غسان جديد

في ذكرى استشهاد المقدم الشهيد

غسان جديد

لم تعرف أمة من أمم الأرض صراعا دام الفين وخمسمائة عام كالذي عرفته الأمة السورية على مدى تاريخها الممتد زهاء التسعة آلاف عام وحتى اللحظة التي نجتمع بها إحياءً لذكرى اغتيال الشهيد المقدم غسان جديد

 قد تستغربون ما لقيته هذه الأمة من مآسٍ في صراعها مع قوى داخلية حينا وخارجية في أحيان كثيرة رافضة أن يكون لها قبرا تحت الشمس،

فمنذ أن دخل قورش الفارسي بابل عام 450 ق.م، وتداعت بعد ذلك الممالك السورية مخلفة تراثا ما زال العالم يستقي منه منجزاته العلمية والثقافية  حتى اليوم،

بسقوط بابل، فقدت أمتنا سيادتها على نفسها، لكنها بقيت إشعاع يستلهم منه العالم كل ما يبدد ظلمات طريقه، وكانت فاعلة فعلها التاريخي في المستعمر أكثر مما كان المستعمر يحاول تطويعها وإذابة خصائصها ونسبتها اليه

فبعدما، دخل الاسكندر الكبير بابل، بعد 350 عام من الاحتلال الفارسي، أي في عام ستون قبل الميلاد، وانتهت الامبراطورية الاغريقية بعد وفاته، استعادت امتنا يعضا من استقلاليتها على يد سلوقس بعدما تجزأت تلك الامبراطورية بين الاغريق والبطالمة والسلوقيين، امتدت سيطرتها حتى شملت مملكة سلوقس (الذي توفي في 281 ق.م؛ وأصبحت مملكته فيما بعد الإمبراطورية السلوقية)، إيران والعراق وسوريا وأجزاء من آسيا الوسطى، وإن كانت تحت تسمية الامبراطورية السلوقية، فالإغريق كانوا أقلية حاكمة ليس إلا، بينما كان السوريون هم الأكثرية التي قامت كافة الفتوحات على سواعدهم التي عرفتها تلك الامبراطورية ، محققة من الانجازات ما استكملت به انجازاتها السابقة في مختلف ميادين المعرفة الانسانية، ومنافسة لروما الصاعدة الى المسرح العالمي، بدئا من محاولة القائد القرطاجي هاني بعل وحتى لجوئه الى سورية، موطنه الأصلي، في محاولة منه لحض الامبراطورية السلوقية على مهاجمة روما بعدما بدت الأخيرة على أبواب سيطرتها على البحر المتوسط.. لكن التخوف السلوقي من دخوله معركة وجوده، حال دون طموحات القائد القرطاجي وانتهى الحال بسقوط الامبراطورية السورية تحت احتلال آخر هو الاحتلال الروماني، والذي انتهى لسيطرة السوريين على مقاليد الحكم في رومة وعلى مدى خمسين عاما على التوالي، مما حدا بالشاعر الروماني “جوفينال” للقول : إني لأشتم رائحة العاصي من نهر التيبر، بعدما استقرَّ السوريون في رومة ونقلوا مختلف الثقافة السورية اليها..

من المفيد هاهنا، أن نشير لما قدمه السوريون على صعيد الثقافة الانسانية عبر توليهم شؤون الحكم في رومة، ونذكر على سبل المثال المشرع “بابنيان” الذي شرع للعالم، كما سلفه حمورابي، القوانين التي مازال العالم يأخذ بها حتى يومنا هذا وتقوم عليها مختلف القوانين المعمول بها، كما لابد لنا من مثال آخر على ابداعات السوريين في تلك الحقبة فنذكر الامبراطور “كركلا” الذي شرع للعالم قوانينه في “معدودية الدولة” التي جعلت من السوريين مكافئين للرومان بالحقوق والواجبات وكانت هي بداية قيام مفهوم المواطنة التي تشكل اليوم الركن الأساس لأية دولة في العالم..

