة السورية القومية الاجتماعية: “يتبع هذا المبدأ مبدأ التسلسل التحليلي. فهو تحديد لماهية الأمة..” وأنه “ليس القصد من هذا المبدأ رد الأمة السورية إلى أصل سلالي واحد معين، سامي أو آري، بل القصد منه إعطاء الواقع الذي هو النتيجة الأخيرة الحاصلة من تاريخ طويل..”، أي بيان الواقع الذي يمكن الانطلاق منه لعالم أفضل، والذي هو “نتيجة لا سبب” يكون سعادة قد أعاد بناء ما توصل إليه عبر منهج تركيبي وليس تحليليًّا، وعليه يكون “مبدأ القومية السورية ليس مؤسسًا على مبدأ وحدة سلالية، بل على مبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية لمزيج سلالي متجانس، الذي هو المبدأ الوحيد الجامع لمصالح الشعب السوري، الموحد لأهدافه ومثله العليا، المنقذ القضية القومية من تنافر العصبيات الدموية البربرية والتفكك القومي”. وبطبيعة الحال، فإن المنهج التحليلي هو بطبيعته منهج وصفي لأنه يتتبع الظاهرات الاجتماعية أو الكونية من حيث عواملها وأسبابها المادية- الموضوعية، دون إضفاء أي خصائص أو مواصفات أو مؤثرات ذاتية، هي بحد ذاتها تشويه للمنهجين التحليلي والتركيبي، في آن، موضوعيًّا إذا ما اعتبرنا المنهج التحليلي بحث في الأسباب، فالمنهج التركيبي بحث في النتائج، فالأسباب دون نتائج لا معنى لها كذلك النتائج غير المستندة لأسبابها تبقى تصورات أو تهيؤات ذاتية، مثالية، على نحو ما انتهى إليه “كانت” في كتابه “نقد العقل المجرد” والذي استغرق منه خمس عشرة سنة من التأمل، لينتهي للقول: “إن المعرفة البشرية لا تناسب الأشياء، لكن يمكن تسخير الأشياء لتناسب المعرفة..” ومع أن هذا القول يحتمل الوجهين الإيجابي والسلبي، فإننا نتغاضى عن بحثه تخوفًا من خروجنا عن النص، كذلك يبقى المنهج التركيبي منهجًا معياريًّا، لأنه يبحث في النتائج الواجب بلوغها من إجمالية الدرس لأية ظاهرة من الظاهرات، مادية كانت أم روحية..

 (*) راجع دراستنا “دراسة في فلسفة أنطون سعادة الاجتماعية”

ننتهي من كل ما تقدم للقول، إنه وفق رؤيتنا وفهمنا للمدرحية من حيث أنها نظرة ترى العالم في وحدته وليس في تشظيات الوعي، أن كلًا من المناهج الآنف ذكرها هي في وحدة، تتبادل كل منها مع الأخرى الأدوار، متكاملة بعضها مع بعض، أو كما يرى الأمين حيدر، أنها “كلام يكافئ بعضه بعضًا..” فلا التحليلي بمستغنٍ عن التركيبي وليس الوصفي بمستغنٍ عن المعياري، وفي مجملهم لا يستغني أيٌ منهم عن الآخر، فالأسباب في نتائجها، كما العلة في معلولها، كما المادة في شكلها، وكذا الإنسان في الوجود..

يعلّق الأمين حيدر على قول الرفيق ضاهر: “لم يهتم سعادة بمفهوم المجتمع لأسباب نظرية أو علمية خاصة، فالدافع الرئيس وراء انخراط سعادة في تحليل مفهوم المجتمع هو رغبته في الوصول إلى مبادئ عامة يصح اتخاذها كمنطلقات أساسية لفكر ثوري جديد يستهدف إحداث تغيرات جذرية في البنية الاجتماعية لمجتمعه.. فالسؤال “ما هو المجتمع؟” ذو أهمية لسعادة، إذًا، ليس على الصعيد الفلسفي أو الصعيد العلمي وحسب، بل والأهم من ذلك على الصعيد العملي أيضًا، فسعادة لم يطلب المعرفة على أي صعيد كانت، من أجل المعرفة وحسب.. لم يستهو سعادة قط مبدأ “الفكر من أجل الفكر” أو “العلم من أجل العلم”، كل سؤال يطرحه سعادة إما طرحه بقصد معالجة معضلة اجتماعية ما، أو بقصد الوصول إلى وضوح أكبر بشأن طبيعتها فتسهل معالجتها أكثر..”، يقول الأمين حيدر معلّقًا على ما تقدم: “يعتقد الباحث أن سعادة وضع نظرية في المجتمع، وأن السؤال “ما هو المجتمع” كان ذا أهمية لسعادة.. وعندما يبدأ الباحث بالكلام التحديدي عن المجتمع يقول، المجتمع في نظر سعادة هو المتحد الأتم.. المفارقة هنا أن ينسب الباحث كل ما ورد في ذلك الفصل لسعادة، في حين أن سعادة نفسه ينسبه إلى ماكيفر.. وقد استفاد سعادة من فكرة المتحد عند ماكيفر.. وذلك عن طريق ردّه الأمة (وليس المجتمع) إلى جنس المتحد وتعريفه الأمة (وليس المجتمع) بأنها “أتم متحد”.. لكن قول الباحث بأن المجتمع هو “المتحد الأتم” وقول سعادة بأن الأمة “أتم متحد” يضعان الباحث أمام نتيجة من هذا النوع، المجتمع هو الأمة أو الأمة هي المجتمع، غير أن الباحث لم ينتج هذه النتيجة، بل نجده يذهب إلى تنبيهنا إلى عدم جواز الاستنتاج بأن مفهوم المجتمع لسعادة هو متساوٍ مع مفهوم متحد الأمة، لماذا؟ لأن “المجتمعات وجدت قبل عصر القوميات” أو بروز الأمم على مسرح التاريخ، تحصيل هذا الكلام، هو أن المجتمع ذو أسبقية تاريخية على الأمة (أي وجد قبل وجود الأمة) والحق أن حكمه جاء دون سند في قوله: “كل متحد أتم هو حتمًا مجتمع كامل بالنسبة لسعادة، ولكن ليس كل متحد أتم أمة أو متحدًا قوميًّا..”، ينهي الأمين حيدر، تعليقه، بالقول: “من كل ما تقدم نحصل على ما يلي: ليس لسعادة تحليل مستقل لمفهوم المجتمع والمتحد كما يقول الباحث الدكتور عادل ضاهر، تحليل مفهوم “المجتمع” و”المتحد” هو أصلًا لماكيفر..”.

على ثلاث مستويات سنناقش ما تفضل به الأمين حيدر حاج إسماعيل:

المستوى الأول: هو نسبة ما يقوله سعادة في الفصل السابع لـ”ماكيفر” (عند سعادة “ميكور” كما يشرح الأمين حيدر).

سبق لنا أن أشرنا إلى أن سعادة في محاولته فهم التاريخ الإنساني، قد استعان بعلماء اجتماع دون آخرين، وأن استعانته بهؤلاء لم تكن مجرد نقل، كانت في واقعها تبحّرًا فيما يقوله هؤلاء في موضوعات تشكل محورًا من محاور تفكيره، ومجاراته هنا لميكور، لم تكن تعني أكثر من ذلك، لأنه وإن اتخذ من مصطلح “ميكور” بداية لبحثه، عدل من مفهوم هذا المصطلح، فأعاده إلى نطاقه، يقول سعادة: “أريد أن أجاري هنا ميكور في إيضاحه المتّحد أنّه كلّ مساحة تشتمل على حياة مشتركة وتكون متميّزة عن المساحات الأخرى تميّزًا لا تصحّ بدونه تسمية المتّحد(216).. فإذا سلّمنا بالافتراض أنّ المرّيخ مأهول وأنّ فيه نوعًا من البشر يحيون في جوّه وأرضه حياة توافق ذلك الجوّ وتلك الأرض، صحّ أن يكون النّاس على هذه الدّنيا متّحدًا مشتركًا، على كل ما فيه من متناقضات، في خصائص تميّزه عن متّحد سكّان المرّيخ، الّذين، على ما قد يكون لهم من فوارق متناقضة، لا بدّ أن يشتركوا في خصائص حياتهم العامّة المميّزة لهم عن سكان كلّ سيّار آخر، الموجدة لهم إمكانيّات تفاعل داخليّ تحدّد مجموعهم بالنّسبة لمجموع هذه الدّنيا ويكون أساس هذه الإمكانيّات خصائص النّوع، ويكون معنى هذا المتّحد منتهى التّوسّع في استعمال هذه اللّفظة الّتي تفيد التّجانس والتّلاحم والّتي أريد بعد الآن أنّ أقتصر فيها على الواقع الاجتماعيّ، على الجماعة المشتركة في حياة واحدة تكسبها صفات مشتركة بارزة وتسبغ عليها ما يمكننا أن نسمّيه شخصيّة ووحدة خاصّة..” واضح كل الوضوح كيف أن مجاراة سعادة لـ”ميكور” كانت من باب تعديل مفهوم “ميكور” لمصطلح “متحد” والذي قصره هنا سعادة على “الواقع الاجتماعي” وتاليًا فإن ما يأتي عليه الفصل السابع من نشوء الأمم، هو لسعادة بكليته لأنه اعتمد فيه مصطلح “ميكور” بمصلح أدق دلالة مما ذهب إليه ميكور، أو في الحد الأقصى، موازٍ له في الاتجاه دون الحامل، هو “الواقع الاجتماعي” وليس كما تفضل به الأمين حيدر.

