قصائد وطن ـ وطني ـ ملحمة شعرية

جورج يوسف معماري

قصائد وطن

كيف من وهمٍ بنينا حُلُما          وقضينا العمر نجني ندمَا

مرّتِ الأيام لم ندرِ بها          وتلاشى الحلمُ فينا سَقَما

كنّا عشناهُ طريقًا وعِرًا          يقتضي العزم لنمضي قُدُمَا

لا نبالي في مسيرٍ وهنًا          نصرُنا يبقى إلينا عَلَما

وهتافٌ ونشيدٌ شدّنا         تضحياتٌ سوف تبقى قِمَمَا

وحياةٌ في صراعٍ دائمٍ         كلُّ ما فيها سموٌّ وسَما

سوف نمضي طالما فينا دمٌ       هدفٌ نسعى إليه قَسَما

إنما في دربنا عاثت بنا        كبواتٌ وشرورٌ وكَمَا

عبثت فينا صراعاتُ الأنا         فتبدّدنا شيوعًا ودُمَى

هكذا الوهمُ رسمناهُ دنى         هكذا الحلم تلاشى وهمَا

وطني

ملحمة شعرية

 (1)

أبكيك في قلبي وفي شعري كما        أحكيكَ آهًا كلَّما دمعي هَمَى         

وطني وحبّك في الفؤادِ له صدىً ألمٌ يُعذّبني ويُبكيني دَمَا              أنا لا أراك ثرىً وماءً أعْذَبَ        كلاَّ ولا طيرًا يغّردُ في السَّمَا       لكنّك الحُلمُ الذي عانقته              فجرًا ينيرُ الدّربَ لي قد أظْلمَ

أشكوكَ إن هاجَ الحنينُ وعادَ بي    شوقٌ إليكَ الحبُّ فيه تجهَّمَا

(2)

أنتَ الذي أقرأْتني أنَّ العُلا والسؤددَا تُومي إليكَ مهابةً وترنُّمَا

أمَّا البطولةُ والإباءُ فلا تَسَلْ     في أرضِكَ انغرستْ لتضحي سلّمَا

للمجدِ يروي قصّةً فيها الفدى    نغمٌ يردّدُهُ شبابُكَ كلمَّا

هبّتْ رياحُ الغدرِ تأبى أن يكونَ العزُّ فيكَ ومن ثراكَ الأنجمَ

(3)

فعلى رُباكَ الفكرُ أضحى ثورةً      والعقلُ ثارَ على الدّجى مُتَقَدِّما

بمبادئَ طارتْ إلى الدنيا بمن    زرعوا بها أرواحهم فكأنَّما

أهدافُنا، تاريخنا، يعلو بها         ويشيدُ صرحًا شاهقًا متبسِّمَا

والوحدةُ الكبرى التي تسعى لها      كم قُلتَ لي فيها كلامًا مثلمَا

إنجيلُ عيسى أو حديثُ محمّدٍ          لا يقبلُ التأويلَ نَصًّا مُحْكَما

فرسمتَ مجتمعًا تآخى كلّهُ              والحبُّ ظلّلَهُ وأشجاه الظَّمَا

للواجبِ المعطاءِ في عملٍ وفي         دأبٍ وكدٍّ سعيُه فيه سما

أمَّا النظام فراعَ في تخطيطه       فُضلى المدائن شعبُها المتحكِّمَا

بمقدراتِ الكلِّ يبني قوةً         في جيشها أضحى الجميعُ مُنظّما

(5)

فغدتْ به حريّةٌ يزهو بها        والعدلُ يَخْطِبُ ودَّها مُستلهِمَا

منها المساواةُ التي إن أزْهَرَتْ حقًّا وخيرًا طافَ فيه معلِّمَا

فجرُ الجمالِ هدىً وشمسًا فيئُها عطرٌ وطيبٌ فالحياةِ تَنعُّمَا

فالشكُّ لا يرقى بأنَّ محمّدًا          مثل المسيحِ إليكَ جاءَ مسلِمَا

(6)

فهزَجتَني أنشودةٌ مُثْلى لغيرِكَ ما هَتَفْتُ ولا نذرتُ له الحمى

فدمي أقاحٌ من رباكَ جبلتها      قانٍ، به أحيا ولولاه لما

غاصتْ شراييني جذورًا في ثرى  أرضٍ طهورٍ أنبتَتْ لي الأعظَمَا

كالأرز في شممِ الجبال شموخُها   نبضي وزندي الحرُّ منها قد نَمَا

والنّور في عيني صباحُكَ حاكَهُ حُلُمًا أغرًّ كي أراكَ مُكرَّمَا

ونسيمُكَ النادي بعاطفتي سرى     صوتًا إليكَ الحبُّ فيه ترخَّما

وهواكَ في قلبي لظى أشعلتُه   نارًا لتبقى سيّدًا ومعظَّمَا

(7)