لم يقتصر الأمر عند هذا الحد بل تعداه الى مختلف الاحتلالات التي تلت ذلك، عندما انتزعت دمشق وبغداد من المدينة كعاصمة للإمبراطورية العربية، والتي لم تكن مؤهلة لحمل أعباء عاصمة تلك الإمبراطورية، فتولاها كل من الأمويين في دمشق ومن ثم العباسيين في بغداد، حيث قاد السوريون حركة التطوير في الثقافة التي اتخذت من اللغة العربية عنوانا لها لكنها كانت في حقيقة الأمر ثقافة سورية بامتياز،

لكن وبتفكك الدولة في بغداد، وقيام دويلات على اسس دينية عرقية، دبَّ الضعف في أواصر الأمة فبدت منهكة الأوصال وسمح هذا الضعف لأطول احتلال في تاريخ الأمة بالسيطرة على مختلف مفاصل الحياة فيها ونشر فيها الجهل والتواكل والاستسلام لكل ما هو قدري مستكين، هذا ما خلفه فينا الاحتلال العثماني على مدى أربعة قرون باسم الدين..

نحن اليوم في معركتنا الأخيرة بين الحياة والموت، ذلك أننا نواجه أشرس هجمة في تاريخنا على الاطلاق، اليهودية العالمية التي تحاول إحلال الثقافة التوراتية الجامدة محل الثقافة السورية الخلاقة باعتراف العالم أجمع، تدعمها في ذلك مختلف القوى العالمية والمحلية الرجعية والانتهازية والوصولية المتمثلة بمختلف القوى السياسية والدينية والطبقية والعرقية والاثنية والحاملة بمفاهيمها كل في في الإرث العثماني من تجيهيل، والتي كانت وراء المحاولات المتكررة والمتلاحقة للقضاء على الفكر السوري القومي الاجتماعي المواجه للخطة اليهودية التي تعمل بكل جدية لإحلال ذاتها محل الأمة السورية..

لم تقف هذه القوى، الداخلية والخارجية على حد سواء، مكتوفة الأيدي في محاولاتها الحيلولة دون انتصار القضية السورية، بل هي أيضا عملت جاهدة بدفع من الصهيونية العالمية على تحقيق أغراضها، فتامرت على النهضة تارة واغتالت كوادرها تارة أخرى..

لقد عُرفت النهضة السورية القومية الاجتماعية كحركة صراع دائمة لا تهدأ، مقدمة الدليل تلو الآخر على ذلك، فقدمت الشهيد تلو الشهيد، بدئا من سعيد فخر الدين شهيد الاستقلال الوحيد الذي أنزل علم الانتداب من على صارية المجلس النيابي اللبناني، الى الشهيد حسن البنا أول شهيد يسقط على تراب فلسطين، الى قافلة الشهداء الآخرين الذي ختموا انتماءهم للنهضة بدمائهم، بدئا من كميل الجدع الذي سقط شهيدا في دير الزور على يد البعثيين والشيوعيين، الى يونس عبد الرحيم وبديع مخلوف وعبد المنعم الدبوسي، الى المقدم الشهيد غسان جديد الذي اغتالته يد الاجرام السراجي في بيروت..

قدمت النهضة السورية القومية الاجتماعية الآلاف من شهدائها، في مسيرتها النضالية، منهم من قضى تحت التعذيب في مختلف سجون الأمة، ومنهم من قضى في معارك مواجهة الاحتلال اليهودي ومنهم من قضى غيلة وغدرا..