المستوى الثاني:

حول أسبقية المجتمع على الأمة كما يتفضل الدكتور ضاهر، فهذه الأسبقية، تبقى في أفضل حالاتها، أسبقية نظرية، دراسية، ليس إلا، فسعادة لا يعترف بمثل هذه الأسبقية، فهو يقول في المبدأ الرابع: “الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي”. هذه الوحدة عبر التاريخ، تجلت بشكل أو بآخر في دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية، والتي هي النتيجة الجوهرية في تمايز الأمة السورية عبر التاريخ والتي يعترف بها العالم أجمع، (*) وقد يكون صحيحًا كل الصحة أنه لم يكن هناك مفهوم للأمة، لكن ما كان يعبر عن هذه الأمة هو دورة حياتها الاجتماعية- الاقتصادية والتي باستمراريتها على مدى أجيال الأمة كانت المعبّر الوحيد عنها، والتي بقيت فاعلة رغم مختلف الاحتلالات التي ابتدأها قورش وانتهت بفرنسا وبريطانيا، عبر ما يقارب الألفي عام ونصف كانت الأمة فاقدة لاستقلالها السياسي، لكنها كانت في وحدة حياتها الاجتماعية- الاقتصادية متميزة عن باقي الأمم التي ألحقت بإمبراطوريات الاحتلال، منذ أن اتخذ الإسكندر من بابل عاصمة لملكه إلى الدولة السلوقية إلى تبوّئ عائلة “سبتيموس سفروس” الحمصية، عرش رومة لمدة تقارب نصف القرن؛ إلى اتخاذ معاوية من دمشق ومن ثم بغداد عاصمة للإمبراطورية الإسلامية؛ إلى عائلة “الأحمر” في الأندلس التي اتخذت من حمص مثالًا لها؛ إلى الاحتلال العثماني الذي أدرك مؤسس الدولة خطورة تفوق السوريين فأقصاهم عن أي مركز سياسي في دولته..

منطلقون من مقولة سعادة الأساس “المادة تعيّن الشكل”، يمكننا القول إن دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية هي الشكل الذي أفرزته مادة الأمة “البيئة الطبيعية” والتي منذ فجر التاريخ كانت المحرك الرئيس لمختلف مجريات التاريخ السوري بحد ذاته، وهي التي ميّزت الشعب السوري عن سواه، ومنذ أن أعلن الإمبراطور السوري “كركلا” قانون “معدودية” الإمبراطورية الرومانية، حتى بدأت الشعوب الملحقة بهذه الإمبراطورية الشعور بشخصيتها الذاتية (القومية) فكانت انتفاضاتها على محتليها وحكامها يومًا بعد يوم تعبيرًا عن هذا الشعور، والذي ابتدأ مع “غاريبالدي” وانتهى بالثورة الفرنسية، ولربما كان المثال الأدق عن هذا الشعور هو الطابع السوري الذي طبع فيه الإمبراطور  “إيلا غابالوس- إله الجبل” الإمبراطورية الرومانية بكاملها والذي رفع مدينة حمص إلى مصاف متربول المدن الكبرى.. وكان يجلب العنب والخمور من سوريا، وحاول إنشاء ديانة توفق بين مختلف العقائد حتى تشمل المسيحية. هذا النفوذ هو الذي دعا الشاعر اللاتيني (جوفنال) لأن يتذمر في هجائيته المسماة “بابل” من أن نهر (العاصي) السوري أصبح يصب منذ زمن بعيد في (التيبر) والحياة أصبحت في روما لا تُطاق من كثرة هؤلاء الأغراب الذين توافدوا على العاصمة واستقروا فيها.. (**) وهذا ما دفع بسعادة إلى اعتبار أن الحروب التي قامت بين مختلف الدول السورية قديمًا، كانت نزوعًا لاستكمال مداها الحيوي، والذي لم يكن مؤطّرًا بمفهوم الأمة أو القومية، بل كانت دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية تدفع إليه دفعًا، وما الوضع السياسي الذي نعيشه اليوم سوى وضع مشابه إلى حد بعيد للوضع الذي كانت عليه الإمبراطوريات السورية قديمًا، فهل تجزئة الأمة إلى كيانات اليوم يلغي دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية عن فعلها في شعور كل منها بحاجته الماسة للتكامل مع الكيانات الأخرى على الرغم من الاحتراب الدائرة رحاه بينها وفي كياناتها أيضًا؟

المستوى الثالث:

يقول الأمين حيدر: “.. وعندما يبدأ الباحث بالكلام التحديدي، عن المجتمع، ينسب لسعادة الكلام التالي يقول: “المجتمع في نظر سعادة هو المتحد الأتم” ولكننا نعرف أن سعادة لم يعرّف المجتمع على هذا النحو الذي ذكره الباحث، الكلام عن “المتحد الأتم” في كتاب نشوء الأمم، كان مدخلًا لتحديد الأمة وليس المجتمع”، ويتابع قائلًا: “.. قد استفاد سعادة من فكرة المتحد عند ماكيفر مثلما استفاد ماكيفر منها، وذلك عن طريق ردّه الأمة (وليس المجتمع) إلى جنس المتحد، وتعريفه الأمة (وليس المجتمع) بأنها “أتم متحد”..”.

“المتحد” الذي قصره سعادة على “الواقع الاجتماعي” هو الأمة من وجهة نظر الأمين حيدر، وليس المجتمع، يتابع قائلًا: “من كل ما تقدم نحصل على ما يلي:

“ليس لسعادة تحليل لمفهوم “المجتمع” و”المتحد” كما يقول الباحث الدكتور عادل ضاهر، تحليل “المجتمع” و”المتحد” هو أصلًا لماكيفر، سعادة استفاد من الحقائق التي توصّل إليها علماء الاجتماع، ومنهم ماكيفر، في سياق بحثه عن كيفية نشوء الأمة، شاغله كان نشوء الأمة..”.

 وعلى الرغم من أنه لا يقدم لنا تعريفًا للمجتمع يميزه عن تعريف سعادة للأمة، يمضي في اعتبار أن الرفيق ضاهر قد ارتكب “أغلوطتين” مما يجعل من الفصل الثاني ساقطًا، يقول: “استنادًا للحقائق التي قدمناها، يحق لنا أن نعتبر الفصل الثاني.. ساقطًا لارتكازه على أغلوطتين هما: أغلوطة الخلط بين فكرة “المجتمع” وفكرة “الأمة” خصوصًا، وأغلوطة الخلط بين فكر ماكيفر وفكر سعادة، على وجه العموم”.

سبق لنا أن ناقشنا “الأغلوطة” الثانية، من حيث أن سعادة لم يأخذ مصطلح “المتحد” كما قال به “ماكيفر” بل قصره على “الواقع الاجتماعي” بعد أن فكّ ارتباطه بمطلقية مفهوم ماكيفر، وقصره على الأمة من حيث هي “واقع اجتماعي بحت”..