يا قِبلةَ الخلدِ التي أحببتُها      كيف استحالَتْ في الوصالِ جَهَنَّما

كيفَ انتهى بكَ حبُّ من تهوى أذىً     كيفَ المحبُّ يودُّ أن تتألّمَا

قُلْ لي بربِّكَ هل يعانِقُكَ الهوى   من رام منكَ فؤادَكَ المتألِّمَا

إن السّؤالَ إليكَ يدمي خاطري         إن السؤالَ يودُّ أن يتكلَّمَا

إن كُنْتَ لا ترضى الإجابةَ مكرهًا     هل ودَّ قلبي أن يرَاكَ مُيتَّمَا

(8)

وجدي يراعكَ، لا تسلني ما الجوى   جرحٌ بخاطرتي يودُّكَ بلسَمَا

ويرى سماءَك بالغيومِ تَجَهَّمتْ     والرّيحُ يعصفُ زمهريرًا لمْلَمَا

كلُّ النفاياتِ التي أسِنَتْ بها        مستنقعاتُ الذلِّ سيلٌ قد طمى

حقدًا ولؤمًا همُّهُ أن يستقي        منك الشبابَ وروحكَ المُتَكلِّما

كلُّ الزهورِ اليانعات على ربا       كَ تَقَصَّفَتْ والسنديانُ تَقَلَّما

كلُّ الطحالبِ والفطورِ ترعرعتْ   والعوسجُ المسكينُ فيكَ تَيتّمَا

(9)

عَبَثَ بشيْبِكَ في الظلامِ مصائبُ    أوهتْ وقاركَ والشموخُ تهدَّمَا

وتفيئَتْ بعضُ البثورِ ظلالَهُ          وغدا الترهّلُ والتوكّلُ أسلَمَا

والاستكانةُ فيكَ صارتْ مطلبًا         تُرضي براحتِها الأصمَّ الأبكَمَا

(10)

فهوى الشبابُ بقلبكَ الدّامي أسىً         وتهافَتتْ آمالهُ وتحطَّمَا

فطموحهُ أضحى جموحًا أرعنَ        وشجونهُ قادتهُ كي يستسلمَا

حتى الطفولةُ في عيونكَ سهِّدَتْ  والبؤسُ لاحقها وأضناها العمى

ضلَّتْ بها طرقاتُها وتيتَّمَتْ         والحزنُ أمسَى بينَهَا بدلَ الدُّمى

(11)

بُحَّتْ بكَ الأصواتُ في همساتها       جورٌ يؤرّقُها وفيكَ تحكّمَا

وقصيدكَ الغافي على أطلالهِ           باتَتْ قوافيه ركامًا وارتمى

في سلةِ المدحِ الذليل تكسبًا           وتملقًا وتزلفًا فتحجَّما

ه

بَّتْ رياحُ الغدرِ فيكَ خسيسةً      تذرو على كلِّ التلاعِ القُمْقُمَا

يكفيكَ منه أن يرى وجهًا جميـ      ـلًا مثلَ وجهكَ داميًا ومهشّمَا

(12)

ويطوفُ في قلبي جمالُكَ نائحًا      في حرقةِ المكلومِ نارًا أضرَمَ

أدمَتْ فؤادي لستُ أدري ما النُّهى   إن لمْ يَقُمْ عزمي إليكَ مصمِّمَا

إن يفتديكَ من الردى بثباته         كالطودِ يشمخُ ثائرًا ومُرَمَّما

ما أحدثَتْهُ كلومِ جيلٍ غابرٍ         في وجهكَ الحبُّ اليتيمُ تيمَّمَا

3)

ويقودني هَلعي عليكَ ولهفتي     أن أرتجي للذودِ عنكَ الأرقمَا

وبدارِهِ أبني قصيدي حالمًا

      بالمجدِ يأتي تائبًا ومتمِّمَا

ما كان في تاريخه طوعًا أتا      كَ مُكَفِّرًا، عهدًا لعزّكِ أبرَمَا

وأجوبُ ميدانَ الصّراعِ وحُرقتي   تحنو على الأشلاءِ منكَ توهُّمَا

إنّ الحياة تعودُ في يومٍ لها        والعطف يسعفها وقلبي إن وَمَى

بالحبِّ يلهمها التآخي والتوا      صلَ بينها ويواكبُ المتفهِّمَا

للمحنة الكبرى التي عانيتها      وعبرتها متثاقلًا متبرِّمَا

منها ومن آثامها، فشرورها     قد خلَّفتْ فيك النهارَ ترحُّمَا

(14)

