سوق الكتب الدينية

في إحصائيات مبيعات الكتب، تبقى التوراة الملْحِقَةِ الإنجيل بها، وليس العكس، من أكثر الكتب مبيعاً في العالم، على الرغم مما توزعه بالمجان الكنائس والأديرة والجمعيات والمؤسسات الدينية على صيغة تبشير بالمسيحية، مما يدعو للتساؤل عمَّا إذ كانت الإحصائيات هذه، مؤشراً على انتشار المسيحية، أو إقبالاً على إحدى الديانتين اليهودية أو المسيحية، طالما إنهما ملتصقتان، واحدة بالأخرى، رغم تناقضهما في المظهر والجوهر في كتاب عُرف /بالكتاب المقدس/؟.

وكما يدلُّ واقع الحال، فلا المسيحية في حالة توسع من خلال المقبلين عليها، كما واليهودية ليست كذلك أيضاً رغم ادعاءاتها وقف الدخول في دينها اليهودي، منذ قرون فإذا كان وضع الإحصائيات تلك لا يدلُ على واقع الحال، فما هو السبب إذن في ارتفاع نسبة المبيعات؟ خاصة والمسيحية التي آلت على نفسها حمل اليهودية على ظهرها تتكبد، مذ أقرت دمج التوراة في حملتها الدينية، من الخسائر ما ينبئ بانهيار قريب واستشراس اليهودية، على الرغم من كونها جملة من الأساطير المنهوبة من تاريخ المنطقة والمؤولة يهوياً، بحيث باتت على كل شفة ولسان وحمل الكثيرون، مسيحيون ومسلمون، كثيراً من أسماء أبطالها على نسق  يوسف وداود وسليمان وأيوب وآدم وحواء.. الخ وبات كل من هذه الأسماء المتداولة يرسخ ويثبت يوماً بعد يوم ومناداة إثر أخرى، بشكل غير مباشر، أساطير هؤلاء /الأبطال/ وعلى الرغم أيضاً من الدلائل العلمية القوية التي تدحض تاريخية هؤلاء وحقيقة تواجدهم، بما لا يعني أكثر من كون هذه مجرد أسماء خرافية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالحياة والواقع والتاريخ وكل ماله علاقة بالعقل والعلم.

هذا إذا لم نأخذ بعين الاعتبار التناقض الفاضح بين الكتابين المدمجين في /الكتاب المقدس/ والذي يحول إلى حدٍ بعيد دون اعتبار أحدهما مكملاً للأخر، بل، وذا واقع الحال، أن كلاً منهما ينقض الأخر نقضاً لا مراء فيه، إن في التعليم أو في العبر المستخلصة من /المثال المسيحي/ أو من /القص الخرافي التوراتي/.

وعلى الرغم من كل ما تقدم، فما زلنا نتلمس، وعلى مدار الأربع والعشرين الساعة أمثلة توراتية تحكم خلاصة يومنا وعبرة، كأن نقول /.. ألم تسجن مصر نبياً هو يوسف/ أو / ألم يشق موسى بعصاه طريقه في البحر../ /ألم يُطرد آدم من الجنة../ الخ..

ومع كل ذلك أيضاً، ما تزال مبيعات /الكتاب المقدس/ في اضطراد وما يزال يأتي في مقدمة الكتب الأكثر انتشاراً في العالم!!!.

وإن يكن السؤال ما زال مطروحاً، ولم نتلمس بعد إجابته، فإن /هتلر/ كان السبَّاق لتلمس الإجابة قبل سبعين عاماً على الأقل، فعمد لتسويق كتاب «كفاحي» على النمط الذي يسوق به /الكتاب المقدس/. كيف؟!.

كما هو معروف، ليس كتاب «كفاحي» كتاباً علمياً، بل وليس له صلة بالعلم، كما وليس له صلة بأي شكل من أشكال السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو الثقافة، إنه ليس على أية شاكلة أخرى غير الهلوسة التوراتية المبتدعة /شعب الله المختار/ ومع ذلك فقد حقق كتاب «كفاحي»   /أعظم نجاح طباعي في العالم/ إذ بلغت مبيعاته في عام 1934 مليون ونصف المليون نسخة وفي العام الذي تلاه بلغت مبيعاته مليونان ونصف وفي عام 1937 بلغت المبيعات ثلاثة ملايين ومائتا ألف لتصل في عام 1939 لأربعة ملايين نسخة وفي عام 1940 ستة ملايين نسخة..

كيف كان لكتاب مثل «كفاحي» أن يحقق هذا النجاح الطباعي في بلد هيغل نيتشه وفيخته؟ كيف كان لـ «كفاحي» أن يتجاوز هيغل في /فلسفة الحق/ مثلاً أو نيتشه في /رسائل الأمة الألمانية/ هو ذا السؤال الذي ما زال مطروحاً.