الأغلوطة الأولى التي يقول بها الأمين حيدر، ليست هي بـ”الأغلوطة”، كما نفهم سعادة من كتاباته وأقواله، إذ لا يمايز سعادة بين الأمة والمجتمع، كما يذهب الأمين حيدر، فالمتحد والأمة والمجتمع هي “كلام يكافئ بعضه بعضًا” وفق تعبير الأمين حيدر، عند سعادة، وإلا فما معنى قول سعادة في المبدأ السادس، من مبادئ النهضة السورية القومية الاجتماعية: “الأمة السورية مجتمع واحد” وإلى هذا المبدأ يردّ كل ما تضمنته المبادئ الإصلاحية؟! يقول سعادة: “إلى هذا المبدأ الأساسي تعود بعض المبادئ الإصلاحية التي سيرد ذكرها وتفصيلها (فصل الدين عن الدولة، إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب). وهذا المبدأ هو من أهم المبادئ التي يجب أن تبقى حاضرة في ذهن كل سوري. فهو أساس الوحدة القومية الحقيقي ودليل الوجدان القومي، والضمان لحياة الشخصية السورية واستمرارها. أمة واحدة- مجتمع واحد. فوحدة المجتمع هي قاعدة وحدة المصالح، ووحدة المصالح هي وحدة الحياة. وعدم الوحدة الاجتماعية ينفي المصلحة العامة، التي لا يمكن التعويض عنها بأية ترضيات وقتية..” فعندما نقول “أمة واحدة” نعني بها “مجتمع واحد”..

المتحد، الأمة، المجتمع، مصطلحات لمسمى واحد هو واقعٌ اجتماعي، وهذا الواقع الاجتماعي هو أيضًا مصطلح لدورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية، والتي هي المحور الذي تدور حوله مختلف التوصيفات التي يقول بها سعادة صراحة وتضمينًا، ففي رؤية سعادة المدرحية لا يمكن إضفاء تشظيات الوعي على الواقع، فعندما يُعرّف سعادة الناموس يشدّد على عدم إطلاقه أو اعتباره مصطلحًا مطلقًا، على النحو الذي جرّد به مصطلح ماكيفر من مطلقيته وردّه لمصطلح محدد هو الواقع الاجتماعي، يقول سعادة: “.. لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب أن لا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها..” وبما يعني، أنه حتى النواميس لا تقبل الإطلاق، بل تبقى مقيدة بالمجرى الطبيعي الذي قادنا إليه الاستدلال العقلي والذي قد يضفي على الظاهرات المادية أو النفسية قدرًا من الذاتية تشوه تطابقه مع الواقع، فشرط الصحة أو الحقيقة، أن تكون قادرة، بتطابقها مع مجراها الطبيعي، على تغييره أو تسخيره.

(*) https://www.facebook.com/186235948194388/videos/332885540196094/UzpfSTE4NjIzNTk0ODE5NDM4ODoxNDg2OTc5OTcxNDUzMzA2/

(**) https://www.facebook.com/pg/جورج-معماري-186235948194388/posts/?ref=page_internal

(***) https://www.facebook.com/186235948194388/videos/2226081727607350/?t=6

الملاحظة الثالثة:

يعلّق الأمين حيدر في ملاحظته الثالثة على ما يعرضه الرفيق عادل ضاهر في الفصل الثامن قائلًا:

“في نفس الفصل الثامن، يذكر الباحث أن السؤال عن: ما هو الإنسان؟ في التاريخ، كان مدار فكر سعادة، وهذا غير صحيح، فمدار فكر سعادة، كما ذكرنا ونكرر كان الأمة (من نحن؟) وفي هذا الفصل نفسه لا يحدد الباحث ما يقصده بـ(البنية التحتية للمجتمع) عند الماركسيين، تاركًا انطباعًا بأنها (عوامل الإنتاج، في حين أن البنية التحتية للمجتمع في المفهوم الماركسي هي مجموعة مترابطة من علاقات الإنتاج الاجتماعية وقوى الإنتاج”.

سبق أن أشرنا إلى أن المفردة تأخذ معناها من السياق الذي ترد به، بل ويتحدد في كثير من الأحيان الموقف من الحدث، موضوع المفردة، بانتقاء مرادفها، فمثلًا عندما نقول “مضرّجًا بدمه” يكون موقف القائل عدائيًّا من القتيل، ويكون القائل متعاطفًا مع القتيل في قوله “متسربلًا بدمه” ويكون أكثر بل وأشد تعاطفًا عندما يقول “مضمّخًا بدمه”، وعلى ما يبدو، أن عمل الأمين حيدر، كمترجم، وهو الخبير في الترجمة، لم يسعفه عمله أو شاء تجاهل خبرته فيما تقدم..

 أشرنا إلى علاقة المفردة ومرادفها وسياقها، لما أبداه الأمين حيدر من مواقف حيال الكثير من المفردات التي يستخدمها مَنْ تناولهم نقده، وعلى الأخص، عندما لا يجد ما يتعارض والفكرة الرئيس في النص عقديًّا، فيلجأ إلى الحرفية لإبداء ملاحظاته؟!!

فقول الرفيق ضاهر “السؤال” ما هو الإنسان؟!” في معناه التاريخي وليس في معناه الأنطلوجي هو، إذًا، مدار تفكير سعادة، هذه النقطة، كانت بارزة في بحثنا مفهوم سعادة للإنسان، حيث رأينا كيف يتحول البحث عن ماهية الإنسان، في فكر سعادة، من بحث عن صفات جوهرية ثابتة إلى بحث عن المعطيات الاجتماعية للوجود الإنساني وتجلياته في الواقع التاريخي..”، يضيف الرفيق ضاهر قائلًا: “.. وإسناد ماهية اجتماعية للإنسان يعني أن الإنسان هو، بالضرورة، امتداد لهذا الواقع الاجتماعي التاريخي بقدر ما هو هذا الواقع امتدادٌ له، فالحقيقة الإنسانية هي بحكم الضرورة وجه للحقيقة الاجتماعية بكل معناها الحركي مثلما هي الحقيقة الاجتماعية وجه للحقيقة الإنسانية..” بما يعني، أن الرفيق ضاهر يأخذ الإنسان ببعده الاجتماعي التاريخي وليس ببعده الفردي، هذا من جهة، من جهة أخرى، يأخذه من حيث البعد الاجتماعي التاريخي، وهذا يعني أنه يدرسه من حيث هو جماعة، متحد، مجتمع، تشكل تاريخيًّا عبر مراحل طويلة من التطور حتى بلغ درجة وعي ذاته في الأمة، بمعنى آخر، أنه إذا كان محور تفكير سعادة هو الإنسان، فهذا الإنسان هو في البعد الاجتماعي التاريخي، أي “إنسان- جماعة” و”إنسان- متحد” و”إنسان- مجتمع” وأخيرًا “إنسان- أمة”، على اعتبار أن وعي الأمة لذاتها لاحق لتشكل الإنسان الجماعة، المتحد، المجتمع، فدراسة التطور الاجتماعي التاريخي (ما قبل وعي الأمة لشخصيتها)، هو المقدمة لبيان كيفية تشكل هذه الجماعة وتمايزها عن سواها من الجماعات، عوامل وأسبابًا ونتائج، كانت الأمة محصلتها الأخيرة التي نحياها اليوم، وعلى اعتبار أن وعي الذات الاجتماعية لم يكن قد نضج بما فيه الكفاية لبروز دور الشعور بالشخصية الاجتماعية التي هي القومية والتي هي بالتالي شخصية الأمة..

الأمة مرحلة من مراحل تطور المجتمع، وسعادة يدرس التطور الذي انتهى بالمجتمع لهذه المرحلة التي هي الأمة، وإلا كيف نفهم قوله: “ومن يدري هل يقدّر للإنسانيّة أن تصير مجتمعًا واحدًا في مستقبل العصور؟” هذا السؤال المتضمن إجابته يلقي الضوء ساطعًا، على أن التطور الاجتماعي التاريخي والذي يقول به الرفيق ضاهر هو المحور الرئيس، أو لنقل السياق الذي يأخذ من خلاله مفهوم الإنسان البعد الاجتماعي لا الفردي أو الغيبي الذي يرفضه سعادة رفضًا لا رجعة فيه..

صحيح أن الأمة شغلت فكر سعادة وكانت محورًا مهمًّا في كل ما كتبه وقاله وتحدث به، لكنها بقيت النتيجة النهائية لما توصل إليه من تحليله للتطور البشري والسياق الذي جاء به، وانطلق منه تركيبيًّا بإعادة ترتيب جزئيات ما توصل إليه تحليله، وبنى عليه تعريفه للأمة والقول بالقومية التي لم تنفصل عن الاجتماعية، والتي كان لإضافتها بعد تشكيل الحزب بسنوات اعتراض من بعض قيادييه، لكن سعادة كان قد توصل إلى هذه الإضافة باعتبارها القاعدة التي قامت عليها قوميته السورية، أما سؤاله (من نحن؟) فكان البداية التي دفعت به لدراسة تاريخ التطور الإنساني والذي انتهى منه للقول بالقومية الاجتماعية، فالسؤال من نحن لم يكن سوى مقدمة يقول: “ويتراءى لي أن أمتنا كانت، منذ عصور قديمة جدًا، أمام عدة مسائل تتطلب أجوبة صريحة هي:

هل نحن أمة حية؟

هل نحن مجتمع له هدف في الحياة؟

هل نحن قوم لهم مثل عليا؟

هل نحن أمة لها إرادة واحدة؟

هل نحن جماعة تعرف أهمية الأعمال النظامية؟”

وهذه الأسئلة هي أيضًا بسيطة وواضحة جدًا، ولكنها أسئلة خطيرة وأهميتها واضحة للمدقق البصير المتبصر في القيم الإنسانية وفي طرق التفكير الفلسفي وأهدافه.