لا يمكننا استعراض أسماء شهدائنا فهذا، لكثرتهم، أمر مستحيل، أيضا بحاجة لساعات وساعات من الحوارات والتمعن والتمحيص في الاسباب لكن يمكننا تناول بعض مواقفهم التي تؤكد أنهم افتدوا قضيتهم بدمائهم طوعا، نذكر على سبيل المثال رفقاء سعادة الذين حكموا بالإعدام إثر الثورة القومية الاجتماعية الأولى وفي مقدمتهم الصدر عساف كرم، حيث يستعرض الرفيق شحادة الغاوي، في كتابه /قراءة ناقدة في تاريخ صاخب/ اللحظات الأخيرة من حياتهم، يقول” وأمام الموت وجهاً لوجه يتألق أديب الجدع ومعروف موفق ومحمد الشلبي وعبد الحفيظ علامة ومحمد الزعبي وعباس حماد، هؤلاء لن ينسى كل من حضر تنفيذ حكم الاعدام بهم، من لحظة  مغادرتهم حبس الرمل حتى لحظة اختراق الرصاص أجسادهم، تلك الروح العالية لشباب يواجهون الموت وكأنهم ذاهبون الى حفلة عرس أو الى نزهة مدرسية. يضحكون لا تفارقهم روح الدعابة والمرح، يعطون للعالم أمثولة في اللقاء مع الموت من أجل قضية، أمثولة لكل مؤمن بحق أمته في الحياة. فعباس حماد وكانت قد فاتته إجراءات أداء قسم الانتماء الى الحزب رسمياً، طلب من محمد شلبي: “بصفتك مديراً لمديرية نبوخذ نصر في دمشق أرجو أن تسمح لي بأداء القسم الدستوري الآن لأني أريد أن أموت سورياً قومياً اجتماعياً كاملاً  فأقابل الموت مطمئن الضمير وأعَد في المستقبل في عداد الشهداء القوميين الاجتماعيين.”. عباس يؤدي القسم. والرفقاء الستة يتسابقون الى اختيار خشبات الإعدام الست. آخرهم كان أديب الجدع وبقيت له الخشبة الاولى، وقف وخاطب رفيقه محمد الشلبي وقال له: أنا مطرحي هنا مكانك يا حضرة المدير، أنت المدير ومطرحك أمام الخشبة الاولى… ويتحرك السلاح بايدي الجنود، وما أن سمع المدير محمد الشلبي صوت الضابط يعطي أمر اطلاق النار حتى أرتفع صوته للمرة الأخيرة مدوياً كالزئير: لتحيى سورية. فأجابه الرفقاء الخمسة بصوت واحد مجلجل كهزيم الرعد: ليحيى سعادة.

وسقط الرفقاء الستة دفعة واحدة متجهة وجوههم نحو الارض، أرض بلادهم التي أحبوها حتى الموت..” ولن ننسى في ذكرى الشهادة، رفقاء الثأر لاغتيال سعادة ، ميشيل الديك وأديب صلاح واسبيرو وديع، وصرخة الشهيد ميشيل الديك” خذها من يد سعادة” وبتلك الجرأة التي تميز بها القوميون الاجتماعيون، ينزل الشهداء من سيارتهم ليتفقدوا موت رياض الصلح غير آبيهين بمرافقة الموكب ليتأكدوا من موت الخائن الذي كان له الدور الأكبر في الاغتيال ..

 كما لا يمكننا استعراض ما تعرض له الحزب من أحداث، والعوامل والاسباب والنتائج ، لذا فقد نكتفي بذكر البعض، ممن كانوا منارات فكرية وقيادية، وقضوا اغتيالا، بدئا من الرفيق مجيب المرشد الى المقدم الشهيد غسان جديد وصولا الى  وسيم زين الدين، بشير عبيد، كمال خير بيك، محمد سليم، توفيق الصفدي، حبيب كيروز، وغيرهم كثر.. ولا ننسى في هذا المقام شهداء جبهة المقاومة اللبنانية وفي مقدمتهم الشهيدة سناء المحيدلي التي افتتحت مسيرة الاجساد المتفجرة بقيادة العميد الشهيد محمد سليم..

في ذكرى المقدم الشهيد، والتي هي ذكرى جميع الشهداء القوميين الاجتماعيين، لابد من المرور على بعض محطات حياته الصاخبة التي توجها باستهدافه من قبل مخابرات السراج، فسقط غيلة..

ولد المقدم الشهيد في قرية  دوير بعبدا قضاء جبلة 1920 وما أن بلغ الثامنة عشرة ، حتى التحق بجيش الشرق بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، والذي تمَّ تشكيله من قبل دولة الانتداب فرنسا، حيث كان هذا الجيش بقيادة ضباط فرنسيين للمساهمة في تلك الحرب الى جانب فرنسا، وقد تم تشكله من مختلف الشرائح المذهبية والطبقية والعشائرية، وكان ملاذا لشباب تلك الفترة بحيث ضم العديد من شباب الأقليات الذين كانت السلطنة العثمانية ترفض انتماءهم لقواتها،

بعد الاستقلال، التحق بالجيش السوري وتطوع للعمل في جيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي عام 1948 ورُفع لرتبة مقدم وانتدب مستشارا عسكريا للحكومة السورية في الأمم المتحدة، عُين قائدا لمدرسة ضباط الاحتياط في حمص 1954..