لقد عمد النازيون في ألمانية لجعل كل مناسبة، مناسبة /لكفاحي/ تجسيداً لهتلر من جهة وكسب لودِ الغستابو من جهة أخرى، وتأميناً، في المحصلة، لدخلٍ عالٍ للفوهرر، ينفقه دون حساب، مما دفعه للتصريح بأنه لم يتلق ماركاً واحداً من الخزينة الألمانية لقاء قيادته للرايخ الثالث.

كان على كل ألماني، نازياً أم لم يكن، أن يقدم في كل مناسبة هدية من نسخة أو طبعة من كتاب كفاحي أكانت هذه المناسبة ولادة أو عيد ميلاد أو نجاح في مدرسة أو جامعة أو وظيفة أو عمل أو خطبة أو زواج أو..  وهكذا، لم يخلو بيت ألماني من عدة نسخ من ذلك الكتاب ولم يكن الأمر ليعني أكثر من ذلك، فقليل هم قارئوه والأقل منهم المقتنعون بما جاء فيه، ولم يكن بأية حالٍ، ومهما بلغت مبيعاته، ليعني انتماءً نازياً للحزب أو إيماناً بمبادئه، وقد تكشَّف للألمان ما تكشَّف لهتلر والنازيين.

وهكذا كان /أعظم نجاح طباعي في العالم/ على نسق أكثر الكتب انتشاراً في العالم /الكتاب المقدس/ إذ لا تعني الإحصائيات أن العالم يسير إلى المسيحية أو يعتنق اليهودية، فالمسالة برمتها تبقى مناسبات توزع فيها كتب، لا تحظى بها أمهات الكتب كائنة ما كانت قيمتها العلمية أو الفلسفية أو الأدبية..

وإن يكن العالم العربي قد اكتشف مؤخراً فكرة التسويق هذه، فإنه، وكما العادة قد سوقها بطريقة لا تدعو للتفاؤل كثيراً في ما اكتشفه. إذ بقي التداول في الكتب بحدود اللياقات الاجتماعية والمناسبات والتأكيد على الهوية الطبقية والثراء، في أحسن الأحوال غير المشروع.

فالمتأمل في سوق الكتب، يلحظ رواجاً غير صحي أو متوازن لكتبٍ دون أخرى، وتحديداً الدينية، والتي بلغت حدوداً غير متوقعة، بما يدعو للتساؤل، هل في هذا الرواج بعداً إيمانياً، وواقع الحال لا ينبئ بذلك!! وهل في تسويق كتاب على هذا النحو دليل وعي واستيعاب لمعطياته وعمل في ما يدعو إليه، هذا إذا ما تمت قراءته وواقع الحال أيضاً لا يدل على ذلك، إذ ما تزال كثيراً من الطروحات المتداولة لا علاقة لها بالدين والأديان والإيمان والمؤمنين، هذا إذا ما اعتُبرت مختلف المطبوعات الدينية في اجتهاداتها وتفسيراتها وتأويلاتها واحدة في الاتجاه والحامل والقوة، وواقع الحال أيضاً وأيضاً ينبئ بذلك!!.

وهنا، في التساؤل الذي ما يزال مطروحاً، تبقى الإجابة على أن سوق الكتب الدينية، ليس أكثر من سوق /عكاظ/ مناسباتي، وهو لذلك سوقاً لا يُعتمدُّ به، فكما في المسيحية وعلى ظهرها اليهودية، كذا في الإسلامية وعلى ظهرها الأصولية، والتي ما فتئت في ممارساتها نازية السمة، فاشية التوجه، تستثمر وإلى حدٍ بعيد سوق الكتب الدينية للتأكيد على امتداداتها الشارعية، فتوحي للبعض، والذي ما يزال على الطريقة الألمانية في ظل الرايخ يحاول أن يدمغ ويخلط عن قصدٍ بين التيار المؤمن والتيار الأصولي في تساؤلاته المشكوك فيها حول أن ما يعنيه رواج الكتب الدينية ليس سوى سوق الأصولية، وواقع الحال أيضاً وأيضاً، لا ينبئ على الإطلاق، ولنا في الدلائل ما يفي بالغرض.