هل نحن أمة؟ هذا السؤال الذي يعني أيضًا “ما نحن؟”، يعني ابتداء البحث عن حقيقتنا، ما هي. إنه نقطة الابتداء في أي تفكير إنساني يحاول إدراك حقيقته ومحيطه ومقاصده في الحياة والمحيط. يعني ابتداء التفكير في معنى ماهية الجماعة الإنسانية التي هي نحن وأهدافنا الكبرى التي تعبّر عن حقيقتنا ووجودنا نحن وجوهرنا نحن. كل هذا يعني أن قواعد الفكر التي نشأت عليها هذه النهضة القومية وينمو بها الحزب السوري القومي الاجتماعي هي قواعد فلسفة عميقة تتناول المسائل الأساسية غير التي ترتبط بوقت معين تمضي بمضيّه أو بشكل من الأشكال الجزئية، بل هي عامة ثابتة، أو بالمعنى الفلسفي المطلق، ليست منسوبة إلى وقت أو حالة معينة وقتية تزول بزوال تلك الحالة”.

بهذه الأسئلة وابتداء الفكر من هذه النقاط، وضعت مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي لتعطي الجواب على الأسئلة العلمية الفلسفية العميقة المتقدمة. فلنتقدم الآن إلى هذه المبادئ لندرسها وندرس كيف عيّنت من نحن، كيف عيّنت أهدافنا ومقاصدنا”.

ما تقدم، واضح كل الوضوح من أن السؤال من نحن كان نقطة ابتداء التفكير للإجابة على “كيف عيّنت من نحن..” أما عن “كيف عيّنت أهدافنا ومقاصدنا” فيأتي جوابه بناء على مقولة سعادة (الإنسان- المجتمع) وهو ما انتهى إليه عبر منهج وصفي معياري في آن وهذا ما ألمح اليه الرفيق ضاهر بقوله: “.. تشديد سعادة على الأهمية التي يعطيها للعلم، للعلم الاجتماعي بصورة خاصة، كعامل في تكوين عقيدة اجتماعية صحيحة، هنا يظهر سعادة بوضوح أنه لا يمكن الوصول إلى موقف معياري معقول، موقف تتحدد ضمنه الأهداف والغايات الاجتماعية التي يجب أن نسعى لتحقيقها، بدون فهم علمي واضح لأحوال المجتمع بعامة، وأحوال المجتمع الذي توضع له الأهداف والغايات المذكورة، بخاصة”.

في الملاحظة الثالثة أيضًا، يقول الأمين حيدر: “وفي هذا الفصل نفسه لا يحدد الباحث ما يقصده بـ(البنية التحتية للمجتمع) عند الماركسيين، تاركًا انطباعًا بأنها (عوامل الإنتاج)، في حين أن البنية التحتية للمجتمع في المفهوم الماركسي هي مجموعة مترابطة من علاقات الإنتاج الاجتماعية وقوى الإنتاج”.

القول الفصل في هذه المسألة يبقى لماركس نفسه وليس للماركسيين الذين، في مجملهم، لم يدققوا ويبحثوا ويمعنوا النظر والفكر فيما كتبه وقاله أستاذهم، على نسق القوميين الاجتماعيين، أيضًا في مجملهم، الذين اكتفوا من سعادة بترديد ما سمعوه أو تصفحوه دون تبصر وإمعان بما قاله وكتبه وتحدث به.

في مقدمته لكتاب مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي (1859)، يقول ماركس: “في إنتاج الناس الاجتماعي لحياتهم يدخلون في علاقات محددة، ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الإنتاجية المادية. ويشكل مجموع علاقات الإنتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، أي يشكل الأساس الحقيقي الذي يقوم فوقه صرح علوي قانوني وسياسي وتتمشى معه أشكال اجتماعية. فأسلوب إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام. ليس وعي الناس بالذي يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. فعندما تصل قوى المجتمع الإنتاجية المادية إلى درجة معينة من تطورها تدخل في صراع مع أحوال الإنتاج القائمة أو بالتعبير القانوني مع أحوال الملكية التي كانت تعمل في ظلها حتى ذلك الوقت. وتتغير هذه الأحوال التي هي قيد على الأشكال التطورية من القوى الإنتاجية. وفي هذه اللحظة تحل حقبة من الثورة الاجتماعية. فتعديل القاعدة الاقتصادية يجرّ في أذياله قلبًا سريعًا بدرجة أكثر أو أقل، لكل الصرح العلوي الهائل. وعند دراسة الانقلابات التي من هذا النوع يجب دائمًا أن نفرق بين القالب المادي الذي يحدث في أحوال الإنتاج الاقتصادية والتي يمكن تقريرها بدقة علمية، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية أو بكلمة واحدة الأشكال الأيديولوجية التي يدرك الناس في ظلها هذا الصراع ويجاهدون في سبيل فضه. إذا لم يكن في الإمكان الحكم على فرد طبقًا لما يراه هو عن نفسه، فلن يكون في الإمكان الحكم على حقبة مشابهة من الثورة على أساس وعيها بنفسها؛ وإنما بالعكس يجب تفسير هذا الوعي بمتناقضات الحياة المادية في أحشاء المجتمع القديم”.

البنية التحتية، تعني بما تعنيه، مختلف القوى الاجتماعية التي تعمل لقاء أجر، أو الطبقة البائعة للجهد، الطبقة التي لا تملك سوى هذا الجهد، بما يحقق للبرجوازي أو الرأسمالي فائضًا في الإنتاج هو الفارق بين الأجر الذي يعطيه ربّ العمل للعامل متضمنًا أجر وسائل الإنتاج، وسعر المنتج في السوق، هي الطبقة المسحوقة في المجتمع التي لا تملك وسائل الإنتاج ولا تتدخل في أسلوب الإنتاج، هذه هي البنية التحتية بمعزل عن فهمها من حيث هي “عوامل الإنتاج أو مجموعة مترابطة من علاقات الإنتاج الاجتماعية وقوى الإنتاج”. فعندما يقول ماركس: “ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم” يعني أن البنية التحتية على خلاف البنية الفوقية لها علاقاتها الإنتاجية الاجتماعية التي تختلف جذريًّا عن تلك التي تقوم عليها البنية الفوقية، وتاليًا في المفهوم الماركسي، البنية الفوقية هي أشبه ما تكون ببنية “فطرية” تمتص جهد العامل بائع الجهد، أما مفهوم علاقات الإنتاج فهي المحصلة للعلاقة القائمة بين قوى الإنتاج وأسلوب الإنتاج ووسائل الإنتاج، إن البنية التحتية هي مجمل علاقات الإنتاج، وغير مقتصرة على عنصر اقتصادي معين، بل تشمل بعدًا اجتماعيًّا ثقافيًّا سياسيًّا أيضًا.

الملاحظة الرابعة:

في ملاحظته الرابعة، يعيد الأمين تكرار ما سبق وحدد به موقفه من كتاب نشوء الأمم، من حيث أنه كتاب علمي ولا علاقة له بالفلسفة المدرحية، لكنه يضيف قائلًا: “أولًا: ليس لسعادة “نظرة في تفسير التطور التاريخي” في كتاب نشوء الأمم أو أية جهة أخرى من مكتوباته، نعود ونكرر القول إن ما ورد في كتاب نشوء الأمم ليس لسعادة، هذا ما يقوله سعادة نفسه في المقدمة، بل لعلماء متنوعين اختصاصيين في الجغرافيا والاجتماع والتاريخ الخ، الفكرة الأصلية لذلك الكتاب والتي هي أطروحته وإنتاج سعادة الخاص، هي فكرة نشوء الأمم وتعريف الأمة تعريفًا يُبعد عنها الأوهام والخرافات والشعوذات، والعقائد السياسية العنصرية المذهبية وغيرها..”.

