بين المصطلح والمفهوم ـ رد على بعض ما يُطرح

كما في كل الأزمنة، تثير الانقلابات الجذرية في مجرى الحياة، جملة تساؤلات غالباً ما تحار في إشكالية الماضي والحاضر والمستقبل والعلاقة القائمة بين هذه الأبعاد الزمانية، ذلك أن ما يرسمه الماضي في الحاضر هو أبداً على نحو ما يرسمه هذا في المستقبل.
في ديناميكية الحياة، في أجيالها، تتضح هذه العلاقة وما يمكن لأي من أبعاد الزمان توضيحه في الآخر وكيفية ذلك كماً ونوعاً. فإذا كان الحاضر وليد الماضي وأحداثه، فهو أبداً على غير نسقه وشاكلته، حتى قضاياه بإشكالياتها وهمومها ليست تلك التي تداولها أولئك الرواد وتلامذتهم ومريديهم. إن عودةً لبداية القرن العشرين أو أواسطه، تبين كيف أن تلك القضايا المثارة ما عادت على نحو ما كانت عليه..
الأمثلة على ذلك كثيرة، والتي يحاول بعض الراغبين بالتجذر في المستقبل، تغافلها، في فهم الحاضر بكل إمكانياته ومقوماته وقواه، وفهم طاقته وقدرته وقوته على البقاء حاضراً عبر محاوراتهم ومجادلاتهم وحواراتهم وطروحاتهم التي تحاول إضفاء الحاضر على المستقبل، بل وتحاول رسم المستقبل على شاكلتها ومثالها، والمسألة تبقى، على أي نحو أخذت به، غير ذلك، بل وفي أحيان كثيرة إن لم تكن متناقضة معه بمختلف الظروف والأوضاع والحالات..
في محاولة/مافيا/الحاضر الإجابة على التساؤل المتقدم، تسحب هذا على المستقبل، وكما قلنا، في محاولة التجذر فيه وإخفاء صورتها ومثالها عليه، وليس هذا وحسب بل وقد يطيب لبعضها تمثيل دور المتنبئ بما هو عليه هذا المستقبل، وهي إذ تحاول ذلك، إنما تسلك دروب المصطلحات التي، على ما يبدو، هي أبداً في حركة تبدل في مفهوماتها، والتي تأبى /مافيا/ الطروحات الحاضروية الاعتراف بذلك بل تمضي في تجاهلها هذا متسترة حيناً ومستهلكة سكوت البعض الذي يشاركها الطموح، فالزمن بالنسبة للجميع أمسى على نهايته ولا بأس في أن تتلذذ بما أفادها به الحاضر من قوى وإمكانات وطاقات..
في حركة الزمن، والذي كان اكتشافه «اختراعاً» زوَّد الإنسان بقدرة ما كان ليمتلكها من دونه، بيد وأن الحاضر في مجاملاته يبقي على قصر أو طول الزمن لحدث معين على ذات المفهوم الذي يمضي مؤكداً أن قصر حياة الإمبراطورية السوفيتية ما كان إلاّ دليلاً على الخطأ في التجربة أو في رؤية المستقبل على نحو أصح مما كانت تتفاعل فيه عوامل الحاضر.
الزمن هنا مصطلح، كما القصر والطول، مصطلح يتطور مفهومياً، فإذا كان على النحو المتقدم مصطلحاً للحاضر، فهو ليس كذلك على مستوى المستقبل، إذ قد يضحى على نحوِ مفهومي أخر يرى في القصر دليل فعالية ودفع لعجلة التطور بينما يرى طوله تأكيداً على ركود بل وتثبيط فعاليةٍ ما من فعاليات الحياة، على هذا النحو مثلاً، كان الانهيار السوفيتي ضرورة منطقية، لأن السوفيت كانوا العقبة الكأداء في تطور الحياة على النحو الذي رآه ماركس. هكذا غدى الانهيار المذكور دفعاً لنظرية ماركس في ما بعد الإمبريالية، والتي غدت مفهومياً، تأخذ مصطلحاً أخر هو العولمة. فالعولمة هي ما كان قد نبه إليه ماركس قبل ما يزيد عن قرن ونصف، حيث الكارتيلات وحيث الشركات المتعددة الجنسيات وحيث الرأسمال العالمي بأيديٍ قليلة هي اليوم في التعداد العالمي 128 رجلاً يملكون أكثر مما يملكه ثلاثة أرباع سكان الكرة الأرضية.
