جديد الأصولية

تثير الظاهرة الأصولية، بما تطرحه من قضايا، إشكالية، نادراً ما كان العالم يواجهها وهي إشكالية الارتداد للوراء بتغافل قضايا العصر الراهن من جهل وفقر ومرض يتهدد مختلف شعوب العالم على مختلف أعراقها ومذاهبها وثقافاتها وفي أجواء سياسية محكومة بمبدأ تنازع البقاء، حيث لا حياة لشعوب إلاَّ على حساب أخرى.

تحت وطأة هاجس التلاشي، المتمثل في غالب الأحيان بأ للا استقراراً، تجد الحركات الأصولية مناخاً مؤاتياً للعمل، ومادة لطرح شعاراتها بإسقاط الأنظمة السائدة في مجتمعاتها باعتبارها السبب المباشر في ما يتهدد هذه الشعوب من أخطار الفناء. دون تقديمها الحلول الكفيلة بتجاوز المأزق التاريخي هذا.

في ما تطرحه هذه الحركات من حلول نظرية في عقائدها يبدو واضحاً مدى التخلف والجهل في مسببات ما يتهدد شعوبها، فهي، وفي هذا الاتجاه بالذات، تحصر الأسباب في الدولة وفي آلية عملها منطلقات وأساليب وغايات، ومن دون أن تعي أن هذه الدول بما قامت عليه وبما تعمل في أجواءه وبما تتصف به شعوبها، لا تجد من الممكنات التي تكفل بها الخروج من مختلف إشكاليات وجودها.

وبغض النظر عن العوامل الموضوعية التي تحيط بالدول من جهة وبالحركات الأصولية من جهة ثانية، فإن العوامل الموضوعية هذه، لا تلبث أن تقف في وجه الحلول التي تقدمها الحركات الأصولية فور تسلم هذه الحركات مقاليد السلطة، لا تجد هذه الحركات مفراً من مواجهة ما كانت الأنظمة السابقة لها وبأساليب وآليات كانت ترفضها وتنقد دولها من خلالها وبها، بل إننا لنجد أن جملة الأساليب التي تعتمدها هذه الحركات في حلِّ ما تواجهه أكثر تخلفاً من تلك التي كانت لدى الأنظمة، فتكون النتيجة ضياع الفرصة، إذ لا تلبث أن تجد هذه الحركات نفسها بشعوبها فريسة سهلة للإلغاء والتلاشي والانقراض في عالم ديدنه تنازع البقاء، أو البقاء للأقوى.. حيث هي الأضعف بما أستنـزفه وصولها للسلطة من طاقات إضافية لتخلف أساليب مواجهتها، بل وخطأ منطلقاتها ورؤاها للعالم وما يصطرع فيه.

وحتى لايكون ما نقدمه تنبئاً عن المستقبل وحسب، فإن الأمثلة التي أثرت تجربة الحركات الأصولية، كفيلة بتقديم البرهان القاطع على أنها حركات ما زالت تعيش خارج الزمان بعدم درايتها بما يحتاج العصر من أعاصير تحطم كل ما أمامها.

من التجارب الأصولية التي توضحت حتى الآن، مثال صارخ عن فشل الأصولية كمبدأ على التحقيق، إذ تقدم لنا تجربة «محمد علي جناح» في انفصال المسلمين عن الهنود وبكيان سياسي مستقل تأكيداً على أن الدين لم يكن، كما العرق والثقافة، قادراً على الحفاظ على الدولة، كدولة جامعة لأكثرية دينية، إذ لم تلبث باكستان علي جناح أن انقسمت في كيانين، كل منهما يدعي حيازته للشريعية الدينية في السلطة، كما أثبت كل من الكيانين عدم قدرته، بحيازته للشريعية الدينية، على تحقيق أدنى مستويات الحياة لشعبه، فبنغلادش، تبقى أعجز من أن تأد نفسها كما باكستان الغربية، التي لم تحل الأكثرية الدينية دون الصراعات المذهبية بالدرجة الأولى والتداول التأمري للسلطة ثانياً حيث يذكر الجميع نهاية أيوب خان وبوتو الأب المأساوية وضياء الحق المتناثرة وبوتو الابن اغتيالاً الابنة حيث الفساد وأخيراً وليس أخراً نواز شريف القابع خلف القضبان.. وما زال الجهل والفقر والمرض يعم مختلف أرجاء باكستان الشرقية /بنغلادش/ وكذلك باكستان الغربية على الرغم من امتلاك الأخيرة للقنبلة الذرية!!