لن نكرر ما سبق أن قلناه حول علاقة العلم بالفلسفة ولا حتى هل كتاب نشوء الأمم هو كتاب علمي أم فلسفي يختص بالفلسفة الاجتماعية، ولا مقولات الأمين حيدر الأخرى، التي سبق أن أبدينا رأينا فيها، بل ما نناقشه هو قوله: “إن ما ورد في كتاب نشوء الأمم ليس لسعادة (هذا ما يقوله سعادة نفسه في المقدمة) بل لعلماء متنوعين اختصاصيين في الجغرافيا والاجتماع والتاريخ.. الخ”، مع أننا كنا قد ألمحنا لذلك مسبقًا، لكننا نزيد في ردّنا على هذه الأطروحة بالقول: إن استشهاد سعادة بمن ذكرهم في مؤلفه نشوء الأمم، لم يكن مجرد نقل، ولم يكن مجرد استشهاد على صحة ما يذهب إليه في بحثه، كان إيرادًا نقديًّا لما ذهبوا إليه في دراساتهم حول جملة القضايا التي أثارها موضوع الأمة، وسعادة نفسه عندما يقول: “وندرس كيف عيّنت من نحن، كيف عيّنت أهدافنا ومقاصدنا..” لا يترك مجالًا للشك من أن إيراده لمقتطفات مما قاله علماء الاجتماع والتاريخ والجغرافيا، كان إيرادًا نقديًّا انتهى منه سعادة للكيفية التي عيّن بها من نحن والمقاصد والأهداف التي قامت على هذه الكيفية يقول: “بهذه الأسئلة وابتداء الفكر من هذه النقاط وضعت مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي لتعطي الجواب على الأسئلة العلمية الفلسفية العميقة المتقدمة..” فالمبادئ إذًا كانت نتيجة بحث وتأمل وتفكير ودرس وتحليل وتركيب وصفي لجهة تعيين من نحن ومعياري لجهة تعيين الأهداف والمقاصد، وليس هذا وحسب بل إنه يصف هذه المبادئ من حيث هي إجابة على أسئلة سبقتها بأنها إجابة علمية فلسفية، وليست مجرد حقائق علمية أتى عليها علماء آخرون، أورد أقوالهم بكتابه نشوء الأمم، على نسق صلاح الدين البيطار وميشيل عفلق في تبني مقولات المدارس الأوروبية في تعريف الأمة من حيث هي جملة من الصفات التي يوردها سعادة ناقدًا لها، مبيّنًا أنها كصفات تتبع المتحد وليس المتحد هو هذه الصفات، إنه واقع اجتماعي تاريخي، حيث “الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي”، هذه الوحدة في التاريخ كانت تتطلب من سعادة الغوص في التاريخ لمعرفة الخصائص والصفات التي دفعت لهذه الوحدة وتلك التي نشأت عنها لذلك نراه (سعادة) يقول: “وقد أجبت نفسي بعد التنقيب الطويل فقلت: نحن سوريون ونحن أمة تامة. وكان وضعي هذا المبدأ”.

وهكذا فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: “أين نجد تنقيب سعادة “العلمي الفلسفي” الذي انتهى به للقول “بأننا سوريون وأننا أمة تامة”؟ هل نجده في كتاب التعاليم أم في المحاضرات العشر أم في جنون الخلود أم في الصراع الفكري في الأدب السوري، أو في مجمل ما كتبه وخطّه من رسائل أو خطب أو أحاديث ومقالات؟ والتي كانت بمجملها أيضًا شرحًا لما كان قد تضمنه نشوء الأمم فقط لا غير؟!!

نعود لقول الأمين حيدر: “إن ما ورد في كتاب نشوء الأمم ليس لسعادة (هذا ما يقوله سعادة نفسه في المقدمة) بل لعلماء متنوعين اختصاصيين في الجغرافيا والاجتماع والتاريخ.. الخ” ولنبحث في مؤلف سعادة “نشوء الأمم” عن مستندات الأمين حيدر، ونخوض في مثالين لا أكثر، فيهما الدحض الكامل لما يقوله: يستعرض سعادة في بداية كتابه مفهوم السلالة، ويستعرض جملة طويلة من نظرياتها ومواقف الكثير من علماء الاجتماع فيها، وينتهي للقول: “والّذي نرجّحه أنّ السّلالات البشريّة هي عدّة تطوّرات أو سلسلة تطورّات حدثت في ظروف وبيئات تطوريّة، أي قبل استقرار البيئة الطّبيعيّة على حالتها المعروفة الآن”، فمن من علماء الاجتماع ودعاة السلائل قال بهذه النتيجة؟ بل من منهم انتهى به التوصيف السلالي للتفريق بين المدلول العلمي والمدلول التقليدي للسلالة: “إذا تركنا وجهة التّخمين والتّقديرات التّخيّليّة في الفوارق الظاهرة في جماعات النّوع البشريّ وبحثنا عن مدلول كلمة [السّلالة] العلميّ وجدنا أنّ هذه اللّفظة هي من مصطلحات العلم الطّبيعيّ. والغرض منها تقسيم النّوع الواحد إلى فروع (أجناس) تتوارث صفاتها ومزاياها الخاصّة(7)، أمّا النّوع فيقصد منه تحديد الكائنات الحيّة الّتي ينتج تزاوجها نتاجًا ناجحًا يكون له ذات المقدرة بلا حدود(8). فالأجناس تقبل الاختلاط والتّزاوج والإنتاج ويمتنع ذلك في الأنواع إلاّ شذوذًا نادرًا”.

ومَنْ مِن العلماء الذين تباروا في بيان امتيازات السلائل قال بأن الجماعة -أيًّا كانت- هي مزيج من عدة سلالات…؟ أليس سعادة فقط هو من توصل إلى هذه النتيجة التي قلبت موازين علم الاجتماع رأسًا على عقب؟!

وفي دراسته للمتحد، هل كان سعادة ينقل ما تداوله علماء الاجتماع من أن المتحد هو مجموعة من صفات اللغة والدين والتاريخ والعادات والتقاليد والتي بمجملها مجرد إرث ديني في كثير من مواصفاتها، أو المصالح المشتركة ووحدة الأصل.. الخ على نسق “الأمة العربية” أم أنه فرَّق بينها وبين المتحد؟

قد يكفي قول سعادة: “فوضعت في هذا الكتاب مصطلحات جديدة أرجو أن أكون قد توفّقت في اختيارها للدّلالة على الصّفة المعيّنة، كقولي: [الواقع الاجتماعيّ] و[المتّحد الاجتماعيّ] و[المناقب] و[المناقبية] (لمورال).” فهذه لسعادة دون سواه..

نضيف على ما تقدم، أن سعادة باعتباره “وحدة الحياة” المرتكز الأساس لمفهوم “لواقع الاجتماعي”، دفعه للقول بـ”دورة الحياة الاجتماعية- الاقتصادية” والتي هي محور البحث في نشوء الأمم، والذي خطّ الطريق إليها، فهل كانت هذه المقولة من ابتكار أي من العلماء الذين جاؤوا على لائحة مصادر نشوء الأمم؟ وعندما جارى سعادة “ميكور” في مصطلح “المتحد” هل أبقى هذا المصطلح في مفهوم ميكور له أم أنه عدّله وقصره على الواقع الاجتماعي، ومقولته الأساس التي بنى عليها مختلف ما جاءت به فلسفته المدرحية، “المادة تعيّن الشكل” هل كانت لغيره من العلماء الذين استشهد بهم، بمعزل عن أي مفهوم فلسفي لمقولة “المادة” أو ما تعنيه لبعض فلاسفة علم الاجتماع، فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما يستشهد سعادة بـ”بواس” قائلًا: “تأثير البيئة الطّبيعيّة على لون البشرة ونزيد هنا أنّ تأثير البيئة الطّبيعيّة في أشكال الهيئة غير السّلاليّة تأثير قويّ جدًّا، فقد ذكر بواس(51) أنّ البيئة تؤثّر، في الغالب، على أشخاص مختلفين تأثيرًا يؤدّي إلى اتجاه واحد بناء على أنّ لكلّ عضو [حدود سلامة] يتكيّف ضمنها تبعًا لمقتضيات البيئة، فيتّخذ الهيئة الّتي تتطلّبها عوامل البيئة دون أن يفقد خصائص وظيفته. فإذا جئنا بشخصين متباينين إلى بيئة واحدة فقد يتشابهان في الإجابة العضويّة على المحرّضات البيئيّة حتّى إنّه قد يتراءى لنا حدوث تشابه أشكال تشريحيّة متميّزة ناتج عن البيئة، لا عن التّركّب الدّاخلي.