المقدمات الآيلة للاغتيال:

في الثامن والعشرين من شباط تمت الاطاحة بأديب الشيشكلي وتم تعين هاشم الاتاسي رئسا للدولة، بعد سبعة أشهر من سجنه بتهمة قيادة حركة للإطاحة بأديب الشيشكلي، يعين عدنان المالكي نائبا لرئيس الأركان ورئيسا للشعبة الثالثة، التي راحت تصنف مختلف ضباط الجيش وفق انتماءاتهم السياسية، كان المالكي متعاطفا مع أخيه رياض المالكي العضو القيادي في حزب البعث الذي يديره مشيل عفلق، وناقما على أكرم الحوراني باعتباره المسؤول عن عدم ترشيح أخيه رياض في انتخابات 1954 ،لم يكن المالكي نزيها في ممارسته لرئاسة الشعبة الثالثة، مما دفع بالكثيرين ممن شاركوه المسؤوليات الأخرى لاستعدائه، أبرزهم كان أكرم الحوراني، وعبد الحميد السراج وشوكت شقير والسفير المصري محمود رياض الذي مارس دورا كبيرا في الدعاية لعبد الناصر بدئا من دفع الأموال للسياسين أمثال صبري العسلي وبعض الغوغاء التي كانت تبث الشائعات حول كل من ينتقد التقارب السوري المصري والذي كان المالكي أحد أكبر رافضيه كما كان موقفه حيال مختلف مشاريع  الأحلاف التي كانت تحاول ضم سورية اليها وكان أبرزها حلف بغداد،

كان المالكي يدعي أنه ضد التحزبات في الجيش، لكنه كان ممالئا للضباط البعثيين وتحديدا أولئك المحسوبون على عفلق والبيطار، وعلى الرغم من أنه استعدى الضباط القوميين الاجتماعيين، فإن الأخيرين لم يناصبوه العداء، ومع ذلك، فقد مارس ضدهم مختلف أنواع التضيق والاقصاء خاصة المنتمين منهم لأقليات عرقية أو دينية، كان حسين الحكيم أولهم الذي تلقى مذكرة تسريحه من الجيش وهو في اجازة من قطعته، يقول في شهادته أمام محكمة السراج في دمشق:

: ..وفي حمص وكنت مأذونا في طريقي الى مصياف لأرى زوجة المقدم غسان جديد واسألها عن المعاملة التي تعرضت لها في الطريق اي سؤال زوجها عن المعاملة فالتقيت به في داره بحمص واخبرني امر تعدي الشرطة العسكرية لسيارته ونقلت له ايضا ما آل الي من امر المقدم حميل زهرالدين وللغضب والاسف لما حصل وكان بشكل موحد لتلافي مثل هذه القضايا مع رئيس الاركان.   .. عندما كنت في بيت المقدم غسان بحمص ..  (اشرت)   بان جميل زهرالدين يهيئ استنفارا في قطنا فاتصل الرئيس معين بالعقيد محمود شوكت واتصل هذا برئيس الاركان وعمل على اخراجي من حمص وبنتيجة ذلك كان تسريحي من الجيش قبل ان يحققوا معي او يوجهوا الي اي سؤال, هذا مع العلم ان المقدم زهر الدين اصل الحادثة احيل الى مجلس تأديبي وبرئ بالإجماع..”

كذلك كان الموقف من المقدم الشهيد الذي تمَّ تحجيم دوره بنقله من نائب رئيس كلية الضباط الاحتياط في حمصا لى معاون لرئيس موقع دمشق ومن ثم تسريحه بتاريخ 14/4 / 1955 أي قبل اغتيال المالكي بثمانية أيام فقط..