فالسّاحُ ساحُ معاركٍ عمَّ الخرا      بُ بها وغاصتْ بالدماء وخيَّمَا

هلعٌ ونارٌ سُعِّرتْ أحقادها        وتآكلتْ فيها اللحوم تشرذُمَا

جثثٌ وأجداثٌ عَلتْ وروائحُ    إن أزكمتْ نفسي صحوتُ مُيمِّمَا

وجهي إلى دارٍ تداعى أهلها     لشماتةٍ تحنو ويأسي أوْلَمَا

همّي وحزني والتعاسة والأسى  وقصائدُ الأمسِ الجميل تذمُّمَا

(15)

وتنوء بي نفسي حطامًا أرتمي    لا أعرف السلوى وقلبًا مُفعمَا

بركام أحلامٍ تعرّتْ والرؤى      قد كلّلتها بالنجاح توسُّمَا

ببراعمَ طارتْ بها الآمال في     نغمٍ إذا غنّى جمالكَ أُغرمَا

بالمجد يخفقُ في رباكَ مجدّدًا  والخافقُ المكلومُ منكَ ترنَّمَا

 (16)

آهٍ على تلك الليالي الغافيا    تِ على رباك زنابقَ تشدو بما

أعطاكَ ربّي من جمالٍ في عيو  نٍ لا ترى إلاّكَ أنتَ المُلهِمَا

لولاك ما كانت رؤايَ والبرا    عمُ لا ولا كانت حياتي بُرعُمَا

يغفو على نهدٍ بتربك طاهر    مهما يطلْ بي العمرُ لا لن أُفطَمَا

أحنو على تلك البراعمِ موقنًا    أني بها أبني لعزِّكَ توأمَا

أغفو وأحلامي غطائي والرؤى دفءٌ به الإخلاص لي قد أقسما

إنّي له حبٌّ وعمرٌ والهوى      أنشودةٌ يشدو بها مُتَنَغِّمَا

(17)

أصحو على الحلمِ القديم معاتبًا إيَّاي: كيف الحصادُ ينسى الموسِمَا

بل كيف يخبو في القصيد كما له       وكفاحه عمرًا كأن المُعجَمَا

ماتتْ به الكلماتُ واسودّتْ معا         نيها، ولا حرفٌ أقامَ المأتَمَا

أم أن حدَّ العزمِ في عرقي نبا       وتزاحمت فيه السنون وأسلما

كلَّ الرجا للابن كي ينمو       وهل ينجو إذا كان السفينُ مُحطَّمَا

وتضجُّ في فكري طُروحاتٌ    إذا طارحتها جُنَّ السؤال وتمتما

كيف السبيلُ إلى قصيدٍ يرتقي   بالطفلِ والأرض الحبيبة إذْ هَمَا

كلُّ الرجا والمبتغى وروائعُ الـ      ـماضي وما الله به قد أنعما

 (18)

وأجوب في أرجاء وجهكَ باحثًا     عن لهفتي علِّي أراك متيَّمَا

بالحبّ مثلي يا فؤادي لا أرى        إلاَّ التعاسة والسؤال المُبْهَمَا

(19)

فلقد أصابك والجميع شواخصُ       داءٌ عضالٌ في عيونكَ أزَّما

ظنٌّ وشكٌ في بنيكَ وريبةٌ           قتلتْ ضميرك والفؤاد تفحَّمَا

ولسانُ حالِكَ قد بدا في محنةٍ     يُرغي ويزبد شاتمًا مُتجهِّمَا

آذانُك اتَّسعت وأرخت ظلَّها      في وجهكَ المفجوعِ كي تتكتَّما

عمَّا أصابك من بلاءٍ أعظم      لم تدر أن الصدرَ فيك تورَّمَا

من شدة المرض اللئيم وسُمِّه    قد قُطِّعَتْ شُعَبُ الهواء وأُتخِمَا

نهمٌ بجوفكَ قابعٌ لا ينثني          يبغي ويطغى حانقًا متبرِّمَا

ولهاثك المحموم في زفراته     أرقٌ بنفسكَ هائمٌ قدْ تُرجِمَا

كلّ الشعاراتِ التي تصبو لها     مهما اللعاب يشطُّ لا لن تُهضَمَا

فتساقطتْ خصلاتُ شيبكَ كلّها     وبكى الوقار مودِّعًا مُتهكِّمَا

قد هدَّك السرطان يا وطني  فهل يجدي العلاجُ إذا الدواء تجرثما

(20)