في ذروة انتشار الماركسية، في الستينات والسبعينات من القرن المنصرم كانت سوق كتبها، لا توفر مكتبة عامة أو خاصة، ولا منزلاً ولا مثقفاً، وكان الحديث بها لا ينقطع ليل نهار لا في الظلال المؤمنة ولا في الأضواء الملحدة ولا حتى في الزوايا المظلمة من الفكر الذي لم يكن ليستوعب على الأقل ما تعنيه في ماديتها، في جدليتها أو ديالكيتكيها أو تاريخيتها، حتى عند أولئك الذين اعتنقوا الماركسية وكانت لهم لا تعني أكثر من النيل من الرأسمال والرأسمالية والقوم والقومية والدين والدينية. كانت الماركسية خليطاً متنافراً في عقول البعض وتفكيراتهم، حتى إذا ما انهار السوفيت، انهارت الماركسية، حتى عند الماركسيين الذين لم يتنبهوا حتى الآن إلى ما كان يشكله السوفيت من عقبة في وجه الماركسية.

كانت المطبوعات الماركسية، في تلك الحقبة، تملأ الأرصفة بعد الواجهات، حتى إذا ما انتهت الحقبة، حارت دور النشر والتوزيع أين تذهب بهذا الكم الهائل من الكتب، التي إن خضعت للإحصاء ومبرمجة إحصائياتها باتت أكثر بكثير من /الكتاب المقدس/ ومن كل ما بيع حتى الآن من كتب دينية وغير دينية..

كانت الكتب الماركسية أقرب ما تكون للمجان، كانت أثمانها رمزية، وكانت بمتناول كل يد، وكلها على حساب الدولة، ومن تعب الشعب العامل الكادح، بفلاحِّيه وعماله..

وليست الكتب الدينية بحالٍ أفضل من الكتب الماركسية، خاصة في ذروة الهجمة الأصولية الراهنة والخلط العمد المشار إليه أعلاه.

في ظل الخلط العمد هذا، بل وتحت جناح غموض مفهوم الأصولية، والتي يتم تداولها كمصطلح على نطاق واسع، دون تعريف بها سوى التعريف الأمريكي خاصة والغربي عامة، يطيب للكثيرين، متعاطفين وغير متعاطفين، أن يَصِموا كل كتاب ديني، يحقق إلى حدٍ ما رواجاً في السوق، بأنه أصولي، أو ذو نزوع أصولي!! وواقع الأمر لا ينبئ بذلك! إذ أن الاستقصاء وحده هو الذي ينبئ أن ما يسمى برواج الكتب الدينية، ليس في حقيقته سوى رواج سوق المناسبات على الطريقة النازية، خاصة وأن الكثير من هذه الكتب الرائجة، أقرب ما يكون في أسعاره المتداولة، للرمزية، إن ما قيست تكلفته، ورقاً وزخرفاً وخطاً وماشاكل ذلك من أساليب طباعية وإخراجية وجمالية، بسعر مبيعه، ففي مقارنة بسيطة، يبدو أن رواج الكتب الدينية هو أيضاً على الطريقة الماركسية إضافة للأسلوب المناسباتي النازي، ذلك أن واقع الحال أيضاً لا ينبئ بالإيمان في ما يكتب وفي ما تتناوله الكتب الدينية من موضوعات لا تتفق، في الحدِّ الأدنى، في ما بينها بالتوجه الديني الواحد يضاف إلى ذلك أنها في أكثرها، تنحى في موضوعاتها للإيمانية بشكل تأتي فيه مناهضة ومناقضة لكثير من الطروحات الأصولية، والتي ما تزال هذه الأخيرة تُصرَّف بكل ما هو عنفي، وبشكل يُخرج عن مصطلحها كثيراً من الأصوليات، وبحيث لا تبقى الأصولية لصقاً بالاتجاه العنفي الذي يتخذ من الإسلام ستاره وغطاءه، ومن المسلمين، في إيمانهم، شارعيته وهم منها براء.

فإذا، ما طاب للبعض، أن يتحدث عن سوق دينية رائجة، فعليه، أن يتبين إحصائياً أنه إذ ما تم الدعم المادي، الذي للكتب هذه، لأي كتاب أخر، على الطريقة السوفيتية، كما وتلقفته المناسبات على الطريقة النازية، وبات عربون وفاء ومحبة وإخلاص وتمنيات..، فإن سوق الكتب التاريخية والأدبية بل وحتى الفلسفية والاقتصادية سيكون الأكثر رواجاً وأكثر بكثير من أي من الكتب المشار إليها. وباتت دور النشر في حيرة من أمرها ومن أمر هذه الكتب التي لن تجد لها في واقع الحال مستودعات تستودعها إيَّاها، وبات الجميع على نحوٍ من ألمانية الغربية وهي حائرة أين تودع ذلك الكمَّ الهائل من صور ماركس وانجلز ولينين بعد عودة /الابن الضال/ ألمانية الشرقية إلى بيت الطاعة الألماني ـ الغربي.

جورج معماري