كان المقدم الشهيد نافذ البصيرة، فقد تلى تقريره المتضمن الوضع العام في الجيش وفق ما أورده الأمين المحايري في شهادته أما المحكمة الاستثنائية العسكرية المنقدة لمحاكمة القوميين الاجتماعيين إثر اتهامهم بجريمة الاغتيال، نقطف منها: “..ويتلخص التقرير بانه وصف عن كيف اثير الانقلاب وكيف حرص الجيش على الابتعاد عن السياسة ثم قوة الكتلة البعثية في الجيش ثم نشوء كتلة للزعيم شوكت شقير قوامها الضباط                                                                       الذين والوا الشيشكلي كالمقدم نفوري في حمص والرئيس عبد الحميد السراج والرئيس احمد المصري وانه يتوقع نشوب نزاع بين الكتلتين على تسيير السياسة في الجيش وان اتفاق الكتلتين يمكن ان يستمر مؤقتا على اساس الانتظار الى انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة اذ تتخلص الكتلتان عندئذ من بعض العناصر العسكرية التي تزعجها ومن بعض الضباط القوميين وحينئذ يمكن ان ينشب الخلاف المتوقع اذا تعارضت الاتجاهات السياسية بين البعث وبين الكتلة الديموقراطية والحزب الوطني.   رأى المجلس الاعلى ان يترك لمجلس العمد دراسة هذا التقرير واتخاذ ما يراه مناسبا اما مجلس العمد فان التوصية التي اخذ بها هي توجيه الضباط القوميين لمعاكسة اي انقلاب بعثي يمكن ان يحدث.   اما بالنسبة لأي انقلاب على البعثيين فمطلوب منهم عدم التدخل فيه.   اما سبب ذلك فناجم عن ان الحزب يعتبر ان حكما بعثيا في البلاد سيجعل منها هدف تآمر الاسرائيلي ـ تركي ـ اميركاني بحيث تودي البلاد الى كارثة كما ان مجلس العمد فيما يتعلق بسياسة التسريح التي اشار اليها التقرير على اساس وقوعها بعد انتخابات الرئاسة فانه ترك للاتصالات السياسية مع الاحزاب والهيئات المجال لتلافي هذه التسريحات اذا امكن ..”

كان المجلس الأعلى في الحزب منعقدا في جلسة ضمت أعضاء مجلس العمد، بتاريخ 22/4/1955 أي ساعة وقوع جريمة الاغتيال، فوجئ الجميع بالنبأ اثر هاتف رد عليه عبد المسيح بالقول: “هادا حكي ما بينحكى ع التلفون ، هاد دس مكتب ثاني وأغلق الهاتف..”

تداول المجتمعون بالأمر حيث طلب منهم عبد المسيح التواري عن الانظار حتى يتم تبين الحقيقة، قرر المقدم الشهيد بضرورة سفره الى بيروت مع من حضروا منها، ولما سأله الأمين المحايري عن السبب أجابه”  قائلا بان القاتل صديق لشقيقه فؤاد وقومي وعلوي وانه اي غسان قد سرح منذ عشرة ايام وانه قد يتهم بتدبير اغتيال العقيد المالكي لهذه الاسباب وظنا منه بان يونس عبد الرحيم قد حمل سره معه الى القبر..” كان لا بد من سفره، وأنه لا يريد أن يقضي ستة اشهر في سجن المزة حتى تظهر حقيقة عدم اشتراكه بهذه الجريمة ..

في المحاكمات التي تلت جريمة الاغتيال، جاء قرار الاتهام بحق المقدم الشهيد متضمنا:

1 ـ ادعاءات النيابة العامة العسكرية ـ 17

وزارة الدفاع الوطني

النيابة العامة                       الرقم 8977 اساس 900

                        ادعاء اولي

            الى قاضي التحقيق العسكري

عطفا على ادعائنا رقم 775/7079 وتاريخ 24/4/1955 وادعائنا رقم 775/830 وتاريخ 15/5/1955

نحن الرئيس محمد الجراح معاون النائب العام العسكري بدمشق

بناء على المرسوم الصادر عن رئيس الجمهورية برقم 1480 وتاريخ 16/5/1955 القاضي بملاحقة المقدم المسرح غسان جديد من قرية دوير بعبدا ( جبلة ) بجرم التحريض على قتل العقيد عدنان المالكي, والانتساب الى حزب سياسي, وتشويق عسكريين للدخول فيه, ودس الدسائس لدى دولة اجنبية, والاقدام على شل الدفاع الوطني, وخرق تدابير الحياد المتخذة من قبل الدولة, والانخراط في جمعية سياسية بدون اذن الحكومة, واثارة عصيان مسلح ضد السلطات القائمة, والاعتداء المستهدف اثارة الحرب الطائفي الاهلي واقتناء وصنع وحيازة المواد المتفجرة بقصد احداث جنايات الفتنة, والقيام باعمال ارهابية, واقتراف الجرائم تنفيذا لاغراض الجمعية السرية, المنصوص عنه والمعاقب عليه باحكام المادة 535 بدلالة 217 من قانون العقوبات العام والمادة 149 و 147 و 150 من قانون العقوبات العسكري والمادة 264 و 266 و 278 و 288 و 292 و 298 و 302 و 304 و 329 من قانون العقوبات العام