إني أُحبّك لا تلُمْني إن دعا        قلبي لأهلِ العلمِ لستُ مُنجِّمَا

الفن والتاريخ والعلم الذي           أحيا وفلسفةٍ ودينٍ علَّمَا

فتجالسوا حول السرير وعاينوا    وتدارسوا لكنَّ داءَكَ أقحما

في وجههم كلُّ البُغاة بعهرهم       وريائهم ودهائهم قد أَفحَمَا

كلُّ العقول وأهلها ودُعاتها         وأنا ببابكَ واقفٌ مُستفهِمَا

مِنهم إنّ الداء انتهى أو أنهم      وجدوا العلاجَ لما أصابك إنَّما

في ردهة الأمل الجميل خذلتني  فأهنتهم وأدنتهم إذْ أقدما

ذاك العضالُ بجسمكَ الواهي على تحريضِ ما أنهى نُهاك وأحكما

طوقًا على أنفاسكَ الحيرى فما    تت، بعدما خارت وأطْبَقتِ الْفَمَا

(21)

فصرختُ مفجوعًا عليكَ وحسرتي  ناحتْ ودمعي في عيوني غرَّما

كلُّ الذين بجهلهم قتلوك يا       وطني وما خجلوا لفعلتهم وما

وقفوا على أسباب موتكَ بل دعوا  جمعًا غفيرًا للنواح، وقيَّمَ

رهطٌ من الخطباء في كلماتهم       قد مُجِّدَ الداءُ الذميمُ وعُظِّمَا

(22)

ورُفعتَ في نعشٍ تعانقَ وردُهُ      إكليلُ غارٍ من شموخكَ جُرِّمَا

نسغُ الحياةِ به لأنَّ الداء لا       يرضى له أن يبني أو أن يرْسُمَا

صرحًا لعزّك في الحياة مناهضًا    ما شاده بالرغم عنك وصمَّمَا

فمضى يضمُّ ثراك في جنباته       يسقيكَ من دمهِ لعلَّك تُسْهمَ

في ردِّ دائك عن بنيك لوهلةٍ        بالظلم حاكَمَهُ ودانَ وأَعدَمَا

 (23)

شلوٌ من الأشلاء من تلك التي    آويتها يومًا بعطفي واحتمى

بالظل مني راح يلوِي عابثا   بغبائه أزكى ظنونك عندما

عبثت به الأصداء وانتحرت أمانيه وكان الشلو شلوًا مُعدَمَا

فَسريتُ خلف النعشِ أمشي مجهدًا  والقيد أدمى مُهجتي والمِعصَمَا

وسلاسلُ الأحقاد طالتْ وانتهتْ     إثمًا يمثُلُ في النفوسِ ليَسْلمَا

ومسيرةُ الأحزان جلَّلها السوا    دُ وطوّقتْ بالصمتِ سورًا مُظلِمَا

والنّعشُ نعشُك فوقها متأرجحًا     مُتعجبًا مما يرى مُتلَعْثِمَا

 (24)

فوراءه سارَ اليتامى والأرا      ملُ والثكالى كلّهمْ مُتظلِّمَا

يشكونَ ما قال الرواةُ روايةً     من أن أحمدَ والمسيحَ وآدمَ

ساروا إلى جنّاتِ عدنٍ كلهم   مَنْ لمْ يَمُتْ بالسيف منهم سُمِّما

لم يبق منهم غيرُ آمنةَ التي      ناحتْ على زوجٍ لها مع مريمَ

تلك التي قتل الزّناة وحيدها      طفلًا بريئًا مُلحدًا أم مُسْلِما

 (25 )

والوحدة الكبرى تذرُّ رُفاتها      دمعًا على الخدين منه عَنْدَما

والعدل ينعي للدُّنا حريةً            ثكلى وحقًا ماتَ شنقًا ربما

أما النظامُ فسار في جِلْبابه          حبرًا مهمته الهدوء فكُمِّمَا

كلُّ الذين بصوتهم جهروا لعزّ    كِ عاليًا: والحقُ لا لن تُهضمَ

هذي الحقوقُ حقوقنا ومآلنا        مهما تعاظم خطبُنا لن نُهزَما

صرخَ الإباء وخلفَ نعشك قد سرى مثلي يؤازره الفداءُ ليعلَمَا

من كان في هذي الجريمة ضالعًا   سنذيقهُ موتًا زؤامًا عَلْقَمَا

(26)

وأنا وراءك ملءُ أحزاني صدىً     ذاكَ الهوى أَحكيه وعدًا مُؤلِمَا

ذبحَ الفؤادَ فكلُّ آمالي بكتْ         جنبي وفوق الصدرِ مني جُثِّمَا

فأمام نعشك دونَ رؤيته مشى    صخبٌ تعالى صوتهُ وتزعَّمَ

بوقٌ طويلٌ فرقةُ النفخِ التي       صدحتْ بألحان العزاءِ، ونَظَّمَ

إيقاعها طبلٌ تعاظم وقْعُهُ        فتناسقتْ حركاتُها وتزلَّمَ

للّحنِ هذا بضعُ أزلام المنا       فعِ كلهم للداءِ عشتَ الملهمَ

أنت الذي لمسيرةِ العزفِ الجميـ  ـلِ أبًا وروحًا هاديًا ومعلِّمَا

 (27)