نرى ممّا تقدّم، أنّ البيئة تعدّ الفوارق الشّكليّة أيضًا للجماعات البشريّة وأنّ التّرابط بين الجماعة والبيئة في أنواع الحياة وفوارق الأشكال ومميّزات العمران والاتجاه التّمدنيّ، متين جدًّا.”، فقول سعادة “يتراءى لنا” يعني أن له رؤية خاصة فيما يذهب إليه “بواس” في العلاقة مع البيئة، بل ويبدي رأيه في تأثير البيئة وحدوده، فيقول: “نرى ممّا تقدّم أنّ البيئة تعدّ الفوارق الشّكليّة أيضًا للجماعات البشريّة وأنّ التّرابط بين الجماعة والبيئة في أنواع الحياة وفوارق الأشكال ومميّزات العمران والاتجاه التّمدنيّ، متين جدًّا”. بواس يكتفي بتأثير البيئة بيولوجيًّا على الإنسان، بينما سعادة يذهب للقول بأن البيئة لا تؤثر فقط على المستوى البيولوجي، بل تتعداه إلى تأثيرها على الفوارق الشكلية ومميزات العمران والاتجاه التمدني، فهل عمّم بواس تأثير البيئة كما عمّمه سعادة لنقول إن سعادة كان مجرد ناقل..

الملاحظة الخامسة:

سبق لنا أن بحثنا ما تتناوله الملاحظة الخامسة للأمين حيدر حول مقاربة الدكتور ضاهر ماركس بسعادة، لذا سنكتفي من هذه الملاحظة بما أورده الأمين حيدر حول “الإنسان المنتج” الذي يقول به الدكتور ضاهر في مقاربته لماركس بسعادة: “الباحث الدكتور ضاهر يكرر كلامه السابق، في نفس الفصل، عندما يقول في موضع آخر ما يلي: “فنقطة الانطلاق الأساسية لماركس في محاولة فهم الإنسان هي النقطة ذاتها التي شكلت المنطلق الأساسي لسعادة أي “الإنسان ككائن منتج” فالقيام بالعمل المنتج يشكل الأساس لتجربة الإنسان وللمعرفة الإنسانية”.

يعلّق الأمين حيدر على ذلك قائلًا: “لكنا نسأل، إذا كان العمل المنتج (الإنسان المنتج) هو أساس تجربة الإنسان والمعرفة الإنسانية، فهل نفهم أن العمل المنتج يحصل دون معرفة إنسانية؟ وهل الثقافة تشمل التجارب والمعارف الإنسانية أم لا تشملها؟

وكأني بالأمين حيدر يعيدنا بهذه الأسئلة لنقطة الصفر: أيهما أسبق المادة أم الوعي؟! فسؤاله: فهل نفهم أن العمل المنتج يحصل دون معرفة إنسانية؟ يعني وكأنه يقول لا بد للعمل المنتج من معرفة تسبقه، لكن ما هذه المعرفة وما مصدرها وكيف تتشكل قبل أن يباشر الإنسان عمله المنتج؟ لا يجيبنا الأمين عن سؤاله ولا عن المغزى من هكذا سؤال!! خاصة وأن أسئلة من هذا النوع تترك مجالًا واسعًا من الشك في الموضوع المطروحة حوله، وتحديدًا عندما لا تجد إجابة لها في النص ذاته، والتي كان على حضرة الأمين الإجابة عليها طالما أنه هو طارحها بصيغة نقدية، وحتى لا تبقى تساؤلات الأمين حيدر بلا إجابة، وطالما أننا لم نعثر على إجابة لها من قبل الرفيق ضاهر، فحريٌّ بنا الإجابة عليها، بما لا يتعارض وسياقها الذي جاءت به:

 من كونه لاقط ثمار إلى أن استقر الإنسان في الأرض، كان قد قطع شوطًا طويلًا في التاريخ حتى توصل إلى قراره بالاستقرار، لقد قادته تجربته في التنقل إلى المفاضلة فيها بين التنقل وبين الاستقرار بالأرض، فكان أن اختار الأخيرة من حيث هي الأوفر للطاقة والزمن في تحصيل قوته، التجربة تسبق المعرفة التي تقوم عليها، لكنها -المعرفة- تبقى تثير من التساؤلات عن الأوفر في الطاقة والزمن عبر التجربة الإنسانية ذاتها، فالتجربة الإنسانية هي الميدان الذي تنمو فيه المعرفة بهدف تحسين شروطه، فعندما يقول سعادة تكيّف الأرض الإنسان وهو يرد الفعل ويكيّفها لكنها هي التي تحدد مدى هذا التكيف وأشكاله، يعني أن الإنسان يضطر بداية لأن يتكيف مع البيئة النازل بها، بما يعني أيضًا أن معرفته تقوم على تجربته في ضرورة تلبية حاجات البيئة حتى قبل حاجاته المادية الطبيعية بالتكيّف معها لتأمين تلك الاحتياجات، هي التجربة، التي تقود بطبيعة الحال إلى المعرفة، فالتحوط من الحيوانات المفترسة لم يأتِ عبثًا، كان قد سبقته تجارب كثيرة ذهب ضحيتها الكثير من البشر قبل أن يبتكر الإنسان فكرة التحوط من تلك الحيوانات واتخاذه الكهوف والنار ملجأ له، هذا مثال واحد من مليارات الأمثلة التي يمكن لها أن تضرب في مجال أيهما أسبق المعرفة أم التجربة، هل كانت فكرة المحراث قبل أن يعي الإنسان أن قلب الأرض ضروري لتأمين الأوفر من الطاقة في الزمن؟ فهو ودون أدنى شك في ذلك كان قد قطع شوطًا زمنيًّا كبيرًا في مراقبته للأرض وعطائها، لقد كانت فكرة الحرث هي النتيجة المنطقية للاستقرار في الأرض أولًا ومن ثم كانت التجربة في المكان للتدليل على أن الحرث أفضل من عدمه، فكانت فكرة المحراث التي كانت بداية على غير النحو الذي نعرفه به لكن التجربة هي التي قادت لتطويره، وهكذا تبقى التجربة سابقة للمعرفة وإلا فما معنى المخابر المنتشرة في مختلف البلدان وعلى مختلف أنواع العلوم، هل سبقت المعرفة اكتشاف البترول وأنه يمكن تجزئته لشتى الأنواع المعروفة الآن.

لم تكن ماري كوري، تبحث عن الراديوم كعنصر إشعاعي، لكنها كانت قد لاحظت أن تجاربها يشوبها بعض التشويش فبحثت عن مصدره فكان اكتشافها الذي خلّد اسمها..

المعرفة قبل أن تكون “مجرد معلومة” هي دهشة واستغراب لغير المألوف، وهي أيضًا تساؤل عن سبب أو علّة ما يحدث، هي دهشة ومن ثم تساؤل ومن ثم تفكير ومحاولة إجابة، وهذه خصائص عقلية محضة كان لا بد للإنسان من أن يحوزها ليتمكن من القيام بتجربته المعرفية، وكان لا بد للعقل من أن ينمو بيولوجيًّا و فيزيولوجيًّا لكي يحوز على هذه الخصائص، وكان لا بد له من زمن لبلوغها، وهو في طريقه إليها كان يكتنز معلوماته غرائزيًّا، لذلك فإن محاولاته لمعرفة محيطه مرّت بعدد لا متناه من التجارب، فالتجربة أم المعرفة والتجربة ليست مجرد محاولة، إنها خبرة تكتنه مواصفات وخصائص المادة لتطوعها لقضاء حاجات الإنسان البيولوجية والفيزيولوجية والسيكولوجية، هذه المحاولة قد تكون عددًا لا متناهيًا من التجارب، فعندما سأل مساعد أديسون معلمه: إلى متى تستمر في تجاربك لإضاءة هذا المصباح وقد أجريت أكثر من ألف تجربة وكانت فاشلة؟ أجابه أديسون: “لقد تأكدنا من أن أكثر من ألف تجربة لا تفيد في إضاءة هذا المصباح، وأن علينا أن نجري تجربة أخرى لإضاءته!!

يتساءل الأمين حيدر “.. وهل الثقافة تشمل التجارب والمعارف الإنسانية أم لا تشملها؟”

نكتفي بإجابتنا على هذا السؤال بقول سعادة: “بأنّ النّطق وحده كفل تحويل الاكتشافات والاختبارات التّطوريّة الأوّليّة إلى معارف اجتماعيّة وراثيّة (اجتماعيًّا).. ويضيف: “ومن صناعته هذه الأدوات نستطيع أن نتتّبع ثقافة الإنسان منذ ابتدائها..”. إذًا، بنمو خصائص العقل على التتابع كان النطق وتاليًا تحولت الاكتشافات والاختبارات التّطوريّة الأوّليّة إلى معارف اجتماعيّة، فالثقافة تتضمن وتشمل مختلف الاختبارات والتجارب التي مرّ بها الإنسان، وهكذا كان تصنيف سعادة للثقافة العمرانية مقترنًا بهذه التجارب والاختبارات، لذا، فهو، (سعادة) يصنف مراتبها كما يلي: “

1)- ثقافة المعزق (Hoe)= زراعة المعزق.