في تجربة أفغانستان، مثال أخر، أشد فظاعة وهولاً وبشاعة، حيث الدولة الدينية محصلة قوى إقليمية ودولية، فكأننا بالدولة الدينية أمام استنـزاف من نوع جديد لطاقات الشعوب استعمارياً باسم الدين،

«فالمجاهدون من أجل الحرية» الذين واجهوا «كارمال» وقوات الدعم الروسية، بشجاعة وتمكنوا من إخراج ثاني قطب دولي من أفغانستان بدعم أمريكي تحديداً وغربي عموماً، وقعوا في شرك دولتهم الدينينة في الصراع الدائر الآن على الأرض الأفغانية والذي حصد حتى الآن مئات الألوف من القتلى وتشريد أكثر من خمسة ملايين أفغاني في العالم وأبقى على التخلف والفقر والجوع والمرض في عموم أنحاء البلاد تحت شعار الحيازة الشرعية للدولة الدينية والتي لم تتمكن حتى الآن من حسم الصراع بين الطاجيك والأوزباك تحت شعار السنة والشيعة..

المثال الأكثر غرابة في إيران حيث الدولة الدينية التي جاءت خلاصة ثورة شعبية عارمة أسقطت سادس نظام في العالم من حيث القوة العسكرية والمخابراتية، إذ لم تتمكن الدولة حتى الآن من حسم الصراعات الداخلية على السلطة بين متشدد ومنفتح ومازالت في أطر المزاوجة بينهما لتنمو في أجواء هذه المزاوجة حركات تسعى لاغتيال القيادات الروحية والمدنية وتثير من الاضطرابات الطلابية بما ينبئ عن مستقبل يأتي خلاصة انفجارات متتالية في الثورة على الثورة تبدأ بمصادرة الفكر وتنتهي لمواجهة بين الدولة والمعارضة المتمثلة حتى الآن بـ «مجاهدي خلق»..

في السودان، نتلمس مثالاً أكثر وضوحاً وأشد رهبة في الصراع الدائر بين الحكومة في الدولة الدينية وبين المعارضة ذات الصبغة الأصولية أيضاً، إذ لم تتمكن حتى الآن هذه الدولة من حسم الصراع الذي أودى بحياة مليون من السودانيين وأكثر من أربعة ملايين لاجئ سوداني في العالم وما يزال السودان يتخبط في بحر من الفقر والجوع والمرض والجهل عزَّ نظيره.

في كل ما تقدم من أمثلة، نلحظ أن الحركات الأصولية عموماً تعمى عن متطلبات العصر، بل وتحاول جاهدة الوقوف في وجه تحدياته بأساليب متخلفة تخلف رؤيتها من ممكنات الواقع وتحديات المستقبل.

أحادية الاتجاه:

الإشكالية التي تعاني منها مختلف الحركات الأصولية إنها ما تزال بوضع لا يؤهلها رؤية الواقع بإمكانية حتى و لا المستقبل بتحدياته فهي في مجملها أحادية الاتجاه لاترى إلاَّ ماضٍ رسمت صورته هي وألبسته الحلة التي تريد وتحاول جاهدة استعاده، بشكل من أشكال الاجترار النظري والذي غالباً ما تضيع فيه كثير من التفاصيل التي هي حقيقته التي لا جدال فيها.

هي كاليابانيين الذين لم يتساءلوا عمَّا وراء شاطئهم الشرقي من ثروات، ولم يتصورا سوى أن العالم يبدأ بهم، وهم لذلك، توجهوا غرباً، فخاضوا من الحروب المدمرة التي لم يجنوا منها ما كان يمكنِّنهم منه مجرد التساؤل عما وراء الشرق، حيث كانت القارة الأمريكية تقبع هادئة مطمئنة بانتظار كولومبوس الذي رفض أحادية الاتجاه لدى الأوروبيين المتوجسين قروناً مما وراء أعمدة ولكارت، حيث بحر الظلمات ونهاية العالم.

بين بداية العالم ونهايته ابحر أمريكوا بعد كولومبوس الذي ابتدأ بالتساؤل إذ ما كانت نقطة البدء هي نقطة الانتهاء، فكان أن اكتشف بتساؤله هذا قارة نتحكم الآن بمصير الملايين من البشر..

أحادية الاتجاه هذا، هي التي مالت بين الفاتح العربي للمغرب وقارة بكر تفيض ماساً وذهباً وفضة على بلاد المسلمين، لم يدرك عقبة بن نافع وهو القسم((والله لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر بر لمضيت مجتهداً في سبيل الله))لم يغطن القائد العربي وهو قبالة القارة الأمريكية أن على يساره قارة أفريقية فيها