حملوا أكاليلَ من الكلمات سو     داءَ الحروفِ بنصِّها لن نندَمَا

والجهل عانق في مسيرتِك الغبا  وة قائلًا: في الشرع نحن الأقدمَا

حتى الوقاحةُ شاركت بصفاقةٍ     وبصوتها قد أعلنت لنْ أزعمَا

إن قلتُ لن أحيا بغير الداءِ إنَّ    الداء لي ببطولةٍ قد أمَّمَا

كلَّ المنافع كي أعيثَ بها فلا     أخشى على مستقبلي أو أُظلما

 (28)

وتداخلتْ فيما تلا الأصواتُ كُـ        ـلٌّ بالثناء وبالمديحِ ليغنما

طمعًا بكل وضاعةٍ ومهانةٍ          وتوطأت منها الجباه المنسمَ

والداء يستشري بأرضٍ ماتَ فيـ   ـها الكلُّ وانتصر الأنا وله انتمى

من كان في هذي المسيرة صائحًا     بطلًا تراهُ أم عميلًا مُجرمَا

(29)

هذا السؤال إليك يا وطني فهل      يأتي الجواب لمن تلظى مرهَمَا

(30)

ها قد بلغنا باب مقبرةِ الحيا     ةِ تساءلتْ أبوابها مَنْ مِنكُمَا

عَبَرَتْ مُقدمة المسيرة بابها      وتفرقتْ لكن نعشكَ أحجما

لمَّا رأى حفّارُ قبركَ ممعنًا      بالحفر صدر الأرضِ شقا وأكلَمَا

وتوزّع الخطباء في قيعانها    يرون عنك مآثرَ كم قُزِّمَا

بضجيجهم ذاك التراثُ ومن يخطُّ    الحرفَ فيكَ ومن لرقمٍ رقّمَا

غاضت مياهُ النهر* فيك خجولةً  لمَّا البسوسُ رمتْ برجسٍ زمزَمَا

(31)

ضجَّتْ بكَ الكلماتُ يا وطني ولم     أقنعْ بما يشفي وأنفي أزكما

بروائحِ الموتى وسمعي صمَّ منْ   أقوالِ مَنْ بالدّمع تربكَ عوَّما

والقلبُ مني مجهدٌ فعضالهُ          أضناهُ ظلمًا كي يؤوبَ ويُلجَمَا

والعين أعمتها بشاعة ما ترى     حتى السنونُ تآمرت كي تَفصمَا

ما بيننا يا أيها الوطن المفـ       ـدى قلتَ لي في فجرها لن تُهزَمَا

(32)

تلك الطفولةُ لو رأتكَ الآن جثمانـ       ـًا مسجى لا حراكَ تأقْلَمَا

مع واقعِ الموتِ الرهيب وحولكَ      الباكون تاريخًا وأرضًا أُيِّما

ماذا أقول لها وماذا للشبا       بِ أقولُ هل غدتْ الرجولةُ طلسما

هل مسَّنا السرطانُ في أحلامنا   ومضى يقيءُ بنا وعاثَ وأجرَمَا

هل كان فينا الوهم أشلاءً مبعـ   ـثرةً تداولها الرياح لنسْأَمَا

 (33)