2)- أ- ثقافة المحراث= زراعة المحراث.

   ب- ثقافة البستان= زراعة البستان.

3)- ثقافة الإنتاج التّجاريّ= زراعة المحاصيل وإنشاء الصّناعات وإعداد الحاجيّات والكماليّات.

الملاحظة السادسة:

يقول الرفيق ضاهر: “الذي يبدو واضحًا أن كلًّا من ماركس وسعادة ينطلق من المصادرة الكانتية (الذات) تلعب دورًا فعالًا في تكوين الشروط اللازمة لتحويل الأشياء لموضوعات جاهزة للمعرفة..” ويعلّق الأمين حيدر: “من جهتنا، نحن لا نرى سبيلًا لمقارنة كانت بسعادة وماركس، ذلك لأن الفيلسوف كانت قضيته تختص بدائرة كيفية حصول المعرفة التي تسمى إبستمولوجيا..” (نظرية المعرفة) لا نود هنا التوسع في ما سبق لنا أن تطرقنا إليه، لكننا نضيف عليه، إننا سنسلّم جدلًا بافتراق قضيتي ماركس وسعادة عن كانت، فإن هذا لا يلغي أن يكون هناك تشابه ما بين الفلاسفة يمكن أن يكون أساسًا للمقاربة أو مقارنة بين فلسفتين أو ثلاث..

 الإبستمولوجيا، هي علم دراسة ما نزعم أنه معرفة، إما عن العالم الخارجي (المادي) أو عن العالم الداخلي (الإنساني)، وهو علم يدرس (بشكل نقدي) المبادئ والفرضيات والنتائج العلمية بهدف بيان أصلها وحدودها ومدى شموليتها وقيمتها الموضوعية ومناهجها وصحتها.

وفق وليم جمس “تتركب التجريبية الأصلية من مصادرة وحقيقة ونتيجة، أما المصادرة فهي أن الأشياء التي تكون موضع نقاش بين الفلاسفة هي الأشياء التي يمكن التعبير عنها بألفاظ تجريبية (قد توجد الأشياء التي لها طبيعة تجريبية إن شئت، لكنها لا تكون جزءًا من مادة المناقشة الفلسفية.. هو مذهب فلسفي سياسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة”.

“المبدأ المدرحي” أو “المثال المدرحي”:

على مدى التاريخ، كان هناك صراع بين النص والاجتهاد فيه، أو بين النص وروح النص، بين الحرف في نصه وبين الحرف في سياقه، ولم تخلُ حركة من الحركات التي ظهرت عبر التاريخ إلا وتعرضت لهذا الصراع، وكان هذا الصراع السبب المباشر في الانشقاقات التي تعرضت لها مختلف هذه الحركات الدينية منها والاجتماعية والسياسية والفكرية وحتى الاقتصادية.. بالطبع كان هذا الصراع مسوغًا رئيسيًّا لاستهدافات فردية وعامة بآن، فكان لابد من دعم تلك الاستهدافات بأطر عقدية، مبررات، لتحريض العامة أو جمهرتها حول هذا الاتجاه أو ذاك..

هنا، مجازيًّا، سيمثل النص بحرفيته، الأمين حيدر حاج إسماعيل، بينما يمثل النص في سياقه الرفيق عادل ضاهر، الذي يقدم لنا في ختام مؤلفه الجريء /الإنسان والمجتمع/ -دراسة في فلسفة أنطون سعادة الاجتماعية- وتحت عنوان / مجتمع النهضة/ بحثًا مسهبًا في العوامل والأسباب التي دفعت بسعادة للقول بمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الأساسية منها والإصلاحية مستفيضًا في شرحها، حيث لم يكن لسعادة من الوقت للتعمق كما الدكتور عادل ضاهر في رسم معالمها العامة والخاصة، أو لنقل شرحها “أكاديميًّا” كما قدمها لنا رفيقنا الدكتور ضاهر(*)، فيما يسميه رفيقنا “المبدأ المدرحي” والذي يبين لنا فيه العلاقة بين العام والخاص -معياريًّا- في فلسفة سعادة المدرحية(**)..

في العام، ما يعنيه المبدأ المدرحي وفق الرفيق ضاهر: مصلحة الإنسان في الحياة والارتقاء.

في الخاص: مصلحة إنسان معين في مجتمع معين.

في المبادئ المعيارية العامة، يقدم لنا الرفيق ضاهر، خمسة مبادئ:

 1)- المبدأ القومي.

 2)- مبدأ الاستقلال.

3)- مبدأ الوحدة الاجتماعية.

4)- مبدأ التقدم المادي.

5)- مبدأ التغيير الاجتماعي.

بالطبع هذه المبادئ مشتقة من فهم الدكتور ضاهر العميق لفلسفة سعادة، وتحديدًا ربطها بواقع الحياة من حيث هي مصلحة الإنسان في الحياة والارتقاء، أما المبادئ المعيارية الخاصة فهي:

1)- مبدأ الأمة السورية.

2)- مبدأ الأمة مجتمع واحد.

يعلّق الأمين حيدر على مجمل شروحات الرفيق ضاهر بالقول: “أغرب ما في محاولة الباحث الاشتقاقية.. نسبته لما يقوله هو، هو لسعادة، وأن ما فعله، هو، فعله سعادة، والحق يقال إن ليس لسعادة أية علاقة بما قال وفعل.. نكتفي بالقول إنها، بصورة عمومية، محاولات فاسدة من الوجهة المنطقية.. تبقى نقطة واحدة لم نناقشها حنى الآن، وهي المرتبطة بوصف الباحث المبادئ الخمسة المشتقة بأنها “معيارية” سؤالنا: لماذا هي كذلك؟ نحن نفهم المعيار والمعيارية يتصلان بفكرة الوجوب، فيقال مثلًا يجب أن تكون صادقًا، هذا معيار أو مبدأ معياري من النوع الأخلاقي، أليس المبدأ القومي الذي اشتقه الباحث من “المصالح الإنسانية الاجتماعية” ومن “واقع الإنسانية المجتمعاتي” مرتبطًا “بمصالح” و”بواقع” هما حقائق وجودية وليسا قيمًا وجوبية؟ فكيف أمكنه اشتقاق الوجوب من الوجود؟ بكلام آخر، إذا قلنا إن المصالح الإنسانية اجتماعية موجودة، وبما أن واقع الإنسانية المجتمعاتي موجود، فكيف يمكننا أن نحصل على النتيجة التالية: إذًا يجب أن يكون كل مجتمع ملزمًا بتحقيق مصلحته في الحياة والارتقاء؟..”، بمعنى آخر، يريد أن يخبرنا الأمين بأن الرفيق ضاهر قوَّلَ سعادة ما لم يقله، وهذا برأينا منتهى التجني على الرفيق ضاهر، ذلك أنه يقوم بشرح مستفيض لسعادة في ضوء مستجدات الواقع الحزبي من جهة والاجتماعي والسياسي والفكري والاقتصادي العام المحلي والدولي من جهة أخرى، وهو (ضاهر) في توسعه في شرح ما لم تسمح به الظروف لسعادة بشرحه، لا يخرج عن تدعيم شرحه عن سعادة، بسعادة نفسه، فهو لا يُقَوله ما لم يقله، ومن الأمثلة على ما نذهب إليه الكثير، على سبيل المثال قوله: “لقد حان الوقت الآن لندخل في عالم سعادة الثوري، محاولين استكشاف معالمه الرئيسية وطبيعته ومغزاه الأخير، السؤال الأساسي الذي نريد تناوله هنا بالتفصيل هو: بما أن سعادة أراد تثوير البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع السوري، ففي أي اتجاه ولأية غاية أراد تثويرها؟ بمعنى آخر، ما هي المبادئ والأهداف التي يجب أن يرتكز عليها النظام الثوري الذي يُفترض قيامه في المجتمع السوري؟ يوجد سؤال آخر، أولاه سعادة عناية خاصة ولكننا لن نعالجه هنا لابتعاده عن صلب موضوعنا، هذا السؤال يستهدف الكشف عن الإستراتيجية الثورية المناسبة لإقامة النظام الاجتماعي الجديد، وهو سؤال مهم جدًّا، لأن سعادة كان يدرك.. أن القفزة الثورية من واقع الهلال الخصيب.. ليست بالقفزة السهلة على الإطلاق، فالهوّة التي تفصل بين الواقع والمثال في هذه الحالة هوّة عميقة جدًّا، وعندما ندرك ذلك، ندرك مدى خطورة وصعوبة المهمة الثورية التي ألقاها سعادة على عاتقه وبالتالي مدى أهمية اختيار الوسائل المناسبة لهذه المهمة، فالمسألة ليست مسألة تغيير نظام سياسي بنظام سياسي آخر، أو مسألة تعجيل ولادة نظام يتمخض عنه المجتمع في وضعه الحالي، أو مسألة إعطاء المجتمع زخمًا إنسانيًّا لتعجيل اتجاهه نحو تحقيق غايات ابتدأ يتجه نحو تحقيقها. المسألة، لسعادة، هي مسألة تغيير حياة أمة بأسرها، أمة توقف تطورها منذ فترة بعيدة وتقلصت الإمكانيات الموضوعية لتحريكها في اتجاهات جديدة إلى لا شيء تقريبًا.. في هذا الوضع لا تعود الوسائل الثورية الصالحة لتحقيق أهداف ثورية في المجتمعات التي لم تتعطل عملية تطورها الطبيعي هي الوسائل الصالحة لإقامة نظام ثوري جديد في سورية الطبيعية. من هنا نفهم لماذا رأى سعادة أن مشكلة تعيين الوسائل الثورية التي يجب استعمالها، مشكلة توازي في أهميتها وخطورتها مشكلة تعيين الأهداف الثورية التي يجب تحقيقها..”.