لذلك وبناء على احكام المادة 21 من قانون اصول المحاكمات الجزائية العسكرية نطلب الى قاضي التحقيق العسكري فتح التتحقيق بحق المدعى عليه المذكور اعلاه بالجرم المعزو اليه وكل من يظهر انه مشترك او متدخل معه بالجرم وبكل جرم يظهر اثناء التحقيق واصدار مذكرة احضار بحقه

                                    م. النائب العام العسكري

دمشق في 28/5/1955                       الرئيس محمد الجراح

ــــــــــــ

وعلى الرغم من أن الشهادات التي استمعت اليها المحكمة نفت مجمل ما ورد في مذكرة الاتهام، أصرت تلك المحكمة على ادعاءاتها:

يقول  محمود شوكت قائد مدرسة الاحتياط في حمص والذي كان المقدم الشهيد نائبا له، وقد جاءت أقوال محمود شوكت لتؤكد زيف ادعاء تمرد حمص ومؤازرته لتمرد قطنا والقنيطرة يقول: ” محمود:

ـ اذا ثبت ان وقع استنفار بحمص او وزعت اسلحة فانا مسؤول لبعد الف سنة.

ـ ان غسان حدثني عن توقيف الشرطة لعائلته ولكنه لم يذكر لي بانهم كانوا يريدون اغتياله او اعتقاله.   وان اعتقادي ان توقيف سيارته كان للتسجيل عليه انه غادر مكان عمله وجاء الى دمشق بدون اذن وهذا استنتاج من عندي..”

مصطفى حمداني في شهادته :

“فاعلموني ان هناك استنفارا في حمص وآخر في قطنا وان المقدم غسان قد استنفر في حمص والمقدم زهر الدين استنفر فوجه في قطنا وبينما كنت اتكلم على الهاتف خرج العقيد وبادرني بحديثه الخبرية بشأن استنفارات اليس كذلك فقلت له نعم فقال الهاتف الذي جاءني منذ دقائق كان بنفس الموضوع.   واتفقنا على ان نؤخر ….. الزعيم شقير تنتهي فيها السهرة حتى لا يكون في هذه الاستنفارات بين المدعوين وفعلا قد انهينا السهرة واعلمنا الزعيم وذهبت انا والعقيد مالكي الى منزل الرئيس شهير دريعي وكان على ما اظن الذي اعلم وقال له ان المقدم زهر الدين موجود عندي في البيت.   ومررنا وبقينا في البيت عدة دقائق وكان المقدم زهر الدين موجودا فقال الرئيس لقد اتيت به في السيارة من قطنا واخذ المقدم زهر الدين يعلل الاستنفار بانه سمع باننا نكرهه واننا نريد ان نخرجه من الجيش مع انه كان من اصدقائنا.   وانتهى الحديث وذهب كل منا الى منزله وقد اعلمت الزعيم شقير  بهذه المقابلة وفي اليوم الثاني قبل الساعة الثانية اي قبل انتهاء الدوام في الاركان وكان على ما اذكر التاريخ الاسبوع الاول من الشهر العاشر 1954 اتاني احد المراقبين واطلعني على آخر مخابرة هاتفية جرت بين السفارة الاميركية في دمشق والسفارة الاميركية في بيروت اذكر منها بان الخطة قد فشلت وانهم سمعوا بانه القي القبض على غسان والعقيد شوكت وبعض الضباط فاخذت هذه المخابرة وصعدت بها الى الزعيم شقير وعرضتها عليه وبينما كنت اعرضها عليه دخل العقيد المالكي واطلع على نص المخابرة وقال على ما اذكر بان المؤامرة اذا اجنبية وطبعا استغرب واستهجن تدخل بعض الدول في شؤوننا وقد اعلمني العقيد المالكي في اليوم الثاني وانا في مكتبي بان الملحق العسكري عنده في الغرفة وانه صارح بصراحة في موقفهم منا وطلب الي ان اتلو له نص المخابرة مرة ثانية فتلوتها عليه وبعد الاجتماع قال لي بعدئذ بان الملحق العسكري الامريكي قد علل له فورا الهاتف بانه يوجد اشخاص كثيرون ….  …. اميركا ويجوز انهم اتفقوا على ان يخابروا من نفس المخابرة مع اشخاص آخرين في نفس السفارة الاميركية في بيروت حتى يظهر بان الامريكان …. هذه الحركة فضحك العقيد من هذا التعليل..”