ماذا أقول لها أجبني يا رفيـ     ـقَ العمرِ يا أغلى الرفاق مُحمحَمَا

أحكيكَ أم أنعيكَ أم أرثيكَ أمْ       أبكي عليكَ مخافةً أن تُرجَمَا

أبكيك في قلبي وفي شِعري كما     أحكيك آهًا كلما دمعي هَمَا

وطني وحبّك في الفؤادِ له صدى   ألمٌ يعذّبني ويبكيني دَمَا

أنا لا أراكَ ثرىً وماءً أعذبَ        كلّا ولا طيرًا يغرّد في السّمَا

لكنّكَ الحلمُ الذي عانقته فجرًا       ينيرُ الدّربَ لي قد أظلما

أوّاهُ يا بلادي

أوّاه يا بلادي          أوّاهُ لو يغيب

عن شاطئٍ ووادٍ    عن دارنا الحبيب

ذاك الذي ابتلانا            بالحزن والدموع

وعاثَ في ربانا              فقرًا لكي نجوع

وهامَ في سمائي             يلاحقُ النجومْ

والشمسَ مع سنائي        والريحَ والغيوم

والدمعَ في المآقي          والشوقَ والحنين

فباعدتْ رفاقي               أيّامها السنين

تاهوا وفي البراري        للبحثِ عن عرينْ

يعيدهم لداري               لدفئها الأمين

لكنّهم تواروا                فالغابُ من حرابْ

وكلّهم تباروا                للذّودِ عن ترابْ

لولاه ما تناءَتْ              عن بعضها العيون

كلّا ولا تشاكتْ              من ظلّها الغصون

وهاجرتْ طيورٌ              أدركها الصقيع

طالتْ بها عصورٌ         تنتظرُ الربيع

وجفّتِ السّواقي             ما عادَ في الغدير

ماءٌ ولا بواقٍ              من ذلك النّمير

ما عادَ في جناني           ضوعٌ ولا ورود

حتى ولا بناني               أشارَ للرّعود

أوّاه يا بلادي                حدادكِ السقيمْ

هل يردع الأعادي           ويطرد اللئيم

تعودُ أمْ سنحكي            حكايةَ الهجران

أيّامنا ونبكي                عصارةَ الأحزان

(2)

أوّاه لو تناءت              عن بعضنا الظنون

وانكفأت وشاحتْ           عنّا يدُ المنون

أوّاهُ لو تلاقتْ              عيونُنا في عيد

واغرورقت وماجت         بالدمعِ هل يعيد

صفاؤها لأرضي             براعمَ الزيتون

فبعضها وبعضي            روائحُ الليمون

فتزهرُ المراعي              ويورقُ الشّجر

وزهرةٌ ببابي                 تغفو على حجرْ

وتحتفي طيوري             ويهدل الحمام

حنينهُ لدوري                يعيشُ في أمان

في كوّةٍ من داري           وحولَه الفراخ

وتأنسُ الزراري            من طفليَ الصراخ

وتعشبُ المراعي              ويكثرُ الحصادْ

ويومنا تداعى                 فالعرسُ للبلادْ

وكلّنا أمانٍ                   نقتطفُ الوعودْ

ويومنا أغانٍ                  نايٌ معًا وعودْ

وتنتهي المآسي               والبعدُ والبعادْ

وترقصُ الأماسي            وتنزعِي الحداد

أوّاهُ يا بلادي                    أوّاهُ لو يغيب

في آخر الأخبار

في آخر الأخبارْ،

نحاورُ الأحبارْ

ونزرعُ الزيتونَ في الصبّارْ

ونبتغي من مجدنا المنهارْ

سلامة الأحجارْ

سماسرُ التجّارْ

تتيهُ كالأقمارْ

في ظلمةِ الأحرارْ

تقايضُ السمسارْ

“مقابلَ الأرضِ لكمْ ما تعدُ التوراةُ في الأسفارْ“

كواكبُ الفرسانْ

عادتْ بها الأحزانْ

عادتْ لنا بالعارْ

بالخزيِ لا بالغارْ

وجلجلتْ بالصوتِ لا بالنارْ:

“يقتلعوا الأشجار

عاثوا كما في الأرض في الأقدار“

أضرحة الأبرارْ

وكلّها أزهارْ

تميدُ صدر الأرضِ كالإعصارْ

وتعلنُ الإنذارْ

“أنْ أسقِطُوا الطّغيانْ

والسّجنَ والسجّانْ

ما عادَ للإنسانْ

غير الثرى والثارْ

ياجيلَنَا المغوارْ

يافتيةَ الثّوارْ

تموز إنْ يبكيهِ أيلولً

له آذار

إلى رجل أنيق

1

زرقةُ البحرِ سرابْ

وماؤُهُ

لجُّ أُجاجْ

وبصدرهِ الحيتانُ تبحثُ عن فرائِسِها

وكذا الكلابْ

في العمقِ

عتمتُهُ

بياضُ الموجِ

إنْ أرغَى وأزبدْ

(2)

يأسِي

على الحزنِ الذي

ما زالَ يبني عشَّهُ

بينَ الضّلوعْ

يأبى على دفنِ السّرورِ مضجعًا

دونَ كفنْ

ويقولُ يستقرّ الكتابْ:

ويلٌ

لِمَن ملكوا الحياةْ

طوبى

لِمَن

في جنّةِ اللهِ

يُولون العذابْ

إنَّ اعترافي بالأناقةِ وحدَهَا

يبقى

على نحوِ اعترافِي

بالأفاعي جلدُها

يغريك ملمسُهُ

بما لذَّ وطابْ

لكنّها

مهما تعرَّتْ

أو تلوّتْ

سمِّها

إثمٌ زعافْ

في كلّ حرفٍ من خطابْ

(3)

لا تقلْ لي سيّدي شيئًا

فأنتَ

مثلما كلّ الذين قد تعرّوا

فوقَ أعمدةِ الصّحافةِ

واللّياقهْ

وتبرّجُوا

في صدرِ قاعاتِ المرايا

وبشاشةِ

الرّائي

وأمواجِ الأثيرْ

إنّهمْ

يا سيّدي

كل الذين تباركُوا

بالكذْبِ والتلفيقِ

والصوتِ الرجيمْ

وتنصّلوا

من كلِّ آهاتِ الثكالى

واليتامى

والعذارى

والنجيع

وبنوا

من قطرةِ العرقِ

الموَسَّدِ فوق أخدودِ الجبينِ

قصورهمْ

وحضورهم

في عرسِ آلام الضحايا

(4)

لكنّه أبدًا

اليومَ أمسُ

وغدًا

تبّتْ يدا أبي جهلٍ

كما تَبَّتْ يداك

في دمشقَ

في البدءِ كانتِ الكلمة

والكلمة

كانت دمشقَ

***

في دمشقَ

يولدُ الله زمانًا سرمديًّا

لا يبارى

***

في دمشقَ

يُسرج الله على الخيلِ

النهارَ

ويصلّي ركعةَ الفجرِ

ويمضي

ناثرًا في الكونِ

ريحانًا وأزهارًا وغارَا

ناشرًا في الأرض

عطرَ الياسمينِ له انبهارَا

في دمشقَ

يركعُ التّاريخُ فيها

قبلَ مولدِهِ زمانَا

وانعتاقَا

منْ قيودِ الموتِ

للدنيا حياةً

واقتدارَا

***

في دمشقَ

لم يكنْ للأنبياءِ المرسلينَ

إلاَّها

إلهًا

وجنانًا

وكتاباتٍ عن الحقِّ

وللخيرِ شعارَا

في دمشقَ

يولدُ النّور ضياءً

واقتدارًا وانتصارًا وافتخارَا

شآميات

في دمشقَ

يزهرُ الحبُّ رياحينا

والياسمينُ له فيها بساتينا

والفلُّ إن عرّشتْ منه ضفائرُه

على الحوائط غنىً من أغانينا

والصوتُ جوريٌّ ومن قصائده:

/يا شامُ ياذاتَ العيونِ الخضرِ

أنت مليحةٌ

عودي كما أنتِ

فاللـّه يضنينا ../

إن غنّتِ الشّامُ بعضًا من ملاحمِهَا

ما عاد يومضُ وجهٌ بالأسى فينا.

يا شامُ كيفَ أصوغُ الحبَّ من ألمي

والحبُّ خافقهُ قدْ عُلَّ من سقمي

فلا أراكِ على البلوى بخانعةٍ

ولا على دَرَكِ الأخلاقِ والقيمِ

تَبَدَّدتْ من رؤاكِ الغُرّ قافية

للضّادِ قد خالطتكِ السُمَّ بالدسَمِ

وكنتِ أنتِ التي من وحيها انتظمت

لديكِ كلُّ قوافي العلمِ والعَلَمِ

حتى أتَتْكِ ضروسٌ من مضاربها

وفاجأتك شرورُ العُرْبِ والعجمِ

ما عادَ للشّعرِ عندي غيرُ قافيةٍ

شامي فيا صرخةَ الآلامِ من كَلِمٍ

أشدوكِ في نبضاتِ القلب أمنيةً

لحنًا لأغنيةٍ ما فارقت كلِمِ

 (2)

شامي وحبّي أضنيا قلبي

فكلاهما كالسّهمِ في الجنبِ

بدموعها تبكي أحبَّتَها

وأنا بها أبكي على حبّي

(3)

يا شامُ يا شامةَ الدّنيا وغرّتَها

يا مَنْ إليكِ العلى يرنو ويفتخرُ

يا مولدَ الحقِّ يا تاريخَ موئِلِه

إلاَّكِ ساحٌ به التاريخ ينتصرُ

(4)

يا شامُ يا قلبي ويا نغمي

يا صرخةَ الآهِ على ألمِي

يا حبّيَ المحفورُ في عينِي

يا ياسمينَ طفولةِ النِّعَمِ

يا كلَّ ماضيَّ وحاضِرَهُ

يا كلَّ حرفٍ خطَّهُ قلمِي

 (5)

يا شامُ كيف يصوغُ الحبَّ أحلامُ

بل كيف تسعفني للآتي أيامُ

حتى أراكِ وقد زانَ الشبابَ هوىً

علمٌ ومعرفةٌ، خُلْقٌ وإلهامُ

ميلادُكِ اليومَ، أنتِ اليومَ لؤلؤةٌ

أيقونةٌ بغدٍ تعلو بها الهامُ

يا شامُ هذي شآمي مِنْ توجّعِها

قلبي لتوجِعُهُ إن آهتِ الشّامُ

رُدّي إليها العُلا فالكبرُ موئِلُها

لا تنحني هامةٌ إن أُتْرِعَتْ جامُ

 (6)

في العمرِ دهرٌ وفي التاريخ أيامُ

وحيٌ من اللهِ وللتّنزيلِ إلهامُ

رغمَ السنين وما زالت نؤومُ ضحىً

تصحو على عبقٍ من ضوعِها الشامُ

في دمشق

قصائد ترصد الواقع

في دمشقَ

يسكن الفقرُ بيوتاتِ العُصاة

ويُمنيها بنصرٍ فيهِ عزٌّ وحياة

ما عليها غيرَ تمضي

في ضبابِ الطّرقات

وترى الأفقَ بعيدَا

ترتجيه للنجاة

ها هي تمضي

وتأبى

كلَّ أهوالِ الممات

إيهِ يا شامُ الأباة

كيف أنتِ

اليوم أنتِ

بين إفكٍ وجناة

إنني أبكي وحيدًا

لا أرى غير الطغاة

هكذا صرنا نغني، وإذا نحـ

ـنُ نغني، بعدما عزَّ اللقاء

في دمشقَ

ينشرُ الموتُ على النّاسِ الحداد        وعذارى تائهاتٌ

وذئابٌ تحتفي                            بينَ أغلالِ السّبايا

والنخاسةُ والدّعارةُ والفساد

بغلالِ الجوعِ                            في دمشقَ

يبهرها الحصاد                         يُولدُ الطّفلُ شريدًا    

والولائمُ زاخرات                       يشتكي آهَ البعاد

بأنينٍ وابتهالاتٍ                       شامُنَا

وعذاباتُ العبادِ                        يا توأمَ التّاريخِ         

كلّهم يُفتي بداءٍ                       ما زلنا على عهدِ العتادْ         

فيه منجاةُ البلادِ                      نكتبُ التّاريخَ بالآلام

ونساءٌ عازبات                       على أملٍ بعزٍّ قدْ يُعاد

في دمشقَ

يسكنُ الفقرُ بيوتاتِ العصاةْ

ويمنّيها بنصرٍ

فيه عزٌ وحياةْ

ما عليها غيرَ تمضِي

في ارتحالِ الطّرقاتْ

وترى الأفقَ بعيدًا

ترتجيهِ للنّجاة

ها هي تمضي

وتأبى

كل أهوالِ المماتْ

إيهِ يا شامَ الأباةْ

كيف أنتِ اليومَ

أنتِ

بينَ إفكٍ وجناةْ

إنني أبكي وحيدًا

لا أرى غيرَ البغاةْ

في دمشقَ اليومَ جوعْ

والزّهر فيها لا يضوعْ

صمتُها المبحوحُ سيلٌ منْ دموعْ

مثلما تبكي من النّارِ الشموعْ

أفلَتَ الصّاري الشّراعْ

تنحنِي للّيلِ أضواءُ النّهارْ

يرسمُ الأطفالُ آتيهم فوقَ شطآنِ بحرٍ هائجٍ

فوق الرّمالْ

في دمشقَ

اليومَ جوعٌ

والجموعُ

تضرعُ إلى الآتي بصوتٍ

فيه آذانُ اليسوعْ

إنّ في شامنا جوعٌ

في دمشقَ

تعصفُ الرّيح رياحًا زمهريرًا

وكذا الصمتُ أنينْ

وبحوح الآهِ آهاتٌ كثيرة

وكذا الموتُ على الأبوابِ

يرقبُ منْ نوافذِهَا

قلوبًا وابتهالاتٍ كسيرة

ما تبقّى ليسَ قصَّا

إنّه داءٌ تفشّى في بيوتاتٍ

تأكلُ الجوعَ وتشربُ من عذاباتٍ مريرة

وتصلّي: لم يزلْ في قهرِنا

أملٌ بريقَه

إنّنا في الشّامِ نبقى

جذرَ تاريخٍ من الآلامِ

قدِ امتدّتْ دُهورا

وتجلّى العزمُ فينا

من بقايانا انتصارًا

مثلما شئناه يبقى

في قصائدنا نصيرًا 

في دمشقَ

يربضُ الذئبُ على بابِ الحياة

أفلتَ الرّاعي عصَاهُ

والقطيعْ

سائبٌ بينَ الكلابِ

أمحلتْ كلُّ المروجْ

لم يعُدْ للعشبِ لونٌ

هجرَ الشّمسَ البزوغْ

ليلُها الدّامسُ أمسَى

عصبةً فوقَ العيونْ

في ابتهالٍ منْ أنينْ

صمَّ ربُّ العالمينْ

كلَّ سمعٍ وبصرْ

ونداءٌ من بعيدْ

ردّدت أصداءَهُ

آهٌ عنيد

شامَنا

يا موئلَ التّاريخِ

والمجدَ التليدْ

ستُزفّين عروسًا من جديدْ

في دمشقَ

يُولدُ الله إلهًا مرّتين

مرّةً أولى

على ضفافِ الرّافدين

مرّةً أخرى

لفِي ظلالِ الغوطتين