الرفيق ضاهر في السياق الوارد أعلاه يستنطق سعادة ولا يُقَوّله أي من التقولات التي يلمّح إليها الأمين حيدر، هو يسأل سعادة ويجيب من سعادة، فعندما يسأل: “السؤال الأساسي الذي نريد تناوله هنا بالتفصيل هو: بما أن سعادة أراد تثوير البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع السوري، ففي أي اتجاه ولأية غاية أراد تثويرها؟ بمعنى آخر، ما هي المبادئ والأهداف التي يجب أن يرتكز عليها النظام الثوري الذي يُفترض قيامه في المجتمع السوري؟..”

يبقى الهدف من السؤال شرح المبادئ والأهداف التي دفعت بسعادة للانطلاق من هذه المبادئ لبلوغ تلك الأهداف، في “أمة توقف تطورها منذ فترة بعيدة، وتقلصت الإمكانيات الموضوعية لتحريكها في اتجاهات جديدة إلى لا شيء تقريبًا..”، بما يعني كما يقول الرفيق ضاهر “في هذا الوضع لا تعود الوسائل الثورية الصالحة لتحقيق أهداف ثورية في المجتمعات التي لم تتعطل عملية تطورها الطبيعي هي الوسائل الصالحة لإقامة نظام ثوري جديد في سورية الطبيعية..” وبما يعني أيضًا أن استيراد ما يصح أو صح في بلدان أخرى يمكن له أن يُصلح الوضع الذي تعاني منه أمة سعادة، بمعنى آخر أيضًا، أنه لا بد من تحريك العوامل الذاتية وابتكار الطرق والوسائل والكيفيات في المكان والزمان، التي تتناسب ووضع كالذي تعاني منه أمته، وبمعنى آخر أيضًا وأيضًا، أن القوميات الأوروبية التي حملها عفلق والبيطار /التاريخ المشترك والآلام والآمال ووحدة الأصل واللغة../ على سبيل المثال، لا تصلح لأن تكون سبيلًا لتحريك القوى الذاتية لأمته ولا تلك التي قالت بها الماركسية /تحريض الصراع الطبقي/ ولا حتى ما نادى به “محمد عبدو” و”جمال الدين الأفغاني” /لا قيام للدين إلا بقيام دولته/ يمكن لها أن تنقل أمته من وضعها المزري إلى ما يطمح إليه سعادة، “من هنا نفهم لماذا رأى سعادة أن مشكلة تعيين الوسائل الثورية التي يجب استعمالها، مشكلة توازي في أهميتها وخطورتها مشكلة تعيين الأهداف الثورية التي يجب تحقيقها..” كما يشير الرفيق ضاهر. ملخصًا إجابته على مختلف تساؤلاته بالقول بمبادئه الخمسة العامة التي يمكن أن تكون لأي مجتمع يعاني ما تعانيه أمته، كذلك مبادئه الخاصة، وهي مبادئ مشتقة من فهم سعادة لمنطلقات ووسائل وكيفيات العمل الثوري في المكان والزمان المناسبين..

صحيح أن سعادة لم يأتِ على مصطلح كمصطلح الرفيق ضاهر “المبدأ المدرحي” أو “المثال المدرحي” لكن المصطلحان يبقيان مفصلين أساسيين من مفاصل قضية سعادة في دراسة الرفيق ضاهر، وهما مصطلحان دراسيان ولا يدّعي الرفيق ضاهر أنهما لسعادة، فهو يصرّح ويقول مثلًا “.. نأتي الآن إلى المبدأ الرابع من المبادئ المعيارية التي ينطلق منها سعادة وسأسميه “مبدأ التقدم المادي”.. إذًا، هو يطلق تسمياته أو مبادئه ليس من وجهة أن سعادة قد قال بها، لكن من منطلق تقسيم شروحاته إلى أقسام وفقرات يسهل من خلالها فهم “عالم سعادة الثوري، محاولين استكشاف معالمه الرئيسية وطبيعته ومغزاه الأخير..”

يضيف الأمين حيدر قائلًا: “.. نكتفي بالقول إنها، بصورة عمومية، محاولات فاسدة من الوجهة المنطقية..” كيف هي كذلك؟ لا يجيبنا حضرة الأمين على سؤالنا، وعلى أية حالة هي “فاسدة”؟ ومن أية وجهة منطقية، هي كذلك؟ يبقى الجواب في ذمة حضرة الأمين، لكننا نرى أن في قول الأمين حيدر خروجًا على ما سبق له وقام به هو في محاولته تعريف المدرحية فسؤاله: “ما هي الفلسفة المادية- الروحية؟” تضمنت إجابته فقرات تسع، لم يأت سعادة على الإشارة لأي منها، وهي فقرات حاول فيها حضرة الأمين الإجابة على سؤاله السابق ذكره، فكيف يسمح لنفسه بإدراج فقرات لم يقل بها سعادة، معتبرًا أن الرفيق ضاهر قد قام بمحاولات “فاسدة” من الوجهة المنطقية؟ بإدراجه فقرات يسمها هو تسهيلًا للفهم، خاصة وأننا أشرنا في سياق هذا النقد، بأن دراسة الرفيق ضاهر تدخل في سياق الدراسات الأكاديمية، والتي تبقى غايتها الإيضاح والشرح والتفصيل لبلوغ المرتجى منها..

أما قوله: “فكيف أمكنه اشتقاق الوجوب من الوجود؟” فالسؤال الإجابة هو: من أين يريدنا الأمين حيدر أن نشتق الوجوب؟ إذا لم يكن الواقع هو منطلق الوجوب!! الوجود المفترض تغييره، كيف يمكننا ذلك دون أن نحدد كما يقول الرفيق ضاهر: “المسألة، لسعادة، هي مسألة تغيير حياة أمة بأسرها، أمة توقف تطورها منذ فترة بعيدة وتقلصت الإمكانيات الموضوعية لتحريكها في اتجاهات جديدة إلى لا شيء تقريبًا..” فكرة التغيير تفترض تلقائيًّا، كمنطلق، البحث عن الوسائل والأهداف أو الغايات التي “يجب” أن نحددها أولًا، ونصل إليها ثانيًا، لإحداث التغيير، بمعنى آخر إذا لم ننطلق من معرفة الواقع بمعوقاته، فكيف يمكننا تذليل هذه المعوقات؟ وإذا لم نكن على معرفة يقينية بعوامل وأسباب ما أدى لما يتطلب تغييره، فكيف يمكننا إحداث التغيير؟ وإذا لم نكن على معرفة تامة بموجبات ما علينا الخروج منه لحياة أفضل مما نحن به، فكيف يمكننا تحديد الأفضل؟ الأفضل، والذي هو في الجانب المعياري وفق تصنيف الأمين حيدر. هكذا يفترض الوجود الوجوب وإلا فنحن نبحث في فراغ عن وجوب لا يمكن تحققه على نسق المدينة الفاضلة، حيث يفترض بالبشر أن يكونوا ملائكة.