2 ـ الملازم اول علي رسلان كيلاني

“… لقد سمعت بان حسين الحكيم جاء الى حمص لمقابلة غسان جديد وانني لا اعلم فيما اذا كان وقعت حركة او شيئ من الاستنفار في الثكنة اما في المدرسة فانني اؤكد انه لم يقع شيئ اثناء وجودي.”

 السراج في دمشق اتهم المقدم الشهيد بالتخطيط والتنفيذ لقتل المالكي ، وأشيعت عنه الكثير من الشائعات التي حاول السراج تأكيد اتهامه بالتخطيط والتنفيذ لجريمة اغتيال المالكي، منها قيامه بتمرد حمص ومؤازرته لتمرد قطنا والقنيطرة، كذلك ادعاء المحكمة بسرقته لأبقار كانت ملكا لفلسطينيين، والأكثر من ذلك اقامته علاقة مع امرأة لبنانية كانت تأتيه كل اسبوع اضافة لحاجته المستمرة للمال لتغطية مصاريفه..، بالطبع جاءت الشهادات من الشهود الذين مثلوا أمام المحكمة العسكرية الاستثنائية في دمشق ليؤكدوا زيف مختلف الادعاءات التي حاولت محكمة السراج الصاقها بالمقدم الشهيد، والتي تتناقض تناقضا مطلقا مع ما جاء في مذكرة قائد المنطقة الوسطى التي رفعت للقيادة العامة للجيش والقوات المسلحة لترفيع المقدم الشهيد :

222

بعد خمسة أشهر من تاريخ هذه الوثيقة، يسرح المقدم الشهيد، 14/ 4/ 1955دون ذكر الأسباب المؤدية له، وبعد ثمانية أيام منه تتم جريمة المالكي، وتلصق بالمقدم الشهيد تخطيطا وتنفيذا،

هذه الشهادة ، كغيرها من الوثائق، لم ترق لمحكمة السراج، فتجاهلتها، لتثبيت ادعاءاتها،

واقعة الاغتيال:

بعد لجوئه للبنان، تفرغ المقدم الشهيد للعمل الحزبي، ويعين عميدا للدفاع، وتعاون مع محمد معروف ــ رئيس المكتب الثاني 49 ــــ50 ـ للإطاحة بهيمنة عبد الحميد السراج، الذي كان يعرفه حق المعرفة ـ كما هو وارد في كتابه/ أيام عشتها/ والتي ضمنها تفاصيل تعاونه مع المقدم الشهيد، حيث يقدم لنا وصفا لحادثة الاغتيال : يقول

22

استشهد المقدم غسان جديد وشيع في بيروت مهيب وسار خلف نعشه أكثر من خمسون ألفا من رفائه ومحبيه..

لم يكن استشهاد غسان سوى منارة من منارات هذه النهضة التي آمن بها طريقا لحياة أمته افتداها بدمه، فكان بحق ، كغيره من شهدائها، قوميا اجتماعيا جسد قسمه وسقاه بدمه، ليعلن للأجيال لم تكن قد ولدت، إن الدماء التي تجري في عروقنا ليس لنا، هي وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها، مقتديا بسعادة فكرا ونهجا وسلوكا..

في العبرة من الشهادة:

على كل منا، ونحن نعيد تذكار من سقطت أجسادهم في سبيل تحقيق مرامي هذه النهضة العظيمة ، أن يسأل نفسه كل صباح: ما الذي قدمته لهذه الحركة حتى اليوم؟ هل أنا القومي الاجتماعي الحق المستعد لبذل كل ما فيَّ في سبيلها؟ هل أتمتع بالمسلكية القومية الاجتماعية التي أقسمت أن أتخذها شعارا لي ولعائلتي في تعاملي مع زوجتي وأولادي ورفقائي وأقاربي وأصدقائي ومعارفي ومواطنيَّ بقيم النهضة التي أقسمت أن أفتديها بدمي؟ هل أتمتع بالجرأة الأدبية التي تمنحني الصدق في مواجهتي لذاتي وللأخرين ؟ هل أود الخير لهم كما أوده لنفسي ؟ هل أمد لهم يد المساعدة متى كانوا بحاجة اليها ؟