العولمة التي ينشغل بها القاصي والداني من هذه /المافيا/ الحاضروية، والتي تتالى فيها الطروحات والأطروحات، ما تزال حتى يومنا مجرد تصور يكتنه الحاضر بكل إمكاناته مصطلحاً ويحاول سحبها على المستقبل مفهوماً حاضروياً ليس فيه من مستقبلها صيرورة أي معنى من كينونتها والتي يسعى من خلالها، مؤيدوها وحتى معارضوها، سحب الكينونة على الصيرورة، فكأن الأولى تكتنه الثانية وتحدد مداها ومنحاها و.. وكأنها والحال، عولمة في فراغ ليس فيه من المستجدات شيء يدعو للتريث ولو لحظة حتى على صعيد التعريف في الحد الأدنى.
وكما العولمة كذلك مفرداتها، الصراعات الدينية والعرقية والأثنية، على صيغة مصطلح الأصولية وبعدها الديمقراطية والتي تطرح مصطلحات أخرى أبرزها الأخر والدولة والشعب..
الأصولية، مصطلحاً، مثلاً، قابلة للتسويق العولماتي، لكنها مفهومياً ليست على هذا النحو، فهي ليست على هذا النحو المفهومي الأمريكي والذي ما يزال البعض يتداوله، هي حدث تاريخي في سياق سياسي عنفي يتجلى في كثير من الأحداث الحاضروية، فهي ليست إذن عودة للأصول كما يحلو للبعض العبث في المصطلح مفهومياً، ليست الأصولية مقدساً، لا يُمس ولا يُقرب.
ومهما يكن من أمر المصطلح والمفهوم وأيهما التابع وأيهما المتحول، نقول، إن كان المصطلح ثابتاً فالمتغير هو المفهوم، وعليه لا يعود جائزاً لهؤلاء الحاضرويون البحث في الثابت في الظلال المعتمة من المتغير الذي هو الآن في كينونته والتي قد تتمخض عن رؤى جديدة، واحتمالات كثيرة وتوقعات أكثر والممكنات الأكثر من كل ما تقدم..
والديمقراطية، هي أيضاً في السياق الحاضروي استنساخ له في محاولة تجذيره في المستقبل، ليست الديمقراطية كما قال بها مبدعها، هي اليوم غير ذلك كما هي في المستقبل على غير نسق اليوم، حتى في سياق العولمة التي تسعى لدولة هشَّة، نحيلة، تدعوها ترغيباً بالدولة الرشيقة، وفي هكذا سياق، كيف يمكن فهم مصطلح الديمقراطية في سياق هكذا دولة، هكذا يتبلور مفهوماً أخر للديمقراطية غير هذا المفهوم الحاضروي الذي يراها نظاماً لدولة قوية ذات سلطة قادرة على فرض هيمنتها على جميع أبناء الشعب والذي على ما يبدو أن هذا الأخير في طريقه للبلورة من جديد مفهومياً، إذ لم يعد الشعب في سياق الأثنيات الدينية والعرقية المتصارعة موحداً، مصهوراً في وحدة وطنية تعده للبلورة والعقل القومي والاجتماعي، المسألة التي لابد من الاعتراف بها هي أنه في سياق الحدث تتشكل مفهومات جديدة يستدعيها الحدث بحد ذاته، فإما أن يسعى للتثبيت أو التغيير وهذا ما لا يكتنهه الحاضر مستقبلاً، فإذا كانت البداية متصلة زمانياً ببداية أخرى أو بنهايتها فهي ليست على ذات صلة بتوضعاتها على الأرض.
الأخر، هو الأخر في سياق التكون، إذ ليست الديمقراطية هي الاعتراف في مطلق أخر، هذا الأخر المطلق، ليس موجوداً في سياق الكينونة صيرورة، الديمقراطية مصطلحاً ليست هي الديمقراطية مفهومياً، هي اليوم في ما هو معوَّلٌ عليها في دولة ماتزال في مسار الصيرورة في عالم لا يرى في الأخر مطلق أخر، بل آخر نسبي على نسبية ما يثيره الحدث من قضايا وفي ما يعززه من أخر، وآخرٍ آخر، وأخر ثالث ورابع وخامس.. كل منهم على مسافة مكانية في قلب الزمان تطول أو تقصر في الحدث من حيث هو رحم المفهوم لا المصطلح
التجذر في المستقبل، محاولة جهيضة للذين مايزالون يمتلكون الحاضر أو بالأحرى يقبضون على ممكناته وإمكانياته، فهل لمحاولي التجذر في المستقبل الكف عن محاولاتهم والاكتفاء بكونهم عناصر مساعدة في كينونة الحاضر مستقبلاً يتنطح لهمومه وقضاياه بعيداً عن أصولية لا تسحب الحاضر إلى الوراء وإنما تحاول جاهدة سحب المستقبل إلى الحاضر، وهذه بلا شك محاولة عابثة